الملك «أرتكزركزس» الأول وثورة «إيناروس»
على أثر موت الملك «أكزركزس» تَوَلَّى بعده الحكمَ «أرتكزركزس»، وقد حكم هذا العاهلُ
— على حسب رواية «مانيتون» — إحدى وأربعين سنة، ولكن على حسب الآثار التي تركها لنا،
نجد أن آخر سنة في حُكمه هي السنةُ السابعة عشرة، ويقول «سنسل Syncelle»: إنه حكم أربعين عامًا، (Ungur Chron-ologie
des Manetho p. 258)، و«أرتكزركزس» هو الابن الأصغر للملك
«أكزركزس».
وقد لاحظ الأثريُّ «فيدمان» مما جاء في النقش رقم ٣١ الذي عثر عليه في «وادي حمامات»
والمؤرخ بالسنة الخامسة من حكم الملك «أرتكزركزس» الأول (٤٦١ق.م)؛ أن الدلتا كانتْ في
ذلك الوقت في ثورةٍ عامةٍ، وقد استنبط أنَّ الوجهَ القبليَّ كان قد بقي خاضعًا للفرس
ولم يقم بأيِّ عصيان.
والظاهر أنه على أثر وفاة «أكزركزس» شبتْ نارُ فتنة في «مصر» تشبه التي قامت في أواخر
عهد «دارا» الأول بقيادة الملك «خبا باشا» — على بعض الأقوال — وحقيقةُ هذه الثورة أن
أميرًا من أمراء مملكة «لوبيا» — التي كانت تنحصر بين فرع النيل الكانوبي والصحراء
والبحر — يُدعى «إيناروس» ابن «بسمتيك» الذي يحتمل أنه كان من فرع الأسرة الساوية
القديمة التي أُبعدت عن عرش الكنانة منذ ستين عامًا مضت؛ قد ضَمَّ تحت لوائه بيُسْر
وسهولة الجزءَ الأعظمَ من بلاد الوجه البحري الواقع بين فرعَي النيل الرئيسيين، وقد
قوبل هذا الأمير بكل ترحاب في كل مكان دخله، وكان أولُ عمل حاسم قام به هو طَرْدُ جباة
الجزية من عمال الفرس، وكذلك أقصى جنود «أخمينيس» شطربة البلاد، ولم يكن أمام هؤلاء
الجنود إلا الالتجاء إلى «منف» حيث لم يكن يدور بخلد «إيناروس» أنه سيقفو أثرَهُم إلى
هناك ويقضي عليهم إلا بعد أن يتأكد من أنه في مأمن من عدم هجومٍ بحريٍّ عليه، وقد طلب
من أهل «برقة» مساعدتَه في هذا الصدد كما طلب من جمهورية «أثينا» ذلك بصفةٍ خاصة، وقد
أرسلت الأخيرةُ إليه من «قبرص» أسطولًا مؤلَّفًا من مائتيْ سفينة بحرية مزودة بخمسين
ألف مقاتل مدججين بالسلاح، بعضهم من «أثينا» نفسها، وبعضهم الآخر من حلفائها، وهذا
الأسطولُ قد تمكن فعلًا من الإقلاع في النيل دون عناء، وانضمت قوتُهُ إلى قوة «إيناروس»
التي حاصرتْ قلعة «منف»، وقد كان ذلك في الوقت الذي عاد فيه «أخمينيس» بجيشه فهزمه
«إيناروس» في «بابرميس» إحدى مدن الدلتا (Die. Geogr. IV p.
79) في عام ٤٥٩ق.م، وقد قَتَلَه وأرسل جثتَه إلى ملك الفرس
«أرتكزركزس»، وقد حاول هذا العاهلُ عبثًا أن يغري مملكة «إسبرتا» بالقيام بمهاجمة
عدوتها ومناهضتها «أثينا» انتقامًا لمساعدتها ﻟ «مصر»، ولجعل «أثينا» تسحب نجدتها من
«مصر»، ولكنه لَمَّا خاب مسعاهُ اضطر إلى إرسال جيش جديدٍ قوي إلى دلتا النيل، وقد
بُولغ في تقدير عدد هذا الجيش؛ إذ قُدر بنحو ثلاثمائة ألف مقاتل بقيادة شطرب «سوريا»
المسمى «مجابيز»، وقد كان هذا الجيش يعتمد على أُسطول يشد أزره قوامُهُ ثلاثمائة سفينة،
يقودها «أرتاباز».
وقد وقعت بين الفريقين موقعةٌ كانت نتيجتُها أن هُزم المصريون واليونان في هذه المرة
هزيمة ساحقة، وقد اضطرَّ المصريون إلى التخلِّي عن «منف» فطَارَدَهُم الفرس وحاصروهم
في
جزيرة «بروسوبيس Prosopis»، وبعد حصارٍ دام أكثر من
سنة ونصف السنة سَدَّ «مجابيز» مياه النهر، وبذلك أَمكَنه أن يستولي على الأُسطول
الذي أصبح يقف على اليابسة لانحسار المياه عنه (٤٥٦ق.م)، وبعد حربٍ دامتْ سنواتٍ دارت
الدائرةُ على المصريين فخَسِرُوا الحرب، وكان من جراء ذلك أن أُعدم «إيناروس» بوضعه على
خازوق، ومن ثم عادتْ «مصر» ترزخُ تحت نير الفرس من جديد.
هذا، وكانت «أثينا» قد أرسلت — بعد ذلك ببضع سنين — نجدة للمصريين مؤلفةً من خمسين
سفينة، دون عِلْمِها بِما حَلَّ بالجيشين المصري واليوناني، فاستولى عليها الفرسُ دون
عناء، وهي سائرةٌ في فرع النيل المنديسي (٤٥٥-٤٥٤ق.م)، وأخيرًا عقد في عام ٤٤٨ق.م صلح
«كالياس» بين «أثينا» وملك الفرس العظيم، وقد كان من شُرُوطه الواضحة الجلية عدمُ
محاولة «أثينا» التدخل في مصلحة «مصر» أو العمل على استقلالها القومي.
ولم يترك لنا «إيناروس» ولا معاصره «إمرتي» الأول — على ما يظهر — آثارًا، وعلى
أيَّةِ حال فإن «أرتكزركزس» الأول لم يكن معروفًا لدى المصريين في عهده مثل أسلافه؛
وذلك لأنه — على ما يظهر — لم يذهب إلى «مصر» قط،
١ ومما يَطيب ذكرُهُ هنا أنه في عصر هذا العاهل — وبخاصة في المدة التي ساد
فيها السكون؛ أي في المدة التي جاءت على أعقاب صُلح «كالباس» بين عامي ٤٤٨–٤٤٥ق.م — زار
المؤرخ اليوناني «هردوت» وادي النيل، وترك لنا وصفه الجغرافي الحر الغني بما حواه من
الملاحظات العجيبة عن الحياة السياسية والاجتماعية والدينية لوادي النيل، وعلى الرغم
مما حَوَاهُ مِن أخطاءٍ يرتكبها كُلُّ سائحٍ لا يعرف طبائعَ البلاد، فإن مؤلفه يعد
أنفس ما تركه لنا اليونان الأقدمون، وهو لا يزال حجة يرجع إليها عن العصر الذي عاش فيه
من ناحية ما رآه رأيَ العين.