الملك «كورش» «سيروس» (٥٥٩–٥٣٠ق.م)
عندما أراد الملك «سيروس» شَنَّ حرب سافرة على بلاد «ميديا»؛ لم يكن في استطاعته أن يُفَكِّرَ في مساعدة حليفه ملك «بابل» الذي كان بعيدًا عنه، ومِنْ أجل ذلك كان عليه أن يعتمد على ما لديه من قوة وعتاد.
وتدل الأحوال على أنه كان يعتمد وقتئذٍ على معاضدة عدة قبائل، بعضُها من أصل إيراني وبعضها الآخر من قبائل أخرى غير إيرانية، وقد قدم لنا «هردوت» قائمة بأسماء هؤلاء الأقوام الذين كانوا يقطنون من أول بداية الزاوية الجنوبية الشرقية لبحر قزوين حتى المحيط الهندي، وهؤلاء الأقوام كانوا يؤلفون النواة التي تتكون منها مملكة «فارس».
ومما هو معترَف به أنه منذ ذلك العهد قد ظهرت جماعة سبعة الأمراء، الذين كانوا يؤلِّفون مجلسًا ملكيًّا لبلاد «فارس» على رأسه الملك، ومن ثم نجد أنه قد تَأَلَّفَ داخل حدود «إيران» نفسها اتحادٌ كان فيه رؤساء العشائر، يشتركون — اشتراكًا فعليًّا — في تأليف الحكومة، مع محافظة كل عشيرة على طابعها البدوي أو الحضري.
ومما يطيب ذكره هنا أن النصر الذي أحرزه الفرس على الميديين لا يمت بصلة إلى هذا النصر الدامي المخرب الذي وَطَّدَ به الآشوريون والبابليون والعيلاميون والقرطاجنيون سلطانَهم على البلاد التي قهروها واستولوا عليها؛ فنجد أن الأمر لم يقتصر من جانب الفرس على عدم مساس مدينة «اكبتان (= حمدان)» المغلوبة على أمرها بسوء، بل نرى أنَّ مُلُوك الفرس اتخذوها عاصمة لملكهم كما كانت قبل الفتح، وقد حفظ فيها «كورش» سجلاته، ومن المحتمل أنه نقل إليها لوحتَيِ الملكين «اريارمن» و«أرسام» مع وثائق أخرى، يُضاف إلى ذلك أنه أبقى على الموظفين الميديين القُدامى في وظائفهم وأضاف إليهم بعض الموظفين من الفرس.
والواقعُ أنه قد تَمَّ انتقالُ الحُكم بحزم وحكمة وروية مِن أيدي الميديين إلى أيدي الفُرس حتى إن أقوام الغرب قد ظنوا أن الدولة الفارسية قد بقيت في ظاهرها دولة ميدية، وقد اتحدت المملكتان تحت سلطان «كورش» في سلام، وقد وجد نفسه في نهاية الأمر على رأس إمبراطورية فرضت عليه ثروتُها الطبيعيةُ الهائلة ومركزها الجغرافي الممتاز القيامَ بدور الوسيط في العالم المتمدين، فقد كانت بلادُ الفُرس بمثابة عامل اتصل بين المدنيات الغربية والشرقية.
ولا نزاع في أن الدور الذي لعبته «إيران» في تاريخ العالم ينحصر في هذه الرسالة التي حتمت الأحوالُ أن تقع على عاتقها، في خلال حكمها الطويل المليء بالأحداث الجسام.
وتتمثلُ سياسةُ هذا القائد العظيم والحاكم صاحب القدرة المهيمنة في غرضين؛ فقد كان يريد أولًا أن يستولي في الغرب على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهو الذي تنتهي عند ثُغُوره كُلُّ طُرُق التجارة العظيمة التي تخترق بلاد «إيران»، وكانت بلادُ الإغريق تملك على هذا الساحل من جهة بلاد «ليديا» قواعدَ بحريةً عظيمةً، وكان ثانيًا يرمي من جهة الشرق إلى تأمين ممتلكاته، ومن ثم كانت النتيجة تأليف دولة عظيمة منقطعة النظير في زمنه.