مصر وتقديم الأضاحي البشرية
يعدُّ موضوع الأضاحي البشرية في مصر من الموضوعات الشائكة التي تُؤخذ على حذر؛ فهناك من يُنكرها وهناك من يعترف بها، وإن كانت الغلبة لمن لا يعترف بوجودها في مصر لتعارُضِها مع فكر المصريين القدماء. وأحاول إلقاء الضوء هنا على مجموعةٍ من الآراء التي ربما قد تُبرهن — من وجهة نظر البعض — على وجود إشاراتٍ لممارسة التضحية البشرية في الحضارة المصرية القديمة لا سيما في عصر بداية الأسرات، وهل كانت تلك الممارسات تتمُّ بغرض التضحية والتقرُّب بها للمعبود، أم كانت تُؤدَّى لأغراضٍ أخرى؟ وهل كانت تُنفَّذ على فئةٍ معينةٍ دون سواها، ولماذا؟
(١) الأضاحي البشرية في مصر في عصر ما قبل الأسرات
يرى بعض الباحثين، لا سيما غير المصريين، أن هناك أدلةً على معرفة المصريين القدماء للتضحية البشرية في عصر ما قبل وبداية الأسرات، ويرى هذا الفريق أن تلك الأدلة قد تنوَّعت ما بين العثورِ على دفناتٍ لأضاحي بشرية، وبين مناظر نقوشٍ ورسومٍ متنوعة أشارَت إلى وجود ومعرفة عادة التضحية البشرية في مصر آنذاك. وهنا عرض لأدلة وجود الأضاحي البشرية في مصر من وجهة نظر مُدَّعيها؛ ومحاولة تفسيرها أو نفيها.
- الأول: أن بعضها تضمَّنَ أكثر من جثةٍ واحدة؛ بحيث وُجدَتْ في إحداها خمس جثث.
- والثاني: أن بعض موتاها تعرَّضت عظامُهم لعمليات تفكيك مقصودة أو غير مقصودة ووضعت في غير نظام.
ولكن لو صح ما ذهب إليه عبد العزيز صالح من تفسيراتٍ لَكان هناك شيءٌ آخر لا بد من تفسيرِه؛ ماذا عن آثار القطع والحزوز التي وُجدَت على فقرات الرقبة بالعديد من دفنات هيراكونبوليس؟ هل كانت لأفرادٍ من الأسرى والمدانين كان يتمُّ قتلهم بهذه الطريقة — كالإعدام في العصر الحالي — أم هي أمورٌ جنائزية وطقوس ذات صلةٍ بممارسات التقدمة البشرية؟
ربما كانَت تلك الدفنات بالفعل لممارساتٍ ترتبط بالتضحية البشرية؛ لا سيما أن مثل هذه الدفنات قد تكرَّرت، ولأنه في البعض منها كان هناك دلائل غريبة مثل العثور على السكين الصواني الذي كان مرافقًا للدفنة آنفة الذكر، وبقايا لقًى أثرية يصعب وضْعُها مع دفنة لمُدانٍ أو مجرمٍ معاقب، والأمر الثاني أنه قد عُثر على هذه الدفنات في سياج جبانات تمت العناية بها، فهل يعقل أن يُقتل المدان ثم يُكرم بدفنه ويُصحب معه متاعه الجنائزي؟
(٢) الأضاحي البشرية في مصر في عصر بداية الأسرات
(٢-١) مناظر الأضاحي البشرية في عصر بداية الأسرات
ومن خلال تلك النقوش يمكن التمييز بين شكلَيْنِ رئيسينِ من الأضاحي البشرية هما:
- الشكل الأول: طقوس القتل الآدمي والتي ترتبط بأحداثٍ معينة لا سيما المناسبات المرتبطة بالتتويج وتأكيد انتصار الملك والأعياد أو الاحتفالات الملكية، وكان المساجين من المذنبين والمجرمين وأسرى الحرب هم الفئة التي تُقدَّم في تلك الحالة.
- الشكل الثاني: شكل من أشكال التقدمات والقرابين الآدمية، والتي كان الغرضُ منها إرساء دعائم الاستقرار ونيل مرضاة الإله.
وأخيرًا يمكن القول إن فكرة ممارسة المصريين القدماء لعادة التضحية البشرية من الأفكار التي تؤدِّي إلى مزيدٍ من الخلافات العلمية؛ فهناك أدلةٌ تجعلنا نميل إلى الاعتراف بوجود تلك العادة في مصر، وهناك أدلة أخرى شائكة لا تؤكد وجود تلك العادة في مصر لا سيما أن أغلب ما عُثر عليه من دفناتٍ آدمية فرعية ملحقة بمقابر ملوك عصر بداية الأسرات؛ كانت مزودةً ببعض المتاع الجنائزي، وكانت قد دُفنت بنفس تقاليد الدفن المتبعة في مصر القديمة، أي لا ينطبق عليها سمات التضحية البشرية، فكيف يُضحَّى بإنسانٍ ثم يُزوَّد بالمتاع الجنائزي؟
وجدلًا إن افترضنا أنها دفناتٌ لأضاحي بشرية، فلا بد أنها كانت قد تمَّتْ بمرضاة صاحب الدفنة؛ ليصحب الملك في العالم الآخر وربما كان هذا التبرير يوضح سبب وجود المتاع الجنائزي المصاحب للمتوفَّى، وعدم وجود أيٍّ من آثار الدفاع عن النفس من قبل المتوفَّى في تلك الدفنات.
والأمر الثاني لا بد أن نسأل أنفسنا: هل كل ما صوَّره المصري القديم كان لا بد لأمورٍ واقعية، أم ربما كان يعبِّر بفنِّه عن أحداثٍ بها كثير من المبالغة ربما رغبة في التخويف، وربما بهدف إرساء قواعد الحكم وإرهاب الخارجين عن الملك، أيًّا ما كانت الأسباب فإننا بصدد فترةٍ غابَت فيها الكتابة، ونعتمد فيها على استقراء الأحداث، وعلى دراسة ما بين أيدينا من أدلَّةٍ ملموسةٍ لدفناتٍ آدميةٍ غلفتها الغرابة وأحاط بها الغموض.
(٣) فكرة وجود التضحية البشرية في مصر في العصور التاريخية القديمة
فسَّر بعض الباحثين لا سيما المستشرقين وجود المقابر الفرعية حول الأهرامات في الجيزة وسقارة وأبي صير وغيرها — التي كانت تضمُّ دفناتٍ للعديد من المقربين للملك — بأنهم جميعًا تمَّ قَتْلهم عنوةً حتى يُرافقوه ويعيشوا معه في الحياة الأخرى تمامًا كما كانوا يشاركونه الحياة الدنيا؛ وفي هذا المضمار يوضِّح عبد الحميد عزب نقلًا عن رشيد الناضوري أن هناك حالات دفنٍ نادرة يُمكن تفسيرُها بالقتل عنوةً لمرافقة الملك في حياتِه الأبدية (منها حالة واحدة عُثر عليها فيما تم اكتشافُه من مقابر حول هرم خوفو بالجيزة) وأشار الناضوري أن هذه الظاهرة أفريقية زنجية خالصة جاءَت لمصر وليسَت متأصِّلَة بها.
وربما لم تكن هذه التعاويذ سوى تعاويذ سحرية لن تحدث في واقع الأمر، فلم يكن المصري القديم دمويَّ الطابع، وكل ما ذكره ليس مقصودًا في ذاته ولا يُشير إلى الواقع الفعلي وإنما يشير إلى مدى قوة الملك وسطوته بنوعٍ من المبالغة.
ولعل هذا الجزء الأخير من النص يفسِّر بشكلٍ واضحٍ أن الغرض من تلك التعاويذ لا يتعدَّى سوى رمزٍ باعتبار أن الملك هو صورة الإله على الأرض ويمتلك قوةً روحيةً تُمكِّنه من خلال السحر والتعاويذ من فعل ما يشاء أن يفعله فهو قادرٌ على السيطرةِ على أعدائه.
ولكل ما سبق أميل إلى الرأي الرافض لفكرة ممارسة عادة التضحية البشرية في مصر القديمة؛ فمناظر القتلى التي جاءت مصورةً على جدران المقابر والمعابد المصرية القديمة ما هي إلا صور لأسرى الحروب التي قادها ملوك مصر، وليسوا أضاحي بشرية أو قرابين بشرية، فلم يكن المصري القديم في حاجةٍ إلى تقديم أضاحي بشرية؛ إذ لعبت الرمزية والسحر دورهما في فكره وعقيدته، ولقد حقَّق المصري القديم كلَّ ما يتمنَّاه وكل من كان يرجو اصطحابه معه في العالم الآخر من خلال ما صوَّرَه في نقوش المقابر حيث رسم نفسه مع زوجاتِه وأولادِه وعبيدِه وخدَّامِه، وحيواناتِه، وحدائقِه وقرابينِه وغير ذلك، ولم يكن في حاجةٍ لقتل أحدٍ حتى يُرافقه العيش في العالم الآخر.
(٤) عروس النيل وحقيقة التضحية بها
ويقال إن هذه العادة ظهرَتْ بعد أن قدَّم الملك إيجبتوس ابنته قربانًا لنهر النيل تجنبًا لغضب الآلهة، وقد رمى الملك نفسه في النيل منتحرًا بعد ابنته. وأكَّد علماء المصريات أن إيجبتوس شخصية خرافية، وأن سجلَّات المصريين القدماء لا تحتوي على أي دليلٍ يثبت حدوث هذه الممارسات.
ومن ثم كان النيل بريئًا من فكرة عروسه المزعومة، ولعل ما حدث أثناء تولِّي سيدنا عمرو بن العاص القيادة في مصر عندما أرسل لخليفة رسول الله سيدنا عمر بن الخطاب قائلًا: «من عمرو بن العاص إلى خليفة رسول الله، يقولون: إن نيل مصر لن يفيضَ هذا العام لوجود عادةٍ ضروريةٍ وهي إلقاء فتاةٍ جميلةٍ عند منابع النيل، فانظر ماذا ترى؟» وهنا رد عليه عمر بن الخطاب قائلًا: