الصفة العامة لغارات العرب هذه والنتائج التي ترتبت عليها
مرادنا أن ننظر إلى هذه الغارات العربية من حيث المجموع وأن نشير إلى بعض حقائق لم يتسنَ لنا حتى الآن أن نتبسط فيها.
وكذلك نريد أن نذكر الشعوب المختلفة التي ضربت بأسهم مذكورة في هذه الغارات، ولا نزاع في أن النهضة الأولى قد كانت للعرب، وأن جميع الغزوات الكبرى كان يرأسها قواد من هذه الأمة، وأن الاسم العربي هو الذي كان غالبًا فيها، وأنه كان بمنزلة القطب من الرحى، وأن المراد بلفظة «سارازين» عند كتَّاب الأوربيين هو العرب لا غير.
وقد ذهب بعض علماء المسيحيين في القرون الوسطى إلى أن «سرازين» مشتقة من «سارة» زوجة إبراهيم الخليل، وهذا غير وارد؛ لأن سارة هي أم إسحق لا أم إسماعيل جد العرب.
ومن المعلوم أن تجارة الرقيق امتدت جدًّا بعد أن افتتح المسلمون الشام ومصر وإفريقية والأندلس؛ لأن العرب كانوا يعرفون الرق ويحملون عبيدهم على جميع الأشغال اليدوية وعلى الحرث والزرع، أما في الشرع الإسلامي فالرقيق لا يهان أصلًا، وكل عبد تظهر كفايته في شغل من الأشغال يقدر أن يرقى إلى ما يرقى إليه الحر بدون فرق وكان التجار يذهبون إلى بلاد الجرمانيين والسلاف وأحيانًا إلى نواحي بحر الأدرياتيك والبحر الأسود ويأتون بأصناف الرقيق، ولم يزل أهالي القوقاس يبيعون من أولادهم إلى اليوم، فكانت هذه الشعوب تبيع من أولادها إلى التجار، وكان يأتي منهم قسم إلى فرنسة لا بالبيع والشراء بل بواسطة السبي في الحروب.
وكان الصبيان الذين ينجون من خطر هذه العملية القاسية يباعون في أسواق الأندلس بأثمان عالية، وكانوا يتهادون الخصيان من الصقالبة كما يتهادون الخيل أو الحلي الثمينة.
ولم يكن بين العرب والبربر أناس من شمالي أوربة ومن أصل وثني فقط، بل وجد لهم أنصار ويا للخجل قد ولدوا في حجر النصرانية، من أهل إيطالية وأهل فرنسة، وقد كان اليهود يستثمرون بؤس الأهالي ويشترون الأولاد من ذكور وإناث ويأتون بهم إلى مراسي البحر حيث كانت ترد سفن اليونان والبنادقة وتحملهم إلى بلاد الإسلام، وكانت هذه التجارة القبيحة قد وصلت إلى قلب عاصمة النصرانية، وقد جاء في مجموعة موارثوري أنه في سنة ٧٥٠ اضطر البابا زخريًّا أن يشتري بماله من أيدى البنادقة عددًا كبيرًا من الأولاد ذكورًا وإناثًا كانوا يريدون الخروج بهم من رومة ثم إن البابا الذي خلف زخريًّا اضطر أن يحرق مراكب كثيرة لليونان آتية لحمل الرقيق، وقد جاء في تاريخ الصليبيين للمسيو ميشو أن هذه التجارة كانت جارية في أوربة حتى القرن الثالث عشر، ولكن بشيء من الاحتياط، وكان أسارى المسيحيين والسبي منهم يستخدمون في جيوش المسلمين، وكان السبي من أعظم مقاصد هؤلاء في الغزو، فكلما حصلت معركة رأيت أسواق الأندلس وإفريقية غاصة بالأسرى المسيحيين، فأما الأطفال والأولاد فكانوا يربون في الإسلام وفي اللغة العربية، وكانوا لا يقدرون أن يرتدوا عن الإسلام إذا بلغوا، وأما الأرقاء الذين بلغوا سن الرشد فلم يكونوا يُجبرون على الإسلام لأنه جاء في القرآن لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ على أن كثيرًا من المسيحيين البالغين كانوا يخدمون في جيوش المسلمين عن طيب خاطر.
ماذا كان السبب يا ترى في ذهاب آبائنا في الوهم والخطأ إلى هذا الحد؟ الجواب أن بعض العلماء ذهبوا إلى كون أسماء ترفاغنت وأبولين وما أشبه ذلك كانت آتية من بلاد النورمانديين أهالي شمالي أوربة الذين كانوا يعبدون الأصنام، فالعامة في أوربة خلطوهم بالمسلمين بزعمهم أن كل من ليسوا مسيحيين وثنيون! وكذلك كان البربر الذين جاءوا مع العرب متمسكين ببعض شعائر وثنية كانوا يمارسونها ظنت العامة أن هذه الشعائر كان يمارسها العرب أيضًا، ولا يجوز أن ننسى أنه في هذه الكتب التي تتهم المسلمين بالوثنية وتزعم هذا الزعم الغريب أنهم ينحتون تماثيل من حجر أو خشب أو معدن ويعبدونها وقد ورد أن المسلمين إذا وجدوا تلك التماثيل لم تنفعهم انقضوا عليها وحطموها وجعلوها جذاذًا.
على أن الاسم العربي والدين الإسلامي كانا هما السائدين في هذه الفتوحات الإسلامية في أوربة، فليس عندنا شيء من الآثار عن البربر أو الصقالبة الذين كانوا مع العرب في مغازيهم، وكل ما عندنا عن هذه الفتوحات إنما هو من رشحات أقلام العرب المسلمين.
أما أسباب هذه الفتوحات العربية، والعلل الأصلية في اقتحام هذه الغمرات، فهي متعددة، فمنها ما يرجع إلى حب الغنائم وكسب الأموال، ومنها ذوق خاص بالضرب في الآفاق، ومنها ما هو محض تجرد لنشر الدين الإسلامي ورجاء ثواب هذا العمل المبرور عند الله فإن القرآن يحث على الجهاد في سبيل الله انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فالمسلمون الذين كانوا يقدرون على حمل السلاح كانوا يجاهدون بأنفسهم، والذين لم يكونوا قادرين على القتال كانوا يجاهدون بأموالهم وجاء في القرآن: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وكل مسلم يموت وهو يقاتل في سبيل اللهِ فإنه يموت شهيدًا وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فالمسلمون يسمون شهيدًا كل من بذل دمه في سبيل الإسلام، كما أن المسيحيين يسمون شهيدًا كل من مات لأجل النصرانية.
أما الغنائم فكانت عبارة عن الحجارة النفيسة والنقود المضروبة والمنسوجات والأدوات والأسرى والسبي، وكان السبي أفضل جزء من الغنائم، وكان الأمير يستأثر بالخمس بحسب الشريعة، وينفقه في إعانة الفقراء وأبناء السبيل، وكان الباقي يوزع على الجند، وللفارس ضعفا ما للراجل، وكان يوجد دائمًا في ساقة الجيش تجار يشترون كل ما يقع في أيديهم من صامت وناطق.
وأما الرقيق من النساء فكن يشتغلن في قصور الأمراء وحرم الأغنياء ويساعدن زوجات الرجل الذي يملكهن، وإذا امتازت إحداهن بجمال أو قسام كانت تُعلَّم وتُهذَّب وتُباع بثمن غالٍ أو يتزوج بها مالكها وكثيرًا ما كن يُرسَلن هدايا إلى الخلفاء والكبراء، وذلك كما حصل للأميرة «لمبيجية» ابنة أود دوق أكيتانية التي صارت إلى الخليفة في دمشق وإذا تزوج المسلم بأمة صارت بذلك حرة وكان أولادها أيضًا أحرارًا، ولم يكن فرق بينها وبين الزوجة التي هي حرة من الأصل، وإن كان وُلد للرجل من جاريته أولاد، ولو لم يكن عقد نكاح، ورضي بأن يعترف بهم فإنهم يصيرون أحرارًا وتصير أمهم حرة أيضًا لكن مع بقائها تحت سلطة زوجها، ومثل هذه الجارية عند وفاة زوجها تتحرر تمامًا ويقال لها عندهم: أم ولد. وكانت قصور خلفاء دمشق وبغداد وقرطبة ملأى بالنساء اللائي يقال لهن: أم ولد. وكان أولاد هارون الرشيد، ما عدا واحدًا فقط، كلهم أبناء جوار يقال للواحدة منهن: أم ولد. أما إذا كان الأب ولد له أولاد من جاريته ولم يرد أن يعترف بهم فإنهم يبقون هم وأمهم عبيدًا.
ولنضرب لك مثلًا على ما كان يعانيه الأسرى المسيحيون، في بلاد الإسلام، بالحادثة الآتية:
في أواخر القرن العاشر وقع رجل من أحلاس الحرب، من بلدة طلوزة، أسيرًا في أثناء ذهابه لزيارة بيت المقدس، فصار إلى بيت رجل من الأغنياء استخدمه في حرث الأرض، فقال لهم: إنه لا يحسن هذا العمل وإنه لا يحسن غير القتال، فجعلوه جنديًّا، وحضر وقائع كثيرة وآل به التقلب في البلاد إلى أن حضر حرب قرطبة الأهلية سنة ١٠٠٩ مسيحية، وهناك امتاز بالبسالة ونبه أمره، ولما كان «شنجو» كونت قشتيلة قد خاض غمرات تلك الحرب وشاهد ما شاهده من إقدام هذا الرجل أمر بإطلاق سبيله.
أما مصير المسلمين الذين كانوا يقعون في أيدي الإفرنج فلم يكن يختلف كثيرًا عن مصير المسيحيين الذين يقعون أسرى في بلاد الإسلام، ولقد كان الرق معروفًا بفرنسة، وكان يأتيها رقيق كثيرون من جرمانيين وسلاف وغيرهم من شمالي أوربة، فإذا كان يُستعبد فيها الأوربيون فبديهي أن يُستعبد فيها الأسرى من المسلمين، ولم يكن فرق بين الأسرى في الإسلام والأسرى في بلاد الإفرنج، سوى أن الرقيق في الإسلام إذا تحرر أصبحت له جميع حقوق الأحرار، بخلاف القاعدة في أوربة فإن طبقة العبيد ولو تحرروا تبقى منحطة عن طبقة النبلاء، وتبقى بينهما فواصل، وكان المسلمون يبذلون أيضًا الأموال في افتكاك أسراهم، فمنهم من يفكه أهله، ومنهم من يفكه أصحابه، ومنهم من يفكه سلطانه، وقد تأسست عند المسلمين جمعيات لفداء الأسرى كما عند المسيحيين، وذلك إن فك العاني معدود من أفضل الأعمال في الإسلام، وقد سأل محمدًا ﷺ سائلٌ عما يجب أن يعمله لينال أفضل الثواب فأوصاه النبي بتحرير الرقاب، وقد روى النويري ولذريق شيميناس أنه في زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن بلغ من ظفر جيوش الإسلام أنهم بحثوا عن أسرى يفكونهم بالمال المجموع لذلك الغرض فلم يجدوا أسيرًا مسلمًا يفكونه.
وكان يؤتى بأسرى المسلمين إلى آرل ومرسيلية وأربونة، ويباعون فيها، ويأتي أناس من أبناء ملتهم إلى هذه المدن فيفدونهم فأما المسلمون الذين لم يحصل لهم نصيب الافتكاك من الأسر فكانوا يصيرون إلى العبودية، فيشتغل الواحد منهم في خدمة مالكه، وأكثر ما كانوا يستعملونهم في الحرث، وكان يحق لمالك العبد أن يبيعه أو أن يضربه أو أن يعذبه، وكثيرًا ما كانوا يكبلونهم بالحديد لئلا يفروا، ولم يكن للعبيد من المسلمين، كما لم يكن للعبيد من اليهود ومن الوثنيين، حق أن يتزوجوا بالمسيحيات ولو كُنَّ من الخوادم، ومن كانت منهن متزوجة بغير مسيحي كان لا يؤذن بدفنها في مقابر النصارى بل هناك ما هو أكثر من ذلك، وهو أنه لم يكن يؤذن في زواج العبد من الأمة ولو كانا من ملة واحدة، وإنما كان للمالك أن يأذن في مساكنة العبد للأمة في مكان واحد، ولكن على شرط أن الأولاد الذين يولدون لها يكونون ملكًا للمالك المذكور، ولقد تلاشى الرق من أوربة في نواحي القرن الثاني عشر إلا أنه بقي جائزًا بحق غير المسيحيين لا سيما المسلمين، وعلى ذلك شواهد من آثار القرن الثاني عشر والقرون التالية، ومن جملتها نصوص واردة في مجموعة القوانين البحرية القديمة تأليف المسيو بارديسو، غير أن ذوي التقوى كانوا إذا أرادوا أن يشكروا الله تعالى على نعمة أفاءها الله عليهم أعتقوا عبيدهم ثم عمت العادة بأن كل عبد طلب أن يتعمد أي أن يتنصر يصير حرًّا، وهكذا اندمج العبيد في سائر الأمة.
وكان العبيد من المسلمين يشتغلون في المزارع من أملاك المتمولين أو أوقاف الأديار والكنائس، وقد مر بنا أن أسارى المسلمين الذين وقعوا في اليد سنة ١٠١٩ أمام أربونة قد وزعهم المسيحيون على الكنائس وعلى بعض الزعماء، وهكذا وقع للمسلمين الذين كانوا في فرنسة بعد سقوطهم في معركة سنة ٩٧٥ ولجميع عساكر المسلمين الذين انفصلوا عن مجموع جيشهم في أثناء غزواتهم للبلاد الإفرنسية.
لقد مر بنا أن المسلمين الذين كانوا يطلبون المعمودية يصيرون أحرارًا، وكان هذا حقًّا لهم، ولما كان كثير من هذا الطلب لا يقع عن إخلاص أو عقيدة، وكان بعض هؤلاء المتعمدين إذا حصلوا على حريتهم يعودون إلى ضلالهم، فكان لسادة هؤلاء العبيد الحق في امتحانهم مدة من الزمن، وعند ذلك صار كثير من المسيحيين الذين لا وجدان لهم يمتحنون عبيدهم من المسلمين امتحانات يقصدون بها منعهم من الدخول في النصرانية، ومنهم من كانوا وقد تنصر عبيدهم، يرفضون الموافقة على تحريرهم ويستمرون على إرهاقهم بأشد ما يمكن، ولقد أصدر الباب كليمنفوس الرابع سنة ١٢٦٦ منشورًا أنزل به صواعق الغضب على رئيس دير القديس بندكنس في ميرنده، لكونه عذَّب رجلًا مسلمًا غنيًّا كان قد تنصر، وزعم هذا الرئيس أن تنصره كان غير حقيقي وضبط له أملاكه وحرم منها أولاده.
فأنت ترى أنه كان من المسلمين المستعبدين في فرنسة أشخاص ذوو أملاك، وكانوا مثل اليهود يقرضون الأموال بالربا، وكان إذا غضب الشعب على المرابين من اليهود أدخلوا المسلمين أيضًا في دائرة غضبهم، وقد قلنا: إنه لم يكن للمسلمين حق في التزوج بمسيحيات، وإن كل مسيحية كانت ترضى بأن يتزوجها مسلم كانت تُحرم من حق الدفن في المقابر المسيحية، وكان هؤلاء المسلمون يعطلون أشغالهم في الأعياد المسيحية قسرًا.
أما من جهة الخراج فقد تقدم أن السمح (ابن مالك الخولاني) أمير الأندلس كان هو البادئ بتنظيم الجبايات واستخراج الارتفاعات سواء في إسبانية أو في جنوبي فرنسة، وقبل ذلك كانت أمور الجباية فوضى والحبل منتشرًا، وقد وزع السمح قسمًا من الأراضي المأخوذة من المسيحيين على غزاة المسلمين وعلى العائلات الفقيرة، بعد أن كان بعض ذوي السلطة قد استأثروا بها لأنفسهم من دون الفقراء، وقد ضم السمح بقية الأراضي إلى بيت المال، وكان الخراج المفروض على أراضي المسلمين هو عُشر المحصول بخلاف المسيحيين فقد كانوا يدفعون الخمس، أي ضعف خراج المسلمين، وكان المسيحيون عدا الخمس يدفعون الجزية، وهي إتاوة شخصية كان يتقاضاها المسلمون من المسيحيين في مقابلة محافظتهم على دمائهم وأموالهم وأمتاعهم بحريتهم الدينية، أما من أسلم من المسيحيين فكان معفي من الجزية، وكان ملوك الأندلس يضربون رسمًا على البضائع والسلع، فالمسلم كان يؤدي اثنين ونصفًا في المئة، والمسيحي كان يؤدي خمسة في المئة، وكانوا يسمونها زكاة وكانت تنفق في إعانة الفقراء وافتكاك الأسرى.
وكان المسلمون يسمون المسيحيين الذين خضعوا لهم ودفعوا الجزية المعاهدين أو أهل الذمة، أي الذين لهم على المسلمين ذمة الحماية والمحافظة، أما المسيحيون الذين لم يكونوا خاضعين للإسلام فكانوا يسمونهم أعلاجًا واحدها علج، وكانوا يقولون: عجمي لكل من ليس بعربي، ويسمون مشركًا كل من يقول بأن الله ثلاثة أقانيم لأن المسلمين لا يرون في الثلاثة الأقانيم إلا ثلاثة أشخاص.
وكان المسيحيون في ذلك العصر مستسلمين للأقدار يعتقدون أن غزوات العرب لبلادهم إنما هي عقاب من الله تعالى للبشر على خطاياهم فكانوا راضين بما قدره الله عليهم لا يحاولون دفع ما نزل بهم ولم ينهضوا في أوربة لاستعمال الوسائل البشرية الكفيلة بدفع الأذى عنهم إلا في أيام الحروب الصليبية.
وكان المسلمون في غاراتهم يستعملون السبي فيربون الصبيان إلى أن يبلغوا رشدهم، ويجعلونهم جنودًا، ويربون الصبيات إلى أن يبلغن رشدهن فيتخذوهن حلائل، وكانوا في أي مكان شنوا فيه الغارة وضعوا ذلك نصب أعينهم، تأمل في كيفية حلولهم بجزيرة أقريطش، فقد تقدم أن خمسة عشر ألفًا من ربض قرطبة أجلوا عن الأندلس على أثر فتنة الربض المشهورة، فجاءوا إلى الإسكندرية، ومن هناك عزموا على النزول في أقريطش نظرًا لحسن هوائها وجودة تربتها، ولما وصلوا إلى تلك الجزيرة أمرهم قائدهم بأن يبدأوا بالعمارة، وأحرق السفن التي جاءوا بها، فصاح رفاقه به قائلين له: كيف يمكننا بعد الآن أن نراسل نساءلنا وأولادنا؟ فأجابهم: إنني أعطيتكم وطنًا جديدًا وهذا الوطن هو الذي يكفل لكم إيجاد نساء تتزوجون بهن، وبعد ذلك عليكم أنتم أن تنسلوا الأولاد، ولما جاء المسلمون ودخلوا أرض فرنسة فاتحين لم يكن لهم مقصد سوى نشر دين الإسلام وإخضاع فرنسة وكل أوربة لأحكام القرآن، ولكن فيما بعد ذلك دخل في تلك الغزوات مقاصد أخرى، كحب النهب أو الأخذ بالثأر، ومن هذا القبيل نزول العرب في أواخر القرن التاسع في أرض بروفنس.
وقد ذكر المؤرخ ليو تبرند كيفية فتح العرب لصقلية فقال: إن أمير صقلية من قبل إمبراطور القسطنطينية كان قد خرج من طاعته، فأرسل يستنجد أمير العرب في القيروان، فشاور هذا أعوانه فيما يفعل، فأشاروا عليه بإصراخه، ولكن على شرط أن العسكر الإسلامي يأخذ ما يمكنه من الغنائم ويقفل بدون استقرار في تلك الجزيرة، وذلك لأنهم لمعرفتهم بشدة قرب صقلية من الأرض الكبيرة كانوا يعتقدون أن مقام أمة تخالف أهل تلك الديار في اللغة والعقيدة لا يمكن أن يكون هناك لا طويلًا ولا وطيدًا، وأنه لا مناص من أن يكر اليونان والإفرنج فيسترجعوا تلك الجزيرة ولو بعد حين، قيل: إن أحدهم سأل يوم عقد تلك الشورى بشأن غزو صقلية ما مقدار المسافة التي تفصل بين الجزيرة والأرض الكبيرة؟ فأجابوه بأن الإنسان يقدر أن يأتي ويرجع مرتين أو ثلاثًا في النهار، فسأل: وكم المسافة بين صقلية وإفريقية؟ فقيل له: مسافة يوم وليلة. فقال: لو كنت طيرًا ما رضيت أن أجعل مقامي بهذه الجزيرة والحال هي هذه من جهة المسافة. ذكر ذلك النويري. والحقيقة أن المسلمين لم يعولوا على البقاء في صقلية إلا بعد أن رأوا أمورها فوضى، وبعد أن وجدوا أمراء تلك البلاد يستعينون بهم بعضهم على بعض، لا تجمعهم جامعة قومية ولا تضمهم صارخة وطنية.
أما العرب الذين جاءت عصائبهم ونزلت في أرض فرنسة وتدرجت إلى جبال الألب فلم يكونوا من النمط الأول؛ أي من الذين يريدون أن ينشروا ثقافة أو يؤثلوا مدنية، وإنما كانت غاراتهم كلها منبعثة عن طمع في النهب وغرام بالكسب. فالنهضة الحقيقية في أوربة لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر أي منذ زحف أهل الغرب لقتال أهل الشرق، ووجدت النصرانية والإسلام في الصراع وجهًا لوجه، فوقع الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين، وأفاق الفرنسيس والإنكليز والألمان من رقدتهم ونفضوا عنهم غبار الخمول، ووجدوا ضرورة المشاطرة في المدنية الإسلامية، وكان علم اللغة اليونانية قد دُرِّسَ، وصار العلم اليوناني غير معروف إلا عند العرب، فأخذ المسيحيون من فرنسة وجوارها يؤمون إسبانية لأجل ترجمة التآليف العربية المنقولة عن اليونان، وذلك إلى اللغة اللاتينية التي كانت يومئذ لغة الكتابة والعلم في أوربة، وقد بقيت هذه التراجم إلى القرن الخامس عشر هي عمدة الجامعات والمدارس في معرفة علوم يونان.
ولا مندوحة لنا عن أن نقول كلمتين عن آثار هؤلاء العرب الذين نزلوا في فركسنيت، فإن الأثر الذي أثروه هناك من الآبار المحفورة والأسراب المكفورة والحجارة المنحوتة والأبنية المحكمة لا تزال بقاياه بارزة للعيان، دالة على صبر عجيب وهمة بعيدة، ولكن لم يوجد على شيء من ذلك الحصن كتابات عربية كما وجد في الحصون التي من بناء العرب في الأندلس.
ومما يظنه الناس من بقايا عادات العرب نوع الرقص الذي يطلع عليه الإنسان في جنوبي فرنسة وهو يختلف باختلاف الأماكن، فمنه زفن يقع في الليالي يرقص فيه الشاب بين فتاتين، وفي أثناء رقصه يقدم فاكهة تارة إلى هذه وطورًا إلى تلك، ومنه ما يقف فيه الراقصون خطًّا، بإزاء الراقصات خطًّا، ثم يشتبك الخطان أحدهما بالآخر والشخص الذي يكون على رأس كل من الخطين يعمل إشارات يقتدي بها الآخرون، وهناك رقص عسكري يرقص فيه اثنان كل منهما متقلد سيفًا يحاول أن يصيب به الآخر أشبه بالأقران في ساحة القتال إذا أرادوا أن يهاجموا أو يدافعوا.
أما وجود أناس في فرنسة نقدر أن نحكم عليهم حكمًا باتًّا بأنهم من أصل عربي فغير محقق، قيل لنا: إن قومًا يسكنون على ضفاف نهر الصاوون، بين ماصون وليون، لا سيما على الضفة الشمالية أنهم من بقايا شرذمة من العسكر العربي انقطعت عن مجموع الجيش في أيام شارل مارتل وقالوا: إن لهؤلاء عادات خاصة وألفاظًا خاصة قد تكون باقية من اللغة العربية ولكن شيئًا من هذا لم يتحقق، لا سيما أن تلك الألفاظ هي في الحقيقة مشتقة من اللاتينية، أو باقية من الإفرنسي القديم وأن البلاد الواقعة بقرب ماصون لم ينزل بها عرب بل كانت ملجأ لمن فروا من وجه العرب، وكذلك قيل: إن جماعة من سكان البلاد المجاورة لجبال البيرانه، يقال لهم: كاغوت، هم من أصل عربي. ولكن لم يثبت شيء من هذا، بل الأرجح أن هذا الجيل من الناس هو من جملة الأجيال الغريبة المنتشرة في بريطانية وأوفرنيه باسم كاكو وكابوت وما أشبه ذلك.
ومن الغريب أنه لم يبقَ من غارات النورمنديين والمجار إلا تذكارات في بطون التواريخ، والحال أن تذكار غزو العرب لفرنسة لا يزال في جميع الأذهان كأنه حديث العهد، وقد وقعت غزوات العرب قبل غزوات النورمنديين والمجار، واستمر وجودهم في البلاد إلى ما بعد جلاء المجار واندماج النورمنديين في مجموع الأمة، إلا أن غزوات العرب الأولى كان فيها من العظمة والأبهة ما لا يمكن أن يقرأه الإنسان إلا وتعروه الدهشة والحيرة، وكان العرب يمتازون عن النورمنديين والمجار بكونهم أمة بقيت مدة طويلة تسير على رأس المدنية العامة، وأنهم بعد جلائهم عن فرنسة لم تزل تحت الرعدة من احتمال غاراتهم، ثم إن الحروب العظيمة التي تولوا كبرها، سواء في الأندلس أو في إفريقية أو في آسية في وجه الصليبيين، قد أضافت إلى اسمهم لمعانًا جديدًا فوق اللمعان الذي كان من قبل، وكل هذا لم يكن كافيًا في تفسير مكانة العرب المكينة في الصدور لولا قصص الفرسان والفروسية التي كان يتغنى بها أهل فرنسة وجوارها، خلفًا عن سلف، فقد كانت هذه القصص تكاد تكون الأسمار الوحيدة للأمراء والنبلاء، بل الأسمار الوحيدة لعامة الشعب، وإنما كان يعجب بتلك القصص وهاتيك الأخبار من سير الأبطال كل من كان يدعى نفسًا عالية وحسًّا نجيبًا، وقد تضاءل كل تاريخ بجانبها وهزل كل أدب ما عداها، وكان أكثرها شعرًا ولهذا الشعر رواة اختصوا به، يذهبون من بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية، فينشدونها الجماهير التي تترنح لها أعطافهم، وكان لا يحتفل بعيد ولا بموسم إلا اندفع أولئك الرواة في إنشاد تلك القصائد عن سير أبطال الوطن، وكانت أكثر هذه السير تدور على حروب المسلمين، وعلى ما جالده صناديد الفرنسيس في دفع غاراتهم، ولما كان في هذه القصص وتلك القصائد من المبالغة ما هو جدير بكل القصاص الذين يترنمون بوقائع الأبطال، كانت الواقعة الواحدة تتجسم وتنمو وتصبح أضعاف ما هي تجسيمًا لفضل أولئك الذين تولوا كبر تلك الوقائع، حتى صار في تاريخ كل مدينة وكل بلدة من فرنسة وإيطالية أمير عربي أو بطل عربي يبارزه أمير إفرنسي أو بطل إفرنسي وبعد أن يشتد البِراز ويطول العراك وتظهر فيه خوارق الأقدار، ينتهي بالبداهة بتغلب البطل الفرنسي على البطل العربي.
وبالجملة فقد كان العرب لذلك العهد، هم الأمثلة العليا والأقيسة البعيدة، في الشجاعة والشهامة وعزة النفس ومكارم الأخلاق والعفو عند المقدرة وقرى الضيف، تشهد بذلك وقائع ونوادر كثيرة، منها ما رواه بعض مؤرخي الإسبانيول من أنه في سنة ٨٩٠ أراد ملك أشتورية، أذفونش الكبير، أن ينتدب مؤدبًا لابنه وولي عهده فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة، حرصًا على تهذيبه؛ إذ لم يجد في المسيحيين إذ ذاك كفؤا لهذه المهمة.
ومن الغريب أنه في قصة من قصص الفروسية المتعلقة بشارلمان الكبير يروون أنه في صغره ذهب واقتبس من أنوار العرب، وأنه من تأثير ذلك تمكن من إدارة تلك السلطنة العظيمة التي جدد بها مجد العالم الغربي، وقد بقيت هذه الأقاصيص هي المعول عليها في الأندية والمجامع، وهي الفكاهة المستطرفة في المواسم والمحافل إلى عهد غير بعيد، ولم يدخل التمحيص التاريخي عندنا إلا منذ مائة وخمسين سنة؛ إذ أخذ الناس ينبذون ما هو من عمل الخيال إلى ما هو من لباب الوقائع الراهنة.
وختام القول: إنه لو نشر موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر، ورأوا ما هي عليه الحالة في زماننا هذا، لوجدوا اختلافًا كثيرًا في بيئتي المسيحيين والمسلمين، عما كانتا عليه في الأعصر السالفة. ولكن مما لا شك فيه أنهم بعد الوهلة الأولى كانوا يبتهجون بالمكانة العليا التي جعلها القصاص والزجالون من آبائنا لأعمالهم الكبيرة، وكانت نفوسهم المشغوفة بمعالي الأمور تقابل بمزيد الإكبار ذلك الشعور النبيل الذي كان يختلج عند من نسميهم البرابرة من آبائنا والذي لا يزال يتلاشى يومًا فيومًا.
انتهى كتاب رينو ببعض اختصار وتصرف.
هوامش
وقد ذكر ياقوت الحموي هذه الطائفة في معجم البلدان تحت لفظة باشغرت فقال: وأما أنا فإني وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم: الباشغودرية شقر الشعور والوجوه جدًّا يتفقهون على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فسألت رجلًا منهم استعقلته، عن بلادهم وحالهم، فقال: أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الفرنج يقال لهم الهنكر، ونحن مسلمون رعية لملكهم في طرف من بلاده نحو ثلاثين قرية، كل واحدة تكون بليدة، إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سورًا خوفًا من أن تعصى عليه، ونحن في وسط بلاد النصرانية، فشمالينا بلاد الصقالبة وقبلينا بلاد البابا وفي غربينا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها، قال: ولساننا لسان الإفرنج وزينا زيهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة؛ لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام، فسألته عن سبب إسلامهم مع كونهم في وسط بلاد الكفر، فقال: سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار وسكنوا بيتنا وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام، فهدانا الله والحمد لله فأسلمنا جميعًا وشرح الله صدورنا للإيمان، ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه، فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم، فسألته: لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج؟ فقال: يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت: فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم؟ فقال: من هنا إلى القسطنطينية نحو شهر ونصف، ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك. انتهى.
قلت: إن قوله الإفرنج مبني على كون الشرقيين يسمون جميع نصارى أوربة إفرنجة، وإلا فالمجار ليسوا من الإفرنج في شيء، ثم إني قد سألت علماء التاريخ من المجار عن قضية هؤلاء المسلمين الذين وجدوا في بلادهم في القرن السابع للهجرة، فأجابني الجنرال «تيودور كلوك» معلم التاريخ في جامعة بودابست بما خلاصته: إنه كان يوجد مسلمون أصلهم من البلغار في بلاد المجار عاشوا في أيام الملوك المجار من عائلة أربارد من سنة ٨٩٦ للمسيح إلى سنة ١٣٠١ وكان يقال لهم الإسماعيلية، وكانوا في القرن الحادي عشر يعيشون جماعات في جنوبي بلاد المجار، وكان منهم حراس لقلعة بست، وكان منهم في القرن الثالث عشر لا في مدينة بست فقط بل في جميع هكاريا، وكان أكثرهم من طبقة التجار، وفي سنة ١٠٧٧ صدر أمر الملك «لاديسلاوس» بتنصير الإسماعيلية، ولكن بقي منهم كثيرون في الباطن على دين آبائهم، وفي سنة ١٠٩٥ صدر أمر الملك «كولومان» بأن لا يكون في القرية من الإسماعيلية أكثر من النصف، وبأن يزوجوا بناتهم من المسيحيين، وفي أيام الملوك الذين بعده كان الإسماعيلية يؤثرون الخدمة العسكرية، وكان الملك غيزه الرابع أرسل إلى الإمبراطور الألماني «فردريك بربروسة» سنة ١١٦١ جيشًا لمعونته فيه خمسمائة من الإسماعيلية المذكورين. وفي سنة ١٢٢٦ للمسيح كان اجتماع ياقوت الحموي بأناس من هؤلاء الإسماعيلية في مدينة حلب، وفي سنة ١٢٢٢ وقع اضطهاد على الإسماعيلية واليهود، وفي المدة التي بين سنة ١٢٣٥ وسنة ١٢٧٠ كان الإسماعيلية صيارف يقرضون ملك المجار أموالًا، وما زالوا إلى سنة ١٢٤٢ معروفين كمسلمين، ومن ذاك الوقت أخذوا يندمجون في الشعب المجري، وفي سنة ١٢٦٦ كان لا يزال منهم قرية اسمها تمركني Temerkeny وفي زمان لورفيك الكبير كان لا يزال بعض عائلات مسلمة من بقايا الإسماعيلية.
وسنذكر شيئًا أوسع من هذا عن الإسماعيلية (أي مسلمي المجار) في رحلتنا إلى بلاد المجر وبوسنة، وإنما كان مرادنا هنا أن نذكر كون الإفرنج لا يقتصرون على العرب بلقب إسماعيلية بل قد يعنون بذلك كل المسلمين من عرب وعجم فإنه مما لا شك فيه أن المسلمين الذين كانوا في بلاد المجار لم يكونوا عربًا بل كانوا من المجار أو الباشقرد وعلى كل حال من أصل تتاري.
وأما في نفح الطيب فيقول عن الإسبانيول: إنهم يحاربون بالأفق الشرقي أمة يقال لهم الفرنجة، هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه، إذ كانوا خلقًا عظيمًا في بلاد واسعة جليلة متصلة العمارة آهلة تدعى الأرض الكبيرة، هم أكثر عددًا من الجليقيين وأشد بأسًا وأعظم إمدادًا يحاربون أمة الصقالبة المتصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة، فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس، فلهم هنالك كثرة وتخصيهم للفرنجة يهود ذمتهم الذين بأرضهم وفي ثغر المسلمين المتصل بهم، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد، وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك فصاروا يخصون ويستحلون المثلة. انتهى.
قلت: والخصاء ممنوع شرعًا.
وقد نقلنا عن المسيو درمنغهم الإفرنسي في السيرة النبوية في الطبعة الثانية من حاضر العالم الإسلامي هذه الأقوال المضحكة التي يهزأ بها رينو هنا، وقد شدد درمنغهم نفسه عليها النكير ولكن رجال الكنائس لا يزالون إلى يوم الناس هذا ينشئون أبناء مللهم في مثل هذه الترهات البسابس ويقلبون لهم حقائق الإسلام عمدًا تنفيرًا لهم منه كما فعل سلفهم في القرون الوسطى.
وجاء في نفح الطيب نقلًا عن ابن سعيد في المغرب: وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرقي الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيًا ولا فقيهًا مشارًا إليه إلا وهو بعمامة وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس وشيبه قد غلب على سواد شعره، وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده وكثيرًا ما يتزيى سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم فسلاحهم كسلاحهم وأقبيتهم كأقبيتهم وكذلك أعلامهم وسروجهم. انتهى.
ولقد رأينا أن ننقل إلى هذا الكتاب خلاصة ما أورده الأستاذ المشار إليه في كتاب «الوحي المحمدي» بشأن الرقيق في الإسلام فإن الناشئة العصرية لا سيما المتخرجين في المدارس الأوربية لا يعلمون عن الرق في الإسلام ما يلزم أن يعلموه وإذا سألوا الفقهاء الجامدين عن هذا الباب زادوهم خبالًا فلهذا اخترنا أن نقفهم على حكم الإسلام في قضية الرقيق محررًا بقلم الأستاذ الحجة. قال لله دره: كانت شعوب الحضارة القديمة من المصريين والبابليين والفرس والهنود واليونان والروم والعرب وغيرها تتخذ الرقيق وتستخدمه في أشق الأعمال، وقد أقرته الديانتان اليهودية والنصرانية وظل الرقيق مشروعًا عند الإفرنج إلى أن حررت الولايات الأميركية المتحدة رقيقها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وتلتها إنكلترة باتخاذ الوسائل لمنعه من العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يكن عمل كل منهما خالصًا لمصلحة البشر وجنوحًا للمساواة بينهم، فإن الأولى لا تزال تفضل الجنس الأبيض الأوربي المتغلب على الجنس الأحمر الوطني الأصلي بما يقرب من الاستعباد السياسي المباح عند جميع الإفرنج للشعوب، كما أن إنكلترة تحتقر الهنود وتستذلهم ولكن النهضة الهندية في هذا العهد قد خفضت من غلواء الإنكليز، فلما ظهر الإسلام كان مما أصلحه من فساد الأمم إبطال ظلم الرقيق وإرهاقه ووضع الأحكام لإبطال الرق بالتدريج السريع؛ إذ كان إبطاله دفعة واحدة متعذرًا في نظام الاجتماع البشري من الناحيتين: ناحية مصالح السادة المسترقين، وناحية معيشة الأرقاء. فإن الولايات المتحدة لما حررت رقيقها كان بعضهم يضرب في الأرض يلتمس وسيلة للرزق فلا يجدها فيحور إلى سادته يرجو منهم العود إلى خدمتهم كما كان. وكذلك جرى في السودان المصري فقد جرب الإنكليز أن يجدوا للأرقاء رزقًا بعمل يعملونه مستقلين فيه، فلم يمكن، فاضطروا إلى الإذن لهم بالرجوع إلى خدمة الرق السابقة بشرط أن لا يكون مسموحًا للمخدومين ببيع الأرقاء والاتجار بهم. وقد شرع الله تعالى لإبطال الرق طريقتين: عدم تجديد الاسترقاق في المستقبل، وتحرير الرقيق القديم بالتدريج الذي لا ضرر ولا ضرار فيه.
- الطريقة الأولى: منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء
إلا استرقاق الأسرى والسبايا في الحرب التي اشترط فيها دفع المفاسد
وتقرير المصالح ومنع الاعتداء ومراعاة العدل والرحمة، وهي شروط لم
تكن قبل الإسلام مشروعة عند المليين ولا عند أهل الحضارة، فضلًا عن
المشركين الذين لا شرع لهم ولا قانون، ولست أعني بالاستثناء أن
الله تعالى شرع لنا من هذا النوع من الاسترقاق كل ما كانت الأمم
تفعله معاملة لهم بالمثل، بل شرع لإولي الأمر من المسلمين مراعاة
المصلحة للبشر في إمضائه أو إبطاله، بأن خيرهم في أسرى الحرب
الشرعية بين المن عليهم بالحرية والفداء بهم. وهو نوعان: فداء
المال، وفداء الأنفس إذا كان لنا أسارى أو سبي عند قومهم، وذلك
قوله تعالى الذي أوردناه في قواعد الحرب فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً ولما كنا مخيرين فيهم، بين إطلاقهم بغير مقابل
والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلًا شرعيًّا لإبطال استئناف
الاسترقاق في الإسلام، فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر
الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل
المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا
ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل، كما يعلم مما يأتي، ولكن الآية
ليست نصًّا في الحصر ولا صريحة في النهي عن الأصل فكانت دلالتها
على تحريم الاسترقاق مطلقًا غير قطعية، فبقي حكمه محل اجتهاد أولى
الأمر، إذا وجدوا المصلحة في إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة في
ترجيح المن عليهم أو الفداء بهم عملوا به.
وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين أي: المن على الأسرى والفداء بهم — في حالات قليلة لا تدوم كأن يكون المحاربون للمسلمين قومًا قليلي العدد، كبعض قبائل البدو، يقتل رجالهم كلهم أو جلهم فإذا ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على الاستقلال في حياتهم، فيكون الخير لهم أن يكلفهم الغالبون ويقوموا بشؤونهم المعاشية، ثم تجري عليهم أحكام الطريقة الثانية في تحريرهم، وقد يتسرون بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت حرائر أو محصنات من الفواحش مكفيات أمر المعيشة على الأقل، وقد سن النبي ﷺ لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق، قولًا وعملًا، في غزوة بني المصطلق وغزوة فتح مكة وغزوة حنين كما هو مفصل في كتب السيرة النبوية وغيرها؛ إذ لم يكونوا أسروا من المسلمين أحدًا؛ لأن المسلمين قد أثخنوهم وظهروا عليهم، فعلم منها أن روح الشريعة الإسلامية ترجيح جانب الفضل والإحسان عند القدرة، ومنه عتق الأسرى والسبايا والمن عليهم بالجزية بلا مقابل حاضر ولا خوف مستقبل، بل لمحض الإحسان.
- الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبًا وندبًا وهو أنواع:
- النوع الأول: من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر
مسائل:
- (١) الحرية في الإسلام هي الأصل في الإنسان، كما كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله على مصر عمرو بن العاص (وقد اشتكى عليه قبطي): يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ وقد أخذ الفقهاء من هذا الأصل أن الرق لا يثبت بإقرار المرء على نفسه وجعلوا قول منكره راجحًا على قول مدعين فيكلف إثباته.
- (٢) أن الإسلام حرم استرقاق الأحرار من غير أسرى الحرب الشرعية العادلة بشروطها كما تقدم وجعل ذلك من أعظم الآثام. روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قال الله تعالى: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره». وفي حديث الثلاثة الذي لا يقبل الله منهم صلاة «ورجل اعتبد محررًا» أي جعله كالعبد في استخدامه كرهًا وأنكر عتقه أو كتمه وهو في سنن أبي داود وابن ماجه.
- (٣) شرع الله تعالى للمملوك أن يشتري نفسه من
مالكه بمال يدفعه ولو أقساطًا، ويسمى هذا في الشرع
الكتاب والمكاتبة، وأصله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ
اللَّـهِ الَّذِي آتَاكُمْ أمر بمكاتبتهم إن
علم المالك أنهم يقدرون على الكسب والوفاء بما
التزموه، وأنه خير لهم وأمر بإعانة المالك لمكاتبه
على أداء ما باعه نفسه به، ويدخل فيه الهبة وحط بعض
الأقساط عنه وجعل في مال الزكاة المفروضة سهمًا تدخل
فيه هذه الإعانة وندب غير المالك لذلك أيضًا.
ذهب بعض العلماء إلى أن الأمرين في الآية للوجوب: الأمر بالمكاتبة والأمر بالإعانة عليها، والأكثرون على أن الأول للندب والثاني للوجوب. وفي صحيح البخاري بعد ذكر الآية: قال روح عن ابن جريج: قلت لعطاء: واجب عليَّ إذا علمت أن له (أي لمملوكه) مالًا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسًا المكاتبة — وكان كثير المال — فأَبَى، فانطلق سيرين إلى عمر، فدعاه عمر فقال له: كاتبه. فأَبَى. فضربه بالدرة وتلا فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا فكاتبه.
- (٤) إذا خرج الأرقاء من دار الكفر ودخلوا دار الإسلام يصيرون أحرارًا وعلى الحكومة الإسلامية تنفيذ ذلك ومستنده في السنة معروف.
- (٥) إن من أعتق حصة له في عبد عتق كله عليه من ماله، إن كان له مال، وإن كان لغيره حصة فيه فله أحكام، وفي ذلك أحاديث في الصحيحين وغيرهما، منها حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أو شقيصًا فِي مملوكٍ فخلاصُهُ عليه فِي مالِهِ إنْ كانَ لهُ مالٌ وإلا قُوِّمَ عليْهِ فاستُسْعِيَ بهِ غيرَ مشقوقٍ عليهِ» وحديث ابن عمر مرفوعًا أيضًا: «مَنْ أعتقَ نصيبًا لَهُ فِي مملوكٍ أوْ شركًا لَهُ فِي عبدٍ فكانَ لَهُ مِنَ المالِ مَا يبلغُ قيمتَهُ بقيمةِ العدلِ فَهُوَ عتيقٌ» والشقيص كالنصيب وزنًا ومعنى.
- (٦) من عذب مملوكه أو مثَّل به أو خصاه عتق عليه،
فقد روى الإمام أحمد أن زنباعًا أبا روح وجد غلامًا
له مع جارية له فجدع أنفه وجبه فشكاه إلى النبي
ﷺ، فسأله فاعترف وذكر ذنبه، فقال النبي
ﷺ للغلام: «اذهبْ فأنتَ حرٌ» ويؤخذ منه أن
الجب والخصاء حرام وموجب لعتق العبد وينفذه الحاكم،
فكل ما كان يتخذ من الخصيان المماليك ففيه مخالفة
للشرع الإسلامي بخصائهم وعدم عتقهم.
وفي رواية له (الإمام أحمد) أخرجها أبو داود وابن ماجه جاء رجل إلى النبي ﷺ صارخًا فقال له: مالك؟ قال: سيدي رآني أُقَبِّل جارية له فجب مذاكيري. فقال النبي ﷺ «عليَّ بالرجل» فطلب فلم يقدر عليه، فقال ﷺ للغلام: «اذهب فأنت حر». وفي جامع الأصول من حديث سمرة بن جندب وأبي هريرة أن النبي ﷺ قال «مَنْ مثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ».
- (٧) إيذاء المملوك بما دون التمثيل والتعذيب الشديد حرام، ولا كفارة لذنبه إلا عتقه، فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لَطَمَ مملوكَه أو ضربَه فكفارتُه أنْ يعتقَهُ». وللشيخين والترمذي عن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ﷺ ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي فقال: اعتقوها. وقيل له: إنه ليس لبني مقرن خادم غيرها، فرخص لهم باستخدامها ما دامت الحاجة وإطلاقها إذا زالت، وروى مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلامًا بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ﷺ فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي، وفي رواية فسقط من يدي السوط من هيبته، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر منك على هذا الغلام (وفي رواية عليه) فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار.
- (٨) التدبير عتق لازم وينعقد بقول السيد لعبده أنت مدبر وأنت حر عن دبر مني أي بعد أن أدبر عن هذه الدنيا، وكذا أنت حر بعد موتي إذا قصد به التدبير فإن أطلق ولا قرينة فبعض العلماء يرجح أنه تدبير تقوية لجانب العتق الذي هو من مقاصد الشرع الأساسية، ومنهم من يرجح جانب الوصية. ومن أحكام التدبير أنه لازم في الحال لا يجوز الرجوع عنه كالوصية وأنه لا يجوز للمدبِر (بالكسر) بيع المدبَر (بالفتح) عند مالك وأبي حنيفة وأن من دبر بعض مملوكه وهو مالك له كله سرى العتق إلى باقيه وقال جمهور العلماء: إن أولاد الجارية المدبرة تابعون لها في العتق والرق فإذا عتقت عُتقوا معها.
- (٩) عتق أمهات الأولاد، وهو أن الجارية التي تلد لسيدها ولدًا تصير حرة من رأس ماله بعد موته، فلا تدخل في ملك الورثة ولا يجوز له بيعها في حياته عند جمهور السلف والخلف، وأولهم عمر وعثمان، ففي حديث عمر عند الإمام مالك: أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يستمتع منها فإذا مات فهي حرة.
- (١٠) أن من ملك أحدًا من أولي القربة عتق عليه وأعم ما فيه حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: مَنْ ملكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فهوَ حرٌ.
- النوع الثاني: من وسائل تحرير الرقيق الموجود الكفارات، والمراد بها القربات التي تمحو الذنوب وأعظمها عتق الرقاب، وهي ثلاثة أقسام؛ أحدها: واجب حتمًا على القادر على العتق ككفارة قتل النفس خطأ وكفارة الظهار، وهو تشبيه الرجل زوجه في أمه، وكان طلاقًا في الجاهلية، وكفارة إفساد الصيام عمدًا. ثانيها: واجب مخير فيه وهو كفارة اليمين فمن حلف يمينًا وحنث فيه فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة كما قال الله تعالى وحكمة التخيير ظاهرة. ثالثها: مندوب، وهو العتق لتكفير الذنوب غير المعينة وهو من أعظم مكفراتها.
- النوع الثالث: من وسائل إلغاء الرق الموجود، جعل سهم من مصارف الزكاة الشرعية المفروضة (في الرقاب) بنص القرآن، هو يشمل العتق والإعانة على شراء المملوك نفسه، ومن المعلوم أن زكاة الأمة الإسلامية تبلغ مئات الألوف وألوف الألوف من الدراهم والدنانير فلو نفذت أحكام الإسلام فيها وحدها لأمكن تحرير الرقيق في دار الإسلام.
- النوع الرابع: منها العتق الاختياري لوجه الله تعالى، قد ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في العتق ما يدخل تدوينه في سفر كبير ومما يدل على أنه من أعظم العبادات آية البر من سورة البقرة، ومن أشهر أحاديث الترغيب في العتق قوله ﷺ: أيَّمَا رجلٍ أعتقَ امرءًا مسلمًا استنقذَ للهُ بكلِّ عضوٍ منهُ عضوًا مِنَ النارِ، وحديث أبي ذر قال: سألت رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ باللهِ وجهادٌ فِي سبيلِهِ. قلت: قلتُ: فأيُّ الرقابِ أفضلَ؟ قالَ: أغلَاهَا ثمنًا وأنفَسَهَا عندَ أهلِهَا، ومن أشهرها حديث أبي موسى الأشعري: أيما رجل كانت له جارية أدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها وأعتقها وتزوجها فله أجران.
- النوع الأول: من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر
مسائل:
ولما سرتُ من مالقة إلى الجزيرة الخضراء سنة ١٩٣٠ التي ذهبت فيها إلى الأندلس اجتازت بنا السيارة هذه المسافة في ست ساعات، فكنت كذا قطعت مسافة ٣٠٠ أو ٥٠٠ متر حاذيت برجًا مخروطي الشكل شاهقًا في الفضاء، وعلمت أن هذه الأبراج كلها عربية.
وكان هنري الرابع قد سمح بدخول هؤلاء المسلمين إلى فرنسة على شريطة أن يقبلوا المذهب الكاثوليكي، فلما جاءه هذا الكتاب من السلطان أحمد وكان يهمه عدم إغضابه، أجاب طلبه وأمر بتسفير المسلمين المذكورين إلى إفريقية وغيرها من بلاد الإسلام، فخرج منهم فئات لحقوا بالمغرب، وآخرون بالجزائر وتونس، وآخرون وصلوا إلى مصر والشام، ومنهم من قصد إلى القسطنطينية، وقد بقيت منهم فئة قليلة في فرنسة انتهى الأمر بأن سلالتها صارت إلى النصرانية واندمجت في الفرنسيس. أما الذين كانوا لا يزالون في إسبانية، فبقي «فليب الثالث» يمنع خروجهم منها، إلى أن بلغه الخبر عما فعله هنري الرابع من النزول على إرادة السلطان العثماني، فحسب لتدخل الدولة العثمانية حسبانًا كبيرًا، وأمر فجمع عظماء مملكته، وتشاوروا في قضية بقايا المسلمين في تلك المملكة، فأشار بعضهم بمنع خروجهم مهما وقع وعول الجمهور ومنهم الملك على إخراجهم جميعًا تخلصًا من غوائل بقائهم في إسبانية، إذ قد ثبت للدولة الإسبانية أنه مع وجود هذه العلاقات السرية بين المسلمين الأندلسيين وبين الدولة العثمانية لم يأت أحد منهم برغم تنصرهم في ظاهر الأمر، ليخبر الحكومة الإسبانيولية بشيء من تلك الحركات، فاستدلوا من هذا على أن هؤلاء لا يزالون مسلمين، وإن أظهروا التنصر، وأنه يكون من الحزم إجلاؤهم أجمعهم عن إسبانية حتى لا تتعرض هذه المملكة بسببهم لحرب مع الدولة العثمانية لا تعلم عاقبتها، فأخرجوهم جميعًا على مراكب الحكومة الإسبانية، وكانوا نحوًا من ستمائة ألف نسمة، فذهب أكثرهم إلى المغرب، وانبثوا في الريف، وعمروا تطوان والرباط وسلا وجانبًا من فاس، وذهب كثيرون فسكنوا تلمسان والجزائر وتونس، ووصل آخرون إلى الشرق. وكان ذلك في سنة ١٦١٢ مسيحية.
وقد استوفينا تاريخ هذا الجلاء الأخير لمسلمي الأندلس في الطبعة الجديدة من «حاضر العالم الإسلامي» واعتمدنا في كثير من المعلومات التي كانت مجهولة عند الجمهور على كتاب ابن عبد الرفيع الأندلسي الذي روى عنه ابن جندار صاحب تاريخ رباط الفتح فمن شاء عن هذه المسألة بحثًا شافيًا للغليل فليراجع تاريخ رباط الفتح أو حاضر العالم الإسلامي الطبعة الجديدة، ولكننا سنخصص بهذا الموضوع إن شاء الله جزءًا بتمامه من أجزاء هذا الكتاب، فيه جميع تاريخ مسلمي الأندلس الذين أجبروا على التنصر بعد سقوط مملكة غرناطة ولبثوا مسلمين في الباطن أكثر من مائة سنة، وكان الإسبان يقولون لهم: «الموريسك» وقد أجمع المنصفون على أنه لم تعذب في الدنيا أمة ما عذبه الموريسك هؤلاء، حتى انفك عقالهم وخرجوا من إسبانية.