إصلاح القناة على أيدي العرب
«عمر بن الخطاب» والقناة
لاحظنا في الوثائق العربية التي استعرضناها هنا بَعْضَ الغُمُوض في التعابير التي يصعب فهمُها على القارئ العادي، وتَدُلُّ كل الوثائق التي وصلتْ إلينا من كُتاب العرب على أن «عمرو بن العاص» هو الذي قام بإصلاح القناة ثانية حتى جعلها صالحة للملاحة، وقد شرح لنا السبب في ذلك الكاتب الفرنسي «لابيير» في مؤلفه المسمى «قناة البحرين»، وذلك على حسب ما جاء بكتاب «ابن عبد الحكم» الذي نقل — بدوره — عن «عبد الله بن صالح».
ويَتَلَخَّصُ ذلك في أنه حَدَثَ قحطٌ كبيرٌ في مدينة الرسول وفي كل أنحاء بلاد الحجاز، ومن أجل ذلك طلب الخليفةُ «عمر بن الخطاب» إلى «عمرو بن العاص» إرسال قافلة كبيرة العدد، فكان أَوَّلُها قد وصل إلى «المدينة» قبل أنْ يغادر آخرُها «مصر»، ويكفي أن يتصور الإنسان عِظَمَ الكارثة عندما يعرف أن المؤنة والجمال التي كانت تحملها لم تكد تكفي سد حاجة الناس هناك، ومن أجل ذلك أمر «عمر بن الخطاب» عامله على «مصر» «عمرو بن العاص»، بالحضور إلى «المدينة»، وهناك أمره بحفر قناة النيل التي تصل إلى البحر الأحمر؛ لتسهيل حمل الميرة التي يصعب حملها على ظهور الإبل.
ولم يرض المصريون عن هذا المشروع عن طيب خاطر؛ لأن ذلك كان فيه خرابٌ لبلادهم لمصلحة الغُزاة، ولكن الخليفة «عمر» فهم ما في قلوبهم وهدد «عمرا» إنْ هو لم يفعل ما أمره به، وقد عاد «عمرو» إلى «مصر» وجمع عددًا كبيرًا من العُمَّال وحفر القناة من النيل حتى «قصر القلزم» «السويس»، ولم تكد تنتهي السنة حتى أصبح في مقدور السفن أن تجري في القناة حاملة المؤن الضرورية إلى «مكة» و«المدينة».
رأي «عمر بن الخطاب» في إحياء التجارة القديمة
وقد روى لنا الكاتبُ «لابيير» — نقلًا عن وثيقة أُخرى لم يذكر لنا اسم مؤلفها — أن «عمرو بن العاص» أجاب عن خطاب أرسله «عمر بن الخطاب» إليه في هذا الشأن قائلًا: يا أمير المؤمنين «عمر» إني أعلم أنه قبل الإسلام كانت هناك سُفُنٌ تحمل إلينا التجارة من «مصر» وإنه منذ أن قمنا بفتح البلاد توقفت هذه الصلة وإن القناة رُدمتْ، وتَخَلَّي التجارُ عن السياحة فيها، فهل تريد أن آمر بحفرها ثانية؟
رواياتُ مؤرخي العرب عن إعادة حفر القناة
- (١)
القضاعي: روى «القضاعي» أن «عمر بن الخطاب» أمر «عمرو بن العاص» بحفر القناة التي تُسمى قناة «أمير المؤمنين»؛ وهي التي تخرج من عند «الفسطاط»، وقد أنجز حفر هذه القناة في أَقَلَّ من سنة.
- (٢)
الكندي: أما «الكندي» فيقول: إن هذه القناة كانت قد حُفرت في عام ٦٤٣-٦٤٤، وانتهت في ستة أشهُر.
«مصر» مصدر ثروة لبلاد العرب
وهذه الوثائقُ التي ذكرناها من قبل تخول لنا أن نقرر هنا أنه على أثر فتح «مصر» (٦٤٠–٦٤٢ميلادية)، رأى العرب ما كانت عليه «مصر» من خصب وثراء يمكنُ الإفادةُ منه لتموين بلاد «الحجاز» الفقيرة، ومن ثم رأى «عمر» ضرورة إعادة هذه الطريق المائية الهامة بين النيل والبحر الأحمر، تلك الطريق التي توصل إلى بلاد العرب وثغورها.
تطهير القناة من عند «الفسطاط»
ولم يكن القيام بكري القناة بالعمل الشاق؛ إذ كان مجرد تطهير، دون إحداث تغيير أو إصلاح في مجراها الأصلي، والواقعُ أن العمل في ذلك لم يمكثْ أكثر من سِتَّة أشهُر — كما ورد ذلك في رواية «الكندي» — وقد بُدِئَ العملُ في هذه القناة عند «الفسطاط»، وانتهى عند «القلزم»، وبذلك أصبح في استطاعة التجار استعمالُها دون أيِّ عائق.
فكرة حفر قناة مباشرة بين البحرين
ومن المُدهش في تاريخ إعادة هذه القناة بوصفها طريقًا مائية تربط بين البحرين؛ أنه قد فكر في العهد العربي في حفر قناة مباشرة بين البحرين، تأخذ من مائهما دون الالتجاء إلى قناة تخرج من النيل لتربط بينهما، فقد روى لنا المؤرخ «أبو الفداء» عن «ابن سعد» أنه بالقرب من «الفرما» يقتربُ البحرُ الأبيض المتوسط من البحر الأحمر، لدرجة أنهما لا يبعدان الواحد عن الآخر أكثر مِن حوالي سبعين ميلًا، وهذه المسافةُ التي تبلغ ١٠٤ كيلومترًا هي عبارة عن عشرة كيلومترات أقل من «الفرما» إلى «قصر القلزم» (السويس) إذا قِيست في خَطٍّ مستقيم.
عمرو بن العاص» أول مَنْ فكر في هذا المشروع
هذا، ويضيف «أبو الفداء» إلى ما سبق أن «عمرو بن العاص» كان لديه فكرةٌ في عمل قطع ليُوصِل البحرين بمائهما، وهذا القطعُ كان لا بد أن يُعمل في المكان الذي يُسَمَّى «ذنب التمساح»، وقد ذكر لنا ذلك «المسعوديُّ» الذي أوردنا متنه الغريب فيما سبق بشيء من التفصيل، ولكن رأيه في ذلك كان كرأي الكُتاب الأقدمين أمثال «أرسطو» و«ديودور الصقلي» و«بليني القديم» وهم معروفون عند المؤرخين العرب، فقد أعلنوا استحالة تنفيذ هذا المشروع بسبب أنَّ مستوى البحر الأحمر كان أعلى مِن مستوى البحر الأبيض، وهذه النظريةُ كانتْ من المحتمل جدًّا أنها ترجعُ في أصلها إلى وُجُود المستنقع الذي يروي «القلزم»، ولكن هذا المنسوب المرتفع كان يَتلاشى تمامًا عند «الفرما»، وكذلك نُشاهد في رواية المسعودي أن «عمرو بن العاص» قد ضرب صفحًا عن هذه الفكرة الجَذَّابة، وعاد إلى تَتَبُّع أثر القناة الخارجة من النيل وتطهيرها.
وأول فرع للقناة هو الذي يخرج من النيل إلى بحر القلزم، وكان هنا بالضبط كما ذكر المؤرخون العرب قد بدأ العمل الذي أنجز «عمرو بن العاص»؛ أي جعل قناة القدامى صالحة للملاحة بتطهيرها.
وعلى أية حال فإن المكان الذي ذكره كُلٌّ من «المسعودي» و«أبو الفداء» بأنه منبعُ القناة قد أُشير إليه بوضوح؛ إذ نجدُهُ مذكورًا حتى في أيامنا.
قنطرة «عبد العزيز بن مروان»
والعمل الوحيد الذي نجدُهُ مذكورًا في المتون الإغريقية واللاتينية هو القنطرةُ العظيمةُ التي يتحدث عنها «المسعودي»، وهي التي كان يَعْبُرُ عليها الحجاجُ المصريون المستنقع، وكان قد أقامها «عبد العزيز بن مروان» حاكم «مصر»، وهذه القنطرةُ — على ما يظهر — لم تكن إلا معبرًا، وقد عُثر على بقاياها، وليس من المستحيل أنها كانت قد أُقيمت هناك على أنقاض معبرٍ معروف منذ أزمان قديمة جدًّا، وكان الغرضُ منها أن تُوصِلَ إلى الطريق الكبيرة الآتية من «بابليون» و«القاهرة» و«منف» و«بلوز» (= الفرما) ويستمر «المسعودي» في متنه قائلًا: إن القناة كانت تمر بقنطرة في أرض «مصر» تُسمى «الهامة» (وكان العرب يقصدون بأرض «مصر» إقليم الدلتا الخصب)، وهنا كانت كذلك تبتدئ «مصر» في نظر القدامى، ومن المحتمل أن «الهامة» كانت تقع على الفرع البلوزي في إقليم «صفط الحناء» أو «بلبيس»، وذلك على حسب ما إذا كانت قناة العرب قد شغلت القناة الشمالية أو القناة الجنوبية لوادي «طميلات».
ومن المحتمل جدًّا — على أية حال — أن القناة الجنوبية هي قناة «هدريان»، وأنها هي التي أعاد العرب كَرْيها وجَعْلها صالحة للملاحة، يدل على ذلك ما حدثنا به المؤرخ العربي «الفرجان» الذي عاش في أوائل القرن التاسع الميلادي بمناسبة الخليج الذي كان أصل القناة النيلية: «إن القناة التي أصلحها «عمرو بن العاص» وسُميت باسم «خليج أمير المؤمنين» تمجيدًا ﻟ «عمر بن الخطاب» هي نفس قناة «تراجان» التي أطلق عليها «بطليموس» الجغرافي هذا الاسم.»
أسماء القناة عند المؤرخين العرب
أما عن الأسماء الأخرى لهذه القناة في المؤلفات العربية؛ فقد ذكر لنا «المقريزي» — فيما كتبه — بعضَ معلوماتٍ في هذا الصدد، فعلى حسبه سميت أولًا قناة «مصر»، والواقعُ أنها كانت تُحاذي الشاطئ الشرقي لهذا الإقليم الغني (يقصد الدلتا)، ولما أُسست مدينة «القاهرة» على مسافة قليلة من «الفسطاط» «بابليون» على الشاطئ الشرقي لهذه القناة سميت قناة «القاهرة»، ولكن كان اسمها الرئيسي أول الأمر هو «خليج أمير المؤمنين» وكانت تُسمى أحيانًا «قناة اللؤلؤة».
نقطة تَقابُل السفن في هذه القناة
ومِمَّا يطيبُ ذكرُه هنا أنْ نُقرر أنه على حسب ما جاء في المتون العربية؛ أن هذه القناة لم تكن تؤلف اتصالًا بحريًّا مباشرًا بين البحر الأبيض المتوسط والأحمر، وفي ذلك يقول «المسعودي» إن نقطة التقابُل كانت تَحدُث في أرض «مصر» (أي الدلتا) عند «الهامة» وذلك أن سفن النيل والقوارب الصغيرة التي تُشبه القوارب الشراعية التي تجري في البحر الأبيض حديثًا؛ كانت تأتي هناك لمقابلة قوارب البحر الأحمر، وهناك كانت تجري المعاملاتُ التجارية.
مدة السفر في القناة حتى البحر الأحمر
ويقول «ابن الطوير» في هذا الصدد إنه في وقت الفيضان — وهو أحسن فصل للسياحة — كان لا بد من خمسة أيام للسفن لتحمل على النيل والقناة المؤنَ المشحونة من «مصر» إلى «الحجاز»، وكان أهل «الحجاز» يُرسلون مثل أيامنا قواربَهم إلى «السويس» «القلزم» لملاقاة سفن النيل عند «القلزم» محملة بمحصول «مصر».
تاريخ طم القناة في العهد العربي
اتفقت كل المصادر العربية على الزمن الذي طمت فيه القناة والأسباب التي دعت إلى ذلك، فقد كتب «المقريزي» أن الناس كانت تسيح في هذه القناة إلى الوقت الذي ثار فيه «محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب» في «المدينة» على «أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور» ثاني خلفاء بني العباس.
ويروي لنا «شمس الدين البلاذري» نفس الرواية في عهد الخليفة السالف الذكر، ولكنْ تختلفُ تواريخُ هذا الحادث على حسب أقوال المؤرخين من ٧٦٢ إلى ٧٦٧ ميلادية، ويؤكد «المقريزي» أنَّ رَدْمَ القناة قد حدث في سنة ٧٦٧-٧٦٨ ميلادية.
هذا، وقد رأينا عند درس المتون التي وردتْ عن القناة أنه في عام ٧٥٠ ميلادية أن الراهب «فيدليس» عند ذهابه إلى شِبْهِ جزيرة «سيناء» سَاحَ في النيل حتى «القلزم» بوساطة القناة، أما «شمس الدين» فيُحَدِّد ردم القناة بأنه قد نفذ بسد فتحة مصبها عند «القلزم».
رأي «المسعودي»
ولكن إذا صَدَّقْنا ما رواه «المسعوديُّ» من أن خلف المنصور — وهو أمير المؤمنين «هارون الرشيد» — قد تناول ثانية مشروع إحياء المواصلات بين البحرين؛ فإن ذلك يعد تجديدًا لفكرة «عمر» فيقول:
«فرام ذلك مما يلي بلاد «الفرما» نحو بلاد «تنيس» على أن يكون مصب بحر القلزم إلى البحر الرومي»، وعلى ذلك يكون هذا المشروع عبارة عن الأخذ ثانية بفكرة «عمرو بن العاص»، وهي إنشاء قناة مباشرة من «بلوز» إلى «الفرما» دون استعمال ماء النيل.
وإنه لمن الغريب حقًّا أن يكون إحجام «الرشيد» أو تخليه عن تنفيذ هذا المشروع يرجع إلى فكرة سياسية كالتي فرضناها عند تفسير ردم «دارا» للقناة، على حسب ما جاء في الحملة الغامضة التي وردتْ في لوحة «كبريت»، غير أنَّ «الرشيد» القوي السلطان لم يخلفه على العرش رجلٌ قوي مثل «أكزركزس» الذي أَتَمَّ حفر القناة التي بدأها «دارا الأول» والده.
هل بدأ «الرشيد» في تنفيذ مشرُوعه؟
ومِن المهم جدًّا أنْ نبحث فيما إذا كان ما رامه «الرشيد» — كما يقول «المسعودي» — قد اتخذت الخطوةُ الأُولى في تنفيذه؛ لأنه على حسب ذلك قد يكون في أيدينا المفتاح لحفر جُزءٍ من القناة، وهو الذي يبتدئُ مِن أول الجسر وهضبة الفردان، والواقعُ أنه ليس ببعيدٍ أن يكون «الرشيدُ» قد بدأ فعلًا هذا العمل، ثم أحجم عنه؛ وذلك لأنه كان صاحبَ مشاريعَ مائية عظيمة نُفذت في عهده، وبخاصة في بلاد الحجاز، ولا أَدَلَّ على ذلك مما قامتْ به زوجُهُ «زبيدة» مِن سَقْيِ أهل «مكة» من عين ماء تقعُ على مسافة ٢٥ كيلومترًا من «مكة» وأنفقت في حفر القناة التي توصل هذه العين «بمكة» حوالي ما يُساوي ثلاثة ملايين من الجنيهات، وذلك بعد أنْ كانت الروايةُ عند أهل «مكة» بدينار.
وقد ظلتْ هذه القناة مهملة، لم يُحاول أحدٌ إعادةَ فتحها حتى عام ١٥٨٦ميلادية.