«تسبس» ملك «أنشان» (٦٧٥–٦٤٠ق.م)
وقد دلت شواهد الأحوال على أن سياسة «تسبس» الحازمة المنطوية على الصبر والأناة كانت ذات أثر عظيم في مستقبل مملكته الفتية التي زاد في حُدُودها ووَسَّعَ رقعتها، وعلى الرغم من سياسته الجريئة فإنه كان في الوقت نفسه حازمًا؛ إذ قد تجنب — بقدر المستطاع — الدخول في الحروب التي كانت دائرة بين الممالك العظمى وقتئذٍ، وعندما استنجدت «عيلام» بالملك «تسبس» لمناصرة ملك «بابل» «شاماش-شوم-أوكيد» الذي خلعه «آشو بنيبال» رفض رفضًا باتًّا الدخول في مثل هذه المغامرة.
وكانت مملكة «فارس» عند موت «تسبس» تحتوي على إقليم «بارشوماش» مضافًا إليه إقليمي «أنشان» و«بارسا»، وقد قسم هذا العاهل بلاده بين ابنيه «أريارمن» الذي ولد في أحضان الملك حوالي عام ٦٤٠–٥٩٠ق.م، وقد أصبح ملكًا عظيمًا ولقب «ملك الملوك» وملك بلاد «بارسا»، وبين «سيروس» الأول (حوالي ٦٤٠–٦٠٠) وهو الذي أصبح فيما بعد يلقب «بالملك العظيم» ببلاد «بارشوماش»، وقد عُثر له على أثر هام بطريق الصدفة في «حمدان»، وهو لوحة من الذهب نُقش عليها بالخط المسماري وباللغة الفارسية القديمة ألقاب الملك «اريارمن» ويقول فيها هذا الملك: «إن بلاد فارس هذه وهي التي يمتلكها مجهزةً بخيل جميلة ورجال طيبين، وإن الإله العظيم «أهورا مازدا» هو الذي أعطانيها وإني ملك هذه البلاد.»
ولا نزاع في أن هذه اللوحة تُقَدِّم لنا أقدم أثر أخمينيسي معروف حتى الآن، منقوشٌ عليه أقدم متن فارسي، وهذا المتن يكشف لنا — بلا ريب — عن التقدُّم الهام الذي كان قد تم فعلًا منذ أوائل القرن السابع قبل الميلاد على يد القبائل الفارسية التي لم تكد تنتقل من حياة الجولان إلى حياة شبه مستقرة، وتُعَبِّر حروفُهُم الأبجدية — بمساعدة بعض العلامات المسمارية — عن وُجُود تقدم فعلي مُحَسٍّ بالنسبة للكتابات الرمزية المقطعية الآشورية أو العيلامية التي بقيت مستعملة، وهي التي أوحت بتكوينها وإبرازها إلى حَيِّزِ الوجود.
هذا، ونجد أن الفرس في فجر تاريخهم عندما كانتْ مملكتُهُم الصغيرة لا تزال في عز نشأتها وتأليفها؛ قد حققوا ما كان من الصعب أن يصل إليه سكانُ الهضبة الإيرانية في مدة قُرُون، بل وفي مدة آلاف السنين، وأعني بذلك: التعبير عن لغتهم بوساطة كتابة خاصة بهم، على أن لوحة «اريارمن» السالفة الذكر لم تكن الوحيدةَ مِن نوعها التي كشف عنها كما سنرى بعدُ، وقد كانت — على ما يظهر — تَفُوقُ حَدَّ المألوف من حيث كتابتها، لدرجة أن بعض العلماء قد شَكُّوا في قِدَمِها وادَّعَوْا أنها محضُ تزييف.
والواقع أن الفرس — منذ بداية تاريخهم — قد برهنوا على عبقرية وقوة ابتداع، كما برهنوا على أنهم تَبَنَّوْا فكرةً جاءت إليهم من الخارج، كانوا يعرفون كيف يشكلونها على حسب عبقريتهم ومزاجهم، فتبرز في ثوب جديد مميز.
وقد وقعتْ في «عيلام» حوادثُ أَدَّتْ إلى إعلانِ «آشور» الحرب عليها، وذلك أن «تماريتو» ملكها الذي كان يُعِدُّ نفسه مواليًا لدولة «آشور» قد خُلع عن عرشه على يد قائدٍ مِن أهالي البلاد فهرب، ولكنه وقع أسيرًا في أيدي الجُنُود الآشوريين، وقِيدَ إلى «نينوه»، ولم يمضِ طويلُ زمنٍ حتى ظهر أن ملك «عيلام» الجديد كان متأرجحًا بالنسبة لولائه لدولة «آشور»، وقد زاد الطين بلة أن «آشور بنيبال» كان قد قَرَّرَ أن يضرب في تلك اللحظة ضربته القاصمة «لعيلام».
وقد كان أمام القيادة الآشورية في هذه الحالة غرضان، وهما: الزحف على «سوس» في الجنوب و«ماداكتوا» في الشمال بوادي «الكرخ» الأوسط، وقد كان مصير «ماداكتوا» أن استولى عليها كما سقطت عدة مدن أُخرى عيلامية تقع على امتداد هذا النهر، وبعد هذا النصر ولَّى العاهل «آشور بنيبال» على البلاد العيلامية ملكًا جديدًا يُدعَى «تماريتو» في بلدة «سوس»، على أن هذه الحال لم تدم طويلًا؛ إذ خلع الملك الجديد الذي كانت تحميه «آشور»، وقد طلب النجدة من «آشور بنيبال» ثانية، فسار لنجدته على رأس جيش عظيم، وكان عازمًا في هذه المرة القضاء على «عيلام» قضاء مبرمًا، وقد تم له ما أراد.
وهذا الحادثُ الذي يضع أمامنا أول اتصال مباشر بين «فارس» و«آشور»؛ يقدم لنا معلومات غاية في الأهمية عن تحديد إقليم «بارشوماش» الذي يحتوي على المركز الذي يوجد فيه الآن «مسجد السليمان»، الذي يعد مركزَ إنتاجِ البترول. والواقعُ أنه في هذا المكان بعينه يشاهد بقايا مدرج هائل صناعي مرتكزًا على الجبل، وقد ظن بعضُ العلماء الذين أثر عليهم وُجُود البترول تحت أرض هذا الوادي أنه كان يوجدُ هنا معبدٌ للنار كانتْ شعلتُهُ الأبدية تغذى من الغاز الذي ينبع من جوف الأرض، وقد دلت أعمالُ الحفر التي عُملت في هذه البقعة على أنه كان قد أُقيم على هذا المدرج مبان حكومية لا يزال ظاهرًا منها إيوانٌ ثلاثيُّ الشكل حتى الآن.
وقد خلف «اريارمن» ابنه «أرسام» الذي عُثر له منذ زمن قريب على لوحة من الذهب يظهر أنه كشف عنها في «حمدان» في الوقت الذي عُثر فيه على لوحة أبيه السالفة الذكر وهو يقول فيها: «الملك العظيم، ملك الملوك، ملك «فارس» ابن «اريارمن».» وهذا المتنُ لا يختلف عن متن والده.
وتَدُلُّ الظواهرُ على أن هذين الأثرين — لا بد — كانا محفوظين في السجلات الملكية الخاصة، وقد نقلهما «سيروس» العظيم إلى «أكبتان» أو: «حمدان»، وقد عرفنا ذلك مما جاء في التوراة، والظاهر أنَّ الحفائرَ التي عُملت في «سوس» و«برسيليس»؛ تؤكد ذلك أيضًا، والواقع أن الوثائق التي عُثر عليها في الحفائر التي أُجريت في هاتين العاصمتين القديمتين، وهي تعد بعشرات الألوف من اللوحات كانت — بلا شك — ضمن السجلات الملكية أو — على الأقل — لها صلة بالمهام الإمبراطورية، وهكذا يظهر أن لوحة الملك «أرسام» تبرهن على أنه قبل أن يفقد سُلطانَه كان يحكم بلاد «فارس» بعد موت «اريارمن».
وقد أَحَسَّ عندئذٍ ملك «بابل» «نابونابد» عِظَم مطامع «سيروس»؛ ولذلك فإنه قام بحركة سياسية ماهرة وصل بها إلى الاستيلاء على «جران» من يد الميديين الذين كانوا يسيطرون على الطريق المؤدية إلى «سوريا»، وذلك بمساعدة «سيروس»، وقد فطن «أستياج» ملك «ميديا» لقيام هذا الحلف المعادي له، فطلب إلى «سيروس» الحضور إلى «أكبتان» (حمدان) عاصمته، غير أنَّ الأخير رفض طلبه، فلم يكن لدى ملك «ميديا» إلا الزحف على هذا العاصي لإخضاعه بالقوة، وقد نشبتْ بينهما حربٌ طاحنةٌ فصل فيها في موقعتين، قاد الأخيرة منهما «أستياج» نفسه، وقد دارتْ عليه الدائرةُ ووقع أسيرًا في يد «سيروس»، ولكنه عامله أنبل معاملة، وقد اختار «سيروس» «أكبتان» عاصمةً لمُلكه الموحد.
وبانتصار «سيروس» على «أستياج» بدأت صفحةٌ جديدةٌ في تاريخ الفرس الذين قُدر لهم أن يتحدوا مع الميديين ويؤلفوا دولة واحدة.