الدولة الأخمينيسية
يبتدئُ التاريخُ الحقيقيُّ للإمبراطورية الإيرانية التي أسستها أسرة الأخمينيسيين بحد سيوفهم؛ في خلال الثلث الثاني من الألف الأُولى قبل الميلاد، والواقعُ أننا نجد أقوامًا ومدنيات أُخرى في العالم قد استمرَّ وُجودُها في تلك الفترة، ولكن نجد بوجه عام في العالم المعمور وقتئذٍ أن دولة «إيران» كانت تحتل بين هذه المدنيات المكانة الأولى دائمًا.
ويرجع الفضلُ دائمًا إلى ملوك أُسرة الأخمينيسيين في فكرة تكوين دولة «إيران» وتنشئتها، ولا نزاع في أن طول عمرها المديد واستقلالها الطويل يعدان إرثًا خلفه هؤلاء الملوك لمن بعدهم من أكاسرة «فارس» بسبب ما اتبعوه من سياسة حكيمة تنطوي على التسامح والمهارة في فن الحكم.
ومما يلفت النظر هنا أن السياسة الحكيمة الداخلية التي أنتجها ملوكُ الأخمينيسيين لا تشبه — بحال — السياسة التي قام بها أباطرة الرومان الذين أجبروا الأقوام المغلوبين على أن يرتقوا إلى مستوى ثقافتهم، وأن ينضموا إلى اقتصادهم الجماعي؛ فقد كان الرومان يتطلبون السمو إلى هذا المستوى العالي في معظم الأحيان من أُناس من أُصول مختلفة جدًّا في الثقافة، بالإضافة إلى اختلاف تقاليدهم وإمكانياتهم، ولكن نجد أن الحال كانت تختلف تمامًا بالنسبة لما قام به كل من «سيروس» و«دارا» ملكَي الفرس؛ وآية ذلك أنهم قد ضموا إلى إمبراطوريتهما، وهي الأولى من نوعها في تاريخ العالم من حيث عظم ضخامتها، عدا بعض أقاليم شاذة ذات حضارة منحطة المستوى؛ عدةَ عناصر من المدنيات القديمة، فكانت تحت سيادتها بلاد «مسوبوتاميا» (ما بين النهرين) و«سوريا» و«مصر» و«آسيا الصغرى»، هذا إلى مُدُن وجُزُر إغريقية وجُزْء من بلاد الهند.
وقد رأى ملوك «فارس» أن محاولة وضع هذه البلاد في مستوى حضارتهم يعني جعلَهم يرجعون إلى الوراء؛ وذلك لأن ملوك أسرة الأخمينيسيين قد فطنوا أنهم يعدون أنفسهم أقوامًا دخلاء جددًا في المجتمع العالمي القديم، ومن ثم لم يكن في مقدورهم أن يتجاهلوا أن ما كان للحضارات القديمة من نُفُوذ وسلطان على حضارتهم يرجع إلى آلاف السنين.
ومن أجل ذلك نرى أن «كورش = سيروس» قد منح البلاد التي تحت حوزته حُكْمًا ذاتيًّا، كما نجد أن «دارا» قد سار في حُكْم مملكتِهِ بسياسةٍ حكيمةٍ، وبمثل هذه الخطة حُفظت الثقافة القديمة، بل نجد أكثر من ذلك: أن أباطرة الفرس قد حابوها على حساب بلادهم.
غير أن عدم التكافؤ بين الدولة الحاكمة والدولة المحكومة من حيث المدنية والعادات كان سببًا في وجود مرض خفي في جسم الإمبراطورية، كان يشتد أحيانًا، وقد مكث طول حياة هذه الإمبراطورية ينخر في عظامها.
يضاف إلى ذلك أن هذا المرض كان يعد أمام سياسة التوسُّع التي كان يسير على نهجها قومُ الفرس الشجعان من الأسباب التي أنزلت بهم الكوارث، وانحدرت بهم إلى الحضيض، وقادت بلادهم إلى الخراب في آخر الأمر.
وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أن الإمبراطورية الرومانية كانت ثمرةَ عملٍ إنشائيٍّ جاء على مهل وأناة، وامتد عدة قرون؛ ولذلك فإن تكوينها الذي جاء متأخرًا قد ضمن لها القوة والثبات، ولكن نجد من جهة أُخرى أن ارتقاء أسرة الأخمينيسيين السريع الذي حدث في مدة جيل واحد من الزمان هو الذي جعل من أمة صغيرة جدًّا كانت ضائعة في السهول والوديان الواقعة في الجنوب الغربي من «إيران» إمبراطوريةً ضخمة لا يمكن أن يكون لها توازن يشبه التوازن الذي وصلت إليه دولة الرومان في بادئ أمرها.
ولقد حدث — فعلًا — أولُ ارتباك فيها عند موت الملك «كورش = سيروس» وقد وقع بشدة وعنف حتى إنه لم يكن في مقدور أحد أن يعيد الأُمُور إلى نصابها، اللهم إلا إذا كان بطلًا من طينة الملك «دارا الأول»، وقد يجوز لنا أن نوازن بين هذا العهد المحزن — تقريبًا — من تاريخ أسرة الأخمينيسيين وعهد الحروب الداخلية التي وقعت في «روما» على أثر موت «يوليوس قيصر»؛ فنجد في هذه الموازنة أنه في عهد «أغسطس» في «روما» وفي عهد «دارا» في بلاد الفرس قد بدأ بعد الهزيمة العنيفة في كيان كل من الدولتين عملٌ إنشائيٌّ يمكن أن يعبر عنه بعد صهر البلاد سياسيًّا من جديد وإعادة تنظيم الإمبراطورية بصفة عامة، وبخاصة تجديد الأحوال الإدارية والخُلُقية والاجتماعية.
وعلى الرغم من التدابير المتناهية في الحكمة البالغة؛ فإن القوة الحيوية التي كانت تدفع بالأمم التي تحكمها «فارس» إلى الأمام، ونحو الرُّقِيِّ الطبعي لم تقفْ عند حد، مِمَّا أَدَّى في نهاية الأمر إلى انفصالها عنها، ومن ثم كان سقوطُها المحتوم ونيل تلك الأمم حرياتها واستقلالها.