الفصل الأول
العقيدة والتضحية البشرية
كان السحر والدين في المجتمعات البدائية وجهَيْن لعملةٍ واحدة، ففي منظور السحر تتحوَّل
الأشياء كلها إلى رموزٍ فيصبح الشيء هو الرمز نفسه، والرمز هو الكلمة، بينما يرتبط الدين
بالقدرة الخارقة للآخرين سواء أكانوا آباءً أم آلهة، وكانت المجتمعات البدائية تمارس
الفعل
عبر الرمز.
ولا أدل على ذلك من النقوش الصخرية ورسوم الكهوف التي عبَّر فيها الإنسان البدائي
بالرمز عن
أهدافه وغاياته، إنَّ إنسان ذلك العصر بتنفيذه لرسومه ونقوشِه الصخرية لم يكن يقصد منها
مجرَّد
أعمال فنِّيَّة خالصة، بل كانت نوعًا من التَّعاويذ السِّحريَّة التي من شأنها أن تحميَ
الصيَّاد
وتدلَّه على مناطق الصَّيد الوفير. وتعتبر تلك الرسومات الصخرية في نظر إنسان ذلك العصر
بمثابة ضمان ورمز سحري له أثره في التوفيق في عمليات الصيد.
١
وكان من أمثلة خدمة الفن للسحر في تلك الفترة ما جاء في رسم كهف الإخوة الثلاثة بفرنسا
(شكل
١-١) حيث مثل الساحر بهيئة رجل متوَّج بقرون ظبي، أنفه يشبه منقار طير جارح وعيناه مدورتان
كعيون البومة، أعضاؤه العليا قصيرة بصورة غير عادية، منتهية بمخالب تشبه مخالب الدب.
وله
ذيل حصان وعضو تناسلي لرجل يظهر بغرابة تحت الذيل. يبدو هذا الخيال الغريب ذو نصف الانحناءة
وكأنه يؤدِّي رقصةً طقسية كنوعٍ من الممارسات السحرية.
٢ وربما قُصد من وراء هذا التخيُّل الإشارة إلى انتقالِ القوة الحيوانية ذات الرمز
الطوطمي إلى البشر من خلال الدمج بين كلتا الهيئتين الحيوانية والآدمية، وذلك من خلال
الرجل
ذي القناع «الشامان» الذي يعد وسيطًا روحيًّا بينهما؛ فهو مرشد الروح بين الطوطم «الحيواني»
والإنسان.
٣
ونستطيع استيضاح الأمر نفسه مع السحر في القبائل البدائية؛ فالأشياء التي يستخدمها
الساحر
في عمله السحري كلها أشياء رمزية كالتمائم والأدوات الطقسية مثل العصيِّ والقرون والأكياس
والأحجار والخرز والعظام وقطع الحديد والأحجبة وغيرها، وكانت هذه الأشياء في الماضي تكتسب
قوتها أو قدسيتها العالية من تلامسها مع الأضحيات البشرية التي تحوَّلت فيما بعدُ إلى
أضحيات
حيوانية تُنحر من أجل أن تنتقلَ القوَّة المقدسة من دمائها إلى مادة التميمة، وهناك أيضًا
بعض
التمائم التي تكتسب هذه القوة القدسية من الكلمة؛ إذ ما إن يعزم عليها أو تُلقى الكلمة
التعويذية السحرية عليها حتى تكتسب هذه القوة، وأحيانًا يكون هذا الاكتساب عن طريق الدم
والكلمة معًا.
٤
(١) مفهوم الدين وتطوره
يشكل الدين حجر الأساس لبناء أي مجتمع؛ فهو ضمير المجتمع وفكره، وهو المرآة التي
تعكس مدى
تطوُّره، ولقد اختلفت دلالات ومفاهيم الدين من مجتمع لآخر نظرًا لأن الدين من الموضوعات
التي
يُحيط بها الغموض وعدم الوضوح وتشتبك الآراء نحو تفسير جوهره، خاصة إذا ما تعلَّق الأمرُ
بالأديان البدائية، إن صحَّتْ هذه التسمية، نظرًا لما يحيط تلك الحقبة بأسرها من ضبابيةٍ،
وللتناقضات المرتبطة بالتطور الإنساني الذي يتجاوز أنماط التفكير الحالي.
فالأديان البدائية بشرية الهوى والهُويَّة، تعبِّر عن فكر ووعي الإنسان الأول بأريحيته
وبساطته، الذي نسج بتصوراته البسيطة أساطير تفسِّر أسباب الحياة والوجود، وأصبحت هذه
التصورات
والانطباعات رؤًى مقدسة لها مفرداتها.
ويمكن القول إن الدين البدائي هو رد فعل دفاعي ووسيلة يتَّقِي بها الإنسان الخطر
الذي قد
يتعرَّض له في الطبيعة، وذلك من خلال التمسُّك بعقائد وأفكارٍ تجعل لديه رد فعلٍ دفاعيًّا
يقاوم به
أخطار الطبيعة،
٥ ولكن يبقى الموت، ذلك الحدَث الذي لا حيلة للإنسان فيه، ولأن قوانين الحياة
تحول دون استحالة اجتناب الموت؛ فقد ساد الاعتقاد باستحالة بقاء الأفراد الذين يؤلفونها
إذن
فلن يبقى الأموات،
٦ ولكن يبقى الخوف منهم؛ فالخوف أول ما أوجد الآلهة في العالم، فممَّا لا شك فيه
أن انفعال الإنسان إزاء الطبيعة أصلٌ من أصول الأديان، وفي نفس الوقت فالدين ليس خوفًا
بقدر
ما هو رد فعلٍ ضد الخوف.
٧
ولقد مر الدين بمراحل عدة يمكن تسمية كل مرحلة منها بأهم ما يميزها من سماتٍ حضاريةٍ
كما
يلي:
- (١)
الدين في مرحلة الصيد.
- (٢)
الدين في مرحلة الرعي.
- (٣)
الدين في مرحلة الزراعة.
- (٤)
الدين في مرحلة التعدين.
(١-١) الدين في مرحلة الصيد (العصر الحجري القديم)
وهو الدين الذي عُرف في مرحلة الصيد حيث بداية صناعة الأدوات الحجرية واكتشاف النار،
وكان
هذان الحدثان من أهم إنجازات العصر الحجري القديم على المستويين المادي والروحي، وقد
انعكسا
على تطوُّر وعْيِ وفكرِ الإنسان؛ فقد كان اكتشاف النار واستعمالها أمرَيْن ينطويان على
الكثير من
الأبعاد العملية والروحية للإنسان؛ إذ كانت النار تحمي كهوف الإنسان من الكوارث والبرد
القارس، وكانت تُستخدم لطَهْو الطعام، فبمعرفة النار أصبح الإنسان أكثرَ قوةً من ذي قبل،
وأصبحت
النار بمثابة الشيء المقدَّس الأول الذي حرَّك النوازع الدينية الأولى نحو تشكيل هُويَّةٍ
دينيةٍ
بدائية.
٨
ثم لاحظ الإنسان قوة الحيوانات وتنوُّعها بل منافستها له أيضًا فبدأت تظهر بعض ملامح
تقديس
الإنسان للحيوان وقد نجد في هذا التقديس تفسيرًا منطقيًّا لما عُرف في الديانات الطوطمية
التي
رأَتْ في الحيوان المقدس مبدأ جمع شمل القبيلة وأن افتراسه في طقوسٍ دينيةٍ جماعيةٍ كان
يعني
توزيع هذا المقدَّس على أبناء القبيلة حيث يقوم بجمْعِهم في صلةٍ واحدةٍ قوية.
٩
وقد شهد العصر الحجري القديم ظهور نوعَيْنِ من الفنِّ عبَّرَا عن الفكر الديني وهما:
الفن
التشكيلي والذي يتجلَّى في رسوم الكهوف؛ وفن النحت الذي تجسَّد في التماثيل الأنثوية
التي عبَّرَت
عن الإلهة الأم، ويعتقد البعض أن «ظهور الفن في هذا العصر ليس من أجل الفن في ذاتِه بل
هو
لخدمة أغراضٍ دينية».
١٠ لا سيما أن الكهوف كما يراها البعض ما هي إلا معابد الإنسان الباليوليتي، رسم
الإنسان الأول على جدرانها بكل تبتُّلٍ وعنايةٍ رسومًا وصورًا روحية أضفَتْ عليها صفةَ
التقديس.
١١
الشامان (رجال الدين)
كان الشامان.
١٢ في اعتقاد إنسان العصر الحجري القديم هو الساحر والعرَّاف والطبيب والحاكم لأنه
كان قادرًا على حيازة النار وإضرامِها والسيطرة عليها، ونظرًا لأن النار كانت تُشكِّل
ضرورةً حيوية
لحياة الإنسان في تلك المرحلة، فكثيرًا ما ظهرَت النار بحوزة الشامان، ولقد لعب الشامان
دورًا
هامًّا في ذلك العصر، وضح ذلك الدور من خلال العديد من الأعمال الفنية ورسوم الكهوف.
١٣ ويعتقد خزعل الماجدي أن ظهور الشامان في هذا العصر كان حاسمًا في العقيدة
الدينية وقد ارتبطت به طقوسٌ وممارسات شعائرية كثيرة، فربما كان مسئولًا عن عمليات الدفن
الشعائري وتوصيل المتوفَّى في رحلته إلى العالم الآخر وقد يأتي هذا كله ليس بسبب التقمُّص
السحري للشامان بل بسبب القوة الروحية التي يمثِّلها الرجال الذين كانوا مؤهلين لأن يكونوا
شامان عصورهم
١٤ (شكل
١-٢).
وبصفةٍ عامَّةٍ كان الحيوان والشامان قد شغلا الجزء الأعظم من تفكير إنسان العصر
الحجري القديم.
١٥ هذا إلى جانب المرأة التي تمثَّلَت في العديد من الأحيان بتمثيلاتٍ تُشير إلى الإلهة
الأم؛ ومن ثم فقد وعى الإنسان بوجوده أكثر وأصبح أكثر اهتمامًا بالخصب الجسدي والولادة
والتكاثر لأنَّه أمرٌ لا يقلُّ أهمية عن الغذاء فكلاهما يضمنان بقاء العنصر البشري على
سطح
الأرض.
١٦
الدفن والعودة للرحم
يرى خزعل الماجدي أن كلًّا من النار والحيوان والمدافن والكهوف والصبغة الحمراء التي
استخدمها الإنسان البدائي بكثرةٍ في رسوماته؛ كانت لها دلالاتٌ معينةٌ تشير إلى الرحم؛
فالنار،
كما يشير خزعل الماجدي، ربما كانت تعكس حرارته، وكان دفن المتوفَّى في وضع القرفصاء يمثِّل،
في
رأي الماجدي، «الشكل الأول للجنين»، وقد قرب بعض الباحثين بين دفن المتوفى بوضع الجنين
في
القبر وبين عودته إلى الرحم بشكل رمزي.
١٧
الدم ورمزية اللون الأحمر
استخدم إنسان عصور ما قبل التاريخ اللون الأحمر بكثرةٍ في رسومِه وطقوس دفنه، وكان
هذا
اللون يرمز إلى الدم الذي هو قوة وحياة، ونجد أن الإنسان البدائي قد أعطى للدم دلالاتٍ
عدة؛
ولذا كان الاعتقاد السائد بأن تقديم الأضاحي من أهم الممارسات الطقسية التي تمنع سخط
وغضب
الآلهة وتجدد قواهم.
(١-٢) الدين في مرحلة الرعي
في مرحلة الرعي وضح دور الدين بشدة، وظهرت أهمية المرأة بشكلٍ جليٍّ، كما توسَّعت
دائرة
الممارسات الشعائرية بسبب بَدْء استقرار الإنسان ورغبته في السيطرة على عوامل الطبيعة
عن طريق السحر،
١٨ وقد تصور الإنسان البدائي أن على السحر القيام بعدة وظائف؛ فهو يساهم في إخضاع
الحوادث الطبيعية للإرادة البشرية، وحماية الفرد من الأعداء والأخطار، ومنحه القوة لإلحاق
الضرر بأعدائه.
١٩
(١-٣) الدين في مرحلة الزراعة
أثر الاكتشاف الزراعي في الأفكار والمعتقدات الدينية وأصبحت فكرة الخصوبة هي جوهر
الدين
في هذه المرحلة؛ ولذا عُرف الدين في هذه المرحلة بهذا الاسم؛ فتاريخ الأفكار الدينية
يختلط
مع تاريخ الحضارة بكل مفرداتها من اكتشاف تقني وتجديد اقتصادي واجتماعي.
٢٠ ولقد أحدَثَ هذا الانقلاب الزراعي توجهًا عامًّا نحو تقديس وعبادة النباتات، واحترام
وتقديس المرأة باعتبارها رمز الخصوبة، إلا أن هذا لم يمنع من استمرار بعض العبادات السابقة
مثل تقديس الحيوان. وظهرت عبادة الجماجم وتقديسها على اعتبار أن الإنسان البدائي كان
يميل
إلى تقديس رُوح المتوفَّى، واتخذ من الجمجمة تجسيدًا لها؛ مما أدى إلى ظهور بعض الممارسات
الطقوسية المتعلقة بهذا النوع من العبادة اعتقادًا بإمكانية بقاء العنصر الروحي للمتوفى
عن
طريق الاحتفاظ برأس المتوفى. ويعتقد البعض أن ظهور التشخيص في هذه الجماجم ومحاولة الإنسان
تشكيل ملامح وجهٍ إنسانيٍّ هما بَدْء ظهور فكرة الإله.
٢١
(١-٤) الدين في مرحلة التعدين (فجر التاريخ)
يحدِّد المؤرخون بداية الألف الخامس قبل الميلاد كتأريخ توصَّل الإنسان فيه إلى اكتشاف
المعادن وبدأ يطوِّعها ويستعملها في صُنْع أدوات مختلفة. وقد تراجع في هذه الفترة دورُ
الأنثى
ليحلَّ الذكرُ محلَّها ويصبح مركز الاعتقادات الدينية؛ لأن الثورة الكالكوليثية، في رأي
خزعل
الماجدي، ثورةٌ رجولية نتج عنها فيما بعدُ مفرداتٌ جديدة كثيرة؛ فقد ظهرَت المدينة والمعبد
وظهرت
الحِرَف والعمارة والتجارة وتميَّزَت الحياة الاجتماعية وازداد الدين تركيبًا وبدأت العقيدة
الدينية تُزحزح دورَ المرأة فظهر الإله الأب والإله الابن بجوار الإلهة الأم وأصبح أبو
السماء
في أهمية الربَّةِ الأم الأرضية.
٢٢
وظلَّت ظاهرة الموت من أهم الظواهر التي لم يستطع الإنسان أن يتقبَّلها؛ فقد شغل
الإنسان في
كل مراحل تطوُّرِه واجتهد كي يصل لفَهْم معناها وهو يُصارع وَهْم الخلود والبقاء كي يتقبَّل
هذا المصير
الحتميَّ الذي لا يطال الإنسان فقط بل كل كائن حي على سطح هذا الكوكب؛ فالإنسان البدائي
وقف
عاجزًا عن فَهْم سر هذا الاختفاء الغامض الذي يُصيب أفرادًا منه، وكان أعجز عن القيام
برد فعلٍ
دفاعي لصدِّه. ولما لم يستوعب هذا الإنسان فكرة الفناء النهائي اعتقد باستمرار الحياة
بعد
الموت وبوجود عالم آخر، فبدأ يدفن موتاه حفاظًا على هؤلاء الأفراد المفقودين من العشيرة،
وربما كانت «المدافن والقبور إلى جانب تقديس الجماجم أو عبادة الأسلاف» جميعها أدلةً
على
ظهور الدين لدى الإنسان البدائي.
٢٣
وبناءً على ذلك يمكن القول إن هناك حقيقةً على غايةٍ من البساطة والوضوح يتوصَّل إليها
كل مَنْ
يتأمَّل مسار الحياة الفكرية والروحية للبشر منذ حلول عصر الإنسان العاقل قبل مائة ألف
سنة من
العصر الحالي، وهي أن تاريخ الإنسان الفكري والروحي هو في المحصلة الأخيرة تاريخ دياناته
وأساطيره وسجل إبداعاته الأسطورية والدينية.
(٢) المقصود بالأضحية والقربان
يُعرف القربان بأنه كل ما يقرِّبه العابد من معبوده إلهًا كان أو روحًا في مناسبةٍ
دينيةٍ أو
موسمٍ محددٍ من صيدِه أو محاصيلِه أو طعامِه، طالبًا عونه في تحقيق منفعة أو اتقاء شرٍّ
أو وفاء
لنذر، وليس القربان خاصًّا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب.
٢٤
أما الأضحية فهي القربان الذي يتقرَّب به الإنسان من المعبود ويكون من الذبائح الحيوانية
والذبائح البشرية لدى بعض الشعوب، ولقد لعبت القرابين دورًا هامًّا في العديد من الحضارات
القديمة بل لدى بعض الشعوب الحالية أيضًا.
٢٥
ورغم أن الأديان السماوية أبطلت عادة تقديم الأضاحي البشرية، إلا أن القرابين البشرية
لا تزالُ تُقدَّم ربما حتى اليوم لدى العديد من أصحاب الديانات الوضعية التي تُسمَّى
مجازًا
«ديانات»؛ إذ تمارس في معظمها تقديم القرابين البشرية وتهتم اهتمامًا خاصًّا بالدم؛ إذ
يثير
الدم في النفس البشرية مشاعر غامضة، تتأرجح بين الخوف والتقديس؛ ومن ثم ارتبط الدم منذ
عصور
ما قبل التاريخ بقدسيةٍ ومهابةٍ جعلت منه رمزًا مقدسًا مرتبطًا بالقوة والتجدُّد
والاستمرارية.
وتختلف الأضاحي والقرابين عند الشعوب باختلاف دياناتها وأساطيرها،
٢٦ وقد قُسمت هذه القرابين إلى ثلاثة أنواع هي:
(٢-١) قرابين دموية
كان يُعتقد فيها بدور الدم في بَعْث الروح وتجديد الحياة، فكان يُسفك فيها دم الحيوان
على
مذبحٍ أو على رأس نُصبٍ وقد دلَّلت التنقيبات الأثرية على ذلك من خلال كثرة المذابح التي
عُثر عليها.
٢٧ إنَّ تقديم القرابين إلى الآلهة كان من أهم الشعائر في الديانات القديمة، وتعود
حقبة تقديم القرابين إلى بداية ظهور الدين في حياة الإنسان، وكان الهدف من تقديم القرابين
إلى الآلهة توطيد الرابطة الدينية بين الإله وبين البشر، وكان من شروط تقديم اللحم كقربان
هو اشتراك الإله والبشر في أكله.
٢٨
وكانت الرغبة في تناول لحم الحيوان أو الإنسان المُضحَّى به الذي كان بمثابة المقدَّس
أو
الإله؛ فعند أكل جسم الإله يكتسب قُواه، وعندما يأكل ذلك الخبز ويشرب الخمر فإنما يتناول
العابد جسم الإله ودمَه الحقيقي، وكذلك اعتقد أن تلك الآلهة كانت أربابًا للناس تتصرَّف
في
أمورهم وهي التي تمنحهم الأمن وتوفِّر لهم الخصب والرزق.
٢٩
(٢-٢) القرابين المحروقة
ويقصد بها أي نوعٍ من أنواع القرابين سواء أكانت من الحيوانات أو الطيور أو حتى البخور
الذي كان يُحرق في المباخر، وكان مبدأ الحرق للذبيحة أو البخور يقوم على صعود الرائحة
الطيبة
إلى السماء لتنالَ القبول؛ فالمذبح هو المكان الذي يوصل القربانَ المقدمَ بآلهتِه.
٣٠
(٢-٣) الأضاحي البشرية
كانت ظاهرة تقديم الأضاحي والقرابين البشرية واحدةً من الظواهر التي خدمت أغراض طقوس
وشعائر دينية لدى العديد من الشعوب والقبائل البدائية.
٣١ ويُقصد بالتضحية البشرية عملية قتل لشخص واحد أو أكثر وتقديمه كقربان ضمن شعائر
الطقوس الدينية أو الممارسات الجنائزية، وقد عُرفت التضحية البشرية في مختلف الثقافات
عبر
التاريخ القديم، وما زالت موجودةً حتى عصرنا الحديث في العديد من القبائل البدائية بفرضية
أن
التضحية هي استرضاء للآلهة والأرواح وجلب للمنفعة. وغالبًا ما كان الشخص المُضحَّى به
سعيدًا
عند تقديمه قربانًا للإله؛ إذ كان ذلك يعد تشريفًا له.
٣٢
ويعلِّل البعض تقديم القرابين الآدمية بأنها وسيلةٌ لإحياء الآلهة وبَعْثهم بواسطة
التضحية
البشرية أو تقديم الطعام للطوطم (المعبود الحيواني) والرغبة في توحيد المضحين بحياة أجدادهم.
٣٣
ولقد تباينت أشكال التضحية بحسب تصوُّر تلك المعتقدات البدائية وعلاقتها بالزمان والمكان.
ولعل الحسَّ الإنسانيَّ بالخطيئة وعمق الرغبة في الخلاص منها، كانا من أهمِّ الأمور المؤثِّرة
على
أنظمة التفكير الديني والميثولوجي الناضجة في العديد من الحضارات. وهذا ما جعل الإنسان
يستعين بكهنة أو وسطاء أو بطقوس معينة، يظن أنها هي الأصلح لتقديم الأضحية البشرية لنَيْل
الرضا الإلهي.
وسأحاول توضيح ذلك من خلال إلقاء الضوء على بعضٍ من تلك الممارسات لدى بعض الحضارات
المختلفة
وذلك لتقريب الصورة للأذهان.