تولى «دارا» الملك عام ٥٢١ق.م
لقد قُوبل ادعاء «دارا» عرش الملك بشيءٍ من المعارضة، وذلك أن «جوماتا» المغتصب كان قد اجتذب إليه حُبَّ الشعب بإعفائه من الخدمة العسكرية، وبالتراخي في جمع الضرائب، هذا فضلًا عن أنَّ حُكَّامَ الأقاليم النائية قد أرادوا أن يكونوا مستقلين في أقطارها، وقد نتج عن ذلك أن اضطرَّ «دارا» أن يُعيد فتح مديريات كثيرة من جديد، حتى لم يَبْقَ له من الولاء على جيشه وممتلكاته إلا القليل.
وبعد أن استتب الأمن أخذ «دارا» المنتصر يُعاقب أولئك الحكام الذين أحفظه سلوكهم ويكافئ الذين مَدُّوا له يدَ المساعدة في وقت المحنة، وفي تلك الفترة زار هذا الملكُ العظيمُ «مصر» بعد أن قتل حاكمها فأخذ يعمل على استرضاء كهنة البلاد وجلب محبتهم، وذلك بالإنعام عليهم بكل أنواع الهدايا والمنح كما شرحنا ذلك في موضعه.
وبعد أن هدأت الأحوال في المديريات البعيدة أخذ في تنظيم إمبراطوريته المترامية الأطراف في ظل إدارة موحدة، وقد كانت الطريقة القديمة التي أدخلها «تجلات بليزر»، وهي التي بقيت منذ عهده مستعملة؛ ترتكز جزئيًّا على ترحيل آلاف الأسرى إلى أقاليم بعيدة عن أوطانهم، وجلب آخرين ليأخذوا مكانهم، وقد كان المواطنون الجُدُد يُنظر إليهم على أنهم أجانب عن أهل البلاد، وكانوا — بطبيعة الحال — يعاضدون الحاكم الآشوري، وكذلك كانت كل مملكة تُفتح تُضاف إلى مديرية مجاورة لها، أو كانت تؤلف مديريةً منفصلة تُجبى منها الضرائبُ على طريقة بدائية.
على أنَّ «بابل» لم تهضم قط بهذه الحالة، والواقعُ أنَّ هذا النظام كان غيرَ كامل إلى حَدٍّ بعيد؛ وذلك لأن الحُكَّام في كل مديرية كانوا مستقلين تمام الاستقلال، وقد كان هذا النظام ممكنًا فقط طالما كانت الإمبراطوريةُ غيرَ مترامية الأطراف، وقد برهنت الثوراتُ المستديمة على أن القبض على زمام الأُمور في «آشور» كان من الصعب الوصول إليه.
الشطربيات
أما في عهد «دارا» فقد كان المبدأُ المتبع بكل دقة هو «فَرِّقْ واحكم»؛ ولذلك فإن أي ميل إلى الاتحاد كان لا بد من تَجَنُّبه، وقد رأى «دارا» تفاديًا من تجمع كل القوة في يد رجل واحد أن يعين شطربًا، (معنى كلمة شطرب: سيد البلاد)، وقائدًا ووزيرًا في كل إقليم، وهؤلاء الموظفون الثلاثة كانوا مستقلين بعضهم عن بعض، كما كانوا يقدمون تقاريرهم مباشرة للإدارة الرئيسية.
ولا نزاع أنه في ظل هذا النظام الذي ينطوي على سُلُطات مقسمة كان من الجائز جدًّا أن يكون هؤلاء الموظفون بعضهم بعضًا، وعلى ذلك فإنهم — على أغلب الظن — لم يكن في مقدورهم تنظيمُ ثورة على الملِك، يُضاف إلى ذلك أن «دارا» قد اتخذ احتياطًا أكثر من ذلك، وهو أنه كان يُرسل مفتشين من أعلى الدرجات في فتراتٍ غير منتظمة يصحبهم قواتٌ من الجند عظيمة البطش ومزودة بنفوذ عظيم يخول لهم فحص؛ أي موضوع ومعاقبة؛ أي خروج على القانون، هذا إلى أنهم كانوا يقدمون تقاريرهم عن الشطرب والموظفين الآخرين.
وقد يعترض على هذا النظام بأنه يشل يد الحاكم في الحالات الخطرة المفاجئة عندما يقتضي الأمر سرعة البت، ولكن في الواقع كان هذا النظام يسير سيرة حسنة بشرط يقظة الموظفين القائمين عليه، وقد كان دارا مُحِقًّا عندما قال: إِنَّ أعظم خطر يهدد بلادَه هو الثورةُ المنظمة التي ينظمها حاكمٌ من حُكَّام الأقاليم النائية.
وقد كانت الضرائبُ العينية فادحة، فقد كانت «بابل» تطعم ثلث الجيش والبلاط في حين كانت «مصر» تقدم غلالًا لإطعام جيش مكونٍ من ١٢٠ ألف رجل، وكانت «ميديا» تورد الخيل والبغال والأغنام كما كانت «أرمينيا» تقدم المهارى وتورد «بابل» الخصيان وغيرهم، وفضلًا عن ذلك كان على المديريات تقديم هذه الضرائب الملكية، وأن تعول الشطرب وبلاطه وجيشه.
ولما لم تكن هناك مرتبات مربوطة للموظفين وهم الذين كانوا فضلًا عن ذلك يشترون وظائفهم؛ فإن العبء الذي كان يقع على كاهل المديريات فادحًا إن لم يكن لا يُحتمل، ولكن من جهة أُخرى كانت هناك قوانينُ رادعةٌ ذُكرتْ من قبل كانت تجعل كل شطربة يقف عند حده، وبخاصة إذا كان المتربِّعُ على عرش المُلك قادرًا وحازمًا.
ولا بد أن نذكر أنَّ الطبقة السفلى في كل بلاد كانت متعودة أن تُجبر على دفع أقصى ما يمكن من الضرائب على يد الحكام الوطنيين، هذا فضلًا عن أن النظام الجديد قد منح الملك ميزانية منتظمة، وبذلك قَلَّت الطلبات الباهظة على أية مديرية منفردة، وأخيرًا كان النظام الجديد أحسن بكثير من النظام الذي سبقه. حقًّا كان هذا النظام ناقصًا من الوجهة الحربية، كما أشار إلى ذلك «ماسبرو»؛ فقد كان للملك «دارا» حرسٌ يتألف من ألفي فارس وألفين من المشاة كانت حرابهم تحمل تفاحات من الذهب أو الفضة، وكان يأتي بعدهم عشرة الآلاف الخالدون، وكانوا ينقسمون عشر فرق كانت الأولى منها حرابها مزينة برمانات من الذهب، وهذا الحرس كان هو نواة الجيش الإمبراطوري، وكان يُعاضدُهُ جنودٌ من الميديين، وكذلك حامياتٌ كانت توضَع في مراكزَ هامة مختلفة، تتألف من جُنُود إمبراطورية مميزة عن الجنود المحلية، وعندما كانت تشعل نار حرب عظيمة، كانت تتدفق على الجيش الفارسي آلافٌ من الجُنُود غير المدربين والمختلفين عن بعضهم بعضًا من حيث اللغة وأساليب الحرب والمعدات، وقد كانت هذه القوة غير المنظمة هي السبب الرئيسي في سقوط الإمبراطورية الفارسية في نهاية الأمر.
الطرق الملكية
ولقد فطن الملك «دارا» من بادئ الأمر إلى ما للطرق المعبدة من أهمية في تسهيل المواصلات، ومن أجل ذلك نقرأ عن الطريق الملكية التي أنشأها ما بين «سارديس» و«سوسا» وهي التي بوساطتها أصبح الموظفون على اتصال سهل بالبلاط الملكي، وقد كانت المسافةُ بين البلدين حوالي ١٥٧ ميلًا، وكانت تقطع قبل تعبيد هذه الطريق في ثلاثة أشهر مشيًا على الأقدام، ولكنها في عصر «دارا» أصبحت تُقطع بالخيل على الطريق المعبدة في مسافة خمسة عشر يومًا.
ولا بد أن الطريق الملكية كان لها أثرٌ عظيمٌ في توسيع أُفق المديريات التي كانت تخترقها، وقد ظهر أهمية هذه الطرق لأعيُن الإغريق عندما أبرزوها بجلاء في أول مصور جغرافي وضعوه للعالم.
ولقد كان «دارا» يحس أن اسمه لن يبقى على مدى الدهور إلا إذا زاد في مساحة إمبراطوريته المترامية الأطراف؛ ولذلك كان لزامًا عليه أن يجعل جيوشه دائمًا في حُرُوب مستمرة، كما كانت الحالُ في الممالك القديمة، وقد كانت حدود بلاده مثبتة بحدود جغرافية طبيعية معينة كان من الصعب تعديها كسلسلة جبال «القوقاز»، وهي التي لا تزال تتحدى المهندس الروسي للسكك الحديدية بوعورتها، وكذلك بحر «قزوين»، ومراعي أواسط آسيا، وفي الجنوب كان يحدها صحراء إفريقيا وبلاد العرب والمحيط الهندي، وعلى ذلك فإن الجهات التي كان يمكن التوسع لمد سلطانه فيها كانت محدودة.
حروب «دارا»
وتَدُلُّ شواهدُ الأحوال على أن «دارا» لم يكن غرضُهُ من هذه الحملة الاستعداد لفتح بلاد الإغريق، ولكن في الواقع كان هدفُهُ أن يضم «تراقيا» إلى مُلكه حتى نهر «الدانوب»، وأن يغزو السيثيين الذين خربوا الشرق الأدنى منذ قرنٍ مضى، وظهروا بكثرة في الإمبراطورية الفارسية. يُضاف إلى ذلك أنه كان هناك دافعٌ آخرُ أغرى «دارا» على غزو هذه البلاد، وأعني بذلك: الذهب الذي كان يوجد فيها بكثرة، ومن الجائز أنه كان لديه أسبابٌ أخرى لا نعرفها، فمن المحتمل أنه كان يخشى انقضاض هؤلاء الأقوام على بلاده وأنه بعمله الذي قام به أراد أن يبعد الخطر عنه.
هذا، ونعلم أن «السيثيين وراء البحار»، قد ذكروا في نقوش «ناخشي روستام»، ومن ثم نعلم أن هجوم «دارا» على هؤلاء الأعداء كان يُضيف إلى شُهرته وفخاره وأماني بلاده.
وقد بدأت الحملة في عام ٥١٢ق.م، وقد عبر «دارا» البوسفور على قنطرةٍ بالقُرب من «القسطنطينية»، ثم سار محاذاة البحر الأسود، وقد خضعتْ له في أثناء سيره «تراقيا»، ثم سارتْ جيوشُهُ الضخمةُ حتى وصلتْ دلتا نهر «الدانوب»، فعبر النهر، ثم سار في مجاهل الصحراء، وبعد السير نحو مدة شهرين كانت خسائرُ جيشه في خلالها عظيمة، بسبب قلة المئونة وفَتْك الأمراض.
عاد الجيش الفارسي إلى نهر «الدانوب»، وهناك أراد السيثيون أن يغروا الإغريق على هدم القنطرة التي كان لا بد أن يعبر عليها الجيش الفارسي، غير أن الإغريق لم يقبلوا ذلك، وبقوا على ولائهم للفرس، وقد عبر «دارا» «الدانوب» في أمان، غير أنَّ نُفُوذَه بسبب خيبته في عدم إخضاع السيثيين قد ضعُف، ولكنه في عودته إلى «سارديس» أرسل قطعة من جيشه قوامها ٨٠ ألفًا للحرب في أُوروبا، وقد أفلحت هذه القوة في إخضاع «مقدونيا»، وبذلك جعلت حدود الإمبراطورية الفارسية ملاصقة لبلاد الإغريق الشمالية. والواقعُ أنَّ فتح «تراقيا» كانت النتيجة الهامة الرئيسية في هذه الحملة.
الحملة على بلاد الهند
وفي عام ٥١٢ق.م بدأ الفرس في فتح أجزاء من بلاد الهند، وبخاصة في البنجاب وحوض السند، وقد ذكرنا في غير هذا المكان أن «سيلاكس» أمير البحر الفارسي انحدر في نهر «السند»، غير مرتاع من مده وجزره، وسار في المحيط الهندي وجَابَ سَوَاحِلَ بلاد العرب و«مكران»، وقد تألفت شطربيةٌ من هذه الفتوح تدفقتْ منها كمياتٌ هائلةٌ من الذهب على بلاد «فارس»، وقد كان لهذه الحملة على بلاد الهند أهميةٌ عظيمةٌ، لدرجة أن تاريخ هذه البلاد يؤرَّخ بتعاليم «بوذا» وبهذا الحادث.
وخلاصة القول أننا قد تتبعنا مصائر الإمبراطورية الفارسية منذ أن ضمت «مصر» إلى ممتلكاتها، وقد كانت آخر مملكة عظيمة فتحها الفرس، كما تتبعنا عصر الثورة اليائس الذي جلبه على البلاد «قمبيز» بجنونه، وما وصل إليه من نجاح «جوماتا» الدجال الماجوسي، ثم رأينا بعد ذلك الملك «دارا» يُعيدُ تنظيم الإمبراطورية الفارسية، وذلك بلم شعث أجزاءِ ممتلكاته المتفككة، ثم إخراج نظام جديد لم يكن في الواقع مثاليًّا، غير أنه يُعَدُّ تحسنًا عظيمًا بالنسبة للنظام الذي كانت عليه البلادُ من قبل.
ويلاحَظ أنه لولا ما قام به «دارا» الذي يستحق لقب «العظيم» لذابت الإمبراطورية الهائلة، كما تلاشت بسرعة مملكة «ميديا» من قبل، وأخيرًا نجد أنَّ بلاد «البنجاب» ومعها «السند» في الشرق، و«تراقيا» و«مقدونيا» في الغرب؛ قد أضيفتْ إلى مُلكه دون أية صعوبة تُذكر، ومن ثم نرى إمبراطورية فارسية كانت تشمل كل العالم المعروف، هذا بالإضافة إلى عدة أقاليم لم تكن معروفة من قبلُ تمتد مِن أول رمال «إفريقيا» المحرقة حتى حدود الصين المحاطة بالثلوج تخضع لسلطانه، على الرغم من اتساع رقعتها وتعدد أجناسها ولغاتها. وعلى ذلك يُمكننا القول — بحق — إنه في هذه الفترة قد وصلت دولةُ الفُرس سمت عظمتها واتساع رقعتها، وأنها كانت أعظمَ إمبراطورية عرفها التاريخ حتى هذه اللحظة.
ومع ذلك فإنه كان يوجد في «هيلاس» بعض آلاف قليلة من المحاربين، وكانوا — على ما يظهر — معاكسين للملك «دارا» وهؤلاء المحاربون القلة كان مُقَدَّرًا لهم أنْ يصدُّوا القوة الهائلة المتجمعةَ التي كانت تفخر بها هذه الدولةُ الضخمةُ في عدد جنودها والمترامية الأطراف في حدودها، ثم لم يلبثوا أن كوفئوا على شجاعتهم بما لم يكن في الحسبان؛ فقد امتد سلطانُهُم في البر والبحر، وكَوَّنوا إمبراطوريةً عظيمة، كانت في النهاية السببَ في سقوط الفرس، وضياع ملكهم على يد أحد أبناء جلدتهم وهو «الإسكندر الأكبر».