التحرر
«أُصغي باهتمام إلى أحكام كل الرجال؛ ولكن على حد ما أتذكر، لم أتبع أيَّ حكم إلا حُكمي.»
بينما كنتُ أشاهد ذلك الفيلم في تلك الليالي في نادي العلوية، فتنَني هذا الخيالُ القوي، لكني لم أتحلَّ بقدرٍ كبير من ضبط النفس والرزانة اللازمَين لموازنة تأثير هذا الخيال. كان لديَّ مسحةٌ من التهور آنَذاك، كان ينتهي بزيارات عديدة إلى المستشفى من أجل الخضوع لغُرز الخياطة وإصلاح العظام التي كانت تتعرَّض للكسر من حينٍ إلى آخَر. كنتُ أشعر بأنني حر. وما زال جزءٌ منِّي يشعر بذلك. فأنا ما زلت أحتاج إلى الشعور بأنني قادرٌ على تجاهل الأعراف والقواعد والتوقعات التي تُحاصرني. ما زلتُ أتخيل كيف سيكون الوضع لو كنتُ قادرًا على الطيران من تِلقاء نفسي دون مساعدة، أو العيش بدون أحكام.
عندما أتأمَّل الكيفيةَ التي غالبًا ما يُربَّى بها أطفالُنا اليوم؛ إذ نُحيطهم برعايةٍ مُشدَّدة ونحصرهم في مساحاتٍ آمنة تتَّسم بقدرٍ مُبالَغ فيه من الدفء والحماية، ونُلزمهم بجدول مكتظٍّ من الأنشطة والمهام، أتمنى لهم أن يحظَوا بمزيدٍ من الوقت يتحرَّرون فيه بعضَ الشيء من الرقابة والتنظيم، ويمارسون فيه بعضَ الأنشطة العشوائية التي اعتدنا أن نصِفَها بأنها «مَضْيعة للوقت». بعيدًا عن رقابة ذَويهم. وفوق ذلك، أشعر بأننا ينبغي أن نحتفيَ باختلافهم المتأصِّل فيهم. فبدلًا من التركيز على أوجُهِ التشابُهِ بينهم وبين آبائهم وأمَّهاتهم، أو فيما بينهم أنفسِهم، من الأفضل أن نتذكَّر أنَّ الأطفال مخلوقاتٌ غريبة إلى حدٍّ ما وسطنا، ومُدمِّرون بشدةٍ للأعراف الاجتماعية، خصوصًا عندما يكونون في سنٍّ صغيرة جدًّا. من المؤكد أنَّ عالم أعراف الكبار يبدو لهم شديدَ الغرابة. فعندما علَّق ويليام جيمس قائلًا إنَّ الانطباعات الأولى التي يأخذها الطفلُ الرضيع عن العالم أنَّه «مكان فوضوي وهَّاج يشعُّ حيويةً وبهجة»، قدَّم بذلك أساسًا لوصفِ مدى اختلافِ نظرة الأطفال إلى العالم عن نظرتنا نحن الكبارَ إليه. فهم يظلون طَوال سنواتٍ عاجزين عن إدراك مفاهيمنا عن الزمن والمعايير والتحكم والشواغل. فقبل أن يستطيعوا الانشغالَ بشأن الحُكم عليهم، يحتاجون إلى تنميةِ رؤيةٍ ثاقبة لما بداخلِ العقول الأخرى، وهذا لا يحدث بالفعل إلا بعد بِضع سنواتٍ من التطور. غير أنَّ الحرية الحيوانية الغريبة التي يتمتع بها الأطفال لا يُمكن الحفاظُ عليها خلال ظروف البلوغ القاسية؛ فمرحلة المراهقة، مثلًا، تشهد اهتمامًا بالغًا بأحكام الآخَرين علينا. فابنتي آنا تُعلِّق على الشبكات المتقاطعة من المجموعات المختلفة في مدرستها، سواءٌ المجموعات المقصورة على أفرادٍ معيَّنين أو المجموعات الهرمية، بنبرةٍ يومية تُخفي انشغالَها اليومي بالمواقف التي تشعر فيها بالقَبول والمواقف التي تشعر فيها بالنبذ.
ابتكر كيبلينج اسم «ماوكلي» لِيَعنيَ به «العلجوم» «بلُغة الغابة»، معبرًا به عن عُري شخصية ماوكلي، على عكس أصدقائه المكتَسين بالفِراء. عندما أتأمَّل الماضيَ، أدرك أنَّ ماوكلي قد مَنَحني منظورًا للحياة أرى من خلاله أنَّ الحيوان ذا النزعة الاجتماعية الفائقة يستطيع أن يتجردَ من طبقات المعايير والأعراف الاجتماعية الخانقة، ويستمتع بهُوية حيوانية أشدَّ جموحًا. وأظن أنني لستُ الوحيدَ الذي راودَه مثلُ هذا الشعور. فهذه النوعية من أحلام التحرُّر والخلاص هي أحد الأسباب التي تجعلنا نستطيع الشعورَ بصدًى قديم مُتبقٍّ من تلك الحاجة إلى الحرية كأشخاصٍ بالِغين لديهم ميلٌ دائم للجموح الهمجي، وأملٌ في التحرُّر بعضَ الشيء من التقاليد والتنازلات وأحكام الآخرين. روى لي أحدُ الأصدقاء مؤخرًا كيف أنه، في عشاءٍ ذي طابَع رسمي مهيبٍ ومفارش رسمية ونُدُل أكثر رسمية، ومجموعة مُبهرة من أدوات المائدة، شعر برغبةٍ شديدة في أن يُمسك وعاءَ الحساء بكِلتا يدَيه ويُلصقه بفمِه ويشرب منه «مُبقبقًا» بكل بساطة. ربما ننجذب، في ظل افتتاننا بما يُمثِّل الجوهر الخالص لذاتٍ حقيقية غير منخرطة في البيئة الاجتماعية، إلى فكرة الطبيعة الحيوانية، إلى ذاتٍ همجية (غير نبيلة بالضرورة) تحيا بمعزلٍ عن صخب التعامُلات البشرية المعقَّدة الذي يصيب المرءَ بالدُّوار والصمَم.
كثيرة هي الأساطير والخرافات عن جنس الصِّبية المستذئبين، بدءًا من أسطورة رومولوس وريموس (اللذَين تُرِكا عند نهر التيبر وهُما رضيعان ليعثر عليهما ذئبٌ ويُربِّيَهما) وصولًا إلى طرزان. وإلى جانب هذه الحكايات المثيرة للاهتمام، أحيانًا ما نُواجه أمثلة واقعية مكافئة لها، قصصًا حقيقية لأطفال أُلقوا خارج قطار الحضارة، تجذب اهتمامنا وفضولنا بالقدر نفسِه. ومن المعالجات السينمائية لمثلِ هذه الحالات الواقعية فيلم «الطفل البرِّي» (ذا وايلد تشايلد) للمخرج فرانسوا تروفو، وفيلم «لغز كاسبر هاوزر» (ذا إنيجما أوف كاسبر هاوزر) للمخرج فيرنر هيرتزوج.
حيوانات وفنَّانون
غالبًا ما يُصوَّر الأطفال في الأساطير والحكايات الخيالية على أنهم ينشَئون بقدرٍ طبيعيٍّ نسبيًّا من الذكاء البشري والمهارات البشرية، وشعور غريزي بالثقافة أو الحضارة، مع قدرٍ صحي من غرائز البقاء على قيد الحياة. وهذا ما يجعل اندماجَهم في المجتمع البشري يبدو سهلًا نسبيًّا.
ولكي يشقَّ أيُّ مخلوق على درجة معينة من التعقيد طريقَه في هذا العالم، يتوجَّب عليه أن يُصدِرَ أحكامًا ناجحةً نسبيًّا. فما لم يكن المخلوق قادرًا على فهم بيئتِه وتقييمها، سيعجز عن التعامل مع الصعوبات والمُضيِّ قدمًا في حياته. فلا يستطيع المفترس أو الفريسة أن ينالا مُبتَغاهما إلا من خلال إصدار أحكامٍ ذات حساسية على التهديد مقابل السلامة، أو حتى المسافة التي ينبغي قطعُها في الهجوم النهائي. لكن الحيوانات كلها لا تحكم فقط على الأشياء والمساحات المادية التي تُحيط بها، بل يحكم بعضُها على بعضٍ كذلك في جولةٍ مستمرة من تخمين التخمين. فعلى عكسِ ما تفعله القِطةُ عند الحكم على أيِّ الأغصان سيصمد عندما تحاول تسلُّق شجرةٍ ما، لا بد أن تتوقع القطة التي تُطارد فأرًا ما قد يدور في رأس فريستها. والفأر، الذي يُخمِّن بدوره، ربما يُغير مسارَه بِناءً على تخمين ما خمَّنتْه القطة. وهذا التعقيد المتبادَل جزءٌ لا يتجزأ من المواجهات الاجتماعية التي تجمع معظمَ الكائنات الواعية.
إذا انتقلتَ إلى عالم البشر، ستجد الوضعَ يزداد تعقيدًا بشدة. فنحن حيواناتٌ مُستخدِمة للُّغة ذات نزعةٍ اجتماعية فائقة قد بذلَت جهدًا أكبرَ للاستفادة من التعاون والتنافس داخل المجموعات وعبرها. وقد أتاح هذا مكاسبَ هائلة ناجمةً عن مستوًى أعلى من التنسيق البشري، لكنه كذلك أوجَد الظروفَ المواتية لازدهار المخادِعين والانتهازيين، مانحًا إيانا خياراتٍ أكثرَ بكثيرٍ للإقناع والتضليل. لذا فمجهوداتُنا التخمينية الآن صارت تتطلَّب تخمينَ التخمين، وتخمينَ تخمينِ التخمين، ويتبع ذلك سيلٌ متفجِّر من المراجعات المتداخلة، التي غالبًا ما تحدث دون وعيٍ منا.
نحن نحتاج إلى أدمغةٍ كبيرة لإدارة هذا السباق الذي نسعى فيه إلى التسلُّح بالتفكير والتفكير المضاد. من المعروف أنَّ البشر يولَدون ناقصي التطورِ مقارنةً بالثدييَّات الأخرى. فالغزالة أو البقرة الرضيعة تستطيع المشيَ وإطعام نفسِها في غضون ساعات من ولادتها. أمَّا الرضيع البشري، فيحتاج إلى عشرِ سنوات على الأقل للنضج بعد ولادته ليستطيعَ الاعتمادَ على نفسه نسبيًّا، وعشْرِ سنوات أخرى ليبلغ النضوجَ التام. أما أدمغتُنا فهي أكبرُ حجمًا بكثيرٍ من أدمغة الثدييات الأخرى وتحتاج إلى مواصلة التطور خارج الرحم، ليس فقط لكي تستطيع الأمُّ المشيَ منتصبةً على ساقَين اثنتين وتظل قادرةً على الإنجاب، ولكن كذلك لكي تُفعَّل آليات التفاعل الاجتماعي التي يحتاج إليها الدماغ ليصلَ إلى أقصى إمكاناته.
نحن حيوانات غيرُ عادية. لقد ناقشتُ في الفصل السابق كيف تدفعُنا واقعيتُنا الساذَجة إلى تصوُّر أننا فاعلون عقلانيون فرديون مستقلون عن المجتمع نعيش الحياةَ كما لو كنا نُحدق إلى العالم عبر نافذة. وكالسمكة التي تَسبح غيرَ واعية بالمياه التي تطفو وسطَها، نجد صعوبةً بالغةً في رؤية الواقع الاجتماعي الذي يكون فيه لأفعالنا معنًى. وإذا غفَلنا عن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، نتجاهل كذلك القاعدةَ الهائلة من الأفعال غير الواعية المستترة تحت قمةٍ من التفكير الواعي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ قرنًا كاملًا من الأبحاث والدراسات في علم النفس قد أيد نظريةَ فرويد القائلةَ إن نزعات الأنا لدينا ليست سيدةً في بيتها. وكما رأينا في الفصل الأخير، فعند استكشاف التحيز الضمني والأوهام الإدراكية ورؤى علم النفس الأخلاقي العميقة، يتبين مِرارًا أننا نفتقر إلى فهمٍ واضح لأسبابنا التي تدفعنا إلى الإتيان بالأفعال التي نفعلها والتفكير فيها. فعلى مرِّ قرون عديدة، رجوعًا إلى أفلاطون، تَجادَل الكثيرون بشأن العلاقة بين العقل والعاطفة، وكيف أنهما متشابكان عبر نسيج الأحكام البشرية. فمن جانب، يؤكد البعضُ أنَّ العقل هو العامل الأول والأساسي المُحرِّك للأحكام؛ وعلى الجانب الآخر، يؤكد مفكرون مثل ديفيد هيوم أنَّ «العقل عبدُ العواطف ولا بد أن يكون هكذا دومًا».
إذن لا نستطيع أبدًا أن نتحرَّر تحررًا حقيقيًّا من التأثير الاجتماعي. لكنَّ خيال العيش كالصبي المستذئب يظلُّ يُراودنا. فهو يشير إلى رغبةٍ عميقة في التحرر تُحفزنا بدرجاتٍ متفاوتة، مهما يكن ميئوسًا من تحقيقها، سواءٌ من حيث الرغبةُ في التحرر من نظرات الآخَرين المُحدقة، وكذلك (لمن يُسعفهم الحظُّ ليشعروا بالقوة) في امتلاك الحرية في ابتكار أنفسِهم وتشكيلها والتغلب عليها. أن تتشكَّل اجتماعيًّا يعني أن تُكسى بثيابٍ معينة، غير أنَّ أحلام التجرد من تلك الملابس الخانقة قيِّمةٌ من نواحٍ عديدة. فتيار التمرُّد السُّفلي المعاكس الذي يأبى الرضوخَ لتوقُّعات الآخرين يُعدُّ دافعًا قويًّا وخلَّاقًا، مهما تواصلَ سيل الأحكام المتدفِّق عبر مواقفنا ولقاءاتنا اليومية. فالدافع إلى كسر القواعد وتقويض السلطة وفرض صوتٍ مميز وفردي يُنتج بعضًا من أغنى التجارِب وأكثرها إشباعًا لنا بعُمقٍ في حياتنا.
وتؤيد قصيدة دبليو بي ييتس، المعنوَنة بكلمة «معطف»، التخلصَ من هذه القيود:
صحيحٌ أنه من غير المنطقي أن يحاول المرءُ أن يعيش حُرًّا وعلى طبيعته كالذئب، لكنَّ بعضَ الفنانين المبدعِين، مثل ييتس، أوضَحوا طرقًا أخرى للتحرُّر، ولو في سياقٍ من الثقافة الإنسانية فقط. فقد كان في النهاية هو الشاعرَ نفسَه الذي قال طالبًا من محبوبته: «فلْتطَئي الأرض برفق؛ لأنك تطَئين أحلامي.» وغالبًا ما يُصوَّر الدافع الفني إلى الحرية على أنه هجرانٌ لأحكام الآخرين. فنرى أمثلةً لا حصر لها لفنانين أقلَّ تقيُّدًا من معظم الآخرين، لكنهم أغربُ أطوارًا وأكثر أصالةً وأشدُّ اضطرابًا. ويصف الناقد الأدبي هارولد بلوم «الشاعر القوي» بأنه شاعرٌ لا يطغى عليه «قلقُ التأثُّر» وتأتي أصالتُه، على حالها كما هي، من الحاجة إلى تجاهلِ أولئك الشعراء السابقين. ويستخدم مصطلح «الخطأ» ليوضِّح كيف يُخطئ الشعراء الأقوياء في قراءة أسلافهم الأدبيِّين أو في تفسير مقصدهم من أجل خلق حيِّز خيالي جديدٍ لأنفسهم كي يَشغَلوه. فهؤلاء الفنانون غير المقيدين يطمحون إلى نوع من الصدق (بالتخلِّي عن العُرف) مُضحِّين بالمساءلة اليومية أمام «الحقيقة» في إطارٍ أشدَّ صرامة. وقد احتفى أوسكار وايلد، في مقاله الصادر عام ١٨٩٢ بعنوان «اضمحلال الكذب»، بحقيقة أنَّ «الكذب، أي قول أشياءَ جميلةٍ غيرِ صحيحة، هو الهدف السليم للفن»، وحذرَنا من مخاطر «الانزلاق إلى الاكتفاء بالدقة فحسب.»
وتُوجَد طرقٌ أقلُّ دراميةً لترسيخ التحرر من أحكام الآخرين. فنصائح العلاج النفسي توصينا بأن نعيش اليوم بيومِه وألا نكون تقليديِّين ونُطلق القوة الكامنة فينا وما إلى ذلك. وهذه المبالغات في تعظيم الحسِّ السليم تُقدِّس قدرةَ التفكير الإيجابي والمرونة على إخراجنا من مأزق الشكِّ في ذواتنا وإلقاء اللَّوم عليها، وكأنَّ من الممكن أن نفعل ذلك بمحضِ إرادتنا. ومن الطُّرُق اليومية لإسكات صخب الثرثرة السارية في الأذهان الاستعانةُ بمُلهيات شائعةٍ مثل التنقُّل بين القنوات وشُرب الكحوليات وتناول المخدرات وممارسة الجنس. فيما يستطيع البعضُ تحقيق التأثير نفسِه من خلال ممارسة التأمُّل، وبعض الطرق التي تعتمد على الفلسفة الشرقية أو الرِّواقية، التي تدعو لتعزيز التشكيك في الأنا (أي إدراك أنك شخصٌ أناني مُتقوقعٌ حول ذاتك، وأنك لا تملك رؤيةً دقيقة عن العالم، وأن معظم الناس في الحقيقة ليسوا منشغلين بك). وهكذا نجد سُبُلًا لإدراك الضرر الكامن في اللهث وراء الأحكام؛ إذ يجعلنا مُقيَّدين ومُعوِزين ومناورين، وإدراك شعور الرضا العميق النابع من تخيل أننا نستطيع الهروب والتحرر.
الهروب من الجمهور المؤثر
أحد الأسباب التي قد تجعل أحكامَ الآخرين مُرهقةً جدًّا يتعلق بمدى صعوبة تحديد الجمهور ذي الرأي الأهم. ألم يُراودنا جميعًا ذلك الشعورُ بأننا ينبغي ألا نهتمَّ حقًّا برأي شخصٍ معيَّن فينا؟ صحيحٌ أنَّ بعض الناس أجهلُ وأقسى وأضعفُ صلةً بك من أن يُنصبوا أنفسهم قضاةً يَصلحون للحكم على ذاتك «الحقيقية». ولكن ألا يكون رأيهم مُزعجًا ومثيرًا للضيق على أي حال؟ ما زلتُ أتذكَّر مدرسَ الرياضيات في المدرسة الابتدائية الذي اتهمَني ظلمًا بأنني أحاول الغشَّ في الامتحان في عام ١٩٧٦، مع أنني على يقينٍ من أنه لم يُفكر في تلك الواقعة قَطُّ منذ وقوعها. من الصعب تفسيرُ هذه السطوة التي يملكها بعضُ الناس علينا ومن الصعب الهروبُ منها. والمُحبِط أنَّ الجهود الساعية إلى إضعاف سطوة وقوة الجمهور عادةً ما تأتي بنتائج عكسية. فسواءٌ أكنَّا نحاول التقليل من أهمية ذكرى أبٍ لائم، أو رأيِ زميل مُزعج، فكل ما نفعله حينئذٍ أننا نكشف لأنفسنا عن عجزنا وقلة حيلتنا.
ويمكن أن ينهار احترامُ الذات بسبب إعجابٍ أو شغف رومانسي جديد. فحينئذٍ تُعلَّق الاهتمامات والواجبات والصداقات بينما نُفسح المجال أمام رأي الطرَف الآخر المهم الذي لا يُمكن التنبُّؤُ به. وحتى في الوقت الذي يقف فيه العقل العقلاني يُراقب تصرفاتنا الغريبة مجفلًا، نُغير طبيعتنا بعدة طرقٍ لمحاولة استجلاب رأيٍ إيجابي عنَّا. ففي كل مرةٍ يُظهِر فيها أحدُ أصدقائي اهتمامًا جديدًا مفاجئًا بالجيولوجيا أو الموسيقى الشعبية أو الأدب الحداثي، أعرف أنَّ في حياته امرأةً جديدة. فالحبيب الجديد دائمًا ما يكون بمنزلة جمهورٍ مؤثرٍ جدًّا، ونحن لا نهتمُّ حقًّا إلا بأحكام الآخرين المؤثِّرين.
وغالبًا ما يكون السعي وراء الحرية، الموضَّحُ في هذا الفصل، مُتعلقًا بالتخلص من اعتمادنا المزعِج على جماهيرَ لا نستطيع التحكمَ فيها. والشيء الأصعب في الاعتراف به بالنسبة إلينا أنَّ الدافع الأعمق غالبًا ما يكون الظفرَ بأفضل مدحٍ على الإطلاق، وهو ما يتأتَّى من إظهار أننا لسنا بحاجةٍ إليه. لذا، فالحرية والحكم يبدُوان، من هذا المنظور، مُرتبطَين ارتباطًا وثيقًا لا يُمكن فضُّه.
يستكشف المعالِج النفسي آدم فيليبس في كتابه «صندوق هوديني» التقلباتِ المفاجئةَ في السعي إلى الحرية من خلال تأملِ حياة هاري هوديني أفضلِ فنَّاني لعبة الإفلات من السلاسل الحديدية والصناديق. فالصندوق الذي يحبسه بالغُ الأهمية لوهم الحرية. ففي التمييز الفلسفي القديم بين الحرية «في» التعبير والسعي والحرية «من» الفرض والقيود، يوصف الجزء الأكبر من آمالنا الهشَّة في الهروب بأنها حريةٌ «مِن»، على الأقل بالنسبة إلى الأغلبية التي تشعر بأنها لا تملك الكثير من القوة معظمَ الوقت. لذا يسجن هوديني نفسَه طواعيةً في سبيل التحرر. وبذلك يستحوذ على اهتمام جمهوره. فبصرف النظر عن التحدِّي الماديِّ نفسِه، يحتاج هوديني إلى إدارة جمهوره أيضًا. لقد بنى سُمعته بنفسه؛ لذا يؤكد مرارًا في تأكيدات مؤثرة أنه عمل بجِدٍّ (وهو صادقٌ ومُنصف في ذلك) وأنه يدرس، وما إلى ذلك. «يعرف هوديني أنَّ ما يعمل عليه دائمًا، وما يستعين به في عمله، هو نزعة الشك لدى جمهوره. فبدون دراسةٍ أكاديمية، وبدون أن يَشغَل أيَّ نوع من المناصب المؤسسية، ودون أيِّ تخويلٍ قانوني، يُمارس هوديني مهنةَ الإقناع». وهذا ما ينطبق علينا جميعًا. فيتَّضح أنَّ الرغبة في التحرر غالبًا ما تكون مجردَ طريقةٍ أخرى لمحاولة الحصول على النوع الصحيح من الإطراء، وهي فكرةٌ تُلقي بظلالها على حياتنا حالما نعرف أننا منغمِسون في ثقافةٍ أكبرَ منَّا، يجب أن نتعلم طرائقها، ونرفضها، من منظورٍ ما، لنحظى بقَبولٍ حقيقي. فنحن لا شيء بدون جمهور، لا شيء بدون أحكامهم. وهذا الكفاح من أجل الحرية، وإن كان محكومًا عليه بالفشل، عاملٌ أساسي لتلقِّي أحكام جيدة؛ فلو كان هوديني حُرًّا هكذا ببساطة، لما اهتمَّ أحدٌ بمشاهدته.
غير أنَّ الحاجة إلى إدارة الجماهير تكون مصحوبةً بمجموعة أعمقَ من المشاعر المختلطة التي نحملها تجاههم. فمن ناحية، نحتاج إليهم، ومن ناحية أخرى، نستاء من سَطوتِهم الممكنة علينا. وهكذا نتَّخذ خياراتٍ في مراحلَ مختلفة من حياتنا أو في سياق مواقفَ يومية تُظهرنا مُمزقين بالمشاعر المتناقضة تجاه الآخرين. فنكون مواجهين لهم في لحظةٍ ما ونُدير ظهورنا لهم في اللحظة التالية. ومن ثَمَّ، فالاستعداد للتغلُّب على الحاجة إلى التصرف بطريقةٍ معينة أمام الجمهور لنيل رضاهم، وإصرارُ المرء على أن يكون معتمدًا على ذاته، أو صادقًا، أو غير تقليدي، أو ساخرًا، أو يهوى التجرِبة، يُمكن أن يُسفِرَ عن روائعَ من الأعمال الإبداعية والابتكارية والبطولية. وبطبيعة الحال، عندما تنجح هذه المحاولات الإبداعية تتحول، كما تتحول استعارةٌ مَجازية جديدة ناجعة تدريجيًّا إلى تَكرارٍ مُبتذَل، إلى أعراف وتقاليد جديدة ستحتاج الأجيال المقبلة إلى هدمها.
وقد تناولتُ في كتابي «مفارقة السعادة»، كيف أنَّ تلك الحاجة إلى التحرُّر ترتبط ارتباطًا متناقضًا بالحاجة إلى أن يكون لتصرفاتك ما يُبررها في أعين الآخرين المؤثرين. فإذا بالغتَ في لهثك وراء تلقِّي أحكام جيدة، والتحكُّم في جمهورك، فمن المرجَّح أن تفشل؛ لأنَّ الجمهور يُصبح مُروَّضًا إلى حدِّ انعدام تأثيره، حيث تصير أحكامُه بلا قيمة. فمثل الممثِّل الكوميدي الذي ينحني أمام أصواتِ ضحك مُسجَّلة سلفًا، لا يكون المرء في قرارة نفسِه راضيًا تمامًا بالإطراء الذي يأتي بناءً على ترتيبٍ مُسبق منه. فضلًا عن أنَّ المرء بذلك يجازف بأن يبدوَ جبانًا ومُعوِزًا عندما يظهر للآخرين أنه يستميت من أجل نيلِ رضاهم. لا، فالطريق الوحيد الذي يمكن اتباعه بدلًا من ذلك للشعور بأن أفعالك وأقوالك مُبرَّرة يستلزم السيرَ في الاتجاه المعاكس. السير نحو الرغبة المتمرِّدة في الهروب من الحُكام، وتشكيل مَسارك بنفسك بغضِّ النظر عمَّن قد يُشاهدونك والآراء التي قد يُكوِّنونها عنك. لا سبيل أمامك سوى تطوير خططٍ ومشروعات شخصية لا تبحث في كلِّ مكان عن الرضا والاستحسان؛ لأنَّ هذا وحده ما يجعلك جديرًا بأن يرى الآخَرون أفعالَك مُبرَّرة. ولكن هنا تُصبح المفارقةُ أوضح؛ لأنك إذا حققتَ نجاحًا أكبر ممَّا ينبغي في سعيك إلى التحرر، فستترك رأيَ الجمهور وراء ظهرك، وتُصبح غيرَ متسقٍ مع ذاتك أو غيرَ مقبول، ومن ثمَّ يكون عليك أن تعود وتواجههم مرةً أخرى. والانتقال بين هاتين الحاجتَين دقيقٌ ومعقَّد. صحيحٌ أنَّه من السهل جدًّا رؤيةُ التناقض في المصطلحات الثنائية — على غرار «أنا الآن حرٌّ وأنا الآن محكومٌ عليَّ» — لكنَّ هذه الأمور لا تسير بهذه الصورة إطلاقًا في الحياة الواقعية. فكِلاهما يُكمِّل الآخر ويتداخل معه بطُرقٍ تُصعِّب فصلَهما. ومن ثَمَّ، فهذا التأثير المتبادَل مائعٌ ودقيق جدًّا لدرجة أنه قد يبدو من المفيد اللجوءُ إلى الأدب لإبراز هذا التأثير المتبادل الغريب بصورة أوضح.
غسل الوصمة البشرية
تُضفي روايةُ «الوصمة البشرية»، التي كتبها فيليب روث، سياقًا دراميًّا مثيرًا، بتفصيلٍ لافت، على الجهد المضني الذي نبذله سعيًا إلى نيل تبريراتٍ لأفعالنا من الآخرين ووهم الهروب من تلك الأحكام. بطل الرواية هو كولمان سيلك، الذي يعمل أستاذًا للأدب اليوناني الكلاسيكي في «أثينا»، وهي كليةٌ (خيالية) صغيرة لتدريس الفنون الليبرالية في نيوإنجلاند. فبعدما حقَّق كولمان مسيرةً مهنية مرموقة جدًّا في المجالين الأكاديمي والإداري، يدخل في وصلةٍ من الهجوم والتوبيخ الحادِّ تخرج عن السيطرة. فبينما كان يُعلق على اثنين من طلابه لم يحضرا محاضراتِه قَط، يصفُهما كولمان بأنهما «شبحان مظلمان». وتصادف أنهما كانا من ذَوي البشرة السوداء (وهذا من سوء حظه لأنه لم يكن قد رآهما من قبل قَط)، فأدَّى هذا إلى اتهامه بالعنصرية، ووضع نهايةً شائنة لمسيرته المهنية. ويُصِر كولمان، طَوال هذا الموقف المختلط الناتج عن سوء الفهم، على أنه لم يقصد معنى الكلمة الحرفي، بل قصد بأن يصف هذين الطالبَين الغائبين بأنهما شبحان لا وجود لهما ليس أكثر. غير أنه يخسر الجدال ويخسر وظيفته، ويُترَك غارقًا في شعور بالمرارة والإهانة.
… حين لم يعُد مُقيدًا ومحاصرًا من قِبل والده، شعر كأنَّ كل الساعات في أي مكان ينظر إليه المرءُ قد توقفَت، ولم يكن ثَمة سبيلٌ إلى معرفة الوقت. فوالد كولمان، شئنا أم أبينا، كان هو مَن يرسُم له طريقه؛ أمَّا الآن، فسيكون مضطرًّا إلى رسم طريقه بنفسه، وكانت هذه الفكرة مُرعبة له. (١٠٧)
بزوال كِلا الحصنَين — إذ سافر شقيقه الأكبر إلى الخارج ومات الأب — عاد إليه التمكين وصار حُرًّا في أن يفعل ما يشاء، حُرًّا في أن يطارد الهدف الأكبر، وأصبح واثقًا في قرارة نفسه من أنه سيُشكِّل نسخة خاصة من ذاته. صار حرًّا إلى حدٍّ لم يكن والده يتخيله.
لقد صار حرًّا بقدر ما كان أبوه غيرَ حر. لم يصبح الآن حرًّا من أبيه فقط، بل من كل ما اضطُرَّ أبوه إلى مكابدته من الأساس. من الأعباء المفروضة. من الإهانات. من العوائق. من الجرح والألم والتظاهر والتصنُّع والعار؛ من كل آلام وعذابات الفشل والانهزام الداخلية. تبدل كل ذلك وأصبح حُرًّا على المسرح الكبير. حرًّا في أن يمضيَ قُدُما ويكون مذهلًا. حُرًّا في تمثيل دراما ضمائر «نحن وأنا وهم» غير المقيدة التي تُحدد سمات الذات. (١٠٩)
أهذا هو المكان الذي أتيت إليه بحثًا عن المعنى الأعمق للوجود يا كولمان؟ كان لديك عالمٌ من الحب، وبدلًا من أن تتمسَّك به تخلَّيتَ عنه من أجل ذلك! من أجل ذلك الشيء المأساويِّ الطائش الذي فعلته! ليس لنفسك فقط، بل لنا جميعًا … ما الشيء العظيم الآخر الذي تعتزم فِعله يا كولمان بروتوس؟ مَن الذي تنوي خداعه وخيانتَه بعدئذٍ؟ (١٨٣)
هنا يدلُّنا اسم بروتوس، الاسم الأوسط لكولمان سيلك، من خلال ما يحمله من إشارةٍ كلاسيكية إلى طبيعة عدم الولاء وصعوبة هروب المرء من مصيره المأساوي.
وبالرغم من تلك الأفكار المؤلمة التي فرَضَت نفسها عنوةً على ذهن كولمان، يستمر في خداعه، وبعد عودته من البحرية يُقيم علاقةً قوية مع امرأةٍ بيضاء جميلة شقراء تُدعى ستينا بولسون. تظن ستينا أن كولمان أبيض. وهكذا يطغى على تجارِبه الوليدة في الاستقلالية تأثيرٌ مُهيمِن مؤقَّت من نوع مختلف؛ لأنه أصبح مُغرمًا بها. فيوضح ناثان زوكرمان أنَّها كانت «ذات تأثير مُهيمِن أشبه بتعويذة سحرية … [و] حقَّقَت سيادةً مذهلة على إرادة مستقلة جامحة كإرادة كولمان …» (١١٨).
وهكذا تصبح ستينا بمنزلة نقطةٍ فارقة الآن بعدما رأى كولمان أنَّ حريته مُهددة بالخوف من افتضاح أمرِه. فإذا أراد أن يحظى بفرصة الحياة معها، فعليه التوقفُ عن إخفاء السر. لذا يقرر أنَّ الخيار الوحيد أمامه هو الإفصاح عن قصته الحقيقية لها، بالعودة بها إلى موطنه لتلتقيَ أسرتَه السوداء. يسير اللقاء على نحوٍ جيد بما يكفي، في أجواء امتزجَت بالمودة والروح الطيبة وإن لم تخلُ من الحرج والحساسية. ولكن بينما كانا على متن القطار عائدَين إلى المنزل، تلتفتُ إليه باكيةً قائلة إنها «لا تستطيع الحياة معه» وتركض بعيدًا. وهكذا يتلاشى أملُه في القَبول عندما تكتشف ما كان بالنسبة إليه وصمة عار بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالرغم من كل ما لدَيه من إيمان بقدرة المرء على اختيار حياة خاصة به بمحض إرادته، يشعر بالهزيمة و«تعلَّم كيف يُقدَّر المصير بصُدفة عابرة … وعلى الجانب الآخر، كيف قد يبدو المصير المقدَّر مصادفةً عندما لا يمكن إطلاقًا للأمور أن تجريَ على نحوٍ سوى الذي تجري به.» ومن ثم يتبيَّن له أنَّ إلهات الأقدار اليونانيات لهن تأثير أقوى من تأثير إرادته وحدها (١٢٧).
يُسمَّى الفصل «الإفلات من اللكمة». وقد اختير هذا المصطلح المُعبِّر عن العنف عمدًا ليُذكِّرنا بمحاولةٍ سابقة منه للتخلص من تاريخه. فقد كان كولمان في الماضي ملاكمًا موهوبًا وبارعًا، لكنه اضطُر إلى نبذ هويته في نقطة تحول أخرى عندما انقضَّ بلكمةٍ قوية على رجلٍ أسود في حَلْبة الملاكمة وطرحه أرضًا بسرعةٍ مُبالغٍ فيها لدرجة أنَّ المدرب الذي كان جالسًا بين الجمهور قال له إنه حرَم الحشود الحاضرة من نزالٍ درامي مُثير. كان العنف الجسدي الذي أظهره في الحلبة آنذاك ضروريًّا لنبذِ هُويته القديمة، ويُشبه العنف النفسي الذي لا بد أن يلجأ إليه لنبذِ أُمِّه. كان ردُّها متزنًا رابط الجأش ومهيبًا وقويًّا جدًّا. فنجدها تختتم كلامها قائلة: «أعتقد أنَّ أي تغيير عميق في الحياة يقتضي التبرؤَ من شخصٍ ما.» (١٤٠)
وبالرغم من أهمية علاقة كولمان بأمِّه، يستوعِب حُكمها الهادئ، رغم أنه من الممكن أن يكون مُدمرًا. فهو يستطيع تحمُّلَ تعبيرها الهادئ المتزن عن استيائها من الجهود الخارقة التي يبذلها ابنُها للتبرؤ من تاريخه. «فمن خلال المرور بهذا الامتحان فقط يستطيع أن يكون الرجل الذي اختار أن يكونه، رجلًا مُنسلخًا بلا رجعةٍ عمَّا مُنِح إياه عند ولادته، حرًّا في أن يُناضل من أجل أن يكون حرًّا كأي إنسانٍ يرغب في أن يكون حرًّا.» (١٣٩)
عندما نعكف على خططٍ كبرى سعيًا إلى تأكيد ذَواتنا بهذا القدر من الإصرار — مثل أولئك الذين يختارون ترك شركاء حياتهم وأبنائهم من أجل حياة جديدة — فإننا حتمًا نحسب حسابًا لنظرةِ جمهورنا الذي كان مؤثرًا يومًا ما. فإما أن نخضع لحكمهم ونعكس مَسارنا أو نُخفِيَ تمرُّدَنا، أو نتجاوز حُكمهم بالتخلص من تأثيرهم علينا. وهكذا حين يكتشف والت، شقيق كولمان، ما قرره شقيقه وما فعله بأمِّهما، يردُّ بصراحةٍ مباشرة دون تحفُّظ (على عكس أُمِّه)، لكنَّ كولمان يستطيع تحمُّل هذا الحكم القاسي الأشدِّ صراحة أيضًا. بل إن شدة هجوم والت تضعف روابط كولمان بأُسرته أكثرَ وأكثر. فبعد أن انتقل إلى هُوية جديدة إلى الأبد، هاجرًا عائلته — «سُدِّدت اللكمة، وأُحدِث الضرر، وأُغلق الباب إلى الأبد (١٣٩)» — يبدأ كولمان حياة جديدة مع أيريس، ويعيشان حياةً زوجيةً عاصفةً مليئةً بالمشادات والمشاجرات يُثمر أربعةَ أطفال ذَوي بشرةٍ بيضاء جدًّا. ويظل طوال الوقت كاتمًا سرَّهُ بكل إصرار.
«… لقد انتهت. انتهت هذه العلاقةُ الغرامية. لم تعودي أُمي، ولم تكوني هكذا قَط.» أي شخصٍ يتجرَّأ على ذلك لا يريد أن يكون أبيضَ فحسب. بل يريد أن يكون قادرًا على فعل ذلك. فالأمر مُتعلقٌ بما هو أكثر من مجرد نيل الحرية التي تغمره بالسعادة. إنه أشبه بالهمجية المُصوَّرة في الإلياذة، الكتاب المفضَّل لدى كولمان عن روح الإنسان النهمة للافتراس … (٣٣٥)
ننتقل سريعًا مُجددًا إلى الطور الثاني من حياته، ونعود إلى الموقف الذي حُطَّ فيه من اعتباره عندما أهينَ باتهاماتٍ باطلة في كلية أثينا. فبعد كلِّ الخداع والتلوُّن اللذَين مارسَهما عبر عمر من التواري وآمال الحرية والخيانات المُكلِّفة طوال الوقت، تُصبح حياة كولمان مُهددةً بأن تنتهيَ بطريقةٍ مُخزية بعدما وُصِم، في مفارقةٍ ساخرة، بأنه عنصري، في تحوُّلٍ تراجيدي مصيري للأحداث يليق بالأدب اليوناني الذي ظل كولمان منغمسًا في دراسته طوال حياته.
كانت هذه ستكون نهايةَ كولمان لولا دخولُه في علاقة مع امرأةٍ بيضاء أصغرَ منه بكثير تُدعى فونيا فارلي، وهي عاملة نظافة أُمِّية في الكلية، وكانت هذه العلاقة بمنزلة طوق إنقاذٍ له. يبدو ذلك، من ناحيةٍ ما، استغلالًا آخرَ من استغلالات كولمان الأنانية التي كان يُمارسها ضمن سلسلةٍ طويلة من الانغماس الجامح في إشباع مَلذَّاته. وتأتي لحظةٌ يرى فيها كولمان الأمر من هذا المنظور أيضًا. فيشاهد فونيا على العُشب مع عاملات النظافة والحراسة الأخريات، وفجأةً يرى نفسه وحشًا. فمشاهدتها ممدَّدةً على العشب وهي تضحك «كشفَت له آخِرَ ورقة توت عن قبحه وعاره». (١٥٧)
ولكن يجب ألَّا يُستهان بفونيا؛ فهي أقوى من ذلك بكثير. وبطريقتها الخاصة تُنقذه. فهي تساعده على استعادةِ ذلك الشعور بالاستقلال والحرية بعد الهجمات العنيفة التي تعرَّض لها، ولكن وهي بجانبه. وتجدُر الإشارة إلى أنها هي نفسها كانت نِتاجَ أربعة وثلاثين عامًا من «المفاجآت الوحشية»؛ بدءًا من إساءة معاملتها وهي طفلة على يدِ زوج أمِّها، إلى فقدان طفلَيها في حريق؛ فأدت الحكمة السلبية الناتجة من ذلك إلى إيجاد طرقها الخاصة للهروب طوال حياتها. لقد حاولَت الانتحار مرتَين. لكنَّ سِماتها تنجو من المعاناة المروعة التي كابدَتها. فيقول كولمان، على لسان الراوي ناثان، «إنها ليست مُتدينة، ولا تتظاهر بالورَع والتقوى، وليست مشوَّهةً بقصة الطهارة الخيالية، مهما كانت الانحرافات الأخرى التي ربما تكون قد شوَّهَتها. إنها لا تُبالي بالحكم على الآخرين؛ فهي قد عانت الكثير في حياتها بسبب كل هذا الهراء. (٣٤١) بعد ذلك يتضح أنَّها ليست أميةً في الحقيقة بل تتظاهر بذلك. فهي تُجيد القراءة لكنها تُفضل إخفاءَ هذه الحقيقة. ويسمح لها عملها الوضيعُ في التنظيف بأن تقسوَ على نفسها؛ بأن تنفض عنها الوصمات التي تلطخها رغم استحالة الوصول إلى الطهارة. وعلى غِرار الفتى المستذئب، تقول: «أنا غُرابة» و«غريبة تمامًا عن الآخرين». نرى الآن كيف أنَّ أميَّتَها المُدَّعاة كانت جزءًا من قوتها. «ليس لديها سببٌ يجعلها تكره القراءة في حدِّ ذاتها؛ بل تشعر بأنَّ التظاهر بعجزها عن القراءة مُلائم ومريح لها. فهو يُضفي بعضَ الإثارة على الأمور بالنسبة إليها. فهي لا تشبع من السموم المؤذية؛ من كل ما يُفترض ألَّا تكونَه وتُبديه وتقوله وتعتقده، لكنك تكونه وتُبديه وتقوله وتعتقده؛ شئتَ ذلك أم أبيتَه». (٢٩٧)
كان كافيًا لهما أن يستطيعا التصرُّفَ كشخصَين ليس بينهما أيُّ شيءٍ مشترك إطلاقًا، مُتذكِّرَين طَوال الوقت كيف أنهما استطاعا اختزال كلَّ ما بينهما من تضاربات لا يُمكن التوفيقُ بينها، والتناقضات البشرية التي تولد كلَّ القوة، إلى مُستخلَصٍ من النشوة الجنسية. (٤٧)
أرادت [فونيا] أن تعرف الأسوأ. لا الأفضل، بل الأسوأ. وتقصد بذلك الحقيقة. ما الحقيقة؟ ومن ثَم أخبرها بها. لأنه أحبَّها في تلك اللحظة، مُتخيلًا إيَّاها تفرك الدماء لتُزيلها … أحبها. لأنَّ هذا هو الوقت الذي يُحب فيه المرء شخصًا ما؛ عندما يراه جريئًا ثابتَ العزم في مواجهة الأسوأ. ليس شجاعًا. ليس بطوليًّا. جريئًا فحسب. (٣٤٠)
وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نعتبر العلاقة التي نشأت بين الاثنين قائمةً على احتضان كلٍّ منهما مَواطنَ ضعفِ الآخر، وبالتبعية قَبولها في أنفسهما. لكنَّ هذا بالضبط هو المَدخل الذي يُمكن أن يتأذَّى منه المرءُ في علاقته بشخصٍ ما. فمع تطور هذا القدر المتزايد من الثقة والانفتاح، تمرُّ العلاقة بعثرةٍ مؤلمة في مرحلةٍ ما؛ إذ ينتقل كولمان نقلةً حادة إلى مستوًى فكري أعلى عندما يتلو عليها خبرًا من الصحيفة. كان ينبغي أن يكون أدرى من أن يتلوَ عليها، وهنا تخجل فونيا من تذكيرها بالفجوة الفكرية بينهما، فتهرب منه. فبعد أن جرَّدَت نفسها من أي مشاعر بصلابتها المُستمَدَّة من إحساسها بأنها غريبةٌ عن الآخرين وشبيهة بالغربان، شعَرَت بأنها تُعاقَب لأنها لانت وأرخَت هذا الدرع المُحكَم الذي كانت تحمي به نفسها. تُغادر لتجد برنس، وهو غراب حقيقي عرَفَته وأحبَّته سنواتٍ عديدة، وصار الآن محبوسًا في قفصٍ في إحدى جمعيات أودوبون الوطنية. لكنَّ برنس محبوس في قفص لأنه هرب مرةً لوقتٍ قصير وكاد أن يقتله رِفاقه الغِربان لأنه، بعدما رُبِّي في كنف البشر، صار لدَيه صوتٌ غريب عن صوت الغربان المألوف. لقد دُمِّر هذا الغراب بوصمة العار البشرية، ولم يَعُد يصلح لمرافقة المخلوقات البرِّية. فالغربان الحقيقية حرةٌ حقًّا. أمَّا هذا الغراب، فقد علق في وحلِ مُستنقعنا. تُعاقِب فونيا نفسَها على أنها وثقَت بشخصٍ ما، وواتتها الجُرأة لكي تأمُل في أننا نستطيع أصلًا أن نتجاهل وصمة العار البشرية «الملازمة لنا. المتأصِّلة فينا. المحدِّدة لسماتنا.» «لذا فكل ما يُقال عن إمكانية التطهُّر مجرد مُزحة. بل مزحة همجية أيضًا». (٢٤٢)
كانت تلك فونيا في أوج يأسِها، تتحدَّث بالصوت الخاطئ، وتشعر بأنَّ مصيرها الفشل بسببه. فكلُّ محاولاتها الرامية إلى التطهير لن تُطهرها أبدًا، ولن تمحوَ أبدًا وصمةَ ذاتٍ مُدمِّرة. لن تُزيل عنها تهديد الشعور بالعار أبدًا. غير أنَّ روث يرى السعيَ إلى الطهارة مثاليةً مسيحيةً غريبة لا حاجة إليها، ويُمكن مقارنتُه بما كان يفعله اليونانيون الذين يُحبهم كولمان. فالمظهر الخالي من الوصمات، على غِرار مظهر الذئب أو الغراب، لا يناسِب الحالة البشرية. «وهم الطهارة الخيالي مروع» (٢٤٢)، لكنَّ روث يُظهِر أنه منتشرٌ ومُستمر رغم ذلك.
يرتبط السعي إلى الطهارة ومحو وصمات العار البشرية ارتباطًا وثيقًا بالخوف من العار الذي استُعرِض في الفصل الأول. وتتناول برينيه براون، في خُطبتها الشهيرة ضمن سلسلة خُطب «تيد توكس» عن الشعور بالعار، هذا الخوف بطريقة تلقِّي الضوء على ما يجد كولمان وفونيا أنفسهما يفعلانه، بل ونحن جميعًا أيضًا، في بعض الأحيان. فتقول إننا نُخدِّر شعورنا بضعفنا. فنحن نشعر بالهشاشة دون ضماناتٍ تَحمينا؛ لذا نُخدِّر شعورنا المُحتمَل بالعار والخوف. وفي سبيل ذلك نستخدم وسائلَ مثل الشراهة ونلجأ إلى إدمانات مُعيَّنة، لكننا بذلك نُخدِّر مشاعر الفرح والامتنان والسعادة. نجعل غيرَ الأكيد مؤكدًا، بالدِّين مثلًا، ونجد طرقًا للوصول بأنفسنا إلى حدِّ الكمال؛ ما يمكن أن يُضفيَ قسوةً متحيزة ولومًا على أحكامنا على الآخرين.
ترى براون أننا نحتاج إلى تقبُّلِ هشاشتنا وضعفنا بصدرٍ رحب، والتحلِّي بالشجاعة، النابعة من القلب. فحين يكون المرءُ صادقًا عطوفَ القلب، فإنه يسمح بأن يتعاطف مع نفسه، ومع الآخرين كذلك. وحين نعترف بالضعف والهشاشة، بإدراك أنَّ هذا ضروري، فهذا استعدادٌ منَّا للاعتراف بحُب الطرَف الثاني أولًا، واستعداد للعيش والتعامل دون ضمانات، وترك الآخرين يرَون حقيقتنا. وتشير برينيه إلى أنَّ الأطفال ليسوا كاملين، ومُهيَّئون للمكابدة. وكلنا كنَّا أطفالًا غيرَ طاهرين يومًا ما. ولا نتوقف عن المكابدة.
تعلمَت فونيا ذلك من خلال معاناتها، وتعلمَه كولمان من خلال سعيه الفاشل إلى الحرية، ووجد كِلاهما الآخَر. وبينما كانت تتحدث فونيا عن الغراب برنس، قالت «بصوتها الغريب»: «أحبُّ ذلك الصوتَ الغريب.» وكان هذا أيضًا ما أحبَّه كولمان في فونيا. فالحب الحقيقيُّ ممكن؛ لأنك تُدرك فيه أنَّ الآخَرين سيرَون ما هو مختبئٌ وراء مظاهرك السطحية الطاهرة، سيرون وصماتك ويُقرِّرون إنْ كانوا يُحبون نكهتها وطابَعَها وتركيبها. لم تستطع ستينا أن تفعل ذلك مع كولمان، ولم ترَ أيريس تلك الوصمات قَط ولذا لم تعرفه جيدًا قَط، لكنَّ فونيا استطاعت ذلك وفعَلته. لقد رأته، ورآها وأحبَّا ما رأَياه، وتقبَّلا الأشياءَ التي لم يعرفها كِلاهما عن الآخر بعد. لذا قيل عنها: «إنها ليست مشوَّهةً بقصة الطهارة الخيالية، مهما كانت الانحرافاتُ الأخرى التي ربما تكون قد شوَّهَتها.» (٣٤٠)
تُعَد الرغبة الملحَّة في نيل الحرية، في الواقع، أفضلَ طريقةٍ للحصول على مقياسٍ مُرضٍ لنقيضها؛ أي موضوع هذا الكتاب: فرصة تَلقِّي أحكام جيدة. فهذا الأمل المتزعزع، في رأيي، هو العلامة المُحدِّدة للحالة البشرية. صحيحٌ أنَّ ناعوم تشومسكي اقترح مرةً أنَّ الرغبة الشديدة في الحرية هي خاصيتنا الأساسية المُحدِّدة لسماتنا، لكني أشعر بأنَّ العكس هو الصحيح. فنحن قِرَدة لا ذئاب. وبالرغم من آمالنا في الهروب، لا نستطيع أن نفهم أنفسنا حقًّا دون شهود مُصدِّقين، وحكام يُشعروننا بأهميتنا من خلال منحنا المديحَ والحب والاستحسان والقبول والحيثية والثقة، من بين أشكالٍ عديدة أُخرى من أشكال الشعور بأنَّ أقوالنا وأفعالنا لها ما يُبررها. فهؤلاء هم الجمهور المؤثر الذي قد نخونه أو نؤذيه، وقد يفعل بنا الشيءَ نفسَه. تُوجَد هنا أفكارٌ متشابكة معقَّدة، لكنَّ الخُلاصة أنَّ حلمنا بمحو وصماتنا تمامًا، مهما كان بطوليًّا، ومهما كان عنيفًا جامحًا، هو حلم بائس، لذا بدلًا من ذلك، لا بد أن يتقبل الآخرون وصماتنا، وإن لم يفهموها دائمًا، وأن نتقبلها نحن أيضًا، بفضلهم.
بينما نشاهد تاريخ كولمان نتلقى تحذيرًا يوصي بألَّا يكون المرءُ وقحًا ويتجاسر على اعتقادِ أنه يستطيع تجديدَ نفسه تمامًا. فالقسوة التي يتطلَّبها ذلك لن تكون سوى قدرٍ بسيط من الثمن الهائل الذي يجب دفعُه، وفي النهاية سيُباغِتك العالم الأكبَر، «القبضة الخانقة للماضي الذي يمثل حياة المرء نفسه». ولكن المفارقة أنه من دون ذلك الحلم بالحرية، لا تستطيع أن تنال تبريرًا حقيقيًّا. فإذا لم تخُض مغامرةَ استقلالك بطريقتك الخاصة، كما يتوجَّب علينا جميعًا إلى حدٍّ ما لنتجنبَ الخضوع أو الاحتياج، فلن يجد الآخرون شيئًا ليحكموا عليك استنادًا إليه أصلًا. فلا يُمكن إقامةُ روابطَ غنيةٍ إلَّا بأن يكون المرء غيرَ مُبالٍ، إلى حدٍّ ما، بالخوف من استنكار الآخرين له. فبدون هذه اللامبالاة، مهما كانت محدودة، يكون المرءُ مُجبرًا بفعل الدوافع المُقيِّدة والقلق النفسي على تشكيل سلوكه وَفْق هَوى الآخرين والاستسلام لرغباتهم. وعلى الجانب الآخر، فالمبالغة في إحكام السيطرة على جمهورك يجعله جمهورًا غير مؤثر؛ إذ لا يعود قادرًا على تقديم أحكام قيِّمة جديرة بالاهتمام. فنحن بحاجة إلى أن يُصدِر الآخرون أحكامَهم بأقصى قدرٍ ممكن من الحرية، والرغبة الكامنة في أنفسنا في أن نكون أحرارًا تجلب معها القدرةَ على تحمل العجز عن التحكم في آراء الآخرين عنَّا.