العادات واللغة والعمارة في بلاد «فارس» القديمة
مقدمة
عادات الفرس
مما لا نزاع فيه أن الحيوية التي يُعبَّر عنها بالشجاعة والعزيمة هي أحسن ذخر تستند عليه الفضائل الإنسانية الأخرى، ولا نِزاع في أن الفرس القدامى قد تعلموا بوجه خاص «امتطاء صهوة الجواد، ونزع القوس والتحلي بقول الصدق»، وكذلك كانوا يتحاشون ذل الدين كما كانوا كرماء لضيوفهم، وقد ضرب لنا «هردوت» مثلًا في كرمهم، وذلك أن إغريقيًّا كان قد حارب حتى غطى جسمه بالجروح دفاعًا عن سفينته، ولما أعجب الفرس بشجاعته ورأوا أن جروحه لم تكن مميتة ضمدوها وعاملوه معاملة الشجاع المغوار، وقد كانوا يعتبرون البيع والشراء في السوق سُبَّة، وحتى اليوم لا نجد فارسيًّا ذا مكانة يتنازل بالدخول في حانوت لشراء حاجياته.
ولكن نجدُ مقابلَ هذه الصفات الحسنة أنَّ الفارس كان ينقصُهُ ضبطُ النفس، سواء أكان ذلك في السراء أم في الضراء، يُضاف إلى ذلك أنه كان محبًّا للزهو والصلف إلى حَدٍّ كبير، كما كان محبًّا للبذخ، وهذه صفات نجدها في كل الأمم ذات الثراء، والفرس كسلالة كانوا — ولا يزالون — مشهورين بحدة البصيرة وسرعة الجواب، والنكات التي تكون أحيانًا في منتهى المكر.
هذا، وكان الفرس معروفين بإسرافهم وبخاصة في الطعام، وقد ذكر لنا «هردوت» أنهم كانوا يأكلون ألوانًا قليلة أصيلة، ولكن كانوا يقدمون ألوانًا كثيرة بمثابة حلوى، غير أن ذلك لم يكن دفعة واحدة، أما ولائمُهُم وفخامتها وبذخها فسنشيرُ إليها عند التحدث عن حياة ملوكهم.
هذا، وقد كان الفُرس مثل الإغريق والسيثيين يعكفون على الكاس والطاس، ويقول «هردوت» إنهم كانوا يستقرُّون على مسافة هامة، وهم سكارى في المساء، وبعد ذلك في الصباح إذا رأوا أنه لا داعي لتغيير رأيهم الذي استقروا عليه فإنهم ينفذونه، وكان الفارسي يعتبر إنجاب ذكور عدة ثروة، وأكبر مثال على ذلك أن «فتح علي شاه» قد ترك بعد مماته ثلاثة آلاف مِن نسله، وقد كان ذلك سببًا في رفع مكانته بدرجة تفوق المألوف بين رعاياه.
القوانين
كان قانون الميديين والفرس الذي لم يتغير — على ما يظن — غايةً في الصرامة، غير أنه لم يكن أحزم من قوانين الإمبراطوريات التي سبقتْها على وجه التأكيد، فكان الملك يفعل ما يريد غير أنه لم يكن في استطاعته أن يغير أمرًا كان قد أصدره، وكانت حياة رعاياه وأملاكهم تحت رحمته، ولكن في الوقت نفسه كان الخوف من القتل هو الذي يخفف من حدة إساءة استعمال الحقوق، وكان القانون الجنائي، وهو الذي جعل الموت — وذلك بحق — عقابًا على القتل وهتك الحرمات والخيانة، وما شابه ذلك من جرائم فظيعة. ويظهر أنه كان يطبق كذلك على الجرائم الأقل قسوة، ولكن من جهة أُخرى نجد أن في معاملة بلد فطري أهله متوحشين لا سجون منظَّمة فيه؛ كان من المستحيل الحكم بالموت أو التشويه في حالة محاكمة اللصوص وغيرهم من أصحاب الأخلاق الفاسدة، وقد كانت العقوباتُ بالإلقاء في النار ودفن الفرد حيًّا وسلخ الجلد والصلب شائعةً في ذلك الوقت كما كانت في «آشور» من قبل.
مركز المرأة
كان تعدُّد الزوجات مباحًا، وكانت الطبقات العُليا يضعون نساءَهم في الخُدُور كما كانت المحفات المستورة تستعمل لحملهن في الأسفار.
هذا، وكانت المرأة لا تظهر في الكتابات ولا في النقوش المصوَّرة، ولكن من جهة أُخرى لم تكن المرأةُ الريفيةُ محجبة، ومن المحتمل كان مركزها أحسنَ حالًا من أخواتها اللاتي كان محرمًا عليهن الظهورُ في المجتمعات أو استقبال آبائهن أو إخوتهن.
ولما كانت هذه هي القاعدة العامة في الشرف؛ فإن نساء الفرس كن يشاطرنهن فيها، غير أن سبب انحطاط الفرس كدولة عظمى يكمن في أنها كانت تصرف طول يومها في الغزل وفي الأعمال المنزلية الأخرى، الفرس كانوا يعتقدون أن المرأة إذا قامت بعمل ما فإنه يُعَدُّ حَطًّا من قدرها، وقد كان مثلهم الأعلى في هذا الصدد أقل بكثير من المثل الأعلى للمرأة الإغريقية، وذلك أن المرأة الإغريقية على الرغم من أنها كانت حبيسة في بيتها فإنها كانت تصرف طوال يومها في الغزل وفي الأعمال المنزلية الأخرى.
الملك وبلاطه
وكانت الحرب والصيد من دأب ملوك الفرس، وما دامتا مستمرتين فإن شباب الملِك كان دائمًا محفوظًا، وكان من عادة الملِك أن يحتل وسط خط القتال، وكان يُنتظر منه أن يُظهر شجاعة وبطولة، أما في الصيد فكان الملك يطارد الحيوان المفترس بمساعدة الكلاب، وكان من عادته أن يتبع في صيده الطرق الآشورية، فكان الحيوان يحفظ في سياج ضخمة تُدعى «بييري-داساه» ومنها اشتقت كلمة الفردوس التي سمي بها الشاعر المشهور، وقد سبقهم في هذا النوع من الصيد قدماء المصريين.
أَمَّا في داخل القصرِ فَكَانَ الملك يسلي نفسه بلعبة الشطرنج، ولقد كان من المفروض أن الملوك الذين تركوا كل شيء لوزرائهم يشعرون بالسأم، كما هي الحال الآن مع طلاب اللهو، ومن ثم نقرأ عن حالات نشاهد فيها أنَّ الملك كان يُسَلِّي نفسه بهواية مثل الحفر أو حتى مسح الخشب بالفارة.
ومن الغريب أنَّ مُلُوك «فارس» على وجهٍ عام، كانوا أُميين على خلاف ملوك «آشور»، ومن المدهش أن هذه العادة لا تزال موجودةً حتى يومنا هذا في بعض كبار الموظفين! وكان يأتي بعد الملك رؤساء الأُسر الذين يُعرفون باسم «الأمراء السبعة»، وكان من حقهم طلب الدخول على الملك في أيِّ لحظة، إلا إذا كان في خدر نسائه، وقد كانوا — في العادة — يشغلون وظائفَ عالية، ويؤلفون مجلسًا مستديمًا، ومِنْ بعدهم تأتي فروعٌ صغيرةٌ، وأتباعٌ من الأُسر الكبيرة.
هذا، وقد كانت جماعة التجار يُنظر إليها بعينٍ مِلْؤُها الاحتقارُ الشديد، ومِن ثم نفهم أنه لم تكن هناك طبقةٌ متوسطةٌ بين الأشراف وعامة الشعب، وكان الفردُ من الرعية إذا سُمح له بالدخول في المجلس ينبطح على الأرض عند الدخول على الحضرة ويداه مختفيتان عن الأنظار، وهذه العادة لا تزال موجودة حتى الآن.
وكانت الملكة سيدة في حريمها، وكان من حقها أن تلبس الإكليل الملكي الذي يجعلها سيدة على زوجات الملك الأخريات، وكان لها دخلٌ عظيمٌ خاصٌّ بها، كما كان لها موظفون وخدم خاصُّون بها، وعندما كانت ملكة ذات خلق عظيم تحتل هذا المنصب فإن نفوذها يكون عظيمًا، أما النساء الثانويات فلم يكن لهن نفوذ يُذكر نسبيًّا، وكانت مئات الحظيات تأتي كل واحدة منهن ليلة إلى فراش الملك اللهم إلا إذا اجتذبت إحداهن قلب الملك بصفة خاصة.
هذه كانت العاداتُ الهامةُ الشائعةُ في أُمَّة الفُرس، ولا نِزَاعَ في أنَّ الطيب منها يربي على السيئ، وعندما نأخذ — بعين الاعتبار — ما لديانتهم من مبادئَ ساميةٍ سليمة؛ فإنه لا يُدهشنا قَطُّ أنَّ هؤلاء القوم الآريين قد أسسوا إمبراطورية عظيمة، وسيطروا على ما فيها مِن أقوامٍ ينتسبون إلى السلالتين السامية والتورانية، وهضموا مدنيتيهما.
لغة الفرس القديمة
يرجع الفضل في حل معميات اللغة الفارسية إلى مجهودات «جروتنفند ولاسن» وبصفة خاصة إلى «سير هنري رولنسن»، وهي اللغةُ التي كان يتحدث بها «كورش»، وإنه لمن المهم — بنوع خاص — أنْ نَعلم أن الكثير من كلماتها مثل الكلمة الدالة على حصان وجمل … إلخ التي استعملها الفرسُ الأقدمون؛ لا تزال باقيةً في الفارسية الحديثة، والواقعُ أن اللغة كانت فارسيةً قديمة، والنظرية القائلة إن الكتابة الفارسية مشتقةٌ من الكتابة الآشورية مقبولةٌ عندما نعلم ما كان للآشوريين من تأثير على بلاد «ميديا» و«فارس».
نقش «دارا» الثلاثي في «بهيستون Behistun»
ترك لنا الملكُ «دارا» نقشًا على صخرة عالية من صخور سلسلة جبال بالقرب من «همدان»، ويرجعُ الفضلُ في التعرُّف على هذا الأثر وحَلِّ رُمُوزه إلى الأثري «رولنسن» الذي عانى كثيرًا في نقله مِن على الصخرةِ التي يبلغ ارتفاعُها حوالي أربعة آلاف قدمٍ، وقد ترجم المتن أخيرًا كل من «كنج» و«طومسون»، وهذه هي أحدثُ ترجمةٍ يُعتمد عليها حتى يومنا هذا.
نُقش هذا الأثر الخالد بثلاث لغات، وهي: الفارسية والعيلامية الجديدة، ثم البابلية، ويقدم لنا ألقاب الملك «دارا» واتساع مملكته، ثم يشير بعد ذلك إلى موت «بارديا» أو «سمرديس» على يد «دارا»، والثورة التي قام بها «سمرديس» الدجال، وهو «جوماتا» الماجوسي في أثناء غياب «قمبيز» في «مصر»، وقد جاء ذِكْرُ موت هذا المدعي على يد «دارا» بشيءٍ من التفصيل، ثم يأتي بعد ذلك الثورات التي قامتْ على «دارا» بالتطويل وينتهي النقش باستحلاف الحُكَّام الفُرس المقبلين أن يحذروا الدجالين كما يستحلف القارئ أن يحفظ النقش من العطب.
وقد صب الملك العظيم اللعنة على كل من يخرب هذا الأثر في الكلمة التالية: يقول «دارا» الملك: إذا نظرت هذه اللوحة وهذه النقوش وكسرتها ولم تحافظ عليها طوال استمرار نسلك؛ فإذن ليت «أهورامازدا» يذبحك، وليت نسلك يُمحى، وكل شيء تعمله ليت «أهورامازدا» يقضي عليه.
وإنه لَمِنَ المستحيل أن نقدر هنا ما لهذا النقش الثلاثي من أهمية؛ إذ لا تقتصر أهميتُهُ على ما له مِن قيمةٍ أثرية وحسب، بل أكثر من ذلك وبخاصة لما يُلقيه من أضواء على الكتابة المسمارية والبابلية والآشورية، وهي التي أصبح حَلُّها ممكنًا بوساطة شرح هذه الوثائق الفارسية.
باسارجادا (مورغاب)
قصور «برسيبوليس»
وهذا التختُ الجبار يبلغُ ارتفاعُهُ حوالي ٤٠ قدمًا عن رقعة الوادي الذي يُطِلُّ عليه، ويبلغُ طولُهُ حوالي ١٥٠٠ قدم، في حين أنَّ تخت «باسارجادا» لا يَزيد طولُهُ على ٣٠٠ قدم، ويبلغ عرضُهُ حوالي ٩٠٠ قدم، وهو في صناعته يُشبه تخت «باسارجادا» ويُشاهَد فوق هذا الطوار أو التخت خارجةٌ مدهشةٌ، أقامها الملك «أكزركزس» الأول ببوابتها الضخمة تكنفها ثيرانٌ مجنحةٌ، يُلمح في صنعتها الفنُّ الآشوريُّ، وقد جاء في النُّقُوش التي نُقشتْ فوقها ما يأتي: «أتى «أكزركزس» الملك العظيم، ملك الملوك، ملك ممالك عدة ذات ألسُن مختلفة، ملك هذا العالم، ابن «دارا» ملك الأخمينيسيين، أن «أكزركزس» الملك العظيم يقول: إنه بفضل «أورموزد» أقمتُ هذه البوابة التي مثل عليها كل الممالك.» ولا تزال بعض أعمدة هذه الخارجة وتماثيلها باقية وإن كان الدهر قد براها.
ولا نزاع أن هذه الخارجة تؤلف المدخل إلى القصر العظيم، الذي كان يُعَدُّ مفخرة «برسيبوليس»، وهو الذي كان قد أقامه «أكزركزس»، ويحتوي على قاعاتٍ عدة، وبخاصة قاعة «أكزركزس» التي كانت تحتوي على اثنين وسبعين عمودًا، لم يَبْقَ منها إلا اثنا عشر عمودًا، وقد عُثِرَ فيها على نُقُوش هامة. وكذلك وجد على هذا الطوار قصر الملك «دارا»، وعلى الرغم من أنه أصغرُ من قصر «أكزركزس» فإنه ذو أهمية، ومن المحتمل أنه كان يحتوي فقط على الحجرات التي كان يسكن فيها الملك.
ولكن يوجد خلف الطوار قاعة مائة العمود، وكانت أكبر المباني في هذه المدينة، ولها خارجةٌ عظيمةٌ في الجهة الشمالية، وكان يحرس هذه الخارجةَ تماثيلُ ضخمةٌ وبابان يؤديان إلى داخل القاعة، والنقوش التي على العرش غايةٌ في الجمال، وهي تمثل الملك العظيم على عرشه يحمله صفوفٌ مِن رعاياه، في حين يرفرف فوقه الإله، ومن المحتمل أن ما جَعل لقاعة مشورة «دارا» الفخمة هذه أهمية أكثر مِن أيِّ مبنًى غيرها؛ هو أنها كانت نفس القاعة التي كان يولم فيها «الإسكندرُ» ولائمَه عندما دخل «فارس» فاتحًا.
المقابر المنحوتة في الصخر
لقد أظهرتْ قصور مدينة «برسيبوليس» ما كان للملك العظيم من عظمة وقوة، ولكن المقابر الصخرية التي تقع في غربها، وهي التي نقلت عن طراز المقابر المصرية؛ لها جلالٌ أكثرُ روعة ورهبة، والواقعُ أنه لا نزال نُشاهد أربع مقابر منحوتة في واجهة جبل عمودي، لكلٍّ منها بابها المصنوعُ من الحجر على الطراز المصري؛ إذ يمثل واجهة قصر له أربعة عمد، يقع بينها المدخل وفوق هذا المدخل يشاهد عرشٌ يتألفُ من طبقتين كل منهما محمولٌ بسور من الأعمدة من طراز عمد قاعة المائة عمود، ويُشاهَد الملك قابضًا على قوس بيده اليسرى في حين أنَّ يده اليمنى مرفوعة تضرعًا للإله «أهوراماذدا» الذي يرفرف فوقه، ومن بين هذه المقابر مقبرة الملك «دارا» الأول وتبلغ مساحتها ٦٠ × ٢٠ قدمًا، وكانت قد بُنيت لتسع ثماني جثث.
الآجر المشغول بالميناء
عُثر في مقبرة الملك «أرتكزركزس» (منمون) في «سوس» على إفريزين فخمين وهما إفريز الرماة، وهو يؤلف أجمل مثال من الميناء ذات الألوان المختلفة المشغولة على الآجر وارتفاعه حوالي ٥ أقدام، وهو يمثل موكبًا من المحاربين نقشوا نقشًّا بارزًا بالحجم الطبعي، وهؤلاء المحاربون من كل لون، وتدل حرابهم ذات العقد الذهبية على أنهم «الخالدون»، وهم الذين يمثلون في نظر العالم المتمدين فخار وأبهة وقوة الملك العظيم، والثاني هو إفريز الأسود، وهو كذلك ذو ألوان مختلفة، وقد مثلت الأسود وهي تخطو إلى الأمام فاغرة أفواهها.
الصياغ الأخمينيسيون
صناعة البرنز
هذا، وقد عُثر في بلدة «خينامان» الواقعة غربي «كرمان» على عدة آلات من البرنز، منها بلطةٌ رسم عليها صور دب ونمر ووعل.
والخلاصةُ من كل ما سبق في هذا الفصل هي أن بلاد «فارس» قد قلدت بحرية من حيث فنونها ومبانيها الممالكَ العظيمة التي احتكت بها، وبخاصة أخذت عن «بابل» و«آشور» و«مصر» و«هيلاس»، غير أنها لم تقلد هذه البلاد تقليدًا أعمى، ويُلحظ ذلك حتى في تقليدها التماثيل الضخمة التي أخذتها عن «آشور» فإنها لم تأخذ إلا مكانًا ثانويًّا في القصور البديعة التي أقامها ملوك الأخمينيسيين، وهي التي نُشاهد فيها الروعةَ والجلال عندما تكون مزدحمةً برجال الجيش والقصر، ولا بد أنها كانت تؤثر في نفس أعظم ناقد من المواطنين الآثنيين، وذلك على الرغم من أن الغرض من إقامتها هو تفخيمُ الملك العظيم وإظهار عظمته.