تولي الملك «أرتكزركزس» الثالث الحكم (٣٥٨ق.م)
كان المعتقَد أن الملك المسن «أرتكزركزس» الثاني له أكثر من مائة ابن من حظياته اللاتي كن تعد بالمئات، غير أن معظمهم كان قد مات في حياة والدهم، ولم يكن يعتبر من بينهم أبناء شرعيون إلا ثلاثة من زوجه الإغريقية «ستاتيرا» وهؤلاء هم «دارا» و«ارياسبس» و«أوكوس»، وهم الذين كانوا مرشحين لتولي عرش المُلك، وقد نصب «دارا» وليًّا للعهد منذ بضعة سنين قبل موت والده، غير أنَّ «أوكوس» الذي كان ماهرًا في الدس وجديرًا بأن يكون من نسل «باريساتيس» كان قد أغراه على السعي لقتل الملك المسن الذي ادعى «أوكوس» أنه قد عزم أن يتخطى «دارا» في تَوَلِّي الملك، وقد وقع «دارا» في الشرك وخاب في مسعاه وحُكم عليه بالإعدام، وقد أخاف «أوكوس» كذلك أخاه «ارياسبس» بأنه سيُحكم عليه كذلك بالإعدام لاشتراكه في المؤامرة، وعلى ذلك انتحر هذا الأميرُ التَّعِس خوفًا من العار.
وبهذه الأعمال التي انطوتْ على الخيانة والغَدر؛ قد أصبح وليًّا للعهد بمساعدة «أتوسا» التي وعدها بالزواج، وعلى أثر موت الملك الذي كان قد عجل موتَه تلك المآسي الأسرية؛ تولى «أوكوس» عرش الملك باسم «أرتكزركزس» الثالث، وقد افتتح حكمه بقتل كل الأمراء الذين مِن دَمٍ ملكيٍّ، ويُقال إنه قضى كذلك على الأميرات.
الاستيلاء على «صيدا» وإعادة فتح «مصر» ٣٤٢ق.م
لم يكن عرشُ الملك الجديد — بأية حال من الأحوال — ثابتَ الأركان بعيدًا عن المخاطر؛ إذ الواقعُ أن خيبة والده فِي فتح «مصر» قد حولت هذه الأخيرة إلى دولة معادية للفُرس، كما كانت مركزًا للمؤامرات على قلب كيان «فارس» كما بيَّنَّا ذلك من قبل، ولقد كان من الواضح للمك «أوكوس» أنه لن يأمل في إخماد الثورات التي قامت في أنحاء متفرقة من إمبراطوريته إلا إذا فتح «مصر» كرة أخرى، وقد ذكرنا أن جيش الملك «نقطانب الأول» قد أنزل هزيمةً ساحقةً بالجيش الفارسي وجعله يفر من أمامه بسرعة هائلة، وفي الحق لم تكن «مصر» — في أي عصر من عصور تاريخها — محصنة أكثر من هذه اللحظة. يُضاف إلى ذلك أن القوة المعنوية لجنودها الوطنيين كانت عالية إلى حد بعيد، وقد كان من نتيجة هذا النصر المصري على الفرس أنْ قامت ثوراتٌ في «سوريا» و«آسيا الصغرى» و«قبرص»، بل وفي «فنيقيا» كذلك نجد أن الملك «تنيس» ملك «صيدا» حرق القصر الملكي الذي على جبال «لبنان» كما حرقت المؤن التي جمعتْ هناك لمد الحملة على «مصر»، وقد كان القائدُ اليونانيُّ للملك «أوكوس» قد انتصر في «قبرص»، ولكن نجد في «آسيا الصغرى» أن شطربة «فريجيا» الثائر قد صمد في وجه الجيش الفارسي بمعاضدة «أثينا» و«طيبة»، وكذلك نال «تنيس» ملك «صيدا» نصرًا في «سوريا» بمعاضدة «نقطانب الثاني» الذي أَمَدَّهُ بأربعةِ آلافِ محاربٍ من الجُنُود الإغريق المرتزقين.
ولم يكن «أوكوس» بالملك الضعيف مثل والده؛ إذ قد جَنَّدَ جيشًا جبارًا آخر وسار به بنفسه على «صيدا» التي كانت محمية بجدران عالية وثلاثة صفوف من الخنادق، ولكن لَمَّا أراد «تنيس» أن ينجي نفسه خان رؤساء المدينة، وأوقعهم في يد ملك الفرس، كما أن الجُنُود الإغريق الذين أُرسلوا من «مصر» قد أُغروا بالدينار الفارسي، وعندئذٍ لم يعد الصيديون يُفكرون في أيَّة محاولة للدفاع عن بلدهم، وقد ذُبح ممثلوهم الذين بلغ عددهم خمسمائة بأمر هذا الملك المتعطش للدماء، أما باقي أهل المدينة فقد عزموا أن يعملوا من أنفسهم ومن أسرهم ومنازلهم وقودًا تأكله النار، وقد نفذوا مقصدهم المخيف، وعندما دخل «أوكوس» المدينة لم يجد إلا كومة من الخرائب، وقد باع هذا الخرائب بمبلغٍ عظيم من المال للباحثين عن الكُنُوز، أما «تنيس» الخائن فقد حُكم عليه بالإعدام ونُفذ فيه بمجرد الاستيلاء على «صيدا»، وقد سلمت المدن الفنيقية الأُخرى نتيجة لذلك، لم يتأخر الجيشُ الفارسيُّ في «صيدا» إلا زمنًا قليلًا، ثم عاود السير في طريقه جنوبًا على الطريقِ القديمةِ المؤدية إلى «مصر»، وتم له فتحُها — كما شرحنا ذلك من قبل.
قتل «أرتكزركزس» ٣٣٨ق.م
كان من أثر فتح «مصر» أنْ هدأت الأحوالُ في الجُزء الغربي من الإمبراطورية الفارسية، فقد هرب «أرتابازوس» الذي أعلن الثورةَ لمدة عدة سنين إلى «مقدونيا»، يُضاف إلى ذلك أنَّ مُلُوكًا آخرين أسرعوا بتقديم خضوعهم للفرس، أما الولايات الإغريقيةُ المناهضةُ بعضها بعضًا، فقد أخذت تملق الملك العظيم وأسرعتْ في تنفيذ أوامره متعطشة للأصفر الرَّنَّان الفارسي، ومع كل ذلك فإن حالة الشطربيات كانت قد تغيرتْ عما كانت عليه أيام «دارا الأول» فنجد أنَّ مديريات «بحر قزوين» التي كاد يكونُ الوصولُ إليها مستحيلًا قد استعادت استقلالها.
أما «البنجاب» فقد نفضت عن نفسها سلطان الفرس، ونجد في أماكنَ أُخرى تراخيًا في القبض على زمام الأمور للمحافظة على كيان الإمبراطورية الشاسعة والإبقاء على وحدتها، يضاف إلى ذلك أن إدارة البلاد كانت في قبضة الخصي «بابواس»، مما جعل نظام الحكومة في تَحَسُّن، غير أنَّ قوة بلاد «مقدونيا» التي كانت آخذة في الظهور قد حتمت النظر إليها بعينٍ حذرةٍ والعمل على الكبح من جماحها، ومما يؤسف له أن سياسة هذا الخصي قد فشلت بالدسائس التي أصبحت خطيرة حتى إنه وجد نفسه في نهاية الأمر مضطرًّا في عام ٣٣٨ق.م أن يقتل سيده الملك عندما وجد أنه لا مفر مِن قتله هو إذا سكت عنه، وكذلك قتل معظم أولاد الملك، ولكنه وضع «أرمسيس» أضعفهم على عرش الملك، وحتى هذا الفتى عندما ظهرتْ منه بادرةٌ على أنه يُريد أنْ يَستقِلَّ بالملك؛ قتله هذا الخصي الذي لا رحمة في قلبه.
تولي «دارا كودومانوس Codomannus» ٣٣٦ق.م
وبعد أن أودى هذا الخصي بحياة «أرمسيس» انتخب فردًّا يُدعَى «كودومانوس» وكان مغمور الذكر، ولكن من المحتمل أنه كان من فرع من نسل الأخمنيسيين، وقد تولى عرش الملك باسم «دارا الثالث»، ولما كان يُعدُّ آخِرَ فرد مِن أُسرة عظيمة؛ فإنه جلب إليه بذلك بعضَ العطف من الأهلين، وكان قد نال شهرة بما أبداه من شجاعة في الحملة على الكادوسيين، وذلك بقتله أَحَدَ جبابرة رجال هذه القبيلة في مبارزة واحدة، وبعد ذلك عين شطربة على بلاد «أرمينيا» مكافأة له.
وتدل أخلاقُهُ على أنه كان أكثر كرمًا وأقل رذيلة ممن سبقوه على عرش الملك مباشرة، ولذلك فإنه لو كانت أحوالُ عهد توليه الملك عادية لحكم بصدق وإخلاص، ولكن لسوء حظه ظهرت مملكةٌ جديدةٌ قويةٌ في الغرب، يقودُها أعظمُ جندي ظهر في كل الأزمان، وعلى الرغم مِنْ أنَّ «دارا» كانت تُساندُهُ كل موارد الإمبراطورية الفارسية؛ فإنه ارتعدت فرائصُهُ وسقط أمام الهجوم الناري الذي قام به «الإسكندر الأكبر» على كل العالم المتمدين وقتئذٍ بما لم يُعرف مثله في التاريخ القديم.