النوع الصحيح من السُّمعة
ما مدى استعدادك للاعتراف بأهمية سمعتك؟ ليس الكثيرون صرحاء ككاسيو المذهول المهتاج. غير أننا رأينا للتو مقدارَ ما يبذله الناس من طاقة وجهد ومهارة لنقل الانطباع الصحيح عن أنفسهم. فما يتطلَّبه اكتسابُ السمعة أكثرُ بكثيرٍ ممَّا يتطلبه تركُ انطباع جيد؛ لأن السمعة ما هي إلَّا انطباعاتٌ تصمد في مختلِف الأزمنة والأمكنة. فعلى غِرار مفهوم الفعل عن بعد، فإن السمعة شيءٌ يُصدِّق عليه أطراف ثالثة (من بينهم أناسٌ لم نلتقِ بهم قَط) وليس المحاورَين المباشرَين، وستظل باقية، حتى فقدانها على الأقل. ونظرًا إلى أننا نمانع الشعور بأنَّ أحكام الآخرين أهمُّ من القيمة الجوهرية، قد نتفق مع ياجو الذي يُجيب قائلًا: «السمعة أكذوبةٌ خادعة وباطلة؛ فهي غالبًا ما تُنال بغير استحقاقٍ وتُفقَد بلا سببٍ يستحق.»
لقد صار اقتصاد السمعة أشبهَ بفكرةٍ ثقافية سريعة الانتشار في هذا العصر الرقمي، وينطبق بقوةٍ على الشركات بقدرِ ما ينطبق على الأفراد. كذلك يمكن اعتباره إحدى نتائج الاقتصاد التشاركي. فهناك شركاتٌ مثل «جيتاراوند» و«باركينج باندا» (التي تُمكِّن الأشخاص من تشارُك السيارات وساحات انتظار السيارات على الترتيب)، إلى جانب العديد من الشركات الأخرى مثل «إير بي إن بي» و«سكيلشير»، تبحث عن طُرُق لإتاحة مواردَ غير مُستغَلة لمن يحتاجون إليها، عبر المشاركة. غير أنَّ هذا يجلب معه تركيزًا شديدًا على السمعة. فربما تنضمُّ إلى «إير بي إن بي» لكنك لا ترغب في أن يمكثَ في منزلك شخصٌ لا تستطيع الوثوقَ به. عندما أحجز سيارة تابعة لشركة «أوبر» لتوصيل بناتي إلى المنزل من مناسبةٍ اجتماعية، أهتمُّ بالتقييم الذي حصل عليه السائق وفقًا لرأي الركَّاب الآخرين. لذا يُمكن القول، من منظورٍ ما، إنَّ السُّمعة الآن أصبحَت أهمَّ وأشد تأثيرًا ممَّا كانت عليه في أي وقتٍ مضى.
وبالرغم من التركيز الشديد الذي صار مُسلَّطًا على هذه الحاجة الآن، فالحقيقة هي أننا طالما كنَّا دائمًا بحاجةٍ إلى سُمعة طيبة؛ لأننا مُعرَّضون على الدوام للتأثر بأحكام الآخرين. وبقدرٍ ما يبدو الاتفاقُ مع رأي ياجو مُغريًا، لكنَّ كاسيو مُحق؛ فنحن نحتاج إلى الإعجاب والاحترام. صحيحٌ أنَّ هذا قد يكون مزعجًا، لكننا لا نستطيع أن نسير في حياتنا ونؤدِّيَ أدوارنا بدون السُّمعة الطيبة. فبدون أن تُقيَّم كشخص جدير بالثقة أو مثير للإعجاب من جوانبَ رئيسة، تتضاءل فُرصنا في عيش حياة مزدهرة تضاؤلًا حادًّا. ويُعزَى هذا إلى أننا واقعون في شَرَكِ شبكةٍ من التفاعلات الاجتماعية تعتمد على مِثل هذه التصورات، والسبب أنَّ كلًّا منا لا يستطيع الاطلاعَ على حياة الآخرين إلا من خلال «العرض الخارجي». فكلُّ ما لديك لتبنيَ عليه حُكمك هو مظهري الخارجي الذي أبدو لك به. أما الواقع، أيًّا كانت ماهيته بالضبط، فلا يُمكن الوصول إليه مباشرة.
غير أنَّ هذا لا ينفي صحة رأي ياجو تمامًا. فبناء السُّمعة عملٌ محفوف بالمخاطر والتناقضات، وغالبًا ما يكون جائرًا. فبعضنا يُصدر على البعض الآخر أحكامًا سيئة (كما سأستكشف في الفصل التالي)؛ ومن ثمَّ يكتسب الناسُ سمعةً تُضرُّ بهم أو من المحتمل أن تُضلل الآخَرين. فالسُّمعة شيءٌ بالغ الأهمية لدرجة أنَّ البعض يبذل جهودًا حثيثة لاستحضارها بِنيَّة التضليل والخداع في كثير من الأحيان. وكما سنرى في هذا الفصل، فإنَّ تمييز الفرق بالضبط صعبٌ إلى حدٍّ مُحبط. ومن المفارقات أنَّ سمعة ياجو نفسِه كرجل نزيه، كانت «بدون استحقاق» أصلًا، وكانت عاملًا أساسيًّا في خداع عُطيل وإيهامه بأنَّ زوجته لم تكن مخلصة؛ ما ترتَّب عليه بعدئذٍ عواقبُ مأساوية. ويُمكن إضافة أنَّ انشغال عطيل نفسه بسمعته كجندي مُستقيم جدير بالاحترام أدى كذلك إلى هلاكه. تناقضنا مفهوم. فيقول ياجو: «لستُ كما أبدو» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٦٥)، وبذلك يرينا بكلِّ وضوح الفجوةَ بين المظهر والواقع. لكن الواقع الذي يتكشف على هذا النحو يُستحضَر من خلال حقيقةِ أنَّ ثمة جمهورًا يسمع همساته على خشبة المسرح. أي إنَّ الحاجة إلى فصل المظهر عن الواقع، التي تتغلغل في أعماقنا، لا تعني أنَّ هناك ولو إمكانية لمثل هذا الفصل.
ربما يكون أقصى آمالنا أن نكتسبَ سمعة تظل صامدةً على مرِّ الزمن، وتبقى متسقة مع أقوالنا وأفعالنا، فتكون بذلك مختلفةً عن الجهود التي يبذلها مَن يبدون بوضوح أنهم متلاعبون. وربما يكون أبغضُ ما نكرهه في الآخرين فكرةَ أنَّهم يتعمَّدون التلاعب وليس حقيقةً أننا كلنا نحتاج إلى السمعة. فإذا تصرَّف شخصٌ ما بطريقةٍ تجعله يكتسب سُمعةً طيبة، يتلاشى الشعور بالغثيان.
اكتساب سُمعة
أواظب كلَّ عام على حضور حفلِ توزيع جوائز حريةِ التعبير الذي تُنظمه منظمة «إندكس أون سنسورشيب». وكالعديد من حفلات توزيع الجوائز، شهدَت هذه المناسبة الكثيرَ من الاختلاط والمحادثات أثناء تناول المشروبات قبل بداية الفعاليات، وكان في الأجواء شيءٌ من الوعي بهُوية الحاضرين، والالتفاتات والنظرات المُحدِّقة الفضولية التي عادةً ما تُصاحب المناسبات التي يغلب عليها البهرجة. ولكن عند الإعلان عن الفائزين بالجوائز من أجل بدءِ الاحتفال نفسِه، يتغير الطابَعُ العام بصورةٍ ملحوظة. فنسمع قصصًا عن أشخاصٍ لم يُفكروا أبدًا في تسليط هذه الأضواء عليهم وهُم يتكبدون مشقة الكفاح في الخفاء طَوال شهور أو سنوات ضدَّ أشكالٍ مختلفة من الظلم، مُعرِّضين سلامتَهم لخطرٍ شديد في أغلب الأحيان. وعندما يصعدون المنصة لتسلُّم جوائزهم والتحدُّث، تكون أجواءُ القاعة مفعَمة بالإجلال. وهنا يظهر تناقضٌ صارخ بين استحقاق هؤلاء الفائزين الهائل للإعجاب وعدم اهتمامهم الواضح باللهَث وراءه، وهو تناقضٌ من شأنه تدمير مذهب التشاؤمية المُشكِّكة في صِدق دوافع الآخرين. وعادةً ما تكون التعليقات المتكررة التي أسمعها مصادَفة (وأردِّدها) من الحاضرين وهُم يخرجون من القاعة مُنصبَّة على أنَّ الفائزين أشعَروهم بالتواضع والتهيُّب والإلهام، وأنهم كانوا — في هذا السياق مثلًا — بعيدِين عن الابتذال وموفَّقين تمامًا في انتقاء كلماتهم. لنُقارنْ ذلك باحتفالات توزيع جوائز أوسكار، حيث يُثير الجوُّ العام ردودًا مختلفة (سواءٌ أكانت منصفةً أم لا) لمجرد أننا نعرف أنَّ الفائزين بالجوائز في هذه الحالة لهم سُمعتهم العامة التي يريدون إدارتها بطريقةٍ ما. فعندما يُهدي نجومُ السينما الناجحون والمميزون جوائزهم إلى مجهودات السلام العالمي والعدالة الاجتماعية والحفاظ على البيئة، يُمكن أن يثير ذلك اتهاماتٍ بمحاولة «التلويح بالفضيلة»، وهو ما يمكن أن يُطلِق أجراسَ إنذار في أذهان المشاهدين، الذين يُقيِّمون مدى الجِدِّية التي ينبغي أن يأخذوا بها أداءَ هؤلاء النجوم. وهنا يُجسد دبليو إتش أودين شيئًا من هذا التناقض في إهدائه قصيدتَه «الخطباء» إلى صديقه ستيفن سبيندر:
فإذا لم يبدُ بوضوح أنَّ الشخص يلهث وراء السُّمعة بأيِّ شكل، فحينئذٍ نعتزُّ بها ونُقدِّرها عن استحقاقٍ وجدارة. وعندما يبدو فيها التلاعبُ واضحًا (تلميح جانبي ساخر إلى السياسيِّين)، فإننا لا نحطُّ من قيمة السمعة في الحقيقة. بل نقول إن المتلاعب قد اكتسب الآن سمعةً بأنه مُتسلِّق اجتماعيًّا أو مُتفاخِر أو منافق. وإذا كان لهذه الأحكام السلبية أيُّ تأثير، فهي تُعزز قيمةَ السمعة أكثر. فإذا كنت تريد سمعةً طيبة، فمن الأفضل ألا تُبالِغ في إظهار رغبتك في اكتساب سمعةٍ طيبة.
لكنَّ قلةً قليلة من الناس هم مَن اكتسبوا سُمعتهم على نحوٍ مُقنع للآخَرين بجدارتهم بها؛ كالفائزين بجوائز منظمة «إندكس». فمعظمنا يبذل جهدًا أشدَّ من ذلك، بالنظر إلى وجود مقاييس مستوى الاجتماعية جاهزةً في المتناول، ويحاول استرعاءَ الانتباه واستعراضَ نفسه بأشكالٍ مختلفة؛ بحثًا عن أضواء أكثرَ إشباعًا لغروره. ونظرًا إلى ميلنا إلى الترويج لأنفسنا، باعتبارنا مؤدِّين تمثيليين، فقد طوَّرنا، بصفتنا حكامًا ناقدين، أدواتٍ ممتازةً لكشف الهُراء. ونطبِّق هذه الأدوات على أناسٍ لم نلتقِ بهم قط، لكننا نُطوِّر «حسًّا غريزيًّا» لاكتشاف مدى صدقهم.
لننظرْ هنا مثلًا إلى أنواع السُّمعة المرتبطة بشخصيات عامة مختلفة: مثل مانديلا، وتشرشل، ومادونا، وأنجلينا جولي، ومارجريت تاتشر، والبابا فرانسيس، ودونالد ترامب، وأنجيلا ميركل، وديفيد بيكهام، وميشيل أوباما، وتايلور سويفت. عندما أفكر في هؤلاء الناس، قد يتبادر إلى ذهني العديد من الصفات مثل: مُبجل، بليغ، موهوبة، جريء إلى حدِّ التهور، مَرِن، جاهلة، دَءوب ومكافح، متدينة، ذكي، غير جديرة بالثقة، كريمة، ظريف، وَدودة، متشائم مُشكِّك في صدق دوافع الآخرين، قاسية، شجاع، جذابة، أمين، قوي، منظَّم، لطيف، مغرورة. ولنفكر بعد ذلك في مدى سلاسة العلاقة بين هذه الكلمات وهؤلاء الأشخاص. فهذه العلاقات تعتمد إلى حدٍّ كبير على السياقات والجماهير. فالقائمة التي ربما أختارُها لوصف دونالد ترامب لن تكون القائمةَ نفسَها التي قد يختارها نايجل فاراج. وهكذا تستمر القوائم ومجموعةُ الصفات التي قد يُصبح أيٌّ منَّا معروفًا للآخرين بها إلى حدٍّ ما. ولا يُقصد بقائمة الصفات المذكورة أعلاه أن تكون مرتبطةً بهذه القائمة من الأسماء فقط. ففي الحقيقة، من المذهل مدى السرعة التي نستطيع أن نُطبِّق بها مجموعةً متنوعة من الصفات على مجموعة كبيرة من الأشخاص. لنُقارن مثلًا بين تشرشل الذي كان لا يُقهَر في زمن الحرب وتشرشل الذي خسر في الانتخابات إبَّان فترة سلام ما بعد الحرب. صحيحٌ أنَّ الكلام يُمكن أن يُرسِّخ سُمعةً مُعينة في الأذهان، لكنَّ الواقع دائمًا ما يكون أشدَّ تعقيدًا، ويتحقق في سياقاتٍ اجتماعية مُعينة.
لذا فالمحللون الذين يحاولون شرح «ظاهرة ترامب» على وجه الخصوص يواجهون عراقيلَ مُحبِطة؛ جرَّاء حقيقةِ أن استمراره في الكذب وعدم الاتساق مع نفسه واستخدام لهجةٍ وسلوكٍ عدوانيَّين، كل ذلك لم يُقوِّض مصداقيته التي يتصورها أولئك الذين انتخَبوه في أذهانهم. ولعل أفضلَ تفسير رأيته لكيفية حدوث ذلك هو ذلك الذي طرحه أستاذا علم النفس الاجتماعي ستيفن رايكر وألكسندر إس هاسلام. فهما يرَيان أنَّ ترامب يستطيع أن ينقل إلى هؤلاء الناس انطباعًا بأنه «واحد منهم»، ويُرسِّخ الالتزام بالولاء له أتباعه بطرقٍ مختلفة. فأولًا، يستخدم مهارات مسرحية بسيطة جدًّا. ففي التجمُّعات الجماهيرية مثلًا، يتعيَّن على الناس انتظارُه وقتًا طويلًا قبل أن يحضر. وبذلك سيكون كلُّ شخص في التجمُّع مُكرِّسًا وقتَه له؛ ما يخلق إحساسًا قويًّا بأن هذا شيءٌ مهم بالتأكيد ما داموا مُضطرين إلى انتظاره وقتًا طويلًا جدًّا هكذا. وينطبق الأمر نفسُه على تقييمات كل شخصٍ للأسباب التي تدفع الآخرين إلى فعل الشيء نفسِه. فيظهر حينئذٍ شعورٌ جماعي بالأهمية. بعد ذلك، عندما يحضر ترامب أخيرًا، يسارع إلى تحديد مخاوف الحاضرين وسط الحشد (كأن يقول لهم مثلًا «إننا تحت وطأة هجوم شديد») ويعرضُ إلى جانب ذلك قائمةً من أكباش الفداء الذين يمكن إلقاءُ اللوم عليهم في آلام هؤلاء الناس. ويمكن أن يكون التشديد القوي على الضمير «هم» مفيدًا جدًّا في خلقِ شعورٍ قوي بالجماعية المتمثلة في الضمير «نحن». ويُعزِّز هذا بآليةٍ لتحديد الأعداء الكامنين بينهم، كالصحفيِّين الحاضرين في التجمع مثلًا، أو المحتجِّين الذين يعترضون عليه من حينٍ إلى آخر. فإذا ظهرت أي علامة على أنَّ أحد الحاضرين في الحشد يحتج عليه، يُدعى الجمهور إلى تنبيه الأمن بالالتفاتِ إلى هذا العدو وترديد هتاف «ترامب ترامب ترامب»، لإعطاء الناس إحساسًا بما لديهم من قوة للتغلُّب على أعدائهم بوجهٍ أعم.
يُحدِّق ترامب عابسًا إلى المكان المخصص لوسائل الإعلام في مؤخرة القاعة، ويصف الصحفيِّين بأنهم «الأكثر إثارةً للاشمئزاز» و«الأشد خداعًا» بين كلِّ مَن رآهم على الإطلاق، مُعبِّرًا عن ازدرائه بإيماءةٍ ساخرة مُتقَنة، قبل تحريض قطيع أنصاره على الالتفات إليهم وتوجيه نظراتهم المحدقة الغاضبة إليهم أيضًا. وبإشارة منه، يستدير الحشد ويُطلق صيحات الاستهجان ضدهم.
وبذلك يُصبح التجمُّع «تعبيرًا حيًّا» عن قدرة أنصار ترامب على قهر أعدائهم على نطاق أوسع، ويُسهم في جعل الأمل الذي يُقدمه لهم يبدو «حقيقيًّا». وهنا يصف رايكر وهاسلام ترامب بأنه رائدٌ من «روَّاد الهوية»، يُقدم نفسه على أنه نموذج مثالي وأصلي لجمهوره، وليس مجردَ نموذج عادي. فهو لا يُخفي أمواله وأسلوب حياته أو يُحاول ارتداء ملابسَ عادية أقلَّ أناقةً لخلق شعور بأنه واحدٌ منهم. بل يتباهى بثروته وفجاجته ليعكس تطلعات جمهوره بينما يُظهر أنه «لا يمكن أن يكون منخرطًا في ذلك لتحقيق مكاسب شخصية». وهذا يعني أنه يهدف إلى أن يكون نموذجًا أصليًّا لعُصبةٍ مترابطة منغلقة على نفسها من «الأمريكيين العاديين»، بينما يصوِّر نفسَه على أنه النسخةُ المعاكسة تمامًا من نموذج السياسي، أو نموذج السياسي الأوَّلي الأصلي، الذي لا بُد، على النقيض من ذلك، أن يكون «مخادعًا» ومنخرطًا في ذلك من أجل مصلحته الشخصية.
ناقشتُ ظاهرةَ ترامب لأُبيِّن أنَّ الطريق إلى خلقِ سمعةٍ ليس واضحًا، ويُنشأ في سياقات معينة. وفي حينِ أنَّ أكثر من ٦١ مليون شخص صوَّتوا لترامب، لكنَّ مَن لم يصوتوا له كانوا أكثر، ويُظهِر البُغضُ والاشمئزاز اللذان زرَعهما في أذهان أولئك الذين لا يُناصرونه إلى أيِّ مدًى يمكن أن تقتصر سُمعة الشخص على جمهور مُحدد.
وبينما لا يحتاج معظمنا إلى الانشغال بالشهرة أو السمعة السيئة، لكننا بطريقةٍ ما نظل نكتسب سُمعةً تدوم بمرور الوقت، وقد يتحدث عنها الآخرون (كالأصدقاء وأفراد العائلة والزملاء) في غير وجودنا. وإذا كان معظم الناس لا يُظهرون تصرفاتهم على الملأ أو لا تَسنح لهم فرصةٌ لإبهار الجماهير عن بُعدٍ أو مع مرور الوقت، أو لا تُحتم الضرورة ذلك عليهم؛ تبقى سُمعتهم محفوظةً بالمهارة والجهد والحظ، حتى وإن كان ذلك على نطاقٍ أصغر وبين جمهور ثابت.
عندما نحاول التوصلَ إلى ما ينبغي أن نعتقده بشأن الآخرين، نصطدم بأنهم يحاولون التأثير على ما يريدون منا الاعتقادَ به. وذلك لأنهم أيضًا لديهم رغباتٌ ودوافعُ وأمنيات واحتياجات، وليس يريد بعضُنا لبعضٍ الأشياءَ نفسَها. إن تصديقَ ما يقوله لك شخصٌ ما يعني أنك تثقُ به، وهذا أشبهُ بإيمانك بأنَّ جسرًا ما سيكون متينًا كفايةً لتسير عليه؛ الفرق الوحيد هو مجموعة العوامل التي يجب أن تأخذها في حُسبانك (لأنك تستطيع أن تكون مُتيقنًا تمامًا من أنَّ الجسر لن يريد أبدًا خداعَك وإيهامك بتصديق أنه سليم.) ومن ثم، نخطو بحذر. لذا يجب إعادةُ تسمية الإنسان العاقل ليصبح الإنسان «المُصدِّق». نحن بحاجةٍ إلى التصديق، ولكن يُساورنا قلقٌ إزاء ما — ومَن — ينبغي أن نُصدِّق، ومنشغلون بالقدر نفسِه بأن نَظهر بمظهرٍ قابل للتصديق.
إن المصداقية هي عُملة التبادل الاجتماعي. والثقة فيما تقوله يمنحك مِصداقية. وإذا كان لدَينا مصداقية، يُصدِّقنا الناسُ ويثقون بنا؛ أمَّا إذا فقدناها، فلن نحظى بأيٍّ منهما. فنحن ننال الائتمان ونفقده في ضوء أقوالنا وأفعالنا. وعندما أُقيِّم مصداقيتَك، أحتاج إلى توخِّي الحذر من أن أكون ساذجًا سريعَ التصديق.
ويقتبس هاري فكرةَ «المسيرة الأخلاقية» من إرفينج جوفمان. وقد تصوَّر جوفمان هذه الفكرة لوصف حياة الشخص وفقًا لأحكام الآخرين، وبالأخصِّ كيفية تنقُّل الحياة الموصوفة بين تجرِبة نَيْل احترام الآخرين أو التعرُّض لاحتقارهم. ويأتي العامل المحفز لهذه الأحكام من كيفية استجابة الفرد المحكوم عليه للعديد من الأخطار الموضوعة في طريقه. والمقصود بالخطر هنا لحظة تُولِّد نجاحًا أو إخفاقًا في عيون الآخرين، ويُمكن أن تقع عند مراحلَ متنوعة في الحياة وفي مواقفَ تقليدية مختلفة. فلتتخيَّل طفلةً تخوض امتحانات، والتداعيات التي يُحدثها ذلك على شعورها بقيمةِ ذاتها. فإلى جانب شعور الإيمان بقدرات الذات أو شعور الشكِّ فيها اللذَين يُصاحبان النجاحَ أو الفشل عند مواجهة خطرٍ ما، نحتاج إلى الوسائل اللازمة لضمان أنَّنا ما زلنا نحظى بأحكام إيجابية.
غير أنَّ النميمة، على كل أضرارها، يمكن أن تساعد في التحصين من الاستنتاج المُشكِّك بأنَّ الناس يشقُّون طريقهم إلى نَيل حُكم إيجابي بالخداع والزيف. فمن الصعوبة بمكانٍ بناءُ سمعةٍ مُستدامة بهذه الطريقة بمرور الوقت؛ لأنَّ المرء، على حد القول المفترض لأبراهام لنكولن، «لا يستطيع خداعَ كلِّ الناس طَوال الوقت». فهم يتحدث بعضُهم إلى بعضٍ وبذلك يتغلَّبون على سياسة «فرِّق تَسُد». كالصبيِّ الذي خلق حالةً من المعرفة العامة حين صاح قائلًا: «لكنَّ الإمبراطور عارٍ!»
قد تكون النميمة ذميمةً في حد ذاتها، لكنها تخدم غرضًا. فقد اكتشف خبير علم النفس الأخلاقي جوناثان هايت وزملاؤه أنَّ النميمة لها أهميةٌ بالغة للغاية. فقد وجدوا من خلال دراساتهم أنَّ نسبة المخالفات والتجاوزات في أحاديث المرء عن غيره إلى نسبة الإشادة به تبلغ عشرةً إلى واحد، مُقترحين بذلك أنَّ «النميمة تُعَد بمثابة شُرطي ومُعلم.» وعلى حد قولهم، «عندما يتناقل الناس نميمة عالية الجودة (أي فاضحة شائقة)، يشعرون بأنهم أقوى تأثيرًا، وينشأ لديهم شعورٌ مشترك أفضلُ بالصواب والخطأ، ويشعرون بارتباطٍ أوثق بشركائهم في النميمة». وفي تلك الدراسات نفسِها، اكتشف جوناثان هايت ازدواجيةً في المعايير فيما يتعلق بمدى كراهية الناس أنفسهم لهذه «النمائم»، رغم انتشارها في كلِّ مكان. ومفاد استنتاجه الذي يحمل فكرتَين متناقضتَين أنَّه بالرغم من أن ممارسة النميمة والمعاملة بالمثل قد يؤدِّيان الغرضَ منهما على أكمل وجهٍ من الناحية النظرية؛ لأنَّ كلَّ مَن يمارس النميمة يكون مدفوعًا كذلك بالسعي إلى إدارة السُّمعة، فإنهما سيشهدان بعض التحايُلات والالتواءات لإخلاء الطريق للتحيُّز والنفاق اللذين يخدمان مصلحة المرء الشخصية.
طيِّب ومسيطر: العنصران الأهمَّان في السُّمعة الطيبة
وتشير سوزان هنا إلى أننا إجمالًا، وإن كُنَّا نُفضِّل الدفء على الكفاءة تفضيلًا طفيفًا — فالقصور في البُعد الأول في النهاية يعوق الآخرين، في حين أنَّ القصور في البُعد الثاني يعوق الذاتَ بالأساس — فإنَّ اكتساب أفضل سُمعة منشودة يستلزم تحقيق البُعدَين.
نحن بحاجةٍ، في عصر اقتصاد السُّمعة، إلى تحقيق الدفء والكفاءة، وإلى تحقيق الشعبية والسلطة، وأن نحظى كذلك بالحبِّ والاحترام. وتعتمد ماهيةُ السمعة الرابحة في النهاية على السياق وما هو على المحك وقد نخسره. ففي فيلم «إنقاذ السيد بانكس» (سيفنج مستر بانكس)، تَلقى الشخصية الرئيسية باميلا «بي إل» ترافرز (التي ألَّفت فيلم «ماري بوبينز») تنشئةً صعبة في طفولتها، وهذا ما نراه من خلال استرجاع سلسلةٍ من أحداث الماضي. ويتضح لنا على وجه التحديد أنها تحمل مشاعرَ مختلطةً تجاه والدَيها. فهي تعشق والدها لكنها لا تستطيع منع نفسِها من ملاحظة ضعف إدراكه للواقع، وخيالاته التي تسوقه إليها المشروبات الكحولية وعجزه عن الاحتفاظ بأي وظيفة. ولكن عندما تحاول والدتها الانتحارَ نتيجةَ تعرضها لضغوط شديدة، نرى الجانب الآخر من هذه المعادلة بوضوحٍ صارخ. فحين تقول لباميلا: «أعرف أنَّكِ تُحبين والدك أكثرَ ممَّا تُحبينني» وتطلب منها أن تعتنيَ بالأطفال الآخرين، نرى الذعر على وجه ابنتها من فكرةِ تركها لعالم معقَّد دون توجيهٍ من شخصٍ خبير. لقد كانت باميلا ترى والدها طيبًا لكنه ليس مسيطرًا، في حين كانت ترى أمها عكس ذلك.
كذلك يروي المسلسلُ التليفزيوني الناجح «انحراف» (بريكنج باد) العديدَ من القصص الشائقة المتعلقة بهذه المسألة، وثمة قصةٌ رئيسة تُمثل محور المسلسل، تثير هذه النقطة الرئيسة المتعلقة بالسُّمعة. يُركِّز المسلسل على تَحوُّل والتر وايت (الذي يؤدي دورَه براين كرانستون)، من شخص مُهذَّب شديد الاستقامة (إذ كان مُدرسَ كيمياء وربَّ أسرة) إلى واحدٍ من أباطرة عالم المُخدِّرات المهابين ملقَّبٍ بهايزنبرج (على اسم عالم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل)، ومُنتِج لأفضل أنواع الميثامفيتامين في المدينة. لم يكن والتر ليُقْدم على كسر إشارة مرور حمراء أبدًا، بينما هايزنبرج كان مُستعدًّا لقتل أي شخصٍ يرى أنه يمثل تهديدًا دون أن تأخذه به أيُّ رحمة. غير أنَّ التحول يستغرق وقتًا ويواجه تياراتٍ مضادةً معقدةً طوال الوقت. ففي بداية المسلسل، شُخِّص والتر بسرطان الرئة المميت، وكان هذا التشخيصُ هو الدافعَ وراء تحوله. فقد كان «انحرافه» هو الحلَّ الوحيد الذي خطر بباله لدعم أُسرته ماليًّا بعد وفاته (بالإضافة إلى دفع تكاليف العلاج الذي قد يُطيل حياته)، وذلك باستخدام خبرته في الكيمياء. ولكن بالرغم من هذا السرد العام الأساسي الذي لا يتطرق إلى تفاصيل، يستطيع المشاهدُ أن يرى أنَّ والتر كانت لديه دوافعُ أخرى مؤثرة مرتبطة ارتباطًا خاصًّا بهذا الفصل.
لم يرفض والتر العرض فحَسْب (متظاهرًا أمام زوجته بأنه قَبِله)، بل بدأ يكشف عن علامات سنوات المرارة والإهانة والغضب التي تَمكَّن حتى ذلك الوقت من كبْتِها داخله. ومجموعة الدوافع هذه التي سأناقشها تُقدِّم أفضلَ تفسيرٍ للكيفية التي قَدَر بها على تحقيق هذا التحول المستدام. فمهما كان المنحدَرُ الذي يسير عليه زلقًا (إذ ترتفع مستويات الخطر والعنف بالتوازي مع ارتفاع عدد الجثث)، لا يتعثر والتر قَط. ويُظهِر المسلسلُ بأسلوبٍ رائعٍ الصراعَ الذي يُكابده حتمًا، وملائكته الأفضل وهي تُمزَّق بالذنب والذعر، وشياطينه وهي تجعله يصبُّ كل تركيزه بلا رحمةٍ على أن يفوق أعداءه الكثيرين حيلةً ودهاءً، وفخورًا بقدرته على ذلك.
وهذه الملائكة والشياطين هي ما يتوجَّب علينا التعاملُ معها في أغلب الأحيان ونحن نُحاول إدارة سمعتنا. فهي تُمثِّل محورَي السُّمعة الطيبة اللذين غالبًا ما يبدُوان متداخلَين، لكنهما في الواقع مختلفان من الناحية المفاهيمية. وبذلك يُمكن القول إنَّ والتر كان طيبًا لكنَّ هايزنبرج كان مُسيطرًا.
لماذا نحتاج إلى هاتين السِّمتَين كلتيهما؟ وكيف تتعارض كِلتاهما مع الأخرى؟ ثمة نقطةُ انطلاق جيدة لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال؛ التفكير فيما يَعنيه الوثوقُ بشخصٍ ما. بعبارة مبسَّطة، حين تقول إنك تثق في شخصٍ ما، من الطبيعي أن يكون ذلك تقييمًا لدوافعه أو قِيَمه أو أخلاقه. فأنت تثقُ في أنه لن يخذلك؛ لأنك تثقُ في أن نواياه الصادقة ستضمن عدم تفضيل أي دوافع أخرى تخدم مصلحته الذاتية على فعل الصواب. ومن الواضح أن هذا الجانب من الثقة مهمٌّ أهميةً قُصوى لنجاح الحيوانات ذات النزعة الاجتماعية الفائقة، أي نحن، في حياتها. لكنَّ ما يغيب عن أذهاننا في كثيرٍ من الأحيان أنَّ «الكفاءة» مهمة لنيل الثقة بقدر أهمية الدوافع. فرغم كل شيء، يجب أن يكون الجسر قويًّا بما يكفي ليحملَك. أي إنَّ قدرتك على الوثوق بي تعتمد على تصوراتك عن «أخلاقياتي» و«قدرتي» على الوفاء بوعودي.
هذا لا يعني أنَّ أيًّا من هذين المفهومين بسيطٌ أو سهل التحديد. ولكن من حيث المضمون، إذا كنتُ لا آتمنُك على أن تأخذ أموالي إلى البنك، فذلك لأنني أخشى أنك قد تأخذها لنفسك (وهذا يعني أنك لستَ طيبًا) أو أن تضيع منك (وهذا يعني أنك لستَ مسيطرًا). وهذا مرتبطٌ من بعض الجوانب بمناقشتنا التي عُرِضَت سلفًا عن الشعور بالعار والذنب في الفصل السابق. فيُمكننا أن نلوم شخصًا ما على خطأٍ أخلاقي بطريقةٍ مختلفة عن لومِنا إيَّاه على خطأ مادي؛ لأنَّ لدَيه سيطرةً أكبر على الأول، ومن ثَمَّ يُمكن أن يكون حسابه أعسر. ولذا نعاني بطُرقٍ مختلفة عندما نفشل في تحقيق هذه الأشكال من الأحكام الإيجابية. فإذا عجزتُ عن الظهور طيبًا، فقد يؤدي ذلك إلى الشعور بالذنب. فهذا يعني أنني ارتكبتُ تجاوزًا أخلاقيًّا بطريقةٍ ما. أمَّا إذا فشلتُ في أن أكون مسيطرًا، وكفئًا، وماهرًا، فمن المرجَّح أن أشعر بالعار، وربما أُحسُّ بالاشمئزاز من سلوكي الأخرق أو ضعفي.
وهذا ينطبق على والتر، الذي شعر بعارٍ شديد؛ لأنه كان الرجلَ الطيب الذي فُضِّل رجلٌ آخرُ عليه، بينما ظلَّ هايزنبرج يُكابد الشعور بالذنب نتيجةً لتجاوزاته الشائنة العنيفة. والحقيقة المحزنة أننا أشدُّ اضطرارًا ممَّا نريد إلى اختيار سمةٍ واحدة فقط من الاثنتين؛ إذ يُوجَد عددٌ مبالَغ فيه من الحالات لأشخاصٍ ذَوي دوافع حسَنة لكنهم يفتقرون إلى الكفاءة، والعكس. أي إنك من الصعب أن تكون طيبًا وكفئًا؛ أن تكون طيب القلب وجذابًا. وبذلك فإنَّ الحاجة إلى الجمع بين المكانة والنفوذ والمال والجنس وتقدير الذات، وما إلى ذلك، تُفسِد الجانبَ الأفضل منَّا وتبدأ في تحويل والتر وايت الكامن داخلنا إلى هايزنبرج في أي لحظة. وهكذا يُقيِّم بعضُنا بعضًا بِناءً على احتمالية نشوء تأثير لهذه الدوافع المختلطة لدينا.
- (١)
كَسولًا: أي تظن أنني لن أتكبَّد عناءَ إطعامه.
- (٢)
طمَّاعًا: أي تظن أنني قد أعرِضه للبيع على موقع «إيباي».
- (٣)
قاسيًا: أي تظن أنني قد أوذيه.
ثمة صورٌ عديدة للغاية لعدم توافق دوافعك مع دوافعي. بل إننا كلما دقَّقنا في الأمر عن كثب، صار عدم وجود أي توافق على الإطلاق بين رغباتك ورغباتي أمرًا شبه مؤكد. فربما يكون لديَّ دافعٌ إلى الاعتناء بقطك؛ لأنني شخصٌ متطفل لديَّ فضول لرؤية منزلك، أو ربما أستخدم العُذر للحصول على مِفتاح بيتك للسطو عليه، أو لدعوة أصدقائي إلى حفلٍ فيه. وقد يتسلل إلى نفسي شكٌّ في أنك لستَ مثقفًا راقيَ الفكر بالقدر الذي تريد الظهور به، وعندما أجد سلسلة «ميلز آند بوون» الموجودة لديك، يمكن أن يتأكَّد ذلك الشك، وبذلك أشعر برهبةٍ أقلَّ حين نلتقي في المرة التالية. وربما لا أكون حتى على دراية تامة بماهية دوافعي التي تجعلني غيرَ جدير بثقة الآخرين. فقُدرتنا على خداع أنفسنا تجعلنا أكثرَ قابليةً للتصديق من قِبَل الآخرين؛ لأننا أقنعنا أنفسَنا بحُسن نوايانا في الأساس. وبذلك فما أفعله في نهاية المطاف حالما أصبح في منزلك قد يكون مختلفًا تمامًا عن الأسباب التي دفعَتني إلى الموافقة على المساعدة. وصحيحٌ أنَّ النزعات الغريزية العابرة التي يمكن أن تُغير دوافعنا تختلف في حدَّتها مع اختلاف الظروف والمواقف، لكنَّها كلها تتَّحد مكوِّنةً أسبابًا قد تجعلك لا تثق بي فيما يتعلق بهذا البعد.
فحين تثق بي، فكأنك تُخاطر بتصديق أن دَوافعك متفقة مع دوافعي بما يكفي، رغم عدم وجود ضمانات على ذلك. ولكن ما الذي يُساعدك على أن تقفز هذه القفزة؟ كيف أنقل إليك مصداقيتي؟
ونظرًا إلى أنني لا أستطيع أن أخبرك إلَّا بما تريد سَماعه، فإن قدرتك على الوثوق بي تعتمد على أشياءَ لديَّ سيطرةٌ أقلُّ عليها. فالنميمة وتناقلُ الأقاويل، كما رأينا، مصدرٌ جيدٌ للمعلومات لا أستطيع التحكمَ فيه بسهولة. والشيء نفسُه يسري على الإشارات الجسدية التي نُبيِّن بها أننا نَعني ما نقوله. ومن هذه الإشارات ثبات العينين واليدين، والابتسامة البسيطة، وإبداء القدر المناسب من الانفعالات الشعورية؛ فإذا بالَغْنا في ذلك، فسنبدو غيرَ مُستقرين، وإذا كانت أقلَّ ممَّا ينبغي، سنبدو باردين. فالكثيرون يرَون أنَّ الانفعالات الشعورية تطوَّرَت وصارت ضماناتٍ على صدقنا، وهو ما يُعزى تحديدًا إلى صعوبة التحكم فيها.
علاوةً على ذلك، إذا أخبرتك بأشياءَ تُقلِّل من كفاءتي بطريقةٍ آمنة قد تُساعدك على الوثوق بدوافعي في المقابل، يمكنني أن أبدوَ أطيَبَ بالتنازل عن بعض السيطرة. فإذا اعترفتُ مثلًا بأنني لا أستطيع الاستيقاظ مبكرًا وعرَّضتُ نفسي بذلك لخطرِ عدم حصولي على الوظيفة، فإن ذلك، وللمفارقة، ربما يُعزز فرصتي في الحصول عليها؛ لأنَّ ما تحتاجه حينئذٍ أن يكون لديك أسبابٌ تجعلك تُصدق ما أقول. ففي بعض الأحيان يمكنني نيلُ الثقة من خلال الاستعداد لتشويه جوانبَ أقلَّ أهميةً من نفسي. لذا فعندما نُظهر أننا طيبون، غالبًا ما يحمل ذلك بين طياته كشفًا عن أشياءَ لا نستطيع السيطرة عليها بالقدر الكافي. كم مرةً نسمع أناسًا يعترفون بأنهم «مُريعون في هذا» أو «ميئوسٌ منهم في ذلك». فانتقاد الذات بهذا التواضع يعمل على تعزيز ظهوري بمظهر الشخص «الطيب» بعدم إبداء الكثير من الاهتمام بالسيطرة.
وبالطبع إذا بالغتُ في هذا التشويه الذاتي لأُظهر أنني لا أخفي شيئًا وأنَّ دوافعي بريئة ونقية، يمكن أن ينتهيَ بي المطاف فاقدًا السِّمةَ الرئيسة الأخرى التي تجعل المرءَ جديرًا بالثقة، وهي قُدرتي على أداء الوظيفة؛ أي كفاءتي. ففي رواية «تغيير الأماكن» التي كتبها ديفيد لودج، يلعب مجموعةٌ من الأكاديميين «لعبة إذلال» يُحرزون فيها نقاطًا باعترافهم بأنهم لم يقرَءوا أعمالًا أدبية شهيرة. ويفوز محاضرٌ شابٌّ عند اعترافه بأنه لم يقرأ مسرحية «هاملت» قَط. لكنَّ صِدقه الذي يُجدد دافعيته وتحفيزه، وإن كان يُظهر حُسن نواياه، يكشف عن فجوةٍ أوسعَ مما ينبغي في مهاراته. كانت هذه زلةً في محادثة لم يستطع تداركها، وانتهى به المطاف فاقدًا وظيفته بسبب ذلك.
- (١)
غبيًّا؛ أي أغبى من أستطيع اتباع تعليماتك.
- (٢)
غير كفء؛ أي أخرق من أن أستطيع فتح عُلبة طعام القطط.
- (٣)
مشتَّت الانتباه؛ أي أذهب لأطعم القط في اليوم الخطأ.
كيف تنقل إلى شخصٍ ما أنك ماهر؟ إن العلامات التي تُبيِّن مكانةَ المرء أو الآليات التي يُمنَح بها سُمعته بمنزلة أدواتٍ بديلة ثابتة نستخدمها للتعبير عن مستويات المهارة أو الخبرة ونستطيع الاعتمادَ عليها إلى حدٍّ ما. فالمؤهلات مفيدةٌ للغاية في المواقف والمواقع الرسمية؛ لذا نهتمُّ بسيرتنا الذاتية. وفي بعض الأحيان، يُلبَّى الغرض عن طريق الاعتبار الذي يناله المرء بفضل ارتباطه بشيءٍ أو شخص آخر. فإذا دفعتَ ١٢٠ ألف دولار للالتحاق بكلية وارتون لإدارة الأعمال، في حين أنك تستطيع مشاهدةَ محاضراتهم مجانًا، فأنت بذلك تبحث عن بِضعة أشياء أخرى أكثرَ من مجرد التعليم. وأحد هذه الأشياء هو الفائدة التي ستعود على سُمعتك من الارتباط بمؤسسة مرموقة.
وفي الأبراج الأكاديمية العاجية، غالبًا ما يندب الأكاديميون ويشتكون من الحاجة إلى الهيبة. فالتشديد المثالي على أنَّ الحقيقة ستظهر وأنَّ الناس سينالون الثقة والاعتبار على أساس الجدارة وحدَها يُدحَض على صخرة الواقع. فالأكاديميون يحتاجون إلى إثبات أوراق اعتمادهم إذا أرادوا أن يُسمَعوا أصلًا. ولا يمكنهم سوى الاعتمادِ على المُرشِّحات والأدوات البديلة التي تُعبر عن مهارتهم وخبرتهم. فالمؤهل الأكاديمي الذي يَعقب أسماءهم، ونَيل دعم إحدى المؤسسات ودور النشر والمجلات المرموقة، كلها وسائل استدلالية يحتاجون إليها، وبدونها سيضيع كل ما يدَّعونه عن أنفسهم وسط ضجيج صاخبٍ من الأصوات غير المتمايزة. وكما رأينا في حالة الأكاديمي التعيس الذي لم يقرأ «هاملت»، يحتاج الأكاديميون إلى الحفاظ على طابَعٍ من الكفاءة والخبرة في أسلوبهم وطريقتهم وفيما يُعبرون عنه ويخفونه إذا كان لهم أن يُؤخَذوا على محمل الجِد.
وكما ينطبق ذلك في الأوساط الأكاديمية، ينطبق أيضًا في الحياة اليومية. فنحن نبحث باستمرارٍ عن إشاراتٍ تُبيِّن أنَّ هذا الشخص أو ذاك يتَّسم بالكفاءة والمهارة. لكننا لا نستطيع التيقُّن من ذلك؛ ولذا يجب تشغيل مقياس الاجتماعية لدى كل شخص، وليس بالضرورة أن يكون ذلك بدافعٍ من التشكيك في دوافع الآخرين. ففي بعض الظروف والمواقف، يكون اكتساب سُمعة بالكفاءة بمنزلةِ حقِّك في أن تُسمَع.
ولإعادة العلاقة المتناقضة بين التحلِّي بالطيبة وإحكام السيطرة إلى نقطة البداية مجددًا، غالبًا ما يُمكننا الحدُّ من الجانب الأول لتعزيز الجانب الثاني. وإحدى الطرق التي قد أُعزِّز بها سمعتي بأنني كفءٌ أن أُقلِّل من طيبتي؛ ففي النهاية، تستند فكرةُ القدرة على اتخاذ قرارات «صعبة» في مُجملها إلى مدى قُدرتك على السيطرة على قلبك الرقيق. ويُجسِّد شيلي هذا الاختيارَ في وصفه «أوزيماندياس» بأنَّ لديه «ازدراء يتَّسم بسيطرة باردة». بعبارةٍ أكثر واقعيةً وبساطة، عندما نقول إنَّ شخصًا ما «سيِّئ السلوك لكنه طيب» أو «أنت شنيع لكنني معجَب بك»، نُظهر بذلك أنَّ السُّمعة المفقودة في جانبٍ يُمكن تعويضها في الجانب الآخر. فمن الممكن أن نستبدل بعض السِّمات الرائعة الأخرى كالجاذبية أو خفة الظل بشكوكنا في الدوافع الأخلاقية، وفي أحيانٍ كثيرة جدًّا، يحتاج الشخص الطيب إلى العمل الجاد الدَّءوب لتجنُّب تفضيلِ الآخرين عليه، كما في حالة والتر وايت.
نحن نصطدم بحقيقة أنَّ المبالغة في إظهار سعيِنا وراء تحسينِ سُمعةٍ ما، سواءٌ بالطيبة أو السيطرة، ستنقلب علينا بنتيجة عكسية مدمِّرة. فالجمهور يُشاهد ويستطيع اكتشافَ الزيف (ما زال الحديث عن الجراحات التجميلية مذبذبًا ما بين كونه محظورًا وكونه عاديًّا لا حرج فيه)؛ لأنَّ الكل يعلم أنهم يريدون التأثيرَ على الآخرين بهذه الطريقة. غير أننا لا نستطيع النجاحَ بسهولة هكذا في سعينا إلى الحصول على آراءَ إيجابية بمجرد التمنِّي. وهنا تحضرني قصة (ربما تكون ملفَّقة وليس لها أساس) عن مُحاضِرةٍ كانت تُدرِّس درسًا في علم النفس عن التعزيز الإيجابي. فبينما انتقلتْ من الحديث عن كيفية تدريب كلب «بافلوف» على ترقُّب الطعام على سماع صوت الجرس، إلى ما حدث عندما دُرِّب الحمَام في صندوق «سكنر» على النقر بمِنقاره للحصول على حُبيبات الطعام، لم تُلاحظ ما كان يجري في قاعة المحاضرات. فقد كانت المُحاضِرة في أغلب الوقت تمشي عبر مقدمة قاعة المحاضرات يمينًا ويسارًا وهي تتحدث؛ ما أعطى الطلابَ فكرة. فقد قرَّروا فيما بينهم أن يَبْدوا غيرَ مُهتمين ويتَّكئوا بظهورهم على مَساند مقاعدهم ويتهامَسوا ويتوقفوا عن تدوين الملاحظات، وما إلى ذلك، كلما سارت إلى يمين القاعة. وكلما سارت إلى يسار القاعة كانوا يميلون إلى الأمام ويواصلون تدوين الملاحظات، ويتصنَّعون ابتساماتٍ تدلُّ على التجاوب، ويمنحونها التعزيز الإيجابي بطريقةٍ ما. ورُويدًا، بدأت تُقلل من مراتِ سيرها إلى يمين القاعة، إلى أن صارت في النهاية تُلقي المحاضرة كلَّها من الرُّكن الأيسر. القصة مضحكة ومحزنة في الوقت ذاتِه. فالمُحاضِرة لم تصبح ضحيةً لموضوع محاضرتها دون وعيٍ منها فحسب، بل كشفَت كذلك دون قصدٍ عن رغبتها الشديدة في ترك انطباع جيد لدى الجمهور الذي تُخاطبه.
وهكذا تُرجح بعضُ السياقات دوافعَ المرء وأخلاقَه، فيما تُرجح سياقاتٌ أخرى كفاءته ومهارته، وبين هذه السياقات وتلك، تُكتسَب السمعة الأغلى من التغلب على التوترات المتأصلة بين الاثنين.
محاولة الجمع بين الاثنين
يُظهِر هذا المخطط التصويريُّ المُعبر عن الواقع الحقيقي شركاتٍ متعددةً موضوعةً في كلٍّ من هاتين الدائرتين، وبينها سِماتٌ مختلفة وَفْق تصوُّر المؤلفين. ففي الدائرة اليُمنى، لدينا شركاتٌ تُعتبر متسقةً مع قِيَم المؤلفين، وصغيرةً بما يكفي لتمنحَهم عنايةً شخصية، ومُستقلة في أغلب الأحيان، ومن المحتمَل أن تتَّسم باستمرارية الموظفين والدافع، وهي استمرارية يُمكن للمؤلفين الاعتمادُ عليها بمرور الزمن. ولكن مع الأسف، لا يُنظر إليها دائمًا على أنها الأنجح. وعلى الجانب الآخر، تُعتبر الشركات الواقعة في الدائرة اليسرى ناجحةً حقًّا، إذ تضمُّ فِرقًا كبيرة مُتخصِّصة في المبيعات ولدَيها أحدثُ الوسائل التكنولوجية، لكنها ليست متسقةً بالضرورة مع قيم المؤلفين كأفرادٍ من المرجح أنهم يشعرون بأنهم مجردُ تروس في آلة كبيرة. وبالطبع يريد المؤلفون الجمع بين الشيئين. فهم يريدون القِيَم والتوافق والعلاقات الطويلة الأجل، ويريدون كذلك آلةً فعالة تستطيع أن تنقل أفكارهم إلى أكبر قاعدةٍ ممكنة من القراء، إلى جانب المبيعات وعوائد المِلْكية الفكرية. باختصار، يريدون أن تكون دارُ النشر التي يعملون لديها طيبةً ومُسيطرة في آنٍ واحد. غير أنَّ هذا الوسط السعيد الذي يتَّسم بالاعتدال على غرار قصة «جولديلوكس» أقربُ إلى أن يكون مجرد طموح من أن يكون واقعًا حقيقيًّا في أي شركة. فالشركات، في الواقع، تنتقل، من وقتٍ إلى آخر، من دائرة إلى الأخرى، ونادرًا ما تبقى في الوسط ببساطة؛ لأنَّ التوترات تنشأ باستمرار، بسبب تعارض الأولويات. وما ينطبق على سُمعة المنظمات ينطبق على الأفراد أيضًا.
إن جزءًا منا يقبع في الدائرة اليمنى مع والتر وايت، فيما يوجد جزءٌ آخر في الدائرة اليُسرى مع هايزنبرج. ويختلف الناس في ميولهم إلى الاتجاه نحوَ هذه الناحية أو تلك. لكنَّ الخُلاصة أنَّ أفضل سمعة ممكنة، سواءٌ للمنظمات أو الأشخاص، تتحقَّق بالجمع بين الدائرتين.
وهذا الاختلاف يَسري على عدةِ مستويات. ففي بيئة عمل أخرى، كتلك التي تتضمن مُديرًا ومرءوسين، يمكننا أن نرى هذه الموضوعات تظهر مجددًا. وتركز المؤلفات المتعلقة بمسألة «القيادة الموقفية» على وجود اختلاف بين التصورات القائمة عن التزام الأشخاص (أي مدى دافعيتهم وما إلى ذلك) وكفاءتهم (أي مهارتهم). وتُوضِّح المصفوفة الواردة أعلاه مدى الحاجة إلى اتباع طُرق تعاملٍ مختلفة على حسب النطاق الذي يقع فيه الجانب محلُّ الاهتمام.
هنا يظهر فيها الاختلاف مجددًا، وعندما يكون لديك شخصٌ ما يستطيع الجمعَ بين الجانبين، أي يكون ذا كفاءة عالية والتزام عالٍ، فعندئذٍ تستطيع، بصفتك مديرَه، أن تثق فيه ثقةً تامة دون تردُّد من خلال تفويض مهامَّ إليه. أمَّا أي شخصٍ آخر لا يرقى إلى هذا المستوى في أيِّهما، فيحتاج إلى نهجٍ مختلف.
بإيجاز، إذا كان الآخرون يرَونك دافئًا ولكن ليس كفئًا، فستُثير شعورًا بالشفقة لدى أولئك الذين قد يكون عندهم الدافعيةُ والحافز لمساعدتك، وإن كان بطريقة تتَّسم بشيء من السُّلطوية والتفضُّل. أمَّا إذا رآك الآخرون كفئًا ولكن ليس دافئًا، فستثير الحسد والاستياء وقد تدفع الآخرين إلى تبنِّي موقفٍ أشدَّ عدائيةً تجاهك. أما إذا رأوا أنك لستَ دافئًا ولا كفئًا، فستثير أسوأ استجابة، وهي الاشمئزاز أو الازدراء وما يتبع ذلك من إحساسٍ بالنَّبذ؛ وإذا كنتَ تحظى بكليهما (المربع العلوي الأيمن)، فهذا يعني أن لديك أفضلَ سُمعة، وستثير الإعجاب والفخر.
وفي التلفزيون والأفلام والثقافة الشعبية نرى توتُّرًا في العلاقة بين هاتين الركيزتين المتلازِمَتين اللتين تقوم عليهما السُّمعة الطيبة. لقد كان الاختيار الذي اختاره والتر وايت أن يتخلى عن الطيبة مقابل حيازة السيطرة. وعبَّر المؤلف عن هذا الاختيار بعباراتٍ مألوفة من العبارات التي تظهر على الشاشات في مثل هذه المواقف، على غرار «لن أعود ذلك الرجلَ الطيب بعد اليوم» أو «لن أعجبك حين أغضب»، وهذا على سبيل المثال ما كان ديفيد بانر يقوله عندما يتحول إلى شخصية «هالك الخارق» ويصبح شريرًا ويتحول جسدُه إلى اللون الأخضر. بالمثل، تتضمَّن الأفلام والمسلسلات أمثلةً لا حصر لها لأشخاصٍ يسلكون الاتجاهَ الآخر؛ أي يتحولون إلى الخير والفضيلة، حيث تُروِّض الجميلةُ الوحشَ ترويضًا نمطيًّا متوقعًا. ففي فيلم «امرأة جميلة» (بريتي وومَن)، يتخلى ريتشارد جير عن سلوك رجل الأعمال الساعي إلى السيطرة على الشركات، بفضل حبِّ «امرأة جميلة» (جوليا روبرتس)، ويخلع حذاءه وجوربه ليشعر بالعُشب تحت قدميه قبل أن يوافق على العزوف عن الشر، والتخلي عن سُمعته المأخوذة عنه بأنه شخص بارد عديم الرحمة وناجح على حساب أناسٍ طيبين.
بالطبع نرى في هذه التحولات السينمائية والأدبية مُبالغةً في تبسيط الانتقال من «الطيبة» إلى «السيطرة» أو العكس. وإذا كانت القصص تعرض أمثلة مثالية لتحول الطيبين إلى أشرار أو العكس، فإنها كذلك تُتيح الهروبَ من دوامة التعاملات البشرية الأشدِّ تعقيدًا. والفن الأفضل يُصبح أشبهَ بالحياة الواقعية عندما يُمثِّل الدوافع المختلطة والتنازلات والألم الذي لا ينتهي والظلم كما ينبغي.
من الواضح أنَّ مسلسل «انحراف» (بريكنج باد) أقلُّ مبالغةً بكثير من فيلمَي «امرأة جميلة» (بريتي وومَن) و«هالك الخارق» (ذا إنكريدبل هالك) في تبسيط الواقع، ويطمح إلى تجسيد تغييرٍ أكثرَ تعقيدًا وواقعية في بؤرة التركيز. صحيحٌ أنَّ المشاهدين سيحكمون على والتر قبل تحوله إلى هايزنبرج بأنه رجلٌ طيب، لكنهم كذلك سيحكمون عليه بالعجز والفشل. وقد تبنى والتر هذا الحكم أيضًا إلى أن صار جزءًا مدمجًا في شخصيته، وحول الفشل إلى شعورٍ بالعار والغضب. وهذه ظروف مواتية صنعَت مزيجًا مع تشخيص إصابته بالسرطان، ولولاها ما كان هذا التشخيص وحده سيدفعه إلى حياة الجريمة، أو على الأقل ما كان سيجعله مجرمًا مدةً طويلة. ثم بدأ والتر الجديد، الذي سُمي هايزنبرج، في أثناء دفاعه عن نفسه طوال الوقت بالتشديد على أنه يفعل ذلك من أجل عائلته (ومن المؤكد أنَّ هذا هو ما شعر به دون وعي في البداية)، يستمتع بالحياة وهو في أوج قوته ونفوذه. فالإثارة البدائية التي كان يشعر بها عند الهروب من لقاء خطر (بعنف في أغلب الأحيان)، والفخر الذي يشعر به لكونه أفضلَ «طباخ» في أي مكان (إذ إنَّ الميثامفيتامين البِلَّوري الأزرق الذي يُعد بمنزلة علامة تِجارية مُسجَّلة باسمه يتَّسم بنقاءٍ شبه تام)، كلها عوامل تشير إلى أنه وجد مصدرًا جديدًا للإشباع العميق. وحتى لو كان يعلم أن الناس يخشونه، فقد كان في هذا على الأقل مصدرَ احترام كبيرًا. وبذلك خفَّت وطأة ألم الإهانات السابقة التي تعرَّض لها.
قد يبدو هنا كأنَّ انحرافه كان تحررًا من قيود الأحكام التقليدية، لكنَّ كل ما في الأمر أنَّ والتر يُبدِّل جمهورَه ويُغيِّر المعاييرَ التي يُحبِّذ الحُكم عليه وفْقَها. سأستفيض في استعراض محاولة التحرر من الجمهور المحكوم عليها بالفشل بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الرابع. فالسبب الوحيد الذي يجعل التغلبَ على الشرطة بدَهائه وتصنيع أفضل أنواع الميثامفيتامين يُغذيان إحساسه بالتفوق والسيطرة هو وجود جمهور مؤثِّر يُصدر عليه هذا الحكم، حتى وإن عبَّروا عنه من خلال الرهبة والخوف بدلًا من الحب أو الإعجاب. لقد مرَّ والتر في رحلته بمراحلَ عديدة تمنَّى فيها لو أنه استطاع أن يتشبَّث بمزيدٍ من طباع والتر القديم، ولو في نظر أسرته على الأقل. لكنه يُضطرُّ في النهاية إلى التخلي عن هذا الأمل. ففي محادثة أخيرة مع زوجته سكايلر، يبدأ في شرح الأسباب التي دفعته إلى فعل كل ذلك. فتعترض على كلامه، لكنها أساءت فَهْم ما ينوي قوله:
وهكذا يعترف والت أخيرًا بما أدركناه، نحن المشاهدين، منذ وقت طويل. صحيحٌ أنَّ تحوله إلى هايزنبرج ربما كان من أجل أسرته في البداية، لكنه استمرَّ في ذلك من أجل نفسه. ففي عدة مرات طوال المسلسل، كان بإمكان والت أن يترك عملَه الإجرامي، وكان لديه ما يكفي من المال لِيَعول أسرتَه ويُلبِّيَ احتياجاتها. لكنه لم يفعل ذلك. وبهذه الجملة الأخيرة التي قالها، يبدو كما لو أنَّ والت يُكمل رحلةَ تحوُّله من السيد شيبس إلى سكارفيس، محتفظًا في الوقت نفسه بأقلِّ أثرٍ مُتبقٍّ من الرجل الطيب الذي كان صلاحه ظاهرًا للجميع يومًا ما.
لكن والتر صار مدمنًا لقوته ونفوذه؛ لدرجة أنَّ الفُتات المتبقِّيَ من «الرجل الطيب» أصبَح أرقَّ من أن يُسترَد. وما كانت الدراما لتتحقَّق لو لم يكن هذا الفتاتُ موجودًا أصلًا، ولو رأيناه مجردَ شخص سيكوباتي خالص، ومن ثَم لم يحاول الكُتَّاب تزيين القصة. وأنا، على الأقل، أرى أنَّ والتر تبقَّى لديه من فُتات الطيبة ما يكفي ليجعل آثارَ الدمار التي خلَّفها (بإسهام مباشر أو غير مباشر) تُخفف حِدةَ حُكمي عليه. أي تمنعني من إدانته إدانةً صريحة. لكني ربما ما كنتُ لأرى ذلك لو كنتُ ابنَه أو صِهرَه أو أي شخصٍ آخر من الكثيرين الذين يشاهدون المسلسل نفسَه بالطبع. فحتى المشاهد المتعاطف يرى أنَّ والتر ليس بطلًا خارقًا استطاع تحقيق التوازن الصعب وسط دائرتَيْ مُخطط فِن.
«أبطال خارقون»
بالطبع لدينا نسخةٌ تُحقق هذا التوازن المُستبعَد بين الدائرتين، ألا وهي شخصية «البطل الخارق» في الأفلام الشعبية. فالفكرة التقليدية المكرَّرة تقوم على أنَّ الأبطال الخارقين (الذين عادةً ما يكونون ذكورًا) لا يريدون أيَّ مشكلات أو متاعب، وكل ما يريدونه هو المضيُّ قُدمًا في حياتهم وعدم العبث بشئون الآخرين. وبالطبع يكون لديهم ماضٍ (عادةً ما يشهد لهم بالمهارة والكفاءة) ربما يكونون نادمين عليه أو يُحاولون الهروب منه. ثم يستفزُّهم أناس أشرار شرًّا بيِّنًا يريدون شيئًا منهم أو يريدون التنمُّر والتسلط عليهم أو إيذاءَ شخص بريء، وهو الأمر الأشدُّ استفزازًا. وهذا التسلسل يُرسِّخ لدى المشاهد أنَّ البطل الرئيسي، بغضِّ النظر عمَّا سيحدث لاحقًا، يُعتبَر حسَن النية. ولكن بسبب تعرضه لاستفزاز فظيع، يُضطر البطل المتردد في التحوُّل الآن إلى الاستعانة بتلك المهارات القديمة ويقهر الأشرار، وعادةً ما يفعل ذلك بمستوًى من العنف يتناسب مع الضرر الذي أحدثه أولئك الأشرار في البداية. ينقلنا الفيلم (مع الجمهور) من مشاهدة شخصٍ طيب إلى مشاهدة شخصٍ مُسيطر، مع ضمان عدم فقدان مؤهلات تلك الطيبة في أثناء هذا التحوُّل. وبذلك تُعَد أسطورةُ البطل الخارق هذه هي الطريقةَ القياسية التي تتبعها الأفلامُ الناجحة الرائجة في إظهار كيفية الجمع بين الشيئين. فالتسلسل والسياق اللذان تُقدمهما هذه الأفلام يُتيحان حدوثَ الانتقال بين الدائرتين دون التخلِّي عن إحداهما، وهذا ما كان على والتر وايت أن يفعله.
بالطبع يستطيع الكتَّاب والمخرجون استحضارَ مشاهد مقنِعة جدًّا يمكن خلالها تحقيق البُعدَين كِلَيهما لإقناع جمهور طيِّع بذلك. صحيحٌ أنَّ الفيلم الناجح يعرض أمثلتَه المقنعة على تحقيق ذلك، لكنه يسقط في فخِّ الابتذال بحلِّ التوترات القائمة بين البُعدَين بمثاليةٍ مُبالغ فيها. أمَّا الأفلام الأكثرُ تعقيدًا، فتعرض صورًا مختلفة من أنماط هذا الجمع؛ ما يجعل التوازنَ الناتج مائلًا نحو هذا البُعد أو ذاك. فالكاتب دائمًا ما يضبط لنا معيارَ تحديد الطيبين والأشرار. ويتحقَّق أفضلُ توازن منشود عندما يتحمَّل البطل الخارق الذي يُمانع التحول مزيدًا ومزيدًا من الغضب، كابحًا مهاراتِه (وسأعود لاحقًا إلى السبب وراء كون البطل رجلًا في كثيرٍ جدًّا من الأحيان) المصقولةَ بكلِّ دقة؛ سعيًا إلى أن يظل دافئًا وطيبًا، لكن الضغط الذي يتعرض له يُجاوز المدى، فيُضطر، بدلًا من أن يكون لقمةً سائغة، إلى التحول من شخصٍ طيبٍ إلى شخص مسيطر في نقلةٍ مُقنِعة.
وكلما كانت الكتابةُ أكثرَ تعقيدًا، ومن ثَمَّ كانت الشخصياتُ والقصة أكثر قابلية للتصديق، صار من الأصعب توضيحُ كيفية الجمع بين البُعدَين بطريقةٍ مُقنِعة. ولعلَّ أحد الأمثلة التي تقترب من تحقيق ذلك هو تموضعُ الرئيس بارتليت في مشهدٍ مُعين في مسلسل «الجناح الغربي» (ذا ويست وينج) التلفزيوني، الفائز ببعض الجوائز هو الآخر. فطوال العديد من الحلقات، كان بارتليت على خلافٍ شديد مع توبي زيجلر الذي كان أحدَ كبار مُستشاريه. فبينما كانا يقتربان من الانتخابات التي كان الرئيس يسعى فيها إلى إعادة انتخابه، يُحذره توبي من أنه ينجرف نحو شخصيةٍ أشبهَ بالعم فلافي، بإخفائه تفوُّقَه الفكريَّ (إذ كان حاصلًا على جائزة نوبل في الاقتصاد) سعيًا إلى نيل الشعبية. فهو بذلك لا يُضحي باحترامه لنفسه بمبالغته في إبداء لُطفه فحسب، بل يتبع أسلوبًا خاسرًا في التنافُس على أساس الشعبية ضد الحاكم ريتشي الأكثر شعبية، الذي كان نُسخة خياليةً من جورج دبليو بوش. يشعر توبي بالقلق حيال ذلك وينصح بارتليت بشدةٍ بألا يُخفي سلطته وتفوقه تحت غطاءٍ دافئٍ من النوايا الحسنة. فيقول له: «اجعل هذه المناظرةَ قائمة على مَن المؤهَّل ومَن الذي ليس مؤهلًا.»
المفيد في هذه المرحلة التحضيرية أنَّ أوراق اعتماد بارتليت التي تجعله جديرًا بأن يراه الآخرون دافئًا، أو على الأقل انشغاله بأن يراه الآخَرون طيبًا، تترسخ على طول الطريق، حتى وهو يفكر في إشهار أصوله الدالَّة على تفوقه الفكري. ومع اقترابنا من المناظرة الوحيدة التي تسبق الانتخابات، ما زال مُستشاروه لا يعرفون الاتجاهَ الذي سيذهب إليه بارتليت، وسط مخاوف من أن يفشل في التحلِّي بالسيطرة إما بفقدان أعصابه، أو بالتملق لكسب ودِّ الناس. تُستهل المناظرة على النحو التالي:
نجد هنا أنَّ ردَّ بارتليت اللاذعَ يُفحِم ريتشي بثقةٍ مبهرة ممزوجة بحضور البديهة وخفةِ الظل يُطل منها تفاخرٌ جريء بتفوُّقه الفكري. وهنا ينتاب المشاهدَ إحساسٌ بالرضا كالذي ينتابه عندما يرى البطل المغوار يكشف على مضضٍ عن كفاءته الهائلة. لكن هذا ما كان لينجح لولا أنَّ كُتاب المسلسل المنحازين بشدةٍ إلى حزبٍ معين لم يُهيئوا ريتشي للهزيمة. فقد قدَّموا ريتشي على أنه شخصٌ ساذج محدودُ الفكر وخطر محتمل إذا فاز بالانتخابات، كما اتضح وهو يُهين بارتليت في حلقةٍ سابقة ويقول، ردًّا على سؤال بارتليت له عن كيفية معالجة مشكلة ارتفاع معدلات الجريمة، «الجريمة، عجبًا، لا أعرف.» لقد كانت هذه استفزازات انهالت على بطلنا الممانِع في إظهار كفاءته وسمحَت للمشاهدين بالنظر إلى ريتشي على أنه ينال ما يستحق. ولكن لو لم يكن بارتليت طيبًا قبل ذلك، لبدَت السيطرة التي أظهرها قاسيةً جدًّا. وعلى الجانب الآخر، كانت المبالغةُ في إبداء الطيبة إلى حدِّ التفاهة ستؤدي إلى نتائجَ عكسية أيضًا. لقد كان يحتاج إلى أن يكون قادرًا على التكشير عن أنيابه.
ولكن كيف كان المشاهدون سيرَون هذا المشهد لو كان مَن يَشغل منصب الرئيس آبي بارتليت وليس زوجها جيد بارتليت؟ من الصعب تخيلُ هذا السياق المغاير للحقيقة فيما يتعلق بهذا المشهد، أي استبدال امرأةٍ برجل، ولكن يمكن تحقيق ذلك بالتجارِب. ففي حين أن الجمع بين الطيبة والسيطرة يُشكل ضغطًا لمعظم الناس، وأنَّ تحقيق هذا التقاطع في مخطط فِن صعبٌ على أي شخص، تَبيَّن أنَّ النجاح في بلوغ هذا التوازن الوسطي عادةً ما يكون أصعبَ بكثيرٍ على النساء، وَفقًا لبحثٍ مهمٍّ كاشفٍ أجراه فرانك فلين وكاميرون أندرسون باستخدام دراسةٍ أجريت في كلية هارفارد لإدارة الأعمال عن مُستثمرة ناجحة في رأس المال المخاطر في وادي السليكون تُدعى هايدي رويزن. قُسِّم الطلابُ في تلك الدراسة إلى مجموعتَين. أعطِيَ نصفُهم دراسةَ الحالة الأصلية، فيما أعطِيَ النصفُ الآخر الدراسة ولكن باستخدام اسم هوارد بدلًا من هايدي. كان هذا هو التغييرَ الوحيد، وبذلك كانت كلُّ التفاصيل الأخرى في دراسة الحالة متطابقة. استُطلعت آراءُ الطلاب في الشخص الواردِ اسمُه في دراسة الحالة. فوجدَت المجموعتان أن هايدي وهوارد على القدر نفسِه من الكفاءة، لكنَّ مجموعة هوارد رأته أحبَّ وأصدقَ وأطيب، في حين أنَّ مجموعة هايدي رأتها عُدوانية وأنانية ومتعطشةً للسلطة، وليست من «نوعية الأشخاص الذين يرغب المرء في تعيينهم لديه أو العمل لديهم». وهكذا يبدو أنَّ هايدي رويزن تواجه معضلةَ الوقوع بين خيارين متعارضين: فإما أن تكون رائدةَ أعمال ناجحة أو تكون امرأةً ناجحة، وهو ما قد يكون له علاقةٌ بأنَّ البطل الخارق في الأفلام عادة ما يكون ذكرًا. صحيحٌ أنَّ المقام في هذا الكتاب لا يتَّسع لاستكشاف ظاهرة التمييز الجنسي بالتفصيل، لكني سأشير إلى أنَّ ابنتي المراهقةَ آنا، عندما سُئلتْ عن سبب سعادتها باستخدام مصطلح «نسوية» لوصفِ نفسها، على عكس الكثيرات في فئتها العمرية، كان ردُّها «مجرد مظهر!»
لا شك أنَّ التواصل مع هؤلاء «النخبة» والاطلاع على حياتهم صار أسهلَ في هذا العصر الرقمي من أيِّ وقتٍ مضى. فقد أصبح بإمكاننا أن نرى أدقَّ جوانب حياتهم بتفاصيلَ غير مسبوقة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما يرجع ذلك إلى مشاركتهم النشطة في موجةِ التواصل الرائجة. فالملايين يقرَءون كلَّ يوم ما تناولته كيم كارداشيان في وجبة الفطور. ولكن بالرغم من زوال الغموض الذي يحيط بحياة المشاهير وسهولة الاطلاع على تفاصيل حياتهم الآن، يبدو أنَّ نهَم الناس للتعامُل مع هؤلاء المشاهير لم يقلَّ. فطوابير الانتظار للحصول على توقيعاتهم عند ظهورهم في الأماكن العامة ما زالت طويلةً بالقدر نفسِه.
وهؤلاء «النخبة» قلةٌ محظوظة، أو بالأحرى يظلُّون هكذا إلى أن تُسقِطَهم وسائلُ الإعلام والتواصلِ نفسُها التي رفعَتهم إلى هذه المكانة العالية أصلًا. صحيحٌ أنَّ وجود المرء في محطِّ أنظار العامة واهتمامهم يعود عليه بالنفع، لكنَّ هذه المكانة هشَّةٌ ومعرَّضة للانهيار؛ لأنَّ بقيتنا نراه من منظورَين متناقضين في أذهاننا ونحن نشاهدهم. فمن ناحية، نشعر بإغراء الشهرة وقوتها، بل ويمكن أن ننبهرَ بالنجوم انبهارًا بالغًا؛ ومن ناحية أخرى، يُراودنا بعضُ الاستياء من الظلم الكامن في انحياز الحظ السعيد لهم.
وهنا يتحدث خبراء علم النفس عن نوعٍ من «تأثير الهالة» يمتدُّ من بعض نقاط القوة الواضحة والمُعترَف بها إلى نقاطِ قوةٍ أخرى غير مرئية إطلاقًا. فبِوُسعنا أن نرى كيف ينسب بعضُ الأشخاص سِماتٍ إلى أشخاصٍ آخرين دون أسبابٍ كافية لذلك. وفي هذا الصدد، يُعَد وارن هاردينج مثالًا رائعًا لرئيسٍ أمريكي فشل تمامًا في التحلِّي بالصفات الأساسية التي تجعله مؤهلًا للرئاسة، لكنه انتُخِب لأنه «بدا رئاسيًّا»؛ أي لأنَّ مظهره وأسلوبه بدَوَا نموذجِيَّين لهذا المنصب. فالشهرة والثروة وحُسن المظهر وطول القامة والعلامات الأخرى التي تُبيِّن مكانة المرء كلها تولِّد انطباعات تدفع الآخرين إلى أن يكونوا أقلَّ انتقادًا لهذا الشخص. فالسمة الغريبة قد تُحتقَر إذا وُجِدَت لدى شخص بلا نفوذ أو سلطة، ولكن تُعتبَر استثنائية أو حتى ساحرة عندما تُوجَد لدى شخصٍ ذي مكانة عالية. وأحد أسباب ذلك يتعلق بفكرة أنَّ الناس ليس لديهم أسبابٌ كافية ليتَّهموا هؤلاء الأثرياء الذين يملكون هذه المواهب بأنهم يستخدمون حِيَلًا مُعيَّنة لإدارة الانطباعات المأخوذة عنهم. وهكذا تُنسَب المصداقية بسهولة أكبر إلى أولئك الذين يبدو واضحًا أنَّهم ليس لديهم مُبرِّر يجعلهم يلهثون وراءها.
والنتيجة البديهية القاسية الناجمة عن كل ذلك أنَّ عددًا هائلًا من السِّمات التي تعتمد عليها سُمعةُ معظم الناس تكون خارجةً تمامًا عن سيطرتهم، بل وستسوء إذا حاوَلوا تحسينها بوضوحٍ أكبر ممَّا ينبغي. وهذا يُفاقم إحساسَ الغُربة الذي يمكن أن نشعر به عندما يحرف الآخرون حقيقتنا دون أي تمعُّن أو دقةٍ أو مبالاة بالتفاصيل، مُكتفين ببضعة إلماعات مباشرة عن حقيقتنا الفعلية المحتملة، دون الاكتراث بإمعانِ النظر عن كثَب أو بتدقيق أكبر. وهكذا فإنَّ السُّمعات موزَّعة دون مساواة، ومتفاوتة وغير منصِفة وغير مُبرَّرة بقدرِ عدم المساواة في توزيع الثروات. لا شك أنها تعتمد إلى حدٍّ ما على المهارات والسمات والدوافع، ولكن بقدرٍ أقلَّ مما نودُّ أن نظن، وفي الحقيقة تعتمد اعتمادًا أكبر بعضَ الشيء على الحظ والتوقيت، وكما قال ياجو، غالبًا ما تُنال بغير استحقاقٍ وتُفقَد بلا سببٍ يستحق. وأخيرًا، سمعتك ليست موجودةً إلَّا في أعيُن جمهورك الذي يحكم عليك، وهذا الجمهور مُحمَّلٌ بشواغله وهفواته الطفيفة.