ما جاء في المصادر العربية عن «قناة السويس»
نحن نعلم مِمَّا كتبه مؤرخو العرب أنَّ القناة التي كانت بلا شك قد أُهملت في عهد البطالمة المتأخرين، واستعمل بدلًا منها الطريقان البرِّيتان اللتان تؤدي إحداهما إلى «برنيقة» والأخرى إلى ميناء «ميوس هرموس» الواقعة على البحر الأحمر بالقرب من «جاسوس»؛ قد طهرت، وأصبحت صالحة للملاحة في عهد الحُكم الروماني، وبخاصة في حكم الإمبراطور «تراجان»، وفي عهد ريبيه الإمبراطور «هدريان»، ثم أُصلح مِن شأنها فيما بعد بأمر «عمر بن الخطاب» بعد أن ردمت زمنًّا طويلًا، وقد وصلت إلينا أخبارُ القناة مِن عَدَدٍ من الكُتَّاب العرب، نذكر منهم:
(١) الفرجان
(٢) المقريزي
وقد وصف لنا «المقريزي» «خليج القاهرة» فاستمعْ لِمَا يقول:
هذا الخليجُ بظاهر «القاهرة» مِن جانبِها الغربي، فيما بينها وبين «المقس»، عرف في أول الإسلام باسم «خليج أمير المؤمنين»، ويسميه العامة اليوم «الخليج الحاكمي» و«خليج اللؤلؤة»، وهو خليجٌ قديمٌ، أول من حفره «طوطيس بن ماليا» أحد ملوك «مصر» الذين سكنوا مدينة «مصر» وأخذ منه امرأته «سارة» وأخدمها «هاجر» أم «إسماعيل» — صلوات الله عليهما — فلَمَّا أخرجها «إبراهيم» هي وابنها «إسماعيل» إلى «مكة» بعثت إلى «طوطيس» تُعَرِّفُهُ أنها بمكان جدب وتستقيه فأمر بحفر هذا الخليج، وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى «جدة» فأحيا بلد «الحجاز».
ثم أن «أندرومانوس» (يقصد الإمبراطور «هدريان») الذي يعرف «بايليا» أحد ملوك الروم بعد «الإسكندر بن فيلبس» المقدوني؛ جَدَّدَ حفر هذا الخليج، وسارتْ فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة عام، ثم إن «عمرو بن العاص» — رضي الله عنه — جَدَّدَ حفره لما فتح «مصر» وأقام في حفره ستة أشهر، وجرت فيه السفن تحمل الميرة إلى «الحجاز»، فسُمي «خليج أمير المؤمنين» (يعني: «عمر بن الخطاب» — رضي الله عنه) فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تَزَلْ تجري فيه السفنُ من «فسطاط مصر» إلى مدينة «القلزم» التي كانت على حافة البحر الشرقي، حيث الموضع الذي يُعرف اليوم على البحر ﺑ «السويس»، وكان يصبُّ ماءَ النيل في البحر من عند مدينة «القلزم» إلى أنْ أمر الخليفة «أبو جعفر المنصور» بِطَمِّهِ في سنة خمسين ومائة فطُمَّ، وبقي منه ما هو موجودٌ الآن.
(٣) شمس الدين
وكتب «شمس الدين» في عام ١٦٥٠ ميلادية عن هذه القناة ما معناه: إنه يرجع أصلُ خليج «القاهرة» إلى ملِك مصري قديم يُدعَى «طرسيس بن ماليا» وفي عهده أتى «إبراهيم» إلى «مصر»، وهذه القناةُ كانت تجري حتى مدينة «القلزم» وتمر بالقرب من «السويس»، وكانت مياهُ النيل تصبُّ في هذا المكان في الماء الملح …
(٤) أبو الفداء
وقد لاحظ «ابن سعد» أنه بالقرب من «الفرما» يقترب البحر الأبيض المتوسط من البحر الأحمر حتى إنه ليس بينهما أكثر من سبعين ميلًا، وكان «عمرو بن العاص» يفكر في عمل قطع يوصل بين البحرين، وكان يجب أن يعمل هذا القطع في المكان الذي يسمى حتى يومنا «ذنب التمساح».
(٥) المسعودي
ويقدم لنا «المسعودي» الذي تُوُفي في عام ٩٥٦ ميلادية أتم المتون التي وصلت إلينا، عن هذه القناة، وفي الوقت نفسه أهمها، فاستمع إليه وهو يقول في كتابه «مروج الذهب» الجُزء الثاني، ص١٥٦-١٥٧ وقد كان بعضُ مُلُوك الروم قد حفر بين «القلزم» وبحر الروم طريقًا، فلم يَتَأَتَّ له ذلك لارتفاع القلزم، وانخفاض بحر الروم، وإن الله — عز وجل — قد جعل ذلك حاجزًا — على حسب ما أخبر في كتابه.
والموضع الذي حفر ببحر القلزم يُعرف بذنب التمساح على ميل من مدينة «القلزم»، عليه قنطرةٌ عظيمةٌ، يجتاز عليها من يريد الحج من «مصر»، وأجرى خليجًا من هذا البحر إلى موضع يعرف ﺑ «الهامة»، ضيعة «محمد بن علي المدراني» من أرض «مصر» في هذا الوقت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة — فلم يَتَأَتَّ له اتصالٌ بين بحر الروم وبحر القلزم، وحفر خليج آخر مما يلي بلاد «تنيس» (آثارها على جزيرة صغيرة في بحيرة المنزلة) و«دمياط» وبحيرتهما، ويعرف هذا الخليج ﺑ «الزبر والخبية» (في رواية أخرى «الزنير والحسة»)، واستمر الماء في هذا الخليج من بحر القلزم الذي في نحو من هذه القرى، ومن بحر القلزم في خليج «ذنب التمساح» في تتابع أرباب المراكب، وتقرب حمل ما في كل بحر إلى آخر، ثم ارتدم ذلك على تطاوُل الدهور، ملأتْه السوافي من الرمل وغيره.
وقد رام «الرشيد» أن يُوصِلَ بين البحرين، مما يلي النيل مِن أعالي مَصَبِّهِ، من نحو بلاد الحبشة وأقاصي صعيد «مصر»، فلم يَتَأَتَّ له قسمة ماء النيل، فرام ذلك مما يلي بلاد «الفرما» نحو بلاد «تنيس» على أنْ يكون مصب بحر القلزم إلى البحر، فقال «يحيي بن خالد»: يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف، وذلك أن مراكبهم تنتهي من بحر القلزم إلى بحر «الحجاز» فتطرح سراياها مما يلي «جدة» فيخطف الناس من المسجد الحرام و«مكة» و«المدينة» على ما ذكرناه، فامتنع عن ذلك.
وقد حُكي عن «عمرو بن العاص» حين كان ﺑ «مصر» — أنه رام ذلك فمنعه «عمر بن الخطاب» — رضي الله عنه — وذلك لما وصفناه مِن فِعْل الروم وسراياهم، وذلك في حال ما افتتحها «عمرو بن العاص» في خلافة «عمر بن الخطاب» — رضي الله عنه — وآثار الحفر بين هذين البحرين فيما ذكرنا من المواضع والخلجان على حسب ما شرعت فيه الملوك السالفة، طلبًا لعمارة الأرض وخصب البلاد وعيش الناس بالأقوات، وأن يحمل إلى كل بلد ما فيه من الأقوات وغيرها عن ضروب المرافق، والله تعالى أعلم.