«فارس» و«هيلاس» في عهد الملك «دارا الأول»
مما لا نِزَاعَ فيه أنَّ غزو الفُرس لبلاد «هيلاس» بآلافٍ مؤلفةٍ من جُنُودهم ثم صَد الإغريق لهم يُعَدُّ حادثًا لا يُضارع في تاريخ العالم من حيث الأهمية والعظمة؛ إذ إن هذا الحادث يُعتبر أولَ محاولة قام بها الشرقُ المنظم لفتح الغرب الذي كان أَقَلَّ منه نظامًا، على أنَّ الدولةَ الفارسيةَ لم تَقُمْ في المرحلة الأخيرة من مراحل حياتها بغزو «هيلاس» وحسب، بل قامتْ «قرطاجنة» بنفوذ الفرس وتحريضًا منها بهجوم مميت على مستعمرات الإغريق في «صقلية»، ولكن كان مِن حُسْن حَظِّ الإنسانية أنَّ كلًّا من الغزوتين باءت بالفشل الذريع.
الرعايا الإغريق في بلاد الفرس
كان مِن جراء فتح الفرس للبلاد والجزر الإغريقية في «آسيا الصغرى» ثم ضمها ﻟ «تراقيا» و«مقدونيا»؛ أن أصبح سلطانُ الفُرس يشمل — على الأقل — ثلث السلالة الإغريقية، وهؤلاء الإغريق كانوا يؤلفون قوةً هائلة جبارة بما أُوتُوه مِن مران وسلاح حربيين، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يملكون أُسطولًا بحريًّا يُعادل أُسطول «فنيقيا» التي كسروا شوكة احتكارها للتجارة.
وفي الوقت نفسه نجد أن حب الإغريق المتناهي للحرية، وما اتصفوا به من صفاتٍ أُخرى منحتهم قوةً عظيمة وجعلت من الصعب السيطرة عليهم، ومما لا شك فيه أنه لم يكن هناك ملك من ملوك الفرس الأُول قد فهم مزايا هذا الشعب أو الطرق التي يجب أن يُعامل بمقتضاها لاختلافه اختلافًا تامًّا عن أيِّ شعبٍ آخرَ من الذين أخضعتهم «إيران» لسلطانها، وفضلًا عن ذلك نجد أن الإغريق كانوا يقطنون في أقاصي حدود الإمبراطورية الفارسية، ومِن ثم فإنه يحتمل أنهم لم يلفت الفرس أنظارهم إليهم إلا بعد فوات الوقت، وحتى شعروا بقوتهم ومزاياهم.
العلاقات بين «هيلاس» و«آسيا الصغرى»
كانت علاقات الفُرس من كل نوع مع «هيلاس»، وبخاصة فيما يخص التجارة والسياحة والزواج لم تتأثرْ بحلول شطربة الفرس اللين العريكة محل ملك ليدي يقطن في «سرديس»؛ إذ الواقعُ أنَّ اللاجئين من «آسيا الصغرى» كانوا لا يزالون يجدون مساعدة من «هيلاس» كما كانت الحالُ في عهد الملك «كروسوس» ملك «ليديا»، وقد لجأ حُكَّام إغريق معزولون إلى إخوانهم في «آسيا الصغرى» أو إلى الشطربة الفارسي، وقد أصبحت هذه الحالة التي كشفت عنها رسالة «أسبرتا» للملك «كورش» لا يمكن تَحَمُّلُها في نظر إمبراطورية عالمية كإمبراطورية الفُرس حتى انتهت بالثورة التي قامت في «أيونيا»، وفي الوقت نفسه كانت الاستغاثاتُ المستمرة من جانب «هيلاس» بطبيعة الحال مغريةً لشطربة طموح لنيل شُهرة عظيمة لا بتوسيع نفوذه وحسب، بل بتوسيع ممتلكات الملك العظيم، والظاهرُ أنَّ شطربة «سرديس» قد فكر في مثل هذا التوسُّع، ومن المحتمل أن «دارا» نفسه هو الذي فكر في هذا منذ بضع سنين.
الموقف في بلاد الإغريق قبل الغزوِ الفارسي
وبعد سُقُوط الملكية المطلقة أصبح «كليستنيس» الحاكم المطلق المنتسب إلى أسرة «الكماينيد» الشريفة، دستور «أثينا» على أسس ديموقراطية، وقد أثار ذلك حنق وعداوة الحزب الأرستقراطي الذي استعان «بأسبرتا» بوصفها المملكة صاحبة القيادة في «هيلاس»، وقد أجابتْ «أسبرتا» بغزو «أثينا» مما اضطر «كليستينيس» إلى التسليم للقوة، وعلى أثر ذلك ثارتْ ثائرةُ الأثينيين وقاموا على الأسبرتيين المعسكِرين في «أثينا» فسلموا لحلفائهم الأثينيين وغادروا «أتيكا»، غير أنهم لم يلبثوا أنْ عادوا بقوة أكبر عددًا مِن حُلفائهم البلوبونيزيين، ولما يئست «أثينا» من موقفها أرسلت سفراء إلى شطربة «سرديس» الذي طلب إليهم التراب والماء اعترافًا بسيادة الفرس.
ثورة جزر الأيونيان: ٤٩٩–٤٩٤ق.م
وعلى أية حال فإن هذه الخرافة وردت على هذه الصورة، والواقع أن هذه الثورة لم تقم على أساسٍ صحيحٍ من الوجهة الحربية؛ وذلك لأن الفرس كانوا يعملون على حسب خُطُوط داخلية، ويمكنهم أن يهاجموا على انفرادٍ أية مدينة أو مجموعة مُدُن أرادوا مهاجمتها، تاركين المدن الأخرى تنتظر عقابها بدورها، وفي الوقت نفسه كان الثوارُ قد أحرزوا بعضَ الانتصارات، وبخاصة في «كاريا» حيث هزم جيش «فارس» هزيمة منكرة.
موقعة «لاد» وسقوط «ميليتوس» ٤٩٤ق.م
حملة «مردونيوس» في «تراقيا»
بعد أن انتصر «دارا» على الإغريقِ في «أيونيا» صَمَّمَ على غَزْوِ كُلٍّ من «ترقيا» و«مقدونيا» وعلى معاقبة كُلٍّ مِن «أثينا» و«إريتريا» ظاهرًا، وقد كان مفتوحًا أمام الفُرس طريقان أقصرُهُما يقع عبر البحر الإيجي الذي كان مملوءًا بالجُزُر على طول الطريق إلى «أثينا» ويبعد حوالي مائتي ميل عن شواطئ «آسيا الصغرى»، وقد كانت بلا نزاعٍ أسهل الطريقين، ولا شك أن خطر نقل قوة ضخمة من الرجال والخيل والعتاد والمؤن؛ كان عظيمًا جدًّا بوساطة أساطيل «هيلاس» التي لم تُهزم، وكانت الطريقُ البرية من جهة أُخرى معروفة من قبل.
الحملة التأديبية على «أثينا» و«إريتريا» ٤٩٠ق.م
وعندما وصل الأُسطول اليابسةَ تَحَرَّكَ إلى الخليج الذي يفصل «أيوبوا» عن «أتيكا»، ثم نزلتْ قوةٌ إلى الأرض وحاصرت «إريتريا» وحرقتها وقد فَرَّ الكثيرُ مِن أهلها إلى الجبال، أما من أُسروا فأرسلوا إلى «عيلام»، والظاهر أن «أثينا» لم تمد يد المساعدة لتلك المدينة التي شربت كأس غضب الفرس حتى الثمالة.
موقعة «ماراتون» ٤٩٠ق.م
ويُلحظ أن قُوَّاد الحملة بدلًا مِن جعل «أثينا» غرضهم الأول فإنهم ضيعوا وقتًا ثمينًا في تحويل كُلِّ قوتهم إلى عملية ثانوية كان من جرائها أن أهاجت عدوهم الرئيسي وجعلوه يتحد عليهم، وذلك أن «هبياس» الذي كان في هذه الآونة قد انضم إلى جيش الفُرس الجرار؛ نصح الغزاة أن يسيروا حول جون «ماراتون» الذي يقع على مسافة تقرُبُ من ٢٤ ميلًا من الشمال الشرقي من «أثينا»، وقد كان الاقتراحُ سليمًا؛ وذلك لأنها كانت مرسًى حسنة للأسطول، كما كانت على مقربة من «الأكروبول» حيث كان يأمل «هبياس» أن يكون لأتباعه اليد العُليا، وهذا الموقعُ كان — فضلًا عن ذلك — يمتازُ بأنَّ أرضه كانت غيرَ صالحة للخيالة، غير أنه في هذه اللحظة الحرجة لم تَقُمْ أيَّةُ ثورة في صالح «هيباس»، وقد كان مِن جَرَّاءِ ذلك أن قوة قوامها ما بين تسعة وعشرة آلاف رجل كان يُعَزِّزُها قبل الموقعة فرقةٌ من جنود «بلاتا»؛ أصبح في مقدورها أن تتجمع في صعيد واحد دون مقاومة.
وقد سار الجيشُ الأثينيُّ لمُقَابَلَة الغُزَاة، وانتصر عليهم انتصارًا رائعًا — كما تحدثنا عن ذلك في غير هذا المكان. (راجع: مصر القديمة الجزء ١٢.)
ومن المحتمل أنه ليس لموقعةٍ حربيةٍ في تاريخ العالم الأهمية الخلقية كموقعة «ماراتون»، حتى ولو كانت هناك مبالغاتٌ في الروايات التي وصلتْ إلينا عنها؛ وذلك أنه حتى هذه اللحظة كانت قوة الفرس تعتبر أنها لا تُقهر، وقد كان الجنود الإغريق دائمًا في آخر الأمر تلحق بهم الهزيمة.
الثورة في «مصر» ٤٨٦ق.م
ومن المحتمل أنه كان أول نتائج هزيمة «ماراتون» قيام ثورة في «مصر» — كما فَصَّلْنا القول في ذلك في غير هذا المكان.
موت «دارا» ٤٨٥ق.م
وقد كان «دارا» الذي عاش عظيمًا حتى النهاية يجهز للقيام بضربة قاصمة تقضي على «هيلاس»، وفي الوقت نفسه يُخمد نار الثورة في «مصر»، وإذا كان قد امتدَّ به الأجلُ مدة خمس سنوات أكثر لَكان وبالًا على الإغريق، ولكن المَنِيَّةَ عاجلتْ هذا الملك العظيم في السنة السادسة والثلاثين مِن حُكْمه، ولقد كان مِن حُسْن حَظِّ «فارس» أن أنعم الله عليها بملكين عظيمين في جيلين متتاليين، فقد كان «كورش» العظيم هو الفاتح والمؤسس للإمبراطورية الفارسية، وقد استحق «دارا» كذلك لقب «العظيم» وذلك أنه فضلًا عن أنه كان منتصرًا على كل أعدائه، فإنه أظهر عبقرية عظيمة في تنظيم إمبراطوريته، وقد كانت أخلاقُهُ الشخصيةُ سامية، فقد كان ذكيًّا إلى حد بعيد كما كان عاقلًا، ولا أَدَلَّ على ذلك مِن أنَّ ألد أعدائه الإغريق قد كتبوا عنه بكل احترام، في حين أن أشراف الفُرس الذين حد من طغيانهم وأوقفهم عند حدهم لَقَّبُوهُ: «بائع الخردة».
غير أنَّ هذا النعتَ كان مديحًا عظيمًا له، والواقعُ أنه لولا عبقريتُهُ في التنظيم مضافًا إلى ذلك قدرتُهُ البارزة في الحرب؛ لَمَا عاشت الإمبراطوريةُ الفارسيةُ تلك المدة الطويلة من جيل إلى جيل حتى هزم «الإسكندر الأكبر» «دارا» المخبول الذي كان وقتئذٍ يحتل عرش أجداده العظماء، ولا نزاع في أن عدد الملوك العظماء الذين حَكَمُوا الفُرس لم يكن قليلًا، غير أننا لو حَكمْنا على حسب مقتضياتِ الأحوال التي وُجد فيها «دارا» فإنه يُعَدُّ من بين أعظمِ ملوكها قدرًا ومكانة.