تولي «أرتكزركزس» الأول ملك «فارس» (٤٦٥ق.م)
لقد جاء في رواية يحتمل صدقها أن «أرتابانوس» كان يُشاركُهُ في جريمة قتل «أكزركزس»
رئيس الخصيان، الذي يُقال عنه إنه بعد قتل سيده حرض الأمير الصغير «أرتاخوها يارشا»
(أرتكزركزس الذي كان لا يزال طفلًا) يتهم أخاه الأكبر «دارا» بقتل والده ثم انتزع منه
أمرًا بقتل الأخير، وقد نفذ ذلك في الحال.
تلك هي الأحوالُ المنحوسة التي تولى فيها «أرتكزركزس» الأول عرش «فارس»، وقد نُعت
في
التاريخ بعبارة «طويل اليد» (ويحتمل أن ذلك كان لحالة طبيعية؛ أي أن يده كانت طويلة)،
وقد ظل «أرتابانوس» مدة سبعة عشر شهرًا الملك الحقيقي لدرجة أنَّ اسمه قد ظهر في بعض
التأريخ، ولكن نصره لم يدم طويلًا، وذلك أنه لم يكتف بقتل سيده وابن سيده، بل أراد أن
يأتي على حياة الملك الصغير، ولكنه في هذه المرة — على أية حال — قضى على نفسه هو، وقد
كان المنتقم يُدعَى «باجاتوخاشا» (= مجابيزوس Megabyzus)، الذي كان مقدرًا له أن يمثل الدور الرئيسي في حياة
«أرتكزركزس» الطويلة.
ثورة هيستاسبس ٤٦٢ق.م
لم تكن بلادُ الفُرس في حالة تفكُّك على الرغم من هذه الاضطرابات المحلية، وعندما
قام
«هيستاسبس» أحد إخوة الملك الكبار بثورة في بلاد «بكتريا» النائية؛ فإن الجيش الملكي
هاجمه، وكان على رأسه «أرتكزركزس» نفسه وهزمه في واقعتين حوالي ٤٦٢ق.م، وقد نتج عن
هاتين الهزيمتين أن قُضي على قضيته؛ لأنه لم يُسمع عنه أي شيء بعد ذلك.
الثورة في «مصر» ٤٦٠–٤٥٤ق.م
بعد انتهاء الثورة الأولى التي قامت في عهد الفُرس لم يحرم الأمراء المحليون من
سلطانهم، وعلى ذلك فإنه لما قامت بلاد «لوبيا» بثورة بقيادة «أناروس Inaros» بن «بسامتيكوس Psammetichus» كان في استطاعته أن يجمع جيشًا قويًّا كما أعلنت الدلتا
انحيازَها له، ولكن وادي النيل الذي كانتْ فيه الحاميةُ الفارسيةُ تقبضُ على المواقع
الهامة لم يقم بفتنة، وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أنه كان في إمكان «أخمينيس» ولي العهد
أن يسحق الثورة لولا أن الأثينيين أتوا لنجدة المصريين، وكانت «أثينا» في هذا العهد في
قمة مجدها وعظمتها، ولدينا وثيقةٌ شهيرةٌ لا تزال باقيةً في صور أثر يوناني أقيم
لمواطني قبيلةٍ من المدينة يحمل ١٦٨ اسمًا من أسماء الأبطال الأثينيين الذين سقطوا كلهم
في ميدان الشرف عام ٤٥٩ق.م (وهو العام الذي أبحر فيه الأسطولُ إلى مصر) في «قبرص»
و«مصر» و«فنيقيا» و«هاليس» (الواقعة في شبه جزيرة «أرجيف Argive»)، و«آجينا Aegina»
و«مجارا Megara»، يضاف إلى ذلك موقعةٌ بحريةٌ
أُخرى وقعت في نفس السنة، وتدعى «ككريفالا Kekryphalea»، والواقع أن مثل هذا السجل ليس له مثيلٌ إلا القليل في تواريخ
أية دولة.
فقد أُرسل أسطولٌ مؤلفٌ من مائتي سفينة إلى «مصر» يحمل قوةً جبارةً للحرب برًّا
وبحرًا، وقد قابلت قوة الحلفاء الجيش الفارسي عند مدينة «بابريميس Papr» الواقعةُ في الدلتا، وقد أسفرت الحربُ عن قتل «أخمينيس»
وإبادة جيشه، وفي هذه الآونة تَقَابَلَ جزءٌ من الأُسطول الأثيني صدفةً مع الأُسطول
الفنيقي، وأسفرت الموقعةُ عن خسارة الأخير خمسين سفينة، غرق بعضها واستُولي على بعضها
الآخر، وعلى ذلك فإن الآثينيين الذين فرحوا بهذا النصر هاجموا «منف» واستولوا عليها
بسرعة، غير أن المصريين كانوا لا يزالون مرابطين في قلعتها المعروفة باسم «الجدار
الأبيض» وقاوموا المهاجمين من الفرس الذين اضطروا — في آخر الأمر — إلى نصب حصار منظم
عليها.
وفي العام التالي؛ أي ٤٥٦ق.م ظهر أسطولٌ فارسيٌّ يبلغُ عددُهُ ٣٠٠٠٠٠ مقاتل يعاضدُهُ
أسطولٌ فنيقيٌّ مؤلفٌ من ثلاثمائة سفينة في ميدان القتال بقيادة «مجابيزوس»، وفي تلك
الأثناء رفع الحلفاءُ حصارَ «الجدار الأبيض» وقابلوا العدوَّ في العراء، فهزم الجيش
المصري وجرح في خلال ذلك «أناروس» وقبض عليه، وعندئذٍ تقهقرت القوةُ الإغريقية إلى
الجزيرة المجاورة لبلدة «بروسوبيس Prosopis» وقاومت كل
الهجمات لمدة عام ونصف عام بعد بداية عام ٤٥٥ق.م.
وفي تلك الأثناء كان الجيشُ الفارسيُّ يحاولُ تحويل فرع من فروع النيل عن مجراه،
وفي
يوم من الأيام سار الأُسطولُ بهذه الخدعة على اليابسة، فحرق بأيدي الإغريق اليائسين،
وقد مات معظمُهُم في القتال الذي نشب بعد ذلك، أما ما بقي منهم وعددُهُم حوالي ستة آلاف
مقاتل؛ فقد سلموا بشروط مشرفة وأخذوا إلى «سوسا» انتظارًا لتصديق الملك العظيم على
الاتفاقية التي أُبرمت بشروط التسليم، أما الفنيقيون فإنهم قد انتقموا لأنفسهم لِمَا
أصابهم من هزائمَ من قبل، وذلك بإغراق نصف نجدة من السفن الإغريقية تحتوي على خمسين
وحدة كانت قد دخلت في مَصَبِّ أحد فروع النيل، وقد كان مِن جراء هزيمة الإغريق أن
انتهى العصيانُ، غير أن حرب العصابات قد استمرت بنجاح بجماعة من المواطنين احتمَوا في
مناقع الدلتا، وهناك أعلنوا أحد رجال أسرة «أماسيس» ويُدعَى «أميرتايوس Amyrtaeus» ملكًا على «مصر»، وإذا نظرنا إلى هذه
الحملة من الوجهة الحربية فإنها تُبين لنا أنه حتى الأعداد الكبيرة من الجُنُود الإغريق
كان لا يُمكنُها — حتمًا — أن تقهر الجيوش الفارسية، ومِن ثم فإنه من المحتمل لو كان
«أرتكزركزس» رجلًا على خُلُق عظيم لأصبحت المستعمراتُ الإغريقيةُ التي في «آسيا الصغرى»
رعايا للفرس، وكان من الممكن تهديدُ استقلال «هيلاس» بصورة جدية.
صلح «جالياس» حوالي ٤٤٩ق.م
لقد كان مِن نتائجِ الضربة العنيفة التي كالها الفرسُ للإغريق في «مصر» أنْ جاء على
أعقابها، سعيُ الفُرسِ لاسترداد جزيرة «قبرص»، وقد هَبَّ الأثينيون للدفاع عن هذه
الجزيرة فأرسلت «أسبرتا» «كيمون» القائد الأعلى للحلف الهيلاني على رأس أُسطولٍ قوامُهُ
مائتي سفينة لغزو «قبرص»؛ غير أن هذا القائد القديرَ قد مات قبل أن ينال أي نجاح حاسم،
وقد اضطرَّ الأُسطول بسبب قلة المؤن أن يتخلى عن حصار «كيتون Kition» في «قبرص»، ولكن عندما كان مارًّا ﺑ «سلامس» في نفس الجزيرة
تَقَابَلَ مع أُسطول فنيقي قوامُهُ ثلاثمائة سفينة كانت تُنزل جنودًا إلى البر.
وفي هذه المرة — كما حدث في مرتين سابقتين — هزم الإغريق هذا الأُسطول الفنيقي،
وفضلًا عن ذلك نالوا نصرًا على القوات البرية هناك، وقد أفاد الأثينيون من هذا النصر
العظيم لعملِ صلحٍ مع الملك العظيم، وقد ذهب «جالياس» وهو سياسي عظيم إلى «سوسا» وأمضى
معه الملك العظيم اتفاقًا اعترف فيه باستقلال كل البلاد الإغريقية التي يتألف منها
أعضاءُ حلف «ديلوس»، وفي الوقت نفسه اتفق ألا تدخل سفنٌ حربيةٌ المياهَ الهيلانية
باستثناء السفن التجارية وحسب، وقد تعهد الإغريق — من جانبهم — أن يَتَنَحَّوْا عن كل
أفكار تَرْمِي إلى تحرير ما تَبَقَّى من نِير الحكم الفارسي، وقد كان أشد شيء على
نفوسهم سلموا فيه هو نزولُهُم عن جزيرة «قبرص».
ويقول المؤرخ «هولم» (راجع: Holm. II, p. 167): إنه
لم تكن هناك معاهدةٌ في هذا الموضوع، ويظهر فعلًا أنه لم تكن هناك معاهدة رسمية، (ولكن
يظهر أن الملك العظيم قد ختم أمرًا يحتوي على هذه الشروط وبذلك حفظ سمعته)، وقد أظهر
الإغريقُ حزمًا زائدًا بالتصديق على هذه المعاهدة، وذلك أنهم كانوا يعرضون أنفسهم لأكبر
خطر بتبديدِ شمل سكان «أتيكا» القليلة السكان، وهي التي كان يتطلب منها جنودًا باستمرار
للمحافظة على قوة «أثينا» في داخل البلاد، يضاف إلى ذلك أن «قبرص» كانت بعيدة جدًّا عن
«أتيكا» وقريبة جدًّا من «فنيقيا» إذا أريد استمرار الحرب في الأخيرة، ولذلك لم يجدوا
لبقائها في أيديهم نفعًا كبيرًا، ويرجع الفضلُ في ذلك إلى هذا الصلح، فقد أصبحتْ به
«أثينا» لا تخشى أيَّ هُجُوم من الفُرس إلى أن ذهب الخوفُ من هذه الإمبراطورية العاتية
نهائيًّا بزوالها.
ثورة «مجابيزوس»
إن المطلع على مجال حياة «مجابيزوس» يُحس منه أنه يلقي ضوءًا عظيمًا على حالة بلاد
الفرس في عهد ملك من أضعف ملوكها، فهو الذي منح شروطًا شريفة للبقية الباقية من جنود
الإغريق في «مصر» عندما وضعوا سلاحَهم، كما وعد بإنقاذ حياة «أناروس» ملك «مصر»
المهزوم، وقد كان لا بد من محاسبة الملكة «أمستريس» على أيَّةِ حال، وبعد خمسة أعوام
قضيت في نضال وإلحاح من جانبها قُضي على «أناروس» بوضعه على خازوق وانتقامًا لقتل
«أخمينيس». هذا بالإضافة إلى قطع رقاب حوالي خمسين إغريقيًا؛ إرضاء لشهوة هذه المرأة
الآثمة الحقودة، وقد كان ذلك عملًا عدائيًّا في عيني «مجابيزوس» مما دعاه للقيام بثورة
هزم في خلالها جيشين على التوالي كانا قد أُرسلا لمحاربته وإخماد الثورة التي قام بها،
وبعد ذلك عفا عنه الملك وعاد إلى البلاط الفارسي.
وقد دعاهُ الملكُ للاشتراك في طراد أسود فجاء في أثناء ذلك بين الملك وفريسته، ومن
أجل هذا الجرم العظيم حُكم عليه بالموت، غير أن حكم الإعدام قد عُدل إلى حكم بالنفي إلى
شواطئ الخليج الفارسي، وبعد أن أمضى خمسة أعوام في هذا الجزء القحل من الإمبراطورية
ادعى أنه مريض بالبرص، ومن ثم عاد إلى «فارس» فلم يعمل أحد على منعه من ذلك، وأخيرًا
عفا عنه الملك العظيم وعاش إلى عمر أخضر شائخ بوصفه ناصحه الأمين.
عصر اضطرابات ٤٢٥ق.م
عاش «أرتكزركزس» — على الرغم من ضعفه الخلقي، وعدم كفايته، وتأثير أمه السيئ عليه
—
يحكم البلاد عدة سنين دون أن يحدث أي تصدع خطير يهدد السلام في بلاده، حقًّا كان
الأثينيون في تلك الفترة في حرب على «أسبرتا» للمحافظة على كيانهم كحكومة مستقلة، وقد
عاقهم ذلك عن السعيِ إلى القيام بأية مُخاطرة خارج حدود بلادهم، ولَمَّا مات
«أرتكزركزس» عام ٤٢٥ق.م خلفه ابنه «أكزركزس الثاني» الذي لم يلبث أن قُتل وهو ثمل بيد
أخيه «سوغديانوس Soghdianos» وهذا الأمير الأخير انقض
عليه «أوكوس» — أحد أبناء «أرتكزركزس» — زوج «باريساتيس Parysatis» ابنة «أرتكزركزس»، وقد تجمع حول لوائه أشرافُ الفُرس في
حين أن «سوغديانوس» الذي عرض عليه أن يشترك معه في حُكم البلاد قد قُبض عليه خيانة،
وحكم عليه بالموت على الطريقة الفارسية، وذلك بالإلقاء به في النار.