ديانة الميديين والفرس
مقدمة
الأساطير الهندية الإيرانية – «جاما» أو «جامشيد»
توجدُ كذلك أساطيرُ مشتركة في كِلتا البلدين، ويُحتمل أن يكون من أهم هذه الأساطير أُسطورة البطل «جاما» وهو اسمٌ كان يُطلق — في الأصل — على الشمس الغاربة، وكان يعتبر أنه أول من «أرشد الكثيرين إلى الطريق»، وكان أول من وصل إلى «قاعات الموت الفسيحة» وقد تحول — بطبيعة الحال — إلى ملك الموتى، وهنا نلحظ تشابُهًا كبيرًا بينه وبين الإله «أوزير» عند قدماء المصريين، وكان يملك كلبين أسمرَي اللون عريضَي الخطم، ولكل منهما أربعُ عيون، وكانا يخرجان يوميًّا ليقتفيا رائحة الموتى ويسوقونهم إلى حضرة مليكهما، ويمكن أن نتتبع ذكرى هذين الكلبين في بلاد الفرس في العادة الزورواستية المعروفة باسم «ساجديد»؛ أي «رؤية الكلب».
هذا، وقد وصف «الأفستا» أنه يؤتى بكلب أصفر له أربع أعيُن، أو كلب أبيض له أذنان بيضاويتان بجوار كل شخص ميت؛ وذلك لأن نظرته تطرد بعيدًا الشيطان الذي يسعى لدخول الجثة، وهذا يشبه بعض الشيء الإله «أنوبيس» إله الموتى عند قُدماء المصريين؛ فقد كان يعد حارس الموتى وإله التحنيط.
ويُلحظ في أيامنا هذه أن الفرس، الذين يجهلون القدم العظيم لهذه العادة يضعون قطعةً من الخبز على صدر الرجل الذي فارق الحياة، فإذا أكلها الكلبُ فإن الرجل يعتبر ميتًا حقًّا ويُحمل إلى «البراخما» أو «برج التعريض»، وذلك بوساطة أعضاء الهيئة الذين كانوا يعتبرون نجسين أبدًا وحكم عليهم بحياة تعسة.
زورواستر نَبِيُّ «إيران»
كان «زورواستر» هو المؤسس للديانة الفارسية القديمة، وهو الذي تَجَمَّعَ حول اسمه وشخصيته آراءٌ متناقضةٌ جدًّا، فقد أنكر عليه أنه شخصية تاريخية، ومنذ زمن غير بعيد كان من بين النظريات التي قِيلت إنه نتاجُ أُسطورة العاصفة التي توجد في كل مكان، وهنا نجد كذلك كما في حالة الآرية أنه قد حدث تَقَدُّمٌ هائلٌ على نظريات الباحثين الأُوَل الذين يُعْزَى إليهم كل شرف السبق — على أية حال — في هذا الموضوع، ولكن على الرغم من الأسطورة والخرافة اللتين جعلتا صورته مبهمة؛ فإن مصلح «إيران» العظيم ونبيها قد برز الآن من غيوم الماضي السحيق، بوصفه شخصية تاريخية وحقيقة بارزة.
أصل الاسم «زاراتوسترا»
«جوشتاسب» هو أول من اعتنقَ مذهبَه من الملوك
وقد تبع اعتناق «جوشتاسب» وبلاطه ديانةَ «زورواستر» غزو القبائل التورانية القاطنة في أواسط آسيا، وهذا الغزوُ — على ما يظهر — كان المحرض عليه محاربة المعتنقين للدين الجديد، وهذه الحروبُ المُقَدَّسَةُ، كما يمكن أن نعتبرها كانت قد نشبت — بوجه خاص — في «خورسان»، وإذا صَدَّقْنا ما جاء في الأسطورة الخاصة بها؛ فإن الواقعة الفاصلة قد وقعتْ بالقرب من مدينة «سابزاوار» الحالية.
وقد ذُبح «زورواستر» في «بلخ» بعد أن عاش عمرًا طويلًا وكسب شرفًا عظيمًا، وذلك عندما قام التورانيون بغزوتهم الثانية، وتقولُ التقاليدُ إنه مات عند المحراب يُحيط به تلاميذه.
تاريخ ميلاد «زورواستر» ومماته
كان «زورواستر» من أهل «أذربيجان» ومن المحتمل أنه كان ماجوسيًّا، وإن كان ذلك فيه شك.
وهناك كذلك شكٌّ كبيرٌ في العصر الذي عاش فيه، ويعتبر بعض الثقاة أن هذا النبي قد وُلِدَ في عام ١٠٠٠ق.م، في حين أن الرأي التقليدي يقول: إنه وُلِدَ في عام ٦٦٠ق.م، ومات في عام ٥٨٣ق.م، ويعضد الرأيَ الأخيرَ ما قِيل من أن الملك «دارا الأول» كان أولَ ملك متحمس لمذهب «زورواستر»، ولكن نظرًا لهذه الآراء المتباينة عن حياة هذا النبيِّ يُستحسن أن ننتظر براهينَ جديدةً عن هذه المسألة الهامة الصعبة الحل.
الأفستا Avesta
يميلُ الإنسانُ — بطبعه — إلى الآثار القديمة — على ما يظهر — ولذلك فإنه عندما نذكرُ أنَّ مذهب «زورواستر» الذي لا يزالُ يُعَدُّ ديانةً حية؛ قد عاصر ديانات «بعل» و«آشور» و«زيوس»، وهي التي قد أصبحتْ في عالم النسيان منذ عِدَّة قرون مضتْ، فإنه يحق لنا أن نُشاطر عواطفَ العلماء الباحثين، الذين وهبوا حياتهم للبحث والتدقق؛ في تأثُّر هذا المذهب إلى الوراء حتى أبعد موردٍ له في وسط سحب الأساطير والخرافات التي تغمرُهُ، والجزءُ الباقي من كتاب «أفستا» يحتوي على كتابٍ واحدٍ فقط وهو «فنديدات» أو — على الأصح — «فيدفات» أو «القانون ضد الشياطين».
- (أ) قسم «يانسا Yansa» وينقسم بدوره اثنين وسبعين فصلًا، ويحتوي على أناشيدَ، بما في ذلك «جاتاس».
- (ب) اﻟ «فيسبرد Vispered» أو مجموعة تسابيح تُستعمل مع «يانسا».
- (جـ)
اﻟ «فيديداد»، وهو كتاب القانون الكنائسي، الذي يبين العقوبات الدينية، والتطهيرات، والتكفير عن الذنوب.
- (د) اﻟ «ياشتس Yashts» أو الأناشيد التي ترتل على شرف الملائكة الذين يترأسون أيام الشهر المختلفة.
وقد وُجد جزءٌ في «أفيستا» يمثلُهُ كتاب «جاتاس»، وهو الذي قد قرن — بحق — بكتاب المزامير العبري، والمعتقَد أنه يمثل التعاليمَ الفعلية وكلمات «زورواستر» ومَن أتى بعده مِن أتباعه مباشرة، ونجد في هذه التعاليم أنَّ هذا النبيَّ يتمثل لنا في صورة شخصية تاريخية تلقي دروسًا أخلاقية محضة، ولا بد أنها قد نالت احترامًا عميقًا، وبخاصة عندما نذكر مقدارَ عُمْق ما كان حوله من ظلام دامس.
«أورموزد» الإله الأعلى
وبقي علينا أن نذكر هنا الإله «أهورامازدا» الذي كان الإله القَبَلي عند ملوك الأخمينيسيين؛ قد مثل في صورة محارب واقف في صورة قرص شمس مجنح «أو على هيئة طائر بذيل»، كما مثل في صورة لوحة «بهيستون»، وصورة الإله هذه تسمى «فرور»، وهي صورةٌ طبق الأصل للإله الآشوري المسمى «آشور»، وهو بدوره قد اشتق من صورة الشمس المجنحة عند المصريين.
أهريمان روح الشر
مبادئ «زورواستر» الثلاثة
يوجد في كتاب «فنديداد» ثلاثة مبادئ أساسية ترتكز عليها مجموعةٌ ضخمةٌ من الشعائر الكهنوتية والنظام، وهي: (أ) أن الزراعة وتربية الماشية هما المهنتان الوحيدتان الشريفتان، (ب) وأن كل الخليقة في حرب بين الخير والشر، (ﺟ) وأن العناصر الأربعة وهي الهواء والماء والنار والأرض طاهرةٌ، ويجب ألا تدنس، وتفسيرًا للمبدأ الأول ليس هناك أفضل مِن وصف ما يسمى: الحياة المثالية على حسب عقيدة «زورواستر».
فردًّا على سؤال وضعه هذا النبيُّ نعلم أنه حيث «يقيم أحدُ المؤمنين بيتًا بماشية وزوجة وأطفال، وحيث تكون الماشية في ازدياد، والكلب والزوجة والطفل والنار تكون ناجحة … وحيث يزرع أحد المؤمنين كثيرًا من الغلة والكلأ والفاكهة، وحيث يروي أرضًا تكون جافة أو يجفف أرضًا تكون مبللة.»
وهذه التعاليمُ سليمةٌ صحيحةٌ بصورة غريبة، ونجد من الأشياء التي تتضمنها أنها تحرِّم الصوم بسبب: أن كل من لا يأكل فإنه لن يكون لديه قوةٌ يؤدي عملًا جريئًا من أُمُور الدين أو يشتغل بشجاعة … وأنه بالأكل يعيش العالم، ويموت بدون غذاء، ويرجعُ السببُ في أن أتباع «زورواستر» في القرى أصحاب أجسام قوية؛ إلى انعدام كل القيود غير الطبيعية.
هذا، وكان الزواجُ محتمًا كما كان كذلك تعدُّد الزوجات، ويقول «هردوت»: إن الملك كان يمنحُ مكافأة سنوية للفرد الذي يكون له أكبرُ أُسرة، والمبدأ الثاني هو عبارةٌ عن بيان طبيعة العقيدة الزورواستية، وذلك أن «أهورامازدا» قد خلق كل ما هو طيبٌ مثل الثور والكلب والديك، وهي التي كان من واجبات كل مؤمن أن يعزها، أما «أهريمان» فإنه — من جهة أخرى — قد خلق كل المخلوقات المؤذية؛ مثل الحيوانات المفترسة والثعابين وكل الذباب والحشرات، وهي التي كان من الواجب المحتم على كل المؤمنين أن يهلكوها، ومن بين هذه الطبقة الأخيرة النملة التي يستحب قتلها؛ لأنها تأكل حب الفلاح، وكذلك الورل والضفدع، أما مكانة الماشية فلا تحتاج إلى شرح؛ وذلك لأنها قد وُصفت بالقداسة التي لا تزال مرتبطةً بالماشية في الهند.
وتفسير مكانة الكلب في مذهب «زورواستر» كما جاء على لسان «أهورا» شعري بهج إذ يقول: «لقد جعلت الكلب في غير حاجة إلى ملبس أو نعل، وأنه شديد الحراسة، يقِظٌ ذو أسنان حادة، وُلد ليأخذ طعامه من الإنسان ويحرس متاع الإنسان … وأن أي فرد سيستيقظ على نباحه فإنه لا اللص ولا الذئب سيسرق شيئًا من بيته دون أن يحذر، والذئب سيُضرب ويمزق إربًا إربًا … على أنه لا يمكن أن يبقى بيت على الأرض عمله «أهورا» إلا بسبب كلبي هذين وهما كلب الراعي وكلب البيت.»
وقد غالت هذه التعاليم أحيانًا بوضع الكلب على قدم المساواة مع الرجل، ويظهر هذا في العبارة التالية: «قتل كلب أو رجل.» كما نشاهد ذلك أيضًا في الحياة المثالية في تعاليم «زورواستر» التي اقتبسناها فيما سبق؛ حيث ذكر الكلب قبل زوج الرجل وأولاده.
أما المكانة التي مُنحتْ للديك الذي يوقِظُ الخمولَ هي: «الطائر الذي يرفع صوته على الفجر الجبار … وأن من سيهدي كرمًا وتدينًا إلى أحد المؤمنين زوجًا من طيوري هذه، فإنه يكون كمن أهدى بيتًا يحتوي على مائة عمود.» ومن المحتمل أن هذه العبارة قد تُشير إلى أن الدجاج كان نادرًا في بلاد الفرس في ذلك الوقت.
هذا، وكان كلب الماء يُعتبر غاية في القداسة؛ فقد كانت عقوبةُ قتل واحدٍ منها عشر جلدات، وهي أعظم عقوبة على أيِّ جريمة، أما المبدأ الثالثُ فكان مرتبطًا بقداسة النار بوصفها رمزًا، وقد كان على الكاهن أن يغطي فَمَه عندما كان يقومُ بواجبه الدينيِّ عند المذبح، يُضاف إلى ذلك أنه كان يرشد للقواعد الخاصة بعدم تلويث الماء الجاري، وهي لا تزال متبعةً في بلاد فارس على حسب تعاليم الإسلام.
وثانيًا: كان الفردُ المعتنق تعاليم «زورواستر» تعرض جثته على برج لتمنع تدنيس الأرض، يضاف إلى ذلك أنه لَمَّا كانت كُلُّ الأمراض يُنظر إليها بأنها ملك قوى الشر؛ فإن معتنق مذهب «زورواستر» كان غالبًا ما يهملُهُ أفرادُ أُسرته وهو يموت، بل أكثر من ذلك: كان يحرم من ضروريات الحياة، وقد كان من مساوئ هذا الدين المدهش أن معالجة المرضى بالغسل والتطهير ببول البقرات.
التأثيرُ التوازنيُّ على مذهب «زورواستر»
من المستحيل — في نظرةٍ عامةٍ كهذه عن المذهب الزورواستري — أن نهمل مسألة تأثير الشعب التوراتي على الديانة الآرية؛ إذ من الطبعي بل من المحتم على القبيلة التي تغزو بلادًا جديدة وتستولي عليها دون أن تقضي على أهلها جملة أو تطرد سُكَّانها الأصليين أنْ تتأثر إن قليلًا أو كثيرًا بعقائدها الدينية، وأفضلُ مثالٍ لدينا على ذلك تاريخُ قبائل بني إسرائيل، وأبرز مثل نجدُهُ في العقيدة الزورواستية هو الاحترامُ العميقُ الذي كان يُقَدَّمُ للنار؛ وذلك لأن هذا الشعور كان قد زِيدَ فيه بسببِ أن الآريين الذين كانوا يقطنون في البلاد الواقعة غربي «بحر الخزر» قد وجدوها تتفجَّر من خلال الأرض ويُقدِّسها السكانُ المجاورون.
والواقعُ أن بعض مَنْ زاروا «باكو» وشاهدوا هذه الظاهرةَ كانوا في دهشةٍ عظيمةٍ عندما رأوا عند غُرُوب الشمس هذا المكان المُغَطَّى بالثلج، ومع ذلك كان لهيبُ النار يندلعُ مِن جوف الأرض، مما جعل المنظر يتركُ في النفس تأثيرًا سحريًّا عظيمًا يفوق حد الوصف، وهكذا قد أوعزت طبيعةُ الأرض تمامًا إنشاءَ نيرانٍ مقدسة، وقد كان لزامًا على الإنسان أن يشعر بأن هذا العنصر النقي إن هو إلا رمزٌ لخالق العالم، ولا شك أنه بمرور الزمن قد ازداد الاحترامُ لها بدرجةٍ عظيمة حتى إن لقب «عباد النار» قد أصبح يُطلق على أتباع «زورواستر»، وهذه العبادةُ قد بقيت حتى يومنا هذا؛ إذ لا نجد فارسيًّا «بارسي» يطفئ شمعة أو يخمد نار قطعة خشب مشتعلة، يضاف إلى ذلك أن التدخين محرمٌ في هذه البلاد.
الماجي أو الماجوس
يُظنُّ أن الماجوس لم يكونوا من أصل آري، بل يحتمل أنهم من سلالة قبيلة التورانيين (وراء نهر الأكسوس) التي هضمها الآريون الفاتحون.
عقيدة القيامة
كان الاعتقادُ بوجود حياة أُخرى بعد الموت يُثاب فيها الإنسانُ أو يعاقب؛ من العقائد الأساسية في الديانة الآرية، والواقع أن هذا المذهب لم يكن محددًا بوضوح في كتاب «جاتاس» ولكن في كتاب «فنديداد» نجد أن الإبهام الذي في اﻟ «جاتاس» قد انقشع وأصبح أكثر تحديدًا. وهذه العقيدة موضوعةٌ في صورة الوحي العادية؛ ففي جواب عن سؤال خاص بما إذا كان المؤمن والكافر كذلك عليهما أن يتركا المياه التي تجري والقمح الذي ينمو وكل باقي ثروتهم فيقول «أهورا»: إن الأمر كذلك، وإن الروح تدخل الطريق التي عملها «الزمن» فتكون مفتوحةً لكُلٍّ من الشقي والعادل، وكذلك نعلم أن الروح بعد انقضاء ثلاثِ ليالٍ على موت الإنسان تأخُذُ مقعدها بجوار رأس المُتوفَّى الذي كانت قد تركته، وكانت على حسب فضائلها تتمتع بالنعيم أو الشقاء إلى درجة قصوى.
الجنة الإيرانية
تأثير ديانة «زورواستر» على الديانة اليهودية
قد يَطُولُ بنا البحثُ إذا تَعَمَّقْنَا في موضوع تأثير ديانة «زورواستر» على ديانة اليهود، وبالطبع على الديانة المسيحية، ولكن مما يستحق الإشارة إليه أن «أهريمان» في ديانة «زورواستر» يكادُ يكون موحدًا بالشيطان في ديانة اليهود وﺑ «إبليس» في الدين الإسلامي، فنجدُ في كل الديانتين شياطينَ مؤذيةً لا يُمكنُ للإله الأعلى أن يقضي عليهم في الحال كما يُريد بداهة إذا أمكنه، يُضاف إلى ذلك أن صفاء «أهورامازدا» وسموه في علاه كما لقنهما «زورواستر» تَفُوقان فكرةَ «يهوه» الإله القبلي عند اليهود والذي قد مثل صائحًا: «إذا شحذت سيفي البارق، وأمسكت بيدي على القضاء، فإني أُرسل النقمة على أعدائي، وأُجازي مبغضي، وسأُسكر سهامي بالدم، وسيلتهم سيفي لحمًا بدم القتلى والسبايا ومن رءوس قواد العدو» (كتاب التثنية، الإصحاح ٣٢ الأسطر ٤١ و٤٢).
ومن جهة أخرى نجد أن الإله الذي طبيعتُهُ السامية قد وضعت في الفقرات الرفيعة في كتاب «أشعيا» تفوق أعلى تصور جاء على لسان «أهورامازدا».
والآن ننتقل إلى مسألةٍ أَهَمَّ بكثيرٍ من السابقة، وذلك أنه من المحتمل أن نكون قد غَالَيْنَا كثيرًا إذ ادعينا أنَّ عقيدةً أبديةَ الروح قد بشر بها أولًا «زورواستر»، ثم نقلها عنه اليهودُ الذين وضعهم «سرجون الثاني» في مُدُن الميديين، وكانوا قد اختفوا، وعُدُّوا مفقودين بالنسبة لإسرائيل.
ونحن نعلم — على أية حال — أن الأسر الكهنوتية والأرستقراطية من اليهود الذين يمثلون الصدوقيين (الكفار باليوم الآخر)، قد قالوا في بداية العصر المسيحي إنه لا يوجد في الكتب المنزلة ما يثبت الاعتقاد في وجود ملائكة وأرواح أو قيامة، وعلى ذلك فإنه لدينا من جهة الزورواستريين الذين كانت عقيدة أبدية الروح في نظرهم من الأمور الأساسية، ومن جهة أخرى لدينا اليهود الذين انقسموا على أنفسهم بسبب هذه العقيدة الحيوية الهامة، وذلك بعد مضي عدة قرون على موت نبي «إيران» العظيم.
هذا، ويَضيق بنا المقام في هذا المختصر أنْ نُضيف أكثر مما سبق على التأثير الهائل الذي أحدثتْه ديانةُ «زورواستر» على اليهودية سواءٌ أكان ذلك بطريقٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة، وبقي علينا أنْ نُشير إلى أن نغمة الأنبياء اليهود نحو الفرس تلفتُ النظر في تسامُحها، ولنعطِ مثالًا واحدًا من بين كثير فنقرأ في «أشعيا»: «هكذا قال الرب إلى معطرة إلى «كورش» والواقعُ أن الفرس وحدهم من بين السلالات المتسلطة لم يحكم عليهم بدخول النار من جانب أنبياء اليهود، وقد اعترف بهم اليهودُ إلى حَدٍّ ما بأنهم قوم تقرب ديانتهم من الديانة اليهودية.»
وخلاصة القول أننا قد رأينا هؤلاء الإيرانيين في أول أمرهم قد بدوا أجلافًا يعبدون الطبيعة، ثم يظهر بينهم بعد ذلك «زورواستر» في جلاله وعظمته، فحَوَّلَ أساطير قومه إلى رُوح طيبة، وبعث فيهم الشعورَ بوُجُود إله يقرب سموه ورفعته مِن سُمُوِّ عيسى ورفعته، وأنه «زورواستر» الذي نادى بالاعتقاد الآري في خلود الروح، وكانت رسالته التي قوامُها الأمل قد أتت — بلا شك — من الماضي البعيد، مارةً بمسارح الزمن الهامسة، تاركة أثرها في نفوس أهل القرن العشرين الذي نعيش فيه بصفة مباشرة وغير مباشرة.
فعلى حسب تعاليمه نجد الإنسانَ في صراعه الأبدي بين الخير والشر، قد تُرك ليختار لنفسه ما يحلو له، فالأرواحُ الخَيِّرةُ تعاضدُهُ، والأرواح الشريرة تهاجمه، غير أنه يعلم أن الغلبة ستكون للخير على الشر كما يقهر غيثُ السماء القحطَ.
وفي رأيي أنه من الصعب أن يكون في قدرة الإنسان الزيادة في تحسين عقائد هذه الديانة، وهي التي يرددها كل صبي عندما يصبح في سن كافية «لشد حزامه»، ويقول بعد أن يتعلم على يد مَنْ هو أكبر منه سنًّا: «أفكارًا طيبة وكلمات طيبة وأعمالًا طيبة» وتلك هي تعاليمُ هذا الدين القويم.