عهد الملك قمبيز
مستيو-رع | كمبيثت |
ذكرنا الفصل السابق الوثائق التي وصلت إلينا حتى الآن، من الآثار المصرية المباشرة، من عهد الحُكم الفارسي الأول ﻟ «مصر»، وسنُحاول هنا أن نَستخلص تاريخ تلك الفترة من هذه الوثائق وغيرها، مما وصل إلينا من مصادر أُخرى تَمُتُّ إلى هذه الفترة من تاريخ أرض الكنانة. وأول وثيقة تميط لنا اللثام عن أحوال الفتح الفارسي ﻟ «مصر» وتسلط «قمبيز» عليها وإقامته فيها؛ هي النقوش التي جاءت على تمثال «وزاحر رسن» الموجود حاليًا بمتحف «الفاتيكان»، والواقع أن «وزاحر رسن» هذا قد لعب دورًا هامًّا في هذه الفترة من تاريخ البلاد المصرية، ومن أجل ذلك سنفحص نقوشه فحصًا دقيقًا، وندرسها درسًا وافيًّا مستفيضًا؛ بغية الوصول إلى نتيجة مرضية.
ولد «وزاحر رسن» في مدينة «سايس» الواقعة بالقرب من «كفر الزيات» الحالية، من أبوين مغمورَي الذكر، وكان أبوه يسمى «بفتوعونيت» وتُدعى أمه السيدة «أتم أردس»، وتدل شواهدُ الأحوال على أن والده لم يكن معروفًا من قبل، وقد حاول بعض الأثريين أن يوحد اسمه وألقابه باسم وألقاب صاحب تمثال رجل عظيم بمتحف «اللوفر»، غير أن تلك المحاولة قد أخفقت؛ لأن ألقاب هذين الرجلين لم يكن بينها شَبهٌ ما؛ وذلك لأن صاحب تمثال «اللوفر» كان ذا مكانة عظيمة في حاشية آخِر ملوك العهد الساوي في حين أن والد «وزاحر رسن» لم يكن يحمل أي لقب ديني كسميه، وعلى ذلك يجب أن نضرب صحفًا عن محاولة أيِّ تقارُب بين هذين الرجلين، ومن ثم نترك جانبًا التفسيرَ الذي أدلى به الأثري «رفييو» وعاضده فيه الأثري «مالت» وهو أن «وزاحر رسن» قد أصبح خائنًا لبلاده حِقدًا عليها وتَنكُّرًا لها بعد أن فقد وظائفه الدينية العالية التي كانت وراثية في أسرته.
حيث يقول: إن أولاد الملك «إبريز» كانوا معروفين لدينا، وعلى ذلك لا يوجد أيُّ سبب يحملنا على الظن مع «رفييو» أن «أتم أردس» التي جاء ذكرها على تمثال متحف «الفاتيكان» كانت ابنة ملك.
أما القول بأن «وزاحر رسن» نفسه كان شطربة كما ادعى المؤرخ «براشك» فليس له نصيب من الصحة قط.
مجال حياة «وزاحر رسن»
تحدثنا نقوش تمثال «وزاحر رسن» على أن مجال حياته كان مدنيًّا في الأصل؛ فقد كان في عهد الملك «أحمس» الثاني «أمسيس» يشغل وظائف مدنية عالية، ولا نعرف شيئًا عن سُلُوكه مدة احتدام الحرب التي وقعت بين «مصر» والفرس، غير أنه لُوحظ — بعد انتهاء هذه الحروب — أنه كان من بين رجال حاشية الملك «قمبيز».
ولا نزاع في أنه كان يميل — كل الميل — إلى جانب الفرس، وقد كان له تأثيرٌ على نتيجة الحرب التي قام بها الفرس لفتح «مصر»، وبخاصة عندما نذكر أن «وزاحر رسن» كان قائدًا للأسطول المصري في البحر في عهد «بسمتيك» الثالث، فقد وضعه هذا المنصبُ السامي في مكانةٍ خاصة غاية في الأهمية، ومن المحتمل أن الخدمات العظيمة التي أَدَّاها فعلًا لملك الفرس، والتي كان لا يزال يؤديها بعد تقربه من الفرس؛ قد خولت له أن يتوسط لدى «قمبيز» في صالح أسرته وفي صالح مدينته «سايس» مسقط رأسه، كما توسط كذلك لدى الملك لخدمة الآلهة المصرية.
ويدل ما لدينا من نقوشه على أنه قد احتفظ بعددٍ عظيمٍ من ألقابه، وقد نال — فضلًا عن ذلك — ألقابًا جديدة من الفرس، وبخاصة لقب «رئيس الأطباء»، ولا بد أن هذا اللقب كان لقبًا حقيقيًّا لا لقبَ شرفٍ وحسب. أما الوظيفة الهامة التي كان يقوم بأدائها لدى ملك الفرس؛ فهي وظيفة رئيس المراسيم ومُرشد الملك إلى كل العادات المصرية القديمة من دينية واجتماعية، وغير ذلك.
وتُحدثنا النقوش أن «وزاحر رسن» قد سافر بعد وفاة «قمبيز» إلى الخارج؛ أي في عهد الملك «دارا» الأول؛ فقد ذهب إلى «عيلام» ليكون بالقرب من مليكه، ولكن لا نعلم شيئًا قط عن الأحوال التي اقتضتْ هذا السفر.
وقد ذهب المؤرخون مذاهبَ شتى متضاربة في هذا الصدد، ولا حاجة بنا إلى سَردِها هنا؛ فإنها كلها محض حدس ورجم بالغيب.
وعلى أية حال نعلم من نقوش «وزاحر رسن» أن العاهل الجديد؛ أي «دارا»، قد أرسله إلى «مصر» في بعث رسميٍّ، كما سنتحدث عن ذلك بعد، وقد كان القيام بتنفيذ هذا الأمر آخرَ عملٍ قام به، جاء في النقوش التي تركها لنا، وقد استغرق حوالي ستة أعوام.
والواقع أن ما جاء في نقوش تمثال «وزاحر رسن» يُعدُّ دفاعًا عن موقفه بالنسبة لبلاده، فقد أراد أن يفهم خلفه بأنه كان جديرًا بكل حمد وثناء من أسرته، ومن مدينته ومن رؤسائه، وبوجه خاص من آلهته، ومما يُلحظ في نقوشه أنه لم يذكر لنا من الوقائع التاريخية إلا التي اشترك فيها هو، وبخاصة عندما تكون هذه الوقائع عونًا له على إظهار تُقاهُ وصلاحُهُ وخدماته لآلهة «سايس» مسقط رأسه.
وإذا كان «قمبيز» لم يُظهر اهتمامَه إلا بمعبد الإلهة «نيت» وإذا كان «وزاحر رسن» قد أظهر نفس الاهتمام بوصفه الساعدَ الأيمنَ لملك الفُرس؛ فإن ذلك كان يرجع — بلا شك — للاختيار الخفيِّ للأمور التي ذكرها لنا صاحبُ التمثال في نقوشه، هذا بالإضافة إلى أنه كان في خدمة أجانب؛ أي في خدمة الفُرس، فكان مدينًا لهم بمركزه الهام؛ ولذلك كان عليه أن يختار من الأمور ما يعجبهم، ثم يعرضها عليهم دون تعليق بعد أن كان قد أخذ للأمور عدتها ومَهَّدَ السبيلَ بما لديه من سياسة وتجارب لتنفيذها دون تعليق، وهذه هي التحفظات التي يجب أن نضعها هنا من جهة القيمة التاريخية لهذه الوثيقة.
ومن جهة أُخرى يجب أن نلحظ أن ما قصه علينا «وزاحر رسن» في نقوش تمثاله كان مفروضًا أن يقرأه المارةُ «هذا إذا كان تمثالُهُ على ما يظهر موضوعًا في معبد «أوزير» بمدينة «سايس»»، وكان معاصرًا للحوادث التي ذكرها عليه.
هذا، ومن الطبيعي أن يضع أمام المارة صورة مشوهة جدًّا عن العصر الذي عاش فيه هو، وأن يُفهم القوم أنه أَسهم في الإصلاحات التي جرت فيه.
ومِن ثَم لا ينبغي علينا ألا نُقلِّل من القيمة التاريخية لهذا المتن الذي نحن بصدده، وألا نعد صاحبه رجلًا وصوليًّا، ولكن بشرط أن نذكر أنَّ الحوادث التي دَوَّنَها في هذا المتن كانت قد اختِيرت بصورةٍ شخصيةٍ تُوحِي بما يُشْتمُّ منه رائحة التحيُّز، ومن ثم يمكنُ استعمالُهُ واستخلاصُ معلوماتٍ ثمينةً من محتوياته.
والواقع أن «وزاحر رسن» قد وصف لنا في متنه هذا فتح الفرس ﻟ «مصر»، بألفاظ تنطوي على الإبهام، فلم يذكر لنا الحروب التي قامتْ بين البلدين، وهذا الصمت من جهة «وزاحر رسن» كان أمرًا طبيعيًّا؛ لأن ذكرها في هذا الوقت لم يكن من السياسة أو اللباقة التي يُحمد عليها صاحبها، ولا تدعو إلى الفخار في ظرف كهذا، وعلى ذلك فقد أراد أن يمثل لنا الملوك الأجانب الذين اغتصبوا «مصر» بأنهم كانوا يواصلون بأمانة إنجاز الأعمال التي بدأها الملوك الوطنيون، والواقع أن الدور الذي قام به «سماتوي تفنخت» في أثناء الفتح الفارسي الثاني ﻟ «مصر» على يد «أردشير» الثالث يشبه الدور الذي قام به «وزاحر رسن» غير أنه يُعَد أقلَّ وضوحًا من الدور الذي قام به الأخيرُ كما سنرى بعد، وتدلُّ ظواهرُ الأُمُور على أن كلًّا منهما كان يلعب دورًا مزدوجًا، فكان مذبذبًا بين هؤلاء وهؤلاء.
والواقع أن الفتح الفارسي في القصة التي رواها لنا رئيس الأطباء «وزاحر رسن» قد ظهر في صورة هجرة؛ إذ يقول: «إن سكان البلاد الأجنبية الذين أتوا مع «قمبيز» قد استوطنوا «مصر».» وفي فقرة أُخرى نجد أن مهاجمين قد استقروا في معبد الإلهة «نيت»، ولا نِزَاعَ في أن المقصودَ من ذلك كان رجالُ الجيش الفارسي الذين أبقاهم معه «قمبيز» طوال مدة إقامته في «مصر» (٥٢٥–٥٢٢ق.م)، وقد كانت «مصر» في عهده تعد بمثابة قاعدة للأعمال الحربية التي قام بها على بلاد «كوش» والواحات، ومن المحتمل أن عددًا من سكان البلاد المجاورة ﻟ «مصر» قد انتهزوا فرصة الفتح الفارسي ودخلوا «مصر» مستوطنين فيها، وقد يكون ذلك صحيحًا — كما جاء في الوثيقة السالفة التي من عهد الملك «أكزركزس».
وتدلُّ الوثائقُ التي في متناولنا على أن الغُزاة كانوا من سلالات عدة؛ ولذلك نجد أن «وزاحر رسن» قد اختار التعبيرَ الملائم للدلالة على ذلك في نقوش تمثاله؛ فقد قال عنهم: «الأجانب الذين من كل البلاد الأجنبية»، والواقع أن البردية الآرامية التي عُثر عليها في «مصر» والتي يرجع عهدها إلى القرن الخامس تكشف لنا عن وجود فُرْس وخوارزميين وكسبيين، وبوجه خاص جَمٌّ غفير من الساميين يحملون أسماء بابلية وآرامية ويهودية.
هذا، ونجد أسماء أقوام الأقواس التسعة القديمة أعداء «مصر» التقليديين (راجع: «مصر القديمة» الجزء التاسع) قد بدءوا يسمون بأسماء حديثة، فنجد أن رُماة الصحراء الذين وحدوا بالبدو قد سموا بأهل بلاد «ميا».
وقد أراد بعض المؤرخين أن يرى في هذه الاضطرابات إشارةً إلى أعمال العنف التي ارتكبها «قمبيز» في «مصر»، وهي التي ذكرها الكُتاب الأقدمون، وبخاصة «هردوت» وهناك الفقرات التي جاء فيها ذكر هذا العنف.
وقد تابع «قمبيز» السير من مدينة «منف» إلى مدينة «سايس» قاصدًا أن يتم ما بدأه؛ لأنه عندما دخل قصر «أحمس» الثاني أمر في الحال بأن يحضر جسم «أحمس» الميت من ضريحه، وعندما تم له ذلك أعطى الأوامر بجلده ونتف شعره ووخزه وانتهاك حرمته بكل طريقة ممكنة، ولكنهم عندما أخذ منهم التعبُ كل مأخذ من هذا العمل «لأنه لما كان الجسم محنطًا فقد قاوم ولم يُمزق إربًا إربًا» أمر «قمبيز» بحرقه، وبذلك أمر بما هو كفر؛ لأن الفرس كانوا يَعتبرون النار إلهًا؛ «أي يعبدونها»، ومن ثم فإن حرق الميت لم يكن — بحالٍ — مسموحًا به في كلتا الأمتين «الفارسية والمصرية»، فلم يكن مسموحًا عند الفرس للسبب السابق؛ وذلك لأنهم يقولون: إنه ليس من الحق أن نقرب لإله جسم إنسان ميت، أما من جهة المصريين فقد كانت النار تُعَد حيوانًا حيًّا وأنها تلتهم كل شيء يمكن أن تصل إليه، وعندما تتخم بالطعام تخبو بما التهمتْه، وعلى ذلك كان قانونُهُم أَلَّا يعطى — بأية حال من الأحوال — جسمٌ ميتٌ لحيوانات مفترسة؛ ولهذا السبب كانوا يحنطونها «حتى لا ترقد وتأكلها الديدان».
ومن هذا نرى أن «قمبيز» قد أمر بشيء منبوذ في عادات الأُمَّتين، وعلى أية حال فإن المصريين يقولون إنه ليس «أحمس» الثاني الذي عُومل بهذه المعاملة، بل كان مصريًّا آخر في نفس قامة «أحمس» الثاني قد أهانه الفرسُ ظَانِّينَ أنهم قد أهانوا «أحمس»؛ لأنهم يقولون إن «أحمس» كان قد أُخبر — بوحيٍ — بما سيحدث له بعد الموت؛ لأجل أن يعالج الشر الذي كان سيلحق به، ولذلك دُفن جسم هذا الرجل الذي عُذب بالقرب من باب مدفنه وكلف ابنه بأن يدفن جسمه هو في أقصى جُزء في الضريح.
وهذا العجل «أبيس» أو «أبا فوس» هو عجل بقرة لا يُمكنُها أن تحمل في غيره، ويقول المصريون: إن الثور ينزل من السماء على البقرة، ومن ثم تضع «أبيس»، وهذا العجل الذي يُسمى «أبيس» يُميز بالعلامات التالية: إنه عجل أسودُ فيه بقعةٌ مربعةٌ بيضاء على جبهته، وعلى ظهره صورةُ نسر، وفي الذيل شعرٌ مزدوجٌ، وعلى لسانه صورة جعران (٢٩)، وعندما أحضر الكهنة «أبيس» استل «قمبيز» خنجره كإنسانٍ يكاد أن يكون قد خرج عن حواسه، قاصدًا بذلك بَقْرَ بطن «أبيس»، ولكنه ضربه في فخذه، وبعد ذلك أخذته نوبةُ ضحك قائلًا للكهنة: «أنتم أيها الأغبياء هل هناك آلهة مثل هذه من دم ولحم وتحس بالفولاذ؟ حقًّا إن هذا إله جديرٌ بالمصريين، ولكنكم لن تهزءوا مني.»
وبعد أن تكلم هكذا أمر رجاله بتعذيب الكهنة، وقتل كل المصريين الذين كانوا يجدونهم على يد هؤلاء الذين كان هذا عملهم، وعلى ذلك فض عيد المصريين وعوقب الكهنة، ولكن «أبيس» الذي جُرح في فخذه خارتْ قواه في المعبد، وفي النهاية مات من الجرح ودفنه الكهنةُ دون علم «قمبيز».
ومن جهة أخرى ليس أمامنا ما يبرر أن «وزاحر رسن» قد أشار من طرف خفي إلى أعمال السوء التي ارتكبها «قمبيز» سيده وحاميه، وهو الذي كان يعمل جاهدًا باستمرار على إظهار مقاصده الحسنة نحو «مصر»، أما ما يجب أن نفهمه من عبارة «الألم العظيم» فيبحث عنه في نفس متن تمثال «وزاحر رسن»، فالاضطرابُ الذي فوجئتْ به البلادُ جميعًا قد نتج عن استقرار الأجانب في «مصر»، كما ذكر في المتن، أما سوء النظام الذي حدث في مقاطعة «سايس» فنجد مقابلًا له في إقامة الغزاة في معبد الإلهة «نيت».
هذا، ونعلم أن الغُزاة قد طردوا بأمر من «قمبيز» من داخل سور الإلهة «نيت»، كما أمر بتطهير المعبد، وعلى ذلك يمكن «وزاحر رسن» أن يتحدث عن تَعَسُّفات الأجانب؛ وذلك لأن سيدَه وحاميَه «قمبيز» لم يكن شخصيًّا مسئولًا عنها، بل على العكس حارب تلك التعسفات وأوقفها.
سياسة «قمبيز» في «مصر»
تدل شواهد الأحوال على أن «قمبيز» باتخاذه هذه الإجراءات كان يبحث — ولو في الظاهر — عن إرضاء الشعب المقهور والتودُّد إليه، ومن أجل الوصول إلى قصده هذا اتخذ لنفسه ألقابًا فرعونية وهي الألقاب الخمسة التي كان يَتَقَلَّدُها — في العادة — كل فرعون عند توليه عرش الملك في «مصر». غير أننا لم نجد له منها حتى الآن إلا ثلاثة ألقاب، فقد كان يُلقب: (١) نسل رع، (٢) واسمه قمبيز، (٣) واسمه الحوري، وهو الذي يوحِّد الأرضين.
وقد ألف له هذه الألقاب أو الأسماء «وزاحر رسن» الذي أوضح له بطبيعة الحال، كذلك الأهمية الدينية لبلدة «سايس» حتى إنه جعله يُعيد إلى محاريب هذه المدينة خُدَّامَها ودخلها المقدس، وكذلك أمر بأن تُقام شعائرها الدينية وتُقدم القربات للإله «أوزير».
والآن يتساءل الإنسان: أليس من الجائز أن «قمبيز» قد عمل ذلك كله بعد أن أفهمه «وزاحر رسن» أن أعماله الأولى كانت خاطئة؟
فقال متحدثًا عن «عين شمس»: «والمدينةُ الآن مهجورةٌ تمامًا وتحتوي على المعبد القديم الذي أُقيم على الطريقة المصرية، وهو يقدم لنا شواهدَ عدةً عن جنون «قمبيز» وكفره؛ فقد سعى لتخريبها بالنار وبالحديد فهَدَمَها وحَرَقَها في كل ناحية كما فعل ذلك بالمِسَلَّات، وهناك اثنتان منهما أُتلفتا إتلافًا تامًّا، وقد نُقلتا إلى «روما»، ولكن هناك مِسَلَّاتٌ أُخرى لا تزال موجودةً هناك أو في «طيبة»، وهي «ديوس بوليس بارفا» الحالية، ولا يَزال بعضُها منصوبًا، غير أنها قد أكلتْها النارُ تمامًا، وأُخرى ثاويةٌ على الأرض.»
وكان دخل معبد الإلهة «نيت» غيرَ معترف به ولم يُعمل له حسابٌ بين المعابد التي احتَفظت بامتيازاتها؛ فقد كان الأمرُ الملكيُّ بإعادة الدخل المقدَّس لمعابد «سايس» في مجموعها «وهو كما يقول المتن حرفيًّا كما كانت من قبل» قد أتى بعد ذلك طرد الأجانب كلهم الذين كانوا قد احتلوا حرم الإلهة «نيت»، وعلى ذلك يجب أن يكون قبل المنشور الذي نحن بصدده الآن، وقد يجوز أن الصورة التي رسمها أمامنا «وزاحر رسن» ليست مطابقةً للأصل تمامًا، وبخاصة عندما نرى أنه قد وصف لنا الفاتح في صورة ملك صالح تقي يسير على حسب التقاليد، ولا نزاع في أن في هذا الوصف بعض المبالغات، وقد يجوز كل المبالغة كما نشاهد الآن في أيامنا أن الملوك الطغاة تُوصف بالتقوى والصلاح، وأقربُ شاهدٍ على ذلك ما شاهدناه في مصرنا الحديثة عندما وصف «فاروق» بالصلاح والتقى!
وعلى الرغم من هذه التحفُّظات فإن ما جاء في متن «وزاحر رسن» لا يُمكن أن نَشُكَّ فيه إلا بشيءٍ من الصعوبة.
موضوع قتل العجل «أبيس»
وقد وصل إلينا غطاء تابوت إهداء هذا الفرعون للعجل «أبيس» هذا.
فقد حدثنا «هردوت» بأن «قمبيز» عاد من حملته الفاشلة في بلاد النوبة ودخل في «منف» وقد كان المصريون في عيد عجل «أبيس» جديد ظهر لهم، وقد ظن «قمبيز» — كما ذكرنا آنفًا — أن المصريين كانوا في فرح بسبب فشل حملته، فجرح العجل «أبيس» وقد مات متأثرًا من جراحه بعد زمن قصير، وقد دفنه الكهنة على غير علم من «قمبيز».
وإنه لمن الصعب أن نوفق بين هذه القصة وبين ما جاء على اللوحات الجنازية التي وُجدت للعجول «أبيس» في هذه الفترة، فالثور الذي مات في عهد «قمبيز» لم يُدفن خفية (راجع: الوثيقة ٢، ٤)، وكذلك العجل الذي خلفه وهو الذي مات في السنة الرابعة من عهد الملك «دارا» الأول (الوثيقة ٥) لم يكن قد قتله بطبيعة الحال الملك «قمبيز» على أنه لو وُجد فراغ من الزمن بين هذين العجلين لَتأكدنا من تاريخ موت العجل الأول المزعوم، ولكن هذا ليس هو الوضع الحقيقي؛ إذ على العكس لو قَارَنَّا تاريخَ دفن العجل الأول وقد كان الدفن يحدث عادة بعد سبعين يومًا من تاريخ موت «أبيس»، وكان ذلك في السنة السادسة الشهر الحادي عشر اليوم العاشر من عهد الملك «قمبيز» بتاريخ ولادة «أبيس» الثاني، وكانت في السنة الخامسة الشهر الخامس في اليوم التاسع والعشرين من عهد الملك «قمبيز»؛ فإنا نجد أنه أثناء حوالي خمسة عشر شهرًا كان قد وُجد عجلان من عجول «أبيس» في وقت واحد، وهذا يَتنافى مع العقائد الدينية المصرية، وهي التي — على حسبها — لا يُمكن أن يظهر الإلهُ في حيوانين في آنٍ واحد.
إنه في مدة معلومة كانت تؤلف سلسلة متتابعة لعجول، ولكن لم نجد فيها ما يثبت وجود عجلين مقدسين في آنٍ واحد.
ويقول «بوزنر»: إنه يجب أن تُهمل هذه النظرية؛ وذلك لأن الترجمة التي قَدَّمَها لنا «فيدمان» للوحة رقم ٣ تُبرهن على أن التاريخ الذي جاء في السطر الثامن قد أخطأ فيه، يُضاف إلى ذلك أن التصحيحات التي عُملت في الأسطُر الأربعة الأُولى قد أصبحتْ مؤكدة، وذلك بموازنة البقية الباقية منها، التي لا تزالُ ظاهرة بما يُقابلها من مُتُون مماثلة.
وعلى أية حال فإن هذه الوسيلة التي كان الغرض منها مَسْحَ آثار الجريمة لا يمكن أن تكون قد حدثت إلا منذ اللحظة التي تكون فيها ذكريات قتل «أبيس» بيد قمبيز قد بدأت تتناسى بعض الشيء؛ أي في عصرٍ كان يجبُ فيه ألا تكون سببًا لمضايقة نُفُوذ الفاتحين، على أن هذه الحيلة التي أتى تأثيرُها متأخرًا وغيرَ مؤكد يظهر أنها كذلك قليلةُ الاحتمال، وكذلك قليلةُ الجدوى، وعلى أيَّة حال فإن الحل الذي اقترحه «فيدمان» وكذلك الحلول الأُخرى التي يمكن أن يتصورها الإنسانُ ليجعل متن اللوحة يتفق مع ما جاء في قصة «هردوت»؛ تكون من باب الحدس والتخمين الخطر، وإنه لمن الحكمة أن ننظر إلى ما جاء في قصة «هردوت» بعين الشك في تفاصيلها ومجموعها.
ونستخلصُ من هذا العرض الطويل أن المحاولات التي عُملت للتوفيق بين ما جاء في النقوش الهيروغليفية وبين ما جاء في قصة «هردوت» وما نقله لنا «ديودور» و«استرابون» وغيرهم؛ لم تقدم لنا هنا نتائجَ مرضيةً يَرتاح إليها النقدُ العلميُّ، والواقعُ أن حُكْمَ «قمبيز» كما جاء في المتون المصرية يدلُّ — على ما يظهر — على أنه كان ملكًا أكثر حكمة وروية مما افتراه عليه الكُتاب الأقدمون من أقاويل، ومع ذلك قد يكون كل ما نسبه لنفسه بوصفه فرعونًا لا يخرج عن كونه كالفراعنة الآخرين، يقولون ما يحلو لهم، ويخفون ما شاءوا أن يخفوا من مخازٍ وأعمالٍ مشينة؛ ولأنهم آلهةٌ والآلهةُ لا تخطئ.
والواقع أنه في الوثائق الديموطيقية التي جاءتْ بعد الفتح الفارسيِّ؛ قد وجدنا أن السنين الأخيرة من حُكم «أمسيس» وتواريخ حكم «بسمتيك» الثالث — وهما معاصران لحكم «قمبيز» في بلاد «فارس» — قد حُذفت ووُضع مكانها سنو حكم الملك الفارسي.
قارن السنة ٢ (٥٢٨ق.م = السنة ٤٢ من حكم أمسيس) والسنة ٨ (٥٢٢ق.م) من عهد «قمبيز» في البردية رقم ٥٠٠٥٩ الموجودة بمدينة «القاهرة» (راجع: Cat, Geu. Spiegelberg, Dem Denkmaler 3, 42–45; Griffith Ryl. Pap 3, 105-106). ومن الممكن كذلك أنَّ نفس التغيير قد حدث في المتن رقم ٥، وعلى ذلك لا يُمكننا أن نؤكد أن التاريخ ٢٩ مايو سنة ٥٢٥ق.م كان الغزاةُ فيه فعلًا في «مصر»، وأن «بسمتيك» الثالث لم يكن جالسًا فعلًا على عرش الكنانة.