ما ورد في المؤلفات الإغريقية والرومانية عن «قناة
السويس»
(١) كانت أول وثيقة صريحة جلية وصلت إلينا من كُتاب الإغريق الأقدمين، عن قناة
للملاحة تربط بين البحرين الأحمر والأبيض بوساطة النيل؛ هو المتنُ المشهورُ الذي
أورده «هردوت» في كتابه الثاني من تاريخه العام.
(راجع: Herod. II. 158.)
(٢) ما جاء في ملحمة «الأودسي» عن «قناة السويس»
أما ما ورد في ملحمة «الأودسي» المنسوبة للشاعر الإغريقي «هومر»؛ فقد جاء في عهد
سابق
للجغرافي «استرابون» (Strabon 1 § 31) فقد أشار هذا
الجغرافي إلى ما جاء في «الأودسي Odysseé IV» في سياق
كلام بطل الملحمة «منيلاس» الذي يقول: وبعد ثماني سنوات عُدت إلى وطني وقد جبت «قبرص»
و«فنيقيا» و«مصر» وزرت كلًّا من الإثيوبيين والصيديين، والأرميس (سكان الكهوف)،
واللوبيين جميعهم، وقد استنبط «استرابون» أن «منيلاس» قد مر بسفنه في القناة النهرية
التي كانت تجري في زمنه بين النيل والبحر الأحمر، وقد اعترض بعض المؤرخين المحدثين على
صحة هذا الخبر مُدَّعِين أن «استرابون» قد بالغ في قدم حروب «طروادة»، غير عالمين أن
الحفائر الحديثة في موقع «طروادة» القديمة الواقعة على ساحل «آسيا الصغرى» قد برهنتْ
على أن تاريخ هذه الحروب يرجع إلى ما قبل القرن الحادي عشر قبل الميلاد بكثير، وسَنَرَى
بعدُ أنَّ هذه القناة على حسب الروايات القديمة التي وصلتْ إلينا قد حفرت في بداية
الألف الثانية قبل الميلاد، وعلى هذا الزعم يُصبح من الجائز جدًّا أن «منيلاس» كان قد
مَرَّ بقناة «السويس» في رحلته على الرغم مِن أنه لم يذكر لنا ذلك صراحةً في
كلامه.
ما جاء في هردوت «عن قناة السويس»
وإذ كنا سنُوردُ هنا تباعًا ملخصات للنصوص التي وصلت إلينا من العهدين الإغريقي
والروماني؛ فإننا سنُورد حرفيًّا ما ذكره «هردوت» لأهميته البالغة؛ إذ قد عاش في زمن
كانت القناة فيه مفتوحة للتجارة فاستمع إليه وهو يتحدث عن «بسمتيك الأول» مؤسس عهد
النهضة في «مصر» وعن «نكاو» ابنه الذي كان أُسطوله سيد بحار العالم في التجارة والحرب
في نهاية القرن السابع وباكورة القرن السادس قبل الميلاد.
(١) متن «هردوت»
وقد كان لهذا الملك «بسمتيك» ابنٌ يُدعَى «نكاو» خَلَفَه على العرش، وكان هو أولَ
مَنْ بدأ حَفْرَ القناة التي تجري لتصب في البحر الأحمر، وكان «دارا» ملك الفرس ثاني
ملك اهتم بها، وكان طولُها أربعةَ أيام بالسفينة، وكانت تتسعُ لسير سفينتين فيها
متحاذيتين، وكان ماؤُها يخرج من النيل من فوق مدينة «بوبسطة» (= «الزقازيق» الحالية)،
بمسافة قليلة، وتمر بمدينة «باتوم» وهي مدينة في مقاطعة العرب (هي في الواقع مدينة
«بيثوم Pithom» المذكورة في سفر الخروج) وتسيرُ
لتصب في البحر الأحمر، وتبتدئ فتحة هذه القناة في ريف «مصر» «الدلتا» من جهة مقاطعة
العرب، وتستمر جارية في أعلى هذا الريف محاذية جبل المحاجر المجاور لمدينة «منف»، وهكذا
فإن هذه القناة الطويلة التي تجري من الغرب إلى الشرق تَمُرُّ بسفح الجبل السالف الذكر،
ومِنْ ثم تجري مخترقةً الأودية الصغيرة التي تحملُها من الجبل حتى الخليج العربي «خليج
السويس»، وأقصر وأسهل طريقٍ للصعود من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر الجنوب المسمى
البحر الأحمر هو من جبل «كاسيوس» الذي يفصل «مصر» عن «آسيا»؛ وذلك لأنه لا يوجد إلا ألف
استاديا، من هناك حتى خليج العرب، والقناة أطولُ من ذلك بقليل؛ لأنها أكثرُ تَعَرُّجًا،
وفي أثناء انشغالِ «نكاو» بالقناة المذكورة مات فيها مائة وعشرون ألف مصري، وقد أمر
بوقف العمل بسبب ذلك، وكذلك نزل عليه وحيٌ معترضًا سير العمل فيها، قائلًا: «إن همجيًّا
سينجزها.» وقد كان المصريون يسمون كل الأمم التي لا تتكلم لغتهم همجًا.
(٢) أرسطو «أرسطوطوليس»
وفي حين نفهم مِن قول «هردوت» صراحةً أن «دارا» قد أَتَمَّ القناة نقرأ في «أرسطو»
ما
يأتي (راجعْ: Meteorologie, Live, 1, XIV)، نحن نعتبر
أقدم البشر هؤلاء المصريين الذين تَظهر كل بلادهم قاطبة من عمل النيل، ولا تعيش إلا به،
وهذه الحقيقةُ تفرضُ نفسها على أيِّ فردٍ يجوبُ هذه البلاد، ولدينا شاهدٌ ظاهرٌ نجده
في إقليم بحر «إريتري» «البحر الأحمر»، والواقع أن أحد الملوك شرع في القيام بحفر
البرزخ، فإن جَعْل هذا الممر صالحًا للملاحة كان له فائدةٌ عُظمى، والظاهرُ أنَّ
«سيزوستريس» هو أول الملوك القدامى الذين تَبَنَّوْا هذا العمل، ولكنه قد لحظ أن مستوى
الأراضي كان أكثر انخفاضًا عن مستوى البحر.»
(٣) ديودور الصقلي
ويُصادفُنا بعد «أرسطو» ممن تَكَلَّمُوا عن قناة «السويس» المؤرخ «ديودور الصقلي»،
(راجع: Diodorus Siculus I § 33, Trans. C. H. Old Father. The Loeb
Classical Library) فاستمع لما يقول:
ينقسم النيل في مجراه في «مصر» عدة أفرُع، فيؤلف الإقليم الذي يسمى من شكله «الدلتا»،
ويُحَد جانبا الدلتا بفرعيه الخارجيين في حين أن قاعدتها هي البحر الذي يصيب فيه الماء
من
مصبات النهر العدة، ويفرغ النهر ماءه في البحر بسبعة مصبات أولها من الشرق يسمى الفرع
«البلوزي» والثاني «التنيسي»، وبعد ذلك الفرع «المنديسي» فالفرع «الفتنيتي» فالفرع
«السمنودي» فالفرع «البوليبيتي»، وأخيرًا الفرع «الكانوبي» وهو الذي يسمى كذلك
«الهيراكلوتي»، وهناك كذلك مصباتٌ أُخرى عملتْها يدُ الإنسان، وليس لدينا سبب خاص
للكتابه عنها.
وتوجدُ عند كل مصب مدينةٌ مسورةٌ يَشُقُّها النهرُ قسمين، ومجهزةٌ على كل جانب من
المصب بجسور متنقلة وبيوت حراسة في نقط ملائمة، ويخرج من الفرع «البلوزي» قناةٌ
صناعيةٌ، تجري إلى الخليج العربي
١ والبحر الأحمر، وكان «نكاو» بن «بسمتيك» هو أول من أقام بناءها، وقد عمل
فيها الملك «دارا» الفارسي مدة ولكنه تركها نهائيًّا دون أن تتم؛ لأن بعض الناس أخبروه
أنه إذا حفر البرزخ كان مسئولًا عن إغراق «مصر»؛ لأن مستوى البحر الأحمر في نظرهم كان
أعلى من أرض «مصر»، وفي زمن متأخر عن ذلك أَتَمَّهَا «بطليموس الثاني» وأقام في أقوى
نقطةٍ فيها نوعًا من الأهوسة، وكان يَفتح الهويس حينما يُريد المرورَ فيه ثم يغلق ثانية
بسرعة، وقد أسفر استعمالُهُ عن أنه مخترع ناجحٌ مفيد، والنهر الذي يصب في هذه القناة
يُدعَى «بطليموس» باسم مَنْ أقامه، وتقعُ عند مَصَبِّهِ المدينة التي تُدعَى «أرسنوي»
(وهي زوج «بطليموس الثاني»).
استرابون
ويأتي بعد «ديودور الصقلي» الجغرافي «استرابون» (حوالي ٦٦ق.م)، ويحدثنا بوضوح أكثر
من
«ذيودور» عن القناة (راجع: Strabo XVII, Chapter I § 24, 25, The Loeb
Edition p. 75)، نقلًا «أرتميدورس» الجغرافي (عام ١٠٠ق.م) فاستمع
لِما يقول: ويضيف «أرتميدورس» قائلًا: إِنَّ أول قناة عندما يَبتدئ الإنسان من «بلوز»
هي القناة التي تملأُ البحيرات المستنقعة كما تُسمى، وهما اثنتان في العدد وتَقَعَان
على الجِهة اليُسرى من النهر الكبير فوق «بلوز» في مقاطعة العرب، وهو يتحدثُ كذلك عن
بُحيرات أُخرى وقنواتٌ في نفس الإقليم خارج الدلتا.
وهناك كذلك مقاطعة «ستوريت» («صان الحجر» الحالية) بالقُرب من البحيرة الثانية، وذلك
على الرغم مِن أنه يعد هذه المقاطعة واحدةً من المقاطعات العشر التي في الدلتا، وتتقابل
قناتان أُخريان في نفس البحيرة، وتوجدُ قناةٌ أُخرى تصب ماءها في البحر الأحمر والخليج
العربي، بالقرب من مدينة «أرسنوي»، وهي مدينةٌ يطلق عليها بعض الكُتاب اسم
«كليوباتريس»، وهي تَصُبُّ كذلك في البُحيرات المرة — كما تسمى — وقد كانتْ حقيقة مرة
في الأزمان المبكرة، ولكن عندما حُفرت القناةُ السابقةُ الذكر تَغَيَّرَ ماؤُها؛ وذلك
بسبب اختلاطه بالنهر، وهي الآن مزودة بالسمك مملوءة بالطيور المائية.
وكان أول مَنْ حفر القناة هو الملك «سيزوستريس»
قبل حروب «طروادة»، وإن كان البعض يقول: إن ابن «بسمتيك» ابتدأ فيها فقط العمل ثم مات،
وخلفه في العمل في القناة «دارا الأول»، ولكنه بدوره كذلك قد ترك العمل فيها بسبب فكرة
خاطئة راودتْه عندما كانت القناة على وشك أن تتم، فقد أقنع أن ماء البحر أعلى مستوى من
أرض «مصر»، وأنه إذا قطع البرزخ «الذي بينهما في كل طوله فإن البحر سيغرق البلاد، وعلى
أية حال فإن ملوك البطالمة قد قطعوا البرزخ طولًا وجعلوا البوغاز ممرًّا مقفلًا فكان
في
مقدورهم أن يَسيحوا عندما يريدون دون عائق في عرض البحر ويدخلوا في القناة ثانية
…»
(٥) لوسيان
وفي عصر الرُّومان يُحدثنا «لوسيان»، وقد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد، (وُلد
في
عام ١٢٥ ميلادية)، وشغل وظائفَ عامةً في الحُكُومة المصرية، حوالي عام ١٧٠ ميلادية؛ أي
بعد الأعمال التي قام بها الإمبراطور «هدريان»، فيقول: إن سائحًا في عهده أقلع من
«الإسكندرية» وساح في النيل حتى «كلزما» أي «القلزم»،
٢ وقد أُغري بالذهاب حتى بلاد الهند»، (راجع:
Laurand. Manuel
des Etudes grecques et Latines, p. 275).
(٦) «بليني» القديم
ومن بين المؤلفين الرومان «بليني القديم» (٢٤–٧٩ ميلادية)، الذي كتب عن خليج العرب
ما
يأتي: (راجع: Liv VI, Chapter XXXIII).
ويتفرع من الخليج الألانتيكي Aelantique خليج آخر
يسميه العرب «أيانت Aeant» وقد أُقيمت عليه مدينة
«هيروس Heros»، وهناك كانت توجد كذلك «كامبيسو Cambysu» الواقعة بين «نيلوس Netos» و«مارشاداس Marchadas» حيث
كان يقاد مرضى الجيش، وهناك ميناء «دانون Danéon» وهي
مؤسسة صيدية منها خرجت قناة للملاحة حتى النيل، يَبلغ طولُها ٦٢٠٠٠ خطوة حتى الدلتا،
(وهذه هي المسافةُ التي بينَ النهر والبحر الأحمر) حفرها أولًا: «سيزوستريس» ملك «مصر»
ثم «دارا» ملك الفرس وأخيرًا «بطليموس الثاني»، وهذا الأخير عمل قناة عرضها مائة قدم
وعُمقها أربعون قدمًا، (وفي رواية أُخرى ثلاثون قدمًا).
وطولها ٣٧٥٠٠ خطوة حتى حوالي البحيرات المرة، ولم تتم خوفًا من الفيضان؛ وذلك لأن
البحر الأحمر كان منسوبُهُ أعلى مِن أديم «مصر» بثلاثة أذرع، ويقول آخرون: إن هذا لم
يكن السبب الحقيقي، ولكن كان السبب الخوف مِن أنْ يُفسد ماء البحر ماء النيل العذب
الصالح للشرب.
(٧) جرجوار الطوري
هذا المؤرخ الفرنسي كتب تاريخه حوالي عام ٥٦٧ ميلادية عن «فرنسا»، وقد كانت عادة
أمثال هؤلاء المؤرخين أن يَبتدءوا تاريخهم بنبذة عن تاريخ العالم، وقد نقلت النبذة
التالية عن «قناة السويس» من تاريخه: يجري النيل من الغرب إلى الشرق نحو البحر الأحمر،
وتمتد في الغرب بحيرة حقيقية بمثابة ذراع من البحر الأحمر تجري نحو الشرق طولها نحو
خمسين ميلًا وعرضها ثمانية عشر، وتوجد عند رأس هذه البحيرة مدينة «كلزما» «القلزم» ولم
تقم هناك؛ لأن الموقع خصب التربة، فإنه لا توجد تربة أكثر جدبًا من هذا المكان، ولكنها
أقيمت بسبب الميناء؛ وذلك لأن السفن التي تأتي من الهند ترسو هناك بسبب صلاحية هذه
الميناء، وقد كانت توزع منها السلع المستوردة على كل «مصر»، وكان اليهودُ الذين يَهتدون
في سيرهم نحو هذه البحيرة في أثناء اقتحامهم الصحراء يصلون إلى هذا البحر وعندما يجدون
هناك الماء العذب يضعون رحالهم، (راجع: Les Sources de l’Histoire de
France, I, p. 58, ff).
(٨) الراهب «فيدليس Fidelis»
عاش هذا الراهبُ في خلال القرن الثامن الميلادي حوالي عام ٧٥٠، وقد ذكر لرئيسه
«سويبنوس Suibneus» ما يأتي:
«… وبعد ذلك نزلوا في السفن وساحوا في النيل حتى مدخل البحر الأحمر الواقع على الشاطئ
الشرقي حتى الطريق التي قفاها «موسى» إلى البحر الأحمر.»
وقد أَدَّى الراهب «فيدليس» فريضة الحج عن طريق «سيناء» مارًّا ﺑ «القلزم» و«الطور»،
وقد نزل في سفينة في النيل، وسار في القناة حتى «القلزم»، ومنها ركب السفينة إلى
«الطور»، ومن ثم نلمس حقيقة أكيدة لشاهد عيان، وهو رجل قام بهذه السياحة في القرن
الثامن الميلادي؛ أي قبل اختفاء القناة بقليل، وقد زار «فيدليس» دير «سنت كترين» في عام
٧٥٠ ميلادية، وهذا يُخالف ما قاله «لانجلي Langlés» من
أن الملاحة في القناة، قد ظلت قائمة حتى عام ٧٢٠ ميلادية.