طرد الفرس من «مصر»
لم يَرْضَ الشعبُ المصري يومًا ما بالحكم الفارسي مدة تسلُّطه عليه؛ ولذلك فإنه كان
يتحين الفرصَ للتخلُّص من نيرهم، كما تخلص مِن قبل مِن نير الآشوريين، وقد واتت الفرصةُ
المصريين حوالي عام ٤٩٠ق.م، عندما هزم الإغريقُ الفرسَ هزيمة منكرة في واقعة «ماراتون»
بالقرب من «أثينا»، ومنذ ذلك العهد اتجهتْ أنظارُ عاهل الفرس نحو بلاد الإغريق، ومن ثم
أخذ يعبئ حملة ضخمة للقضاء عليها، ومسح العار الذي لحق ببلاده وبجيشه.
وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أن الفرس لم يُضَيِّقُوا الخناقَ على المصريين، ولم
يُتابعوا ملاحظةَ سير الأُمُور فيها عن كثب، ولا أَدَلَّ على ذلك من أنه في عام ٤٨٦ق.م،
قامت ثورةٌ في الوجه البحري؛ أي بعد واقعة «ماراتون» بمدة قصيرة، وفي ذلك يقول «هردوت»
(راجع: Herod. VII 1)؛ وعندما وصلت أخبار موقعة
«ماراتون» إلى «دارا» بن «هيستابس» الذي كان في شدة الغيظ والحنق على الآثينيين بسبب
هجومهم على «ساريس» في «آسيا الصغرى» ازداد غضبُهُ جدًّا وأصبح تَوَّاقًا بشدة إلى
شَنِّ حربٍ على الإغريق، وبعد أن أرسل في الحال رُسُلًا إلى المدن المختلفة حتم عليها
أن تجهز جيشًا، وفرض على كل مدينة عددًا أكبر مما كانت تُقَدِّمُهُ من قبل من السفن
والخيل والغلة وسفن الشحن، وعندما أُعلنت هذه الأوامرُ في أنحاء الإمبراطورية أصبحت
كُلُّ بلاد «آسيا» في اضطرابٍ لمدة ثلاث سنوات، وقد انخرط أشجعُ الرجال في الجيش
واستعدُّوا لغزو بلاد الإغريق، ولكن في السنة الرابعة ثار المصريون — الذين كان قد
أخضعهم «قمبيز» — على الفرس، وعندما كان «دارا» يستعدُّ للقيام بحملة على «مصر»
و«أثينا» قام نزاعٌ شديدٌ بين أولاده على خلافة الملك، وانتهى أمرُ هذا النزاع باختيار
«أكزركزس»؛ ليكون خليفته على ملك «فارس» (٤٨٥–٤٦٤ق.م).
وعلى أية حال فقد مات «دارا» قبل أن يقوم بالحملة على «مصر» لإخضاعها، وترك ذلك لابنه
«أكزركزس» الأول، وتدلُّ شواهدُ الأحوال على أن الأخيرَ لم يكن مَيَّالًا لمحاربة
الإغريق، ولكن من جهة أُخرى جَهَّزَ جيشًا لإخماد الثورة في «مصر»، ويُحدثنا «هردوت»
في
ذلك قائلًا: (راجع: Herod. VII, 5–7): ولكن «مردنيوس»
بن «جوبرياس» وهو ابن عم «أكزركزس» وابن أخت «دارا» الذي كان حاضرًا وله تأثيرٌ عظيمٌ
جدًّا عليه أكبر من كل الفرس؛ كان يخاطبه باللغة التالية قائلًا: «سيدي إنه ليس من الحق
أن الأثينيين بعد أن أوقعوا أضرارًا كبيرة بالفرس أن يُتركوا دُون عقاب على ما ارتكبوه
من أعمال، وعلى أية حال فَلتُنهِ الآن المشروعَ الذي تقوم به، وعندما تقضي على
وقاحة «مصر» سَرْ بجيشك على «أثينا» حتى تنال شهرةً حسنةً بين الناس، وكُلُّ واحد
سيأخذُ حذره للمستقبل، إذا سَوَّلَتْ له نفسُهُ الزحفَ على قطرك.»
وفي السنة الثانية من حكمه قام بالحملة على «مصر»، وفي ذلك يقول «هردوت»
(Herod. VII, 7) وعندما أقنع «أكزركزس» بإشعال نار
حرب على الإغريق قام أولًا وقتئذٍ في السنة الثانية بعد موت «دارا» بحملة على الثائرين،
وبعد ذلك صير كل «مصر» في حالة استعباد أسوأ مما كانت عليه في عهد «دارا» ووكل أمر
حكومتها إلى شقيقه «أخمينيس» بن «دارا».
وبعد ذلك ولى «أكزركزس» وجهه شطر بلاد الإغريق لمحاربتها، وكان من جراء الهزائم التي
توالتْ عليه وعلى جيوشه في حروبه مع بلاد الإغريق أن اندلعت نار الفتن في أنحاء
المديريات الفارسية، وقد اغتيل «أكزركزس» وخلفه على عرش الملك ابنه «أرتكزركزس»
(٤٦٤–٤٢٤ق.م) وفي خلال حُكم هذا العاهل قامت ثورةٌ في «مصر» مطالبةً بتحرير نفسها،
وكانت أَشَدَّ خطرًا وأكثرَ عُنفًا من التي قامتْ في عهد «دارا» الأول.
وكان القابضُ على زمام هذه الثورة في «مصر» أميرٌ يُدعَى «إيناروس» بن «بسمتيك» وهو
على ما يظن نوبي الأصل، وقد امتدت الثورةُ في أنحاء البلاد وساعد «إيناروس» وشد أزرَه
مصريٌّ آخرُ يُدعَى «إمرتي» من بلدة «سايس»، وتدلُّ الأحوالُ على أنه من الأسرة الملكية
الساوية المنحلَّة، وفي تلك الأثناء وجد الأثينيون فرصة لإضعاف عدوهم الأكبر ملك الفرس،
فأرسلوا أُسطولًا قوامُهُ ثلاثمائة سفينة حربية — على حسب رواية «ديودور» الصقلي
(Diod. Xl, 71) ومائتا سفينة في روايةٍ أُخرى
(Ibid. Xl, 74)، أما المؤرخُ العظيمُ «ثوسيديد»
فيقول إن عدد السفن كان مائتي سفينة (راجع: Thucydide, J.
104) وقد سار هذا الأسطولُ في النيل حتى وصل إلى «منف»، ولكن قبل
أن يصل هذا الأسطولُ إلى «مصر» كان «أرتكزركزس» ملك الفرس، قد ساق جيشًا عرمرمًا
قوامُهُ ثلاثمائة ألف مقاتل إلى «مصر»، وقد تَقابل الجيشُ المصري مع الجيشِ الفارسي عند
بلدة «بابرميس»، وهي عاصمةُ إحدى مقاطعات الوجه البحري، لا يُعرف موقعها، وكان يُقام
في
هذه البلدة عيدٌ خاص (راجع: Reallexikon p. 582)، وقد
هزم المصريون في بادئ الأمر، ولكن كانت لهمُ الغلبةُ فيما بعد، عندما وصل إليهمُ المددُ
الإغريقي، وقد كان بين الموتى في الجانب الفارسي «أخمينيس» أخو ملك الفرس.
وبعد ذلك تقهقر الأحياءُ من الفرس إلى «منف»، أما المنتصرون في «بابرميس» فقد
أقاموا الحصار أمام «منف»، وقد اضطرَّ الفرسُ إلى التخلِّي عن جُزء منها للمصريين،
وأقاموا المتاريسَ في جُزء مُحَصَّنٍ منها، وأخذوا في مقاومة هجمات الجيش المصري
الإغريقي، (راجع: Diod XI 74; Ktesiaas 33; Pline Histoire Naturelle
xxxv, 11, 40; Isocrate sur la paix 86).
ولكنْ لم يمضِ أكثر من ثمانية عشر شهرًا حتى انتقم الفرسُ لأنفسهم، وهزموا الجيشَ
المصري، وقد اضطرَّ الإغريقُ إلى الالتجاء إلى جزيرة «بروزوبيتيس Prosopitis» وأحرقوا سفنهم التي كانت على استعداد لمنازلة الفرس في
موقعة فاصلة، ولكن الفرس لم يهتموا باقتفاء أثرهم، وبذلك أمكنهم العودةُ إلى بلاد
الإغريق مارين على ما يظن ببلاد «لوبيا».
(راجع: Diod xI, 77.)
أَمَّا «إيناروس» الذي كان قد جُرح في الحرب؛ فقد وقع أسيرًا وسِيق إلى «سوس» حيث
أمر
«أرتكزركزس» بقتله، وقد حاول الإغريق كرةً أُخرى اختراقَ الدلتا، ولكن أُسطولهم هُزم
هزيمة منكرة على يد الأسطول الفنيقي الذي كان وقتئذٍ في خدمة الفرس (راجع:
Diod. XI, 77; Thucydide 1, 110).
وبعد موت «إيناروس» بقي «أمرتي» القائد الوحيد الذي يقود الوطنية، ويقول «جروت»
المؤرخ المعروف عن هذه الحرب (Grote XLV p. 417 Vol. V. Every mans
Ed) وفي مقابل الانتصارات العدة التي انتصرها الأثينيون لا بُدَّ
أن نحسب هزيمتهم الجائحة في «مصر» بعد حُرُوبٍ دَامَتْ ستة أعوام مع الفرس (٤٦–٤٥٥ق.م)
وقد نالوا — في بادئ الأمر — نجاحًا لامعًا مع الأمير «إيناروس» الثائر على الفرس،
فطردوا الفرس من كل «منف» إلا أقوى جُزء منها الذي يُسَمَّى «القلعة البيضاء»، وقد كان
انزعاج ملك الفرس عظيمًا؛ لوجود الأثينيين في «مصر» لدرجة أنه أرسل «مجابازوس Megabaxus» بمبلغ عظيم من المال إلى مملكة «إسبرتا»
لإغراء اللاسيدامونيين على غزو «أتيكا»، وعلى أية حال فإن هذا المبعوث لم يفلح في
مأموريته، وعلى ذلك أرسلتْ قوةٌ كبيرة من الفرس إلى «مصر» بقيادة «مجابازوس» بن
«زوبيروس Zopyrus» (راجع: Herod.
III 160).
فطرد الأثينيين وحلفاءَهم بعد موقعةٍ عنيفةٍ من «منف» إلى جزيرة في النيل تُدْعَى
«بروزوبيتيس Prosopitis» وقد حُوصِروا فيها مدةَ
ثمانيةَ عشرَ شهرًا إلى أن حول «مجابازوس» مياهَ فرع النيل، وجعل مجراه يَجِفُّ، ثم
هاجم الجزيرةَ أرضًا وقد نجا القليلُ جدًّا من الأثينيين من طريق البر إلى «سيريني»،
أما سائرُ الجيش فقد قُتل أو أُسر، وكذلك قتل «إيناروس» نفسُهُ، وقد زاد في هزيمة
الأثينيين وصولُ خمسين سفينة أثينية بعد الهزيمة التي مُني بها الأثينيون، ولكن هذه
السفنُ كانت قد وصلتْ دون علمٍ من رجالها بذلك، فسارتْ في فرع النيل المنديسي، وبذلك
وقعتْ — على غفلة من رجالها — في قبضة الفُرس والفنيقيين، ولم يَنْجُ من هذه السفن إلا
القليلُ جدًّا، وقد أصبحتْ كل مصر ثانية خاضعةً للفُرْس إلا الأمير «أميرتاوس» الذي
حاول أن يُحافظ على استقلاله بالارتداد إلى مناقع الدلتا الصعبة المنال، وهكذا نرى أن
أُسطولًا بحريًّا من أكبر الأساطيل التي أرسلتْها «أثينا» وحلفاؤها لطرد الفرس قد
مُزِّقَ شملُهُ تمامًا. هذا، وقد كتب «ديودور» رواية مخالفة لِما ذكرناه (راجع:
Diod XI, 77, XII, 3).
وقد أفلح «أميرتاوس» في المحافظة على استقلاله — في الدلتا على الأقل — حتى عام
(٤٤٩ق.م)، وقد طلب النجدة ثانية من «أثينا»، فأرسلتْ إليه أُسطولًا مؤلَّفًا من ستين
سفينة حربية، ولكنه على أثر سماعه بموت «سيمون» عاد إلى بلاد الإغريق حتى قبل أن يصل
إلى الشواطئ المصرية (راجع: Thucydide 1, 112; Plutarch Cimon
18) ولما رأى المصريون أنَّ الصلح قد أُبرم بين «أثينا» والفرس
هدأتْ ثورتُهُم؛ لفقدان أملهم في مساعدة «أثينا»، هذا بالإضافة إلى أن الشطرب الجديد
قد
أظهر تسامحًا وسياسة ماهرة؛ إذ نصب «تاميراس» و«بوزيرس» ابني «إيناروس» الذي قاد الثورة
و«أميرتاوس» شريكه في الحركة الوطنية على رأس الحكومة التي كان يُسيطر عليها
والداهما.
وقد جاء ذِكْرُ ذلك في «هردوت» على سبيل ذِكْر احترامِ الفُرْس لأولاد الملوك، فيقول:
لأن الفُرس كانوا معتادين تكريمَ أولاد الملوك، وحتى لو كانوا قد تمردوا عليهم، فإنهم
مع ذلك كانوا ينعمون بالحكم على أولادهم، ويُمكن البرهنةُ على وُجُود هذه العادة
بأمثلةٍ كثيرةٍ أُخرى، ومن بينها ما حدث للأمير تاميراس بن «إيناروس» اللوبي الذي
أُعيدتْ له حكومةُ والده، و«بوزيريس» بن «أميرتاوس» الذي أُعيدت إليه حكومةُ والده، ومع
ذلك لم يفعلْ أحدٌ سوءًا للفرس أكثر مما فعله كُلٌّ من «إيناروس» و«أميرتاوس»، وعلى
الرغم من هذا التسامُح وحُسن المعاملة؛ فإن «مصر» لم تخضعْ بأكملها للحُكْم
الفارسيِّ.
وحقيقةُ ذلك أن مصريًّا يُدعَى «بسمتيك» أرسل في عام ٤٤٥ق.م ثلاثمائة ألف مكيالًا
من
الغلال (سعة المكيال حوالي ١٣ لترًا) إلى «أثينا» (وعلى حسب ما جاء في «بلوتارخ» ٤٠ ألف
ميكال) (راجع: Plutarch Pericles 37)، ومن الجائز جدًّا
أن ذلك كان ثمنًا للمساعدة الحربية التي أرسلتْها «أثينا» إلى «مصر» أثناء صورة الدلتا،
ولم تحدثْنا النقوشُ أو المحفوظاتُ عن شيء أكثر بمناسبة هذه الثورة.
وعلى أثر موت «أرتكزركزس» الأول قامت المشاحناتُ العادية — كما ذكرنا آنفًا — على
تولي عرش الملك، ولم تَمض إلا بضعةُ أَشْهُر حتى مات كُلٌّ من «أكزركزس» الثاني
وقاتِلُهُ، وهو أخوه «سوجديانوس»، وتولى عرش البلاد أخٌ ثالثٌ لهما يُدعَى «أوكوس»، وهو
الذي تَسَمَّى باسم «دارا» الثاني (٤٢٤–٤٠٤ق.م).
والأثرُ المصريُّ الوحيدُ الذي يُنسب إلى عهده في «مصر» هو الأنشودةُ التي حُفرت على
جدران معبد الواحة الخارجة الذي أقامه «دارا» الأول — كما ذكرنا من قبل.