الملك «قمبيز»

على أثر وفاة الملك «كورش = سيروس» تولى بعده عرش الملك بِكْرُ أولاده «قمبيز» عام ٥٢٩ق.م، وأمه هي الملكة «كاساندان Cassandane»، ولما كان قد نشأ في أحضان الملك فإنه كان — بلا ريب — يُعتبر الوريثَ المختار للإمبراطورية الشاسعة التي أنشأها جَدُّهُ العظيم. والواقع أنه كان مشتركًا مع والده في الحكم بوصفه ملك «بابل»، غير أن «كورش» على الرغم من ذلك كان قد قرر صراحةً قبل وفاته أن يشرك مع «قمبيز» في حكم البلاد أخاه «بارديا» الذي يسميه اليونان «سمرديس»، فولاه ملكًا على المديريات الشرقية من الإمبراطورية الفارسية، ولكن هذا النظام في الممالك الشرقية كاد يكون ضربًا من المستحيل على أية صورة من الصور، يضاف إلى ذلك أن طبيعة «قمبيز» الجامحة ونفسه التي تنطوي على الغيرة، قد جعلته يصمم على التضحية بأخيه إن عاجلًا وإن آجلًا، حتى ولو لم يقم بثورة تبرر القضاء عليه، وبذلك يصفُو له الجو ويحكم منفردًّا.
وقد زاد من حقد «قمبيز» على أخيه أنه كان محبوبًا لدى الشعب في حين أنه كان معروفًا باسم «السيد الغليظ الطباع»، ولا أدل على قسوته من القصة التي رواها عنه المؤرخ «هردوت»: وذلك أن «قمبيز» بعد أن ثبت له أن القاضي «بركزاسبس Brexaspes» كان مرتشيًا، وكان أحد القضاة السبعة للمحكمة العليا، فإنه حكم عليه بسلخ جلده، غير أنه لم يكتفِ بذلك؛ إذ أمر بأن يُكسى كرسي القضاء الذي كان يجلس عليه بجلده، ثم أمر بأن يجلس على هذا الكرسي ابن القاضي الظالم خليفة لوالده أثناء فصله في قضايا الناس، (راجع: Herodotus V, 25).

ولم يلبث أنْ حانتْ له فرصةُ قتل أخيه، وذلك أنَّ الملك «كورش» كان يستعدُّ منذ سنين لتنظيمِ حملة على «مصر»، غير أنه في بداية عصر «قمبيز» قامت ثوراتٌ في أنحاء الإمبراطورية جعلتْه يُحوِّل كل نشاطه لإخمادها، ولم يفرغ من ذلك إلا في العام الرابع من حُكمه، ومن ثم كان على استعداد للقيام بغزو «مصر»، غير أنه رأى أنه ليس من الحكمة في شيء أن يترك بلاده وفيها أخوه «بارديا» المحبوب من الشعب ملكًا على المديريات الشرقية.

هذا، ويمكننا أن نتخيل كيف كان رجال بلاطه يحرضونه على التخلُّص من أخيه قبل مغادرته عاصمةَ بلاده إلى «مصر»، ومن ثم أعطى الأمر لقتله خلسة، وعلى الرغم من بشاعة الجريمة في نظرنا فإنها كانت في هذا العهد لا يُنظر إليها بهذه النظرة؛ إذ الواقع أن تاريخ بلاد الفُرس وغيرها من الممالك الشرقية كان مُفعَمًا بمثل هذه الجرائم.

سار بعد ذلك «قمبيز» لفتح «مصر» وقد تحدثنا عن ذلك في موضعه، ولقد كان من نتائج الحملة على «مصر» وفتحها سقوط ثالث مملكة عظيمة في العالم القديم، والواقع أن «مصر» في تلك الفترة كانت أقل قوة من الوجهة الحربية من ممالك واديي «دجلة» و«الفرات»، غير أنها كانت بوجه عام تقوم بدور رئيسي في الحروب، ويرجع الفضل في ذلك إلى بعدها ووعورة الوصول إليها، ولا نزاع في أن «قمبيز» باستيلائه على مصر قد وسع رقعة بلاده وجعلها أكبر إمبراطورية عُرفت في التاريخ القديم حتى عهده، فقد امتدت من «نهر النيل» حتى نهر «سردايا (= سيحون) Jaxartes»، ومن البحر الأسود حتى الخليج الفارسي، وكانت تشمل ممالكَ قديمةً مثل «ليديا» و«بختريان».

انتحار قمبيز

وفي عام ٥٢١ق.م انتحر «قمبيز»، وذلك أنه كانت تنتابه نوباتٌ عصبيةٌ منذ طفولته وبعد فتح «مصر» بأربع سنين انتحر، وقد عزي ذلك لإخفاقه في حملتيه على بلاد النوبة وواحة «سيوة»؛ إذ انهارت أعصابُهُ مِن أجل ذلك، وقد ترك «مصر» في عام ٥٢١ق.م إلى عاصمة ملكه، وفي أثناء سيره في «سوريا» سمع بقيام ثورة على رأسها ماجوسيا مدعيًا عرش الملك، وذلك أن هذا الرجل كان يشبه كثيرًا أخاه المقتول «بارديا»، ولم يكن قتله معروفًا لأمه وأخته كما كان مجهولًا لدى عامة الشعب، وقد كان «قمبيز» في طريقه لمقابلة الثوار، ويُقال إنه لما سمع بتحول هام في صفوف جيشه قتل نفسه يأسًا.

وبموت «قمبيز» انتهى آخرُ أفراد فرع «كورش». هذا، وتقول أُسطورةٌ عن سبب موته إنه جَرَحَ نفسه عندما أراد امتطاءَ صهوة جواده ومات متأثرًا مِن جرح في فخذه، غير أن «دارا» قَصَّ علينا سبب موته في نقوش «بهيستون».

جوماتا» أو «سمرديس» (عند اليونان)

كان هذا الماجوسي الذي ادعى أنه «بارديا» اسمه «جوماتا»، وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أن الشعب قد اعترف به عن طِيبِ خاطر، ولا غرابة في ذلك؛ لأنه بعد موت «قمبيز» كان لا بد أن يئول الحُكمُ إلى «بارديا» الذي كان قتله سرًّا حكوميًّا لا يعرفه إلا القليل جدًّا، وقد كان هذا المغتصبُ للملك غايةً في الذكاء؛ فقد قضى على كل من له علم باغتيال «بارديا»، هذا فضلًا عن أنه قد كسب رضاء الشعب أكثر من سلفه، بإعلانه حرية عدم التجنيد والتراخي في جمع الضرائب، يُضاف إلى ذلك أنه احتجب عن أعيُن الناس بقدر المستطاع وأمر نساءه أن يقطعن كل علاقاتهن بالعالم الخارجي، وكذلك ببعضهن بعضًا، وهذه أُمُور كانت بطبيعة الحال من الصعب تنفيذُها وبخاصة في الشرق، والواقعُ أنه نتيجة ذلك كانت زيادة الشكوك والظنون حوله، وكانت قد سرت فعلًا في نفوس الأشراف فكرةٌ مُؤَدَّاها أنَّ هذا الملك لم يكن مِن نسل «كورش»، بل إنه مغتصبٌ وحسب.

وقد كان هناك — كما نعلم — فرعٌ آخرُ من نسل «أخمينيس»، وهو فرع «دارا» ابن «هيستابس» وكان يعاضده رؤساءُ العشائر الفارسية الست العظيمة، ومِنْ ثَمَّ انتهى الأمرُ بهؤلاء الرؤساء أنْ دخلوا على هذا المغتصب وقتلوه كما قتلوا أتباعه، وبعد ذلك أسرعوا إلى «أكبتان» (= حمدان) حاملين رأس هذا المحتال، وقاموا بحملة على الماجوس الذين كانوا يساعدونه، ومِن الجائز أن آمال هذه الفئة كانت ترمي إلى إعادة قوة طائفة الكهنة من جديد، غير أن «دارا» لم يكن بالرجل الذي يميل إلى الانتقام، ومن أجل ذلك انتهى التقتيلُ في أتباع هذا المغتصب عند حلول الظلام.

ومن المحتمل جدًّا أن «دارا» قد اعتلى عرش الملك بعد موت المغتصب بوصفه وارثًا للملك «قمبيز»، ويُقال: إنه قد تغاضى عن تولي والده الملك لكِبَر سِنِّهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤