تولي «أرتكزركزس» منمون عرش الملك (٤٠٤ق.م)
وقد تَوَلَّى الملك «أساسبس» على الرغم مما كان للملكة «بايساتيس» من نفوذ، وتسمى
باسم «أرتكزركزس الثاني»، وكنى «منمون» أي المفكر؟ وقد توج في «باسارجادا»،
١ ويُقال إن «كورش» قد صَمَّمَ على قَتْل أخيه عند المذبح المقدس أثناء
الاحتفال، وقد حذر «تيسافرنس» الملك قَتْل أخيه عند المذبح المقدس أثناء الاحتفال، وقد
حذر «تيسافرنس» الملك غضبًا شديدًا وأمر بقتله في الحال، ولكن الملكة الوالدة حَمَتْه
بذراعيها، وحصلت في النهاية على العفو عنه، وقد سمح «أرتكزركزس» الغبي كرمًا منه لأخيه
الذي أعماه الطمع أن يعود إلى «آسيا الصغرى»، وكما كان المنتظر، لم يلبث أن أَعَدَّ
نفسه للحرب طلبًا للعرش، وكان قائدُهُ الإغريقيُّ الذي يُدعَى «كليركوس
Clearchus» وهو أسبرتي صاحب أخلاق وتجارب، وفي سرعة
خاطفة جَنَّدَ جيشًا جَبَّارًا من الإغريق المرتزقين، هذا إلى أنَّ «كورش» طلب إلى
«أسبرتا» المساعدة، وعلى الرغم مِن أنها لم تُسَاعِدْه مساعدة ملموسة ظاهرة فإنها
أرسلتْ إليه سبعمائة مقاتل ليكونوا تحت إمرته، وقد بلغ جيش «كورش» في نهاية الأمر ثلاثة
عشر ألف مقاتل من الإغريق، ومائة ألف من الآسيويين، وفي عام ٤٠١ق.م زحف ذلك المُخاطر
العظيم بجيشه من معسكره ليحارب من أجل السيادة على «آسيا».
زحف «كورش» على «بابل»
وعندما ترك «كورش» بلده «سرديس» لم يُطْلع أحدًا على الهدف الذي كان يَرْمِي الوصولَ
إليه إلا رؤساء مستشاريه؛ فقد أخبرهم أن الغرض من حملته كان إخضاع «بيزيديان Pesidian» فاقتحم بلاد «فريجيا» و«ميزيا Mysia»، وقد قابل في طريقه «أبياكزا Epyaxa» زوج «سنيسيس Syennesis»
ملك «سيليسيا» فأعطتْه مبالغ كبيرة من المال، ثم سار بعد ذلك في نصف دائرة قاصدًا
البوابات السليسية التي كانت غايةً في الوعورة، ولا يمكنُ اقتحامُها على حسب ما ذكره
«اكزنوفون»، إذا أراد إنسان تصدي عبورها، (راجع: Anabasis Translation
by Wheeler I, 2, 21)، وعندما وصل إليها وَجَدَ أنَّ قِمَمها قد
احتُلت، غير أن الملكة «سنيسيس» ذكرتْ أنَّ جُنُود «منون» قائد «كورش» في «تساليا»،
كانوا قد نزلوا في «سبليسيا» فعلًا؛ وذلك لأجل أن يسحب قوتَه أثناء الليل، وعلى ذلك وصل
جيش «كورش» إلى «طرسوس» دون أن يقوم بأي قتال، وفي هذه الآونة لاقى «كورش» مصاعبَ جمة
من جُنُوده الإغريق.
وقد وصف لنا المؤرخ «اكزنوفون» الذي كان مقدرًا له أن يلعب دورًا هامًّا في هذه
الحملة الشهيرة كيف أنهم في بادئ الأمر عصوا الزحف، وقذفوا «كليركوس» بالحجارة، غير
أنهم في نهاية الأمر أُغروا بزيادةٍ في الأجر على الزحف، وذلك على الرغم من أن قبولهم
هذا قد انتُزع منهم قسرًا، وقد صرح الآن «كورش» أن هدفه هو جيش «أبروكوماس Abrocomas» شطربة «سوريا» الذي كان من المعتقَد أنه
سيقفُ في وجه عبوره نهر «الفرات»، وقد سار بسرعةٍ مقتحمًا أبواب «سوريا» التي كانت
تُعتبر «ترموفيلا» «آسيا»، مراعيًا أن يكون على اتصال بأُسطوله، كما كان مستعدًّا أن
يُنزل جنودًا خلف أية قوة مدافعة، غير أن «أبروكوماس» لم يكن في عزمه مقاومة أخي الملك
العظيم الذي بعد أن عبر الأراضي السورية الخصبة وصل إلى «تاباساكوس Thapasacus» الواقعة على نهر «الفرات» وهناك وصل خبر تقهقُر
«أبروكوماس» بعد أن حرق كل القوارب التي كانتْ في متناوَله؛ حتى لا يمكن «كورش» من عبور
النهر، وقد وجد الإغريقُ أنفسهم عند «تاباساكوس» مضطرين أخيرًا — دون أي أمل في
التقهقُر — إلى الدخول في معركة مع الملك العظيم، وقد وقع هناك ثانية انقسامٌ خطير في
جيش «كورش» فقد غضب الجنود وهاجوا على قوادهم؛ لأنهم خدعوهم، غير أنهم أغروا ثانية
بالمال على مزاولة الحرب، وذلك أنهم بسبب زيادة في الأجور قرروا أن يتحملوا أي خطر، وقد
منحهم «كورش» ما طلبوا، والواقع أنه كان رجلًا مغامرًا يُضحي بكل شيء في سبيل انتصاره
وتحقيق مطامعه، وقد كانت أحوال فيضان نهر «الفرات» على غير العادة منخفضة فسهل ذلك
عبوره على الغزاة الذين اجتازوه وأسرعوا في سيرهم بسرعة ما يقرب من عشرين ميلًا في
اليوم، دون أن يروا أو يسمعوا أي شيء عن العدو، وقد كان غرض «كورش» أن يمنع الملك
العظيم من تجميع كل قواه — كما أشار إلى ذلك «اكزنوفون».
موقعة «كونكسا» ٤٠١ق.م
لم يقابل جيش «كورش» عند دخوله مديرية «بابل» إلا بعض الفُرسان، كما أنه لم يجد أي
شيء يدل على وُجُود جيش فارس وهو مستمر في سيره نحو الجنوب، وبعد أن تقدم «كورش» بجيشه
مصطفًّا للموقعة لمدة ثلاثة أيام؛ اتضح له — على ما يظهر — أن جواسيسه وعيونَه لم
يقوموا بواجبهم في تتبُّع أثر العدو؛ ولذلك فإنه وصل إلى النتيجة الطبيعية في تقديره،
وهو أن «أرتكزركزس» قد انسحب من «بابل» وتقهقر إلى هِضَاب بلاد الفرس، غير أنه كان قد
أخطأ التقدير؛ وذلك أنه في اليوم الرابع مِن تَقَدُّمه كانت جنودُهُ تسيرُ في غير
نظام، ظهر في الأُفُق فارسٌ يخبره أن جيش الملك العظيم الجرار سينقض عليه بعد ساعات
قليلة، وبفضل هذا التحذير كان في مقدور «كورش» أن يصف جيشه للموقعة، فوضع الفيلق
الإغريقي تحت إمرة «كليركوس» على اليمين منتظرًا على نهر «الفرات»، أما «كورش» نفسه فقد
اتخذ مركزه في الوسط — سيرًا على العادة الفارسية — وأحاط نفسه بحرس مؤلف من ستمائة
فارس مدججين بالأسلحة الثقيلة، وجعل قائده «أرياوس Ariaeus» في الميسرة حيث تجمع الجزء الأعظم من الفرسان.
أما جيش «أرتكزركزس» الهائل العدد الذي كان يتألف — كما قيل — مِن نحو نصف مليون
مقاتل؛ فقد تَصَادَمَ بجيشِ «كورش»، وقد كان الأخير يعلم أن كل شيء يتوقف على هزيمة قلب
الجيش الذي اتخذ فيه الملكُ العظيم مكانَه، ولذلك فإنه أمر «كليركوس» أن يهجم بالإغريق
على قلب جيش العدو، غير أنَّ «كليركوس» لم يفطن للموقف؛ إذ كان يخاف أن يترك جناحيه
مكشوفين؛ ولذلك فقد أجاب مراوغًا أن كل عنايته تنحصر في أن كل شيء يكون على ما يُرام،
وبقي ملاصقًا لنهر «الفرات» بجيشه، وقد بدأت المعركةُ بانقضاضِ الإغريقِ على العَرَبَات
التي كانت تواجهُهُم، وكان ينتظر منها الشيء الكثير، وقد كانت النتيجةُ فوق ما كان
منتظرًا؛ فقد وَلَّى سائقو العربات الأدبار، وقَفَا الإغريقُ أثرَهم أكثر من ميلين، أو
ثلاثة.
وقد رأى «كورش» تشتيت شمل جناح الفرس الأيسر، غير أنه فطن إلى أن الموقعة لن تكون
حاسمة إلا بعد هزيمة قلب جيش العدو، والواقعُ أنه كان قائدًا عظيمًا؛ ولذلك فإنه كبح
من
غرب اندفاعه الطبعي إلى أن رأى قلب الجيش الفارسي ينهار في مؤخرة الإغريق، وبعد ذلك قام
بهجمته الجبارة، يحرسه المؤلف «اكزنوفون» من ستمائة بطل على ستة آلاف من جنود
«الكادوسيين Cadusians» الذين كانوا في خدمة الملك
العظيم، فقتل بيده قائدَ القوةِ التي أمامه، وقد اشتدت الموقعةُ في العنف عندما أخذ
العدوُّ يترنح، وفتحت أمامه الطريق إلى حيث كان يقف «أرتكزركزس». ولما كان مرجل الحقد
يغلي في صدر «كورش» وتعطشه للدماء يزدادُ، فإنه صاح عاليًا قائلًا: «إني أرى الرجل.»
ورمى بمزراقه فأصاب أخاه إصابة مسددة في الصدر اخترقت زرده، وأوقعته من على ظهر جواده،
وعندئذ خُيل إليه أن مُلك «آسيا» والسيطرة عليها قد أصبح مِلك يمينه، وقد كان ذلك في
اللحظة التي أُصيب هو فيها على غفلة بمزراق من العدو سَبَّبَ له جرحًا بالقرب من عينه،
وفي غمار القتال الذي حدث بعد ذلك خَرَّ هذا البطلُ العظيمُ صريعًا، أما «أرتكزركزس»
الذي لم يكن جرحه مميتًا، فإنه عندما سمع بموت أخيه انقضَّ على الجنود الآسيويين،
وعندما علم هؤلاء أن «كورش» قد قُتل تقهقروا شمالًا.
أما «تيسافرنس» — الذي كان في أقصى الشمال من الخط الفارسي — فإنه اقتحم بجنوده وسط
الفيلق الإغريقي دون أن تصيبه أيةُ خسارة وهاجم معسكرهم، غير أنه صد عنه، وقد عاد
القائد «كليركوس» من متابعة العدو، وعندما سمع أن معسكره في خطر، وتفاديًا من هجوم
شامل؛ تجمع الإغريق ثانية بظهورهم نحو النهر، وقاموا بهجوم آخر. ونجد هنا ثانية جموع
الفرس الرعاديد يرفضون منازلةَ جُنُود الإغريق المرعبين، وعلى ذلك فإن الإغريق بعد أن
قفوا أثر أعدائهم الجبناء مدة عادوا إلى معسكرهم يحملون لواء النصر على حسب زعمهم، غير
أن الحقيقة كانت قد أسفرتْ عن خُسرانهم المبين، ويرجع ذلك إلى سُوء قيادة «كليركوس»،
وقد كانت نتيجة «كونكسا Cunaxa» — وهو الاسم الذي
عُرفت به هذه المعركة — هائلةً؛ فقد علم الإغريق الآن أنه أصبح في مقدورهم أن يسوقوا
حشدًا من الفرس أمامهم كقطيعٍ من الأغنام، وعلى الرغم مِن أنه لم يفد من تفوقهم الهائل
لمدة عدة سنين، فإنه من المؤكد أن «الإسكندر الأكبر» فيما بعد قد أفاد من تجربة موقعة
«كونكسا».
ولا نزاع أن موت «كورش» كان كارثة عُظمى على بلاد «فارس»؛ وذلك لأنه كان في إمكانه
—
بما أُوتي من قدرة عظيمة ونشاط وتجارب منوعة — أن يكون ملكًا عظيمًا مثاليًّا، بل كان
في الإمكان أن يعيد الإمبراطورية الفارسية إلى المكانة التي كانت تحتلها في عهد كل من
«كورش العظيم» و«دارا الأول». وعلى أية حال كان في قدرته أن يحيي بلاد الفرس من جديد،
هذا فضلًا عن أنه بمعرفته بالإغريق ومهارته في جعل حكوماتها تتطاحن الواحدة مع الأخرى
كان في إمكانه أن يقضي على استقلال «هيلاس».
تقهقر عشرة الآلاف إغريقي «الخالدين»
ليس في أعمال بني الإنسان الخالدة ما يسترعي إعجابنا أكثر من التقهقر الذي قام به
عشرة الآلاف الخالدين، ففي الصباح الذي تلى موقعة «كونكسا» كان الإغريق على أهبة الزحف
لشق طريق لهم للحاق برئيسهم «كورش»، ولكنهم عندئدٍ سمعوا بموته وفرار أتباعه من الفرس،
فلم يهنوا ولم يخافوا، وأرسل «كليركوس» إلى «ارياوس Ariaeus» القائد الفارسي يعرض عليه تاج البلاد، غير أنه اعتذر عن ذلك
بحزم بسبب أن أشراف «فارس» لا يقبلونه ملكًا عليهم.
وقد وصل في آخر النهار نفسه رسلٌ من قِبل «تيسافرنس» قائد «أرتكزركزس» يطلبون إلى
الجنود الإغريق أن يُسَلِّمُوا أسلحتَهم، وأن يَقصدوا باب قصر الملك؛ ليحصلوا منه على
أي شروط في صالحهم بقدر المستطاع، وقد سبب هذا الطلب صخبًا شديدًا بينهم، ولكنهم بعد
أن
ناقشوا الموقف ووصل إليهم رفض «ارياوس» وقرروا أن زحفهم لن يكون من الحكمة في
شيء.
وقد بدأ تقهقرهم المشهور أثناء الليل فوصلوا ثانية إلى المكان الذي غادروه في اليوم
الذي كان قبل المعركة، وهنا انضموا إلى جنود «ارياوس»، وبعد ذلك عقد مجلس حربي أظهر لهم
فيه القائدُ الفارسيُّ أنَّ مسألة المؤنة تقف حجر عثرة في سبيل تقهقُرهم على الطريق
التي أتوا منها، ونصح لهم باتخاذ طريقٍ أطول نحو الشمال؛ تفاديًا من الأخطار، وأضاف
أنه باقتحام مسلكين أو ثلاثة في وسط جُنُود العدو يُمكنُهُم أن ينجوا من جيش الملك
العظيم الذي كان جيشه يسير ببطء، وفي الصباح سارتْ قوتُهُم المتجمعةُ شمالًا على حسب
الخطة المرسومة، غير أنَّ دهشتهم كانت عظيمة عندما تصادموا مع جيش الملك
العظيم.
وقد ارتاع الفرسُ أكثر من الإغريق الذين كانوا في فزع طوال الليل، وفي اليوم التالي
بدأت المفاوضات لعقد هدنة على يد «تيسافرنس»، وبعد نقاش طويل اتفق الطرفان على أن يعود
الإغريقُ إلى وطنهم دون أية مضايقة، وأخيرًا ساروا في طريقهم، وقد صحبهم جنود
«تيسافرنس» و«ارياوس» — وقد اصطلح الأخيرُ مع الملك العظيم في أثناء ذلك — ووصلوا نهر
«دجلة» وعبروه على ظهر سبعة وثلاثين قاربًا.
وقد أدى بهم السير بعد أربع مراحل إلى «أوبيس Opis»
وموقعُها معروفٌ الآن، وبعد أنْ مَرُّوا بها وصلوا إلى نهر «الذاب الأصفر»، وقد أغرى
هنا «تيسافرنس» القائد «كليركوس» وقُوَّادًا آخرين إلى عَقْدِ اجتماع، ولكنه خَانَهُمْ
وقبض عليهم، على أن هذه المحنة التي تُعتبر أقسى محنة مرت بجماعة من الناس في مركزهم؛
لم تَفُتَّ في عضد الإغريق الشجعان وتجعلهم يستسلمون كما كان لا بد من حدوثه مع أيَّةِ
قوة أُخرى، وفي الحال انتخبوا قائدَ الفيلق الأسبرتي قائدًا عامًّا عليهم، كما انتخبوا
«اكزنوفون» أركان حرب له.
وبدأ السير من جديد في وجه الفرس الذين أظهروا لهم العداء صراحة، وقد سار هذا الجيش
الصغير مأخوذًا بالمدن القديمة الآشورية، ولكنه على الرغم من الاتفاق الذي حدث بين
الطرفين كان يضايقهم من وقت لآخر القائد «تيسافرنس» الذي كانت هجماته على أيَّةِ حال
ضعيفة تنقصُها الشجاعةُ الجريئةُ، هذا فضلًا عن أنَّ قُوَّتَه كانت تنسحب مبكرة
دائمًا؛ لأجل أن تُعسكر على مسافة من الهيلانيين الذين كان الفرس يخشون
بأسَهم.
وفي نهاية الأمر تنصل الفرسُ من القتال، غير أنَّ الصعاب التي كان يلاقيها
«الخالدون» في جبال «الكرد» وفي هضاب «أرمينيا» كانت أعظم من التي تَخَلَّصُوا منها
من قبل، وقد كانت هجماتُ القبائل المتوحِّشَة عليهم تُصَدُّ باستمرار، وذلك باتباع خطط
جبلية جميلة كان رجال الهضاب من الإغريق يحذقونها، كما أنهم كانوا يحصلون على المؤن —
بوجه عام — بشيءٍ من الصعوبة، غير أنهم كانوا يواجهون مشاقَّ جسمانية عظيمة، كتحمل سقوط
الثلج والبرد الشديد.
ومما يدل على قوة هذا الجيش المعنوية وعلى نفوذ «اكزنوفون» عليهم؛ أن خسارتهم في
الأرواح كانت ضئيلة جدًّا، وقد ساروا قدمًا مارين إلى الغرب من بحيرة «وان» وعبر وسط
«آسيا الصغرى» إلى أن تَسَلَّقُوا أخيرًا في يوم سعيد ممرًّا
رأوْا من خلاله البحر، ووصلوا إلى «ترابيزوس Trapezus» (ترابيزوند الحالية)، بعد أنْ أَتَمُّوا
عملًا عظيمًا لم يَفُقْهُ من قبل عملٌ آخرُ مماثل.
حالة بلاد «فارس» و«هيلاس» بعد موقعة «كونكسا»
لقد كان نتيجة طبيعية لهزيمة «كورش» أن تنحلَّ عُرَى التحالف بين بلاد الفرس
و«أسبرتا» التي كانت تُعَد أقوى بلد في «هيلاس»؛ وذلك بسبب المساعدة التي قدمتها
ﻟ «كورش»، وقد وجدنا أن «أسبرتا» قد أَبَتْ كُلَّ الإباء أنْ تطلب الصفح مِن مَلِكِ
الفُرس العظيم بعد الامتحان الذي اجتازتْه في موقعة «كونكسا»، بل على العكس استعملتْ
في
آخِرِ الأمر عشرة الآلاف «الخالدين» لحماية هيلايني «آسيا» من ما لشطربتين «تيسافرنس»
و«فرنابازوس» اللذين كانا يناهض الواحد منهما الآخر، فكان كل واحد منهما مستعدًّا ليدفع
بسخاء لمساعدة الجنود الإغريق له على مناهضه.
وعلى أيَّةِ حالٍ نجد هنا ثانية أن الذهب الفارسي كان العاملَ الأسمى في كسب
الجُنُود الإغريق، وقد أتى وقتٌ كان من المُمكن فيه — على ما يظهر — أن تَنتزع
المستعمرات الإغريقية وكذلك كل «آسيا الصغرى» النير الفارسي عن عاتقها، ولكن الذهب
الفارسي تغلب على ذلك أيضًا، فمن ذلك أن القائد «أجيسيلاس» الذي كان يقود العمليات
الحربية بمهارة عظيمة، وانتصر انتصارًا حاسمًا على «باكتولوس Pactolus» مما أدى إلى قتل «تيسافرنس» الفارسي؛ قد طلب إليه العودة
إلى وطنه لمقابلة الحلف الذي كان قد تألف من «طيبة» و«أرجوس» و«كورنثا» و«أثينا» على
«أسبرتا»، وكان سبب ذلك الطلب نتيجة لدسيسة فارسية يعاضدها الذهب الفارسي حتى لا تقهر
الفرس ثانية.
أما «أثينا» فقد أصبحت بدورها حليفة «فارس»، وقد هزم القائد «كونون Conon» الأسطول الأسبرتي عند «كنيدوس Cnidus» عام ٣٩٤ق.م، وذلك بعد أن كان قد هرب على أثر كارثة
«اجوسبوتامي» إلى «قبرص» ودخل الجيش الفارسي تحت قيادة «فارنا بازوس» وهزم الأسطول
الأسبرتي عند كنيدس في عام ٣٩٤ق.م، وبهذا النصر أعاد من طريق غير مباشر ﻟ «أثينا»
السيادة على البحر، ومتابعة لهذا النصر خرب أسطول «فارس» بقيادة «فارنابازوس» وقائده
الأثيني ساحل «البلوبونيز» وأُعيد بناء جدران «أثينا» الطويلة تحت إشرافه، وذلك بمال
الفُرس الذي كان له الكلمة العليا على النفوس، ولا
أَدَلَّ على تغيير الموقف تمامًا من أن «طيبة» التي كانت أولًا عدوة «أثينا» اللدود،
قد
ساعدت بالاشتراك مع ولايات أُخرى في إقامة هذه الجدران.
صلح «أنتالسيداس Antalicidas»
٣٨٧ق.م
وبهذه الكيفية نُشاهد أن نائب ملك الفرس قد أفلح بسياسته الماهرة التي كانت تنطوي
—
بوجه خاص — على جعل الولايات الضعيفة من ولايات «هيلاس» تقوم في وجه «أسبرتا»، ومن ثم
أعاد توازن القوى في بلاد الإغريق، والواقع أن سلطان بلاد الفرس قد أُعيد معظمُهُ
بإظهار ما كان للملك العظيم من قوة بحرية في مياه «البلوبونيز» التي لم تكن قد نفذت
إليها من قبل، مما اضطر «أسبرتا» في نهاية الأمر لطلب الصلح، وقد استمرت المفاوضات
تجرُّ أذيالها عدة سنين، وقد كان سبب ذلك جزئيًّا — على أية حال — هو لإعلاء مقام ملك
الفرس، وأخيرًا بعد أن أمضى السفير الأسبرتي «أنتالسيداس» بعض الوقت في «سوسا» عقد
صلحًا، غير أنَّهُ لم يكن بمعاهدة بل بمنشور الملك العظيم أعلن فيه أن كل قارة «آسيا
الصغرى» بالإضافة إلى «قبرص» و«كلازومون Clazomone» قد
أصبحت تؤلف جزءًا من الإمبراطورية الفارسية، وأن كُلَّ حكومة من حكومات «هيلاس» من التي
ليست تحت السيطرة الفارسية، يجب أن تكون ذاتَ سيادة مستقلة عدا «لمنوس Lemnos» و«إمبروس Imbros»، و«اسكيروس Iskyros» فإنها
تبقى مع «أثينا».
وهذا الصلح الذي أمضتْه البلادُ الرئيسيةُ من بلاد اليونان كان صالحًا جدًّا لبلاد
الفرس؛ وذلك أنه أعاد لها أملاكها التي كانت قد فقدتْها كما منعت أيَّ تَدَخُّل في
مستقبل «آسيا الصغرى» من جانب «هيلاس»، وبالاختصار أصبح صلح «كاللياس Callias» لاغيًا، ولا بد أن نفوذ الملك العظيم كان قد
ازداد زيادة ضخمة، وأن مسئوليات حماية «آسيا الصغرى» قد انتهت.
والواقع أن هذا المنشور كان مذلًّا ﻟ «هيلاس»، غير أنه كان ﻟ «أسبرتا» حسنا؛ وذلك
لأنها قد استبقت به كل بلادها، وبذلك كان في مقدورها أن تلعب دورًا رئيسيًّا في «هيلاس»
إلى أنْ أصبح كأس استبدادها قد فاض، وبعد ذلك نال كبرياؤها درسًا مذلًّا في موقعة
«لوكترا Leuctra» سنة ٣٧١ق.م على يد «إبامينونداس Epaminondas» صاحب «طيبة».
الحملات على «مصر»
لقد كان لإضعافِ الحكومة المركزية الفارسية أثرٌ رجعيٌّ على مركز «فارس» في «مصر»،
مما دَعَى إلى قيام ثورةٍ فيها انتهتْ باستقلالها عن الحُكم الفارسي، وقد تحدثنا عن ذلك
في غير هذا المكان عند التحدُّث عن مُلُوك الأسرة الثامنة والعشرين وما بعدها.
الحملة على الكادوسيين
وفي خلال هذا العهد قام الكادوسيون بثورة، فقام الملكُ «أرتكزركزس» بنفسه لتأديبهم
بجيشه الضخم المُفَكَّك، وأهل هذه القبيلة كانوا يقطنون مديرية «جيلان» الحالية،
بالقُرب من بحر «الخزر»، وكان الوصولُ إليها يكادُ يكونُ ضربًا من المستحيل؛ بسبب ما
تحتويه من غابات كثيفة، وجبال وعرة، وأنهار متعددة. وقد قصر الكادسيون حروبهم على
المناوشات، وكان من جراء ذلك أنْ قطعوا وُصُول المُؤَن إلى جيش الفُرس، ووضعوهم في
مواقفَ حرجة، غيرَ أنه في نهاية الأمر قد وقع خلافٌ بين رئيسيها، ومن ثم تم الاتفاق على
الصلح، وقد عاد الجيشُ الفارسيُّ إلى الهضبة الإيرانية سالمًا، ولكن دون أن يحرز أي
نصر.
الأيام الأخيرة من حكم «أرتكزركزس»
على الرغم من خيبة الحملة على «مصر» وفشلها فشلًا ذريعًا؛ فإنَّ الإغريق الذين قد
أعمتْهم الغيرةُ أرسلوا «أنتالسيداس» الأسبرتي إلى «سوسا» في عام ٣٧٢ق.م؛ ليحصلوا
على مرسوم جديد، يكون مضمونُهُ نهايةً للمُخَاصمات القائمة في «هيلاس»، وفي عام ٣٦٧ق.م
وصل إلى بلاط الملك العظيم مبعوثون من «طيبة»، وفي السنة التالية وصل آخرون من «أثينا»؛
وذلك لأنه على الرغم من ضعفه الحقيقيِّ فإنه كان معترفًا به عمومًا بوصفه المحكِّم في
المخاصمات التي تقوم بين حكومات الإغريق، وهكذا وصلت «هيلاس» إلى هذا الحد من الانحطاط
في تلك الفترة.
ومن العجيب أن تقدير مكانة «أرتكزركزس» في بلاده فِي آخِرِ أيام حياته إذا ما قُرن
بتقديره في نُفُوس الإغريق؛ كانت على النقيض، فقد ثار واحدٌ مِن شطاربته، ثم تبعه آخرُ
بثورة أُخرى، وذلك بسبب غضب ملكي أو من أجل مطامعَ شخصية، وقد انتهز «تاخوس» ملك «مصر»
قيام ثورة في «سوريا» وغزاها، ولكن حدث في أثناء غيابه أن قامت ثورة في «مصر» بمعاضدة
القائد «أجيسيلاس» المسن وهو الذي ظهر بأَحَطِّ مظاهره في «مصر»، وقد اضطر «تاخوس» إلى
الهرب قاصدًا «سوسا»، وقد قامت اضطراباتٌ في «مصر» شَلَّتْ من نشاطها لمدة سنين، كما
فَصَّلْنَا ذلك في غير هذا المكان.
وقد حدث في وقت أن الإمبراطورية الفارسية كادت تتمزق، غير أن الرشوة، والخيانة وحُسْن
الحظ الذي جعل أعداء «أرتكزركزس» يحاربون بعضهم بعضًا؛ قد نَجَّى بلاد الفرس من موقفها
الحرج.
وقد مات «أرتكزركزس» بعد أن عمر طويلًا في عام ٣٥٩ق.م، وكان قد حكم ٤٦ سنة، وتدلُّ
شواهدُ الأحوال على أنه كان ملكًا لَيِّنَ العريكة كريمًا إلى أقصى غاية الجود، كما كان
على استعداد دائمًا للعفو عن أعدائه، غير أنه كان واقعًا تمامًا تحت سلطان زوجه
«باريساتيس Parysatis» التي كانت تسيطر عليه حتى
بعد أن سمت زوجه «ستاتيرا Statira» التي كانت تربط
بينها وبينه أواصر الحب، ولقد كان من جراء نصيحتها الآثمة أن ابنها الخائر القوى قد
تزوج من أخته «أتوسا»، وقد حدث من جراء ذلك مصائبُ في المستقبل، وبقي علينا أنْ نُضيف
إلى ما سبق أن «أرتكزركزس» قد أقام تماثيلَ لآلهة الخصب المسماة «أناهيتا Anahita» وبذلك أحدث تطوُّرًا محسًّا في ديانة الفُرس
القومية؛ إذ بذلك أدخل فكرة عبادة آلهة الطبيعة، وهذه الفكرةُ سامية بابلية، وأَهَمُّ
من ذلك أن هذا الملك أحيا عبادة الإلهة «مترا Mithra».