صالح
«إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، فإنْ فعلتَ ذلك فأنت ابني حقًّا.» قال الصبي وهو يبتسم لأمه التي كانت تحدِّثه هذا الحديث وهي تداعب خده: «فإن لم أفعل فابن مَن أكون؟»
هنالك وجمت أم الصبي شيئًا، وتضاحك من حولها بنوها وبناتها، ولكنها لطمت خد الصبي لطمة خفيفة ظريفة وهي تقول: «إنك لطويل اللسان، كثير الخصام.» ثم دسَّتْ في يد الصبي قطعة من سكر، وأعادت عليه قولها: «إذا سمعت الشيخ يرفع صوته بالتكبيرة الأخيرة فأنبئني، وإنْ فعلت ذلك فلك مثلها قبل أن تنام.» قال الصبي وهو يقضم السكر قضمًا: «أما الآن فنعم.» ثم انطلق مسرعًا يتبعه ضحك أمه ومَن حولها بنوها وبناتها.
وكانت الدار قائمة قاعدة في ذلك المساء؛ فقد ألمَّ بها ضيف لهم خطر ومكانة في الإقليم، وهم لم يُقبِلوا أصفار الأيدي، وإنما أقبلوا يحملون من الطرف والهدايا شيئًا كثيرًا. وكانت سيدة الدار حريصة دائمًا على الاحتفاء بالضيف، مهتمة في ذلك المساء بالتكبيرة الأخيرة حين يرفع الشيخ بها صوته ليخرج بها من دعائه بعد صلاة المغرب. فقد كانت أصناف الطعام مهيَّأة تنتظر أن تُحمَل إلى المائدة حين يفرغ الضيف من صلاتهم مع الشيخ، وكان الثريد وهو أول هذه الأصناف قد هيِّئَ، ولكن تهيئته لم تتم بعدُ، فقد فُتَّ الخبز في طبق كبير، وأُعِدَّ المرق، وتم إعداد الأرز، وقُطِع الثوم قطعًا توشك أن تشبه الذرات، ولكن إعداد هذا الصنف يجب ألا يتم إلا في اللحظة الأخيرة حتى لا يشرب الخبز كل المرق، ولا يذهب ريح الثوم والخل في الجو، ولا يبرد الأرز فيفسد ما أُلقِيَ عليه من السمن. من أجل هذا كله لم يكن بد من أن يتسمع الصبي لدعاء الشيخ، حتى إذا رفع صوته بالتكبيرة الأخيرة أسرع إلى أمه فأنبأها، وأسرعت هي إلى هذه الأخلاط من الخبز والمرق والثوم والخل والأرز فجمعتها في هذا الطبق الكبير الذي كان ينتظرها منذ حين، فإذا استفتح العشاء بهذا الصنف تبعته الأصناف الأخرى على مهل وريث، فليس في الإبطاء بها بأس ولا جناح، ولكن الصبي لم يُنبِئ أمه بشيء لأنه لم يسمع شيئًا، وإنما شُغِل عن التكبيرة الأولى وعن التكبيرة الأخيرة بأمر ذي بال. وقد فرغ الشيخ وضيفه من صلاتهم، وجلسوا يتحدثون ينتظرون أن يُحمَل إليهم العشاء، وجعل الشيخ يترقَّبُ هذا العشاء قلقًا؛ لأنه لم يتعوَّد مثل هذا الإبطاء حين يلم به الضيف. وقد همَّ غير مرة أن يضرب إحدى يديه بالأخرى ليعلم أهل الدار أن الضيف ينتظرون، ولكنه استحيا وكره أن يُظَنَّ به تنبيه أهل الدار، وأن يُظَنَّ بأهل الدار غفلة أو إهمال، فمضى في حديثه يرفع به صوته. ومرت من وراء الباب إحدى بناته، فسمعت الصوت يرتفع بالحديث، وأسرعت إلى أمها فأنبأتها بما لم يُنبِئها به الصبي، وما هي إلا لحظة حتى كان الضيف إلى مائدتهم يأكلون ويلغطون.
وقد كان الصبي خالص النية صادق الرأي، قد اتَّخَذَ مرقبه في زاوية من فناء الدار، هنالك حيث تجتمع قطع من الحديد كان يراها كنزه، وكان يخلو إليها فينفق الساعة والساعات في جمعها وتفريقها، وطَرْقِ بعضها ببعض، يجد في ذلك تسلية ولهوًا، ينفرد به مرة ويشارك فيه أخته الصغيرة مرة أخرى، وقد جلس في زاويته تلك أمام حديده ذاك، واعتزم إذا أتم التهام قطعة السكر أن يُقبِل إلى قطع الحديد فيعبث بها في رفق، مانحًا الشيخ وضيفه إحدى أذنيه، مستمعًا متتبعًا لصلاتهم، حتى إذا سمع التكبيرة الأخيرة يرتفع بها صوت الشيخ انسلَّ إلى أمه فألقى إليها النبأ، ثم عاد إلى لعبه فمضى فيه.
ولكنه لم يكد يستقر في زاويته ويمضي في قضم سكره حتى أحس يدًا تمس كتفه، ونظر فإذا رفيقه صالح ماثل أمامه يداعب كتفه بإحدى يديه، ويقبض بيده الأخرى على طاقة من زهر الحقول يقدِّمها إليه باسمًا. وقد نظر الصبي إلى صالح فراعه ثوبه الممزَّق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغي، وقد انشقَّ عنه كتفه فظهرتا منه نابيتين، والثوب على ذلك رثٌّ قذر، يُظهِر من جسم الصبي أكثر مما يُخفِي، كأنه أسمال قد وُصِل بعضها ببعض وصلًا ما، وعُلِّقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقًا ما، لتستر منه ما تستطيع، وليقال إن صاحبه لا يمضي به متجردًا عريانًا. ثم رفع الصبي رأسه إلى وجه صالح فرأى بؤسًا شاحبًا يشيع فيه، ورأى ابتسامة فيها كثير من حزن، وكثير من أمل، ورأى عينين تدوران تنظران إلى ما حولهما، تنخفضان حينًا إلى هذا الحديد الملقى على الأرض، وترتفعان حينًا إلى قطعة السكر في يد رفيقه، وترتفعان بعد ذلك إلى عناقيد الكَرْم هذه التي تتدلى على الجدران، وتمتد على هذه العيدان التي نُصِبت لتحملها.
والصبي على ذلك كله باسط يده إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول، يقول له: «لم أُرِدْ أن أعود إلى دارنا دون أن أمرَّ بك، وأحمل إليك هذه الأكمام التي لم تتفتَّحْ بعدُ. خُذْها إليك وضَعْها في إناء فيه شيء من ماء، وانتظر بها الصبح، ثم أقبل عليها فستراها متفتحة عن زهر جميل طيب الرائحة.» لم يقل الصبي لصالح شيئًا، وإنما أخذ منذ زهراته وأعطاه ما بقي في يده من قطعة السكر، وأشار إليه أن يجلس ويلعب معه بقطع الحديد. وقد أخذ صالح قطعة السكر فأطال النظر إليها، والتحديق فيها، وقرَّبَها من فمه، ثم أبعدها عنه، ثم نظر إليها نظرة قصيرة، ثم دسَّها في فمه بين خده وأضراسه، واستأنى بها لتذوب في رفق، وليطول استمتاعه بذوقها الحلو، ثم جلس وأخذ يقلِّب مع رفيقه قِطَع الحديد، ثم لم يَطُلْ صمت الرفيقين، وإنما استأنفا حديثهما عن الكُتَّاب وعن الرفاق، وعن الحقل، وعن أهل القرية. وأُنسِي الصبي بهذا كله صلاة الشيخ والضيف والنبأ الذي كان يجب أن يحمله إلى أمه، ولم يرعه بعد وقت طويل أو قصير إلا صوت أخته تدعوه من وراء الباب إلى العشاء.
وقد فرغ الشيخ وأصحابه من طعامهم، وفرغوا كذلك من الصلاة الآخِرة وما يتبعها من دعاء، ودارت عليهم قهوة الليل، وجمعت ربة الدار الصغار من بنيها وبناتها إلى طعامهم، وافتقدت صاحبنا ذاك المهذار، فأرسلت أخته تلتمسه في مظانه.
ولما سمع صوت أخته تدعوه أبطأ في الاستجابة لها؛ لأنه لم يكن يدري كيف يخلص من رفيقه، أو لم يكن يحب أن يخلص من رفيقه، ولكن صالحًا قال له في صوت خافت حزين: «أَجِبْ، إنك تُدعَى إلى العشاء.» قال الصبي لصالح: «وأنتَ هل تعشَّيْتَ؟» قال صالح: «سأتعشَّى حين أبلغ الدار.» ونهض متثاقلًا، وأدبر يريد أن يخرج، ولو استطاع لأقام، ولكنه مضى. وعاد الصبي إلى أمه وفي يده تلك الزهرات، فلما رأته أنكرت نسيانه لما أمرته به، ولكنها سألته عن هذه الزهرات مَن حمَلَهن إليه. قال الصبي وفي صوته اختلاجة خفيفة: «حملهن إليَّ صالح بن الحاج علي.» قالت أمه: «ولم تعطه شيئًا؟» قال الصبي: «أعطيته ما بقي لي من قطعة السكر.» قالت أمه: «وما تراه يصنع بقطعة السكر؟ أتراه يدفع بها عن نفسه الجوع، ألَمْ تسْتَبْقِهِ للعشاء؟» قال الصبي مضطربًا: «هممت ولكني لم أجرؤ.» قالت أمه: «فامضِ في إثره مسرعًا حتى تعود به وحتى تتعشى معه.» وانطلق الصبي كأنه السهم، ولم يكد يجاوز باب الدار حتى رفع صوته بدعاء صاحبه، ولكنه لم يحْتَجْ إلى أن يعدو، ولا إلى أن يكرِّر الدعاء، فقد كان صالح قائمًا أمام الدار قد استند إلى الحائط، ومدَّ بصره أمامه، وقدَّم إحدى رجليه وأخَّرَ الأخرى يريد أن يمضي، وتنازعه نفسه إلى البقاء. فلما سمع صوت رفيقه أجاب مستخذيًا: «هأنذا، ماذا تريد؟» قال الصبي: «أريد أن تبقى لنتعشى معًا.» ولم يقل صالح شيئًا، وإنما تحوَّلَ إلى رفيقه، وسعى في إثره هادئًا مطرقًا كأنه الكلب يتبع صاحبه إذا دعاه.
ولم يكد الصبي يغلق الباب من دونه حتى رأى إحدى أخواته قد وضعت في زاويته تلك كرسيًّا مستديرًا وعليه صينية مستديرة مثله، وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التي قُدِّمَتْ للضيف. وأبت أخت الصبي أن تشارك الأسرة في عشائها، وآثرت أن تقوم على خدمة هذين الرفيقين، حتى إذا فرغا من طعامهما مضى صالح موفورًا، وعاد الصبي إلى أمه راضيًا، فقالت له وهي تمسح رأسه: «إذا زارك رفيق لك في وقت العشاء، فلا ينبغي أن تدعه ينصرف دون أن تدعوه إلى مشاركتك في الطعام.» ثم قالت له بعد صمت قصير: «وهل تعلم أن صالحًا إنما حمل إليك هذه الزهرات ليتعشى؟» قال الصبي: «لا أعلم.» قالت أمه: «لقد رأى الأضياف حين أقبلوا، ورأى ما حملوا من الطرف والهدايا، وعلم أن سيكون في الدار خير كثير في هذا المساء، فأراد أن يصيب منه شيئًا، واتخذ أزهاره هذه تعلَّة يلم بها في الدار ليقدِّمها إليك.» قال الصبي: «لو رأيتِ ثوبه وقد بدا منه صدره وظهره وكتفاه!» قالت أمه: «إذا خرجْتَ من الكُتَّاب غدًا فاحمله على أن يصحبك، فإن عندي من ثيابك ما يكسوه.»
ثم انصرفت إلى بنيها وبناتها تحدِّثهم عن الضيف وعن العشاء، تلوم هذه لأنها نسيت أن تحرِّك الأرز حين ألقته في الماء وهو يضطرب من الغليان، وأوشك هذا اللون من ألوان الطعام أن يفسد، ويصبح عجينة متماسكة لا تصلح لشيء، ومن حق الأرز ألَّا يلتئم ولا يتماسك، وأن تتفرق حباته وتمتاز. وتثني على تلك لأنها رفقت بالفالوذج، فلم تتركه سائلًا تفيض به الملاعق كأنه الحساء، ولم تجعله جامدًا تقطعه الملاعق قطعًا، ولم تهمل تحريكه حتى تتخلله تلك العقد البغيضة التي لا تجعله سائغًا ولا يسيرًا، وإنما صنعته سواء سهلًا لا يبلغ الأفواه حتى تدعوه الحلوق، وهو فيما بين ذلك خفيف حلو المذاق. وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث التي كانت تعلِّمهن بها فنون الطهي، والتي كان أبناؤها يسمعون لها فيغرقون في ضحك متصل، وإذا الصبي يقطع عليها حديثها، ويسألها: «ما بال صالح لم يتعشَّ في داره؟» أجابت أمه: «ألم أقل لك إنه أحس أن سيكون عندنا خير كثير، فأراد أن يصيب منه؟» قال الصبي: «فإني أرى الأضياف يلمون بجارنا كما يلمون بنا، وأعرف أن عند جارنا خيرًا كثيرًا، فلا أسعى إلى أترابي من أبنائه، ولا أحاول أن أصيب ما عندهم.» قالت: «لأنك لست في حاجةٍ إلى ذلك، فلست محرومًا.» قال الصبي: «فصالح محروم إذن؟» قالت أمه متضاحكة، وقد أخذ إخوته من حوله يضيقون بلجاجته وإلحاحه: «لأن أباك ميَسَّر عليه في الرزق، وقد قُتر في الرزق على أبي صالح.» قال الصبي: «ولماذا؟» قالت أمه: «إنك لمكثار.» ثم التفتت إلى كبرى بناتها وهي تقول: «خذيه إلى مضجعه، فقد تقدَّمَ الليل، وآنَ له أن ينام.»
وأصبح الصبي، فغدا على كُتَّابه كما تعوَّدَ أن يفعل خمسة أيام في الأسبوع. وقد يخطر للقارئ أن يسألني عن هذا الصبي: ما اسمه؟ وما موطنه؟ وما بيئته؟ وما أسرته؟ ومَن عسى أن يكون؟ ولكني أجيب القارئ إنْ خطرت له هذه الأسئلة كما كان الكاتب الفرنسي «ديديرو» يجيب قرَّاءه حين يُخَيَّل إليه أنهم يسألونه أو يهمون أن يسألوه عن بعض الأمر من قصصه؛ أجيب القارئ بأنه يسرف على نفسه وعليَّ بهذه الأسئلة التي قد يكون الرد عليها مفيدًا لتكون القصة منَّسَقَةً، حسنة البناء، ملتئمة الأجزاء، يأخذ بعضها برقاب بعض، كما كان النقاد القدماء يقولون. ولكني لا أحاول أن أضع قصة فأخضعها لما ينبغي أن تخضع له القصة من أصول الفن كما رسمها كبار النقَّاد، فقد يجب لتستقيم القصة أن يُحدَّد الزمان والمكان وتستبين شخصية الناس الذين تحدُث لهم الحوادث أو الذين يُحدِثون هذه الحوادث، الذين تعرض لهم الخطوب، أو الذين يبتكرون هذه الخطوب.
لا أضع قصة فأُخضِعها لأصول الفن، ولو كنتُ أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أؤمن بها، ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمَن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومَن ضاق بقراءته فَلْينصرف عنه، ومَن شاء أن يرضى عنه بعدُ فَلْيرضَ مشكورًا، ومَن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورًا أيضًا. والمهم هو أن يخطر لي الكلام، وأن أمليه، وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يُشعِره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة، وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضًا بأن له ذوقًا صافيًا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل. وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبًّا وإكبارًا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ فيَّ، ولا أن يتجنى عليَّ، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أُخضِعه لذوقي. ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو. ولو أني استجبت لهذه الأسئلة فبيَّنْتُ موطن الصبي وبيئته، وعرَّفت أسرته إلى القرَّاء لطال بي الحديث أكثر مما أحب أن يطول. وليس في الحديث صبي واحد، بل فيه صبِيَّانِ، أحدهما صالح هذا الذي يتخذ زهرات الحقول وسيلةً إلى عشاء يصيبه، والآخَر هو هذا الصبي الذي وجد عنده صالح هذا العشاء، ولأكن منصفًا، فقد يكون من حق القارئ أن أسمي له هذا الصبي الثاني ما دمت قد سمَّيْتُ له الصبي الأول؛ ليكون الأمر ميَّسَرًا له فلا يضطرب بين صبي يعرف اسمه واسم أبيه، وصبي آخَر لا يعرف من أمره شيئًا. والواقع أني حين أخذت في إملاء هذا الحديث لم أكن أعرف لهذا الصبي الثاني اسمًا، وما زلت أجهل اسمه إلى الآن؛ فلم يكن شخص هذا الصبي، ولم يكن شخص صالح يعنيني، وإنما كانت الأحداث التي حدثت للصبيين هي التي تعنيني، وأكبر الظن أن صالحًا هذا لم يوجد قطُّ؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في القرى، ويوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، وهو مع ذلك يُشعِر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء. وأنا أزعم أن قارئ هذا الحديث مهما يكن لا يستطيع أن يقضي يومًا من دهره أو ساعة من يومه دون أن يرى صالحًا هذا الذي لا يجد ما ينفق، والذي يود أن تتاح له الوسيلة ليجد الغداء أو العشاء، عند رفيقه ذاك الصبي الذي لم نجد له اسمًا إلى الآن. فَلْنتفق على أن اسمه أمين، وعلى أنه كان يختلف إلى الكتَّاب مع قليل جدًّا من أمثاله الذين يعيشون في شيء من اليُسْر، وكثير جدًّا من أترابه الذين يستظلون بهذا الظل الوارف الجميل، ظل البؤس والشقاء والحرمان وابتغاء الوسيلة للظفر بما يقيم الأود عند هذا الرفيق أو ذاك.
لم يوجد صالح قطُّ لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود فهو غير موجود، سواء أرضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم تَرْضَ. أما أمين فموجود من غير شك؛ لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره؛ لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي لا ينام جائعًا إذا أقبل الليل، ولا يغدو طاويًا على المدرسة أو على الكتَّاب، ولا يطول انتظاره للغداء إذا آنَ وقت الغداء، ولا ينبغي أن يطول انتظاره للعشاء إذا أقبل الليل؛ لأن من حقه أن يتناول الطعام في إبَّانه، وأن يأخذ قسطه من النوم حتى لا تتعرض صحته الغالية لبعض ما يؤذيها. هذا الصبي أو هذا الفتى الذي اتفقنا على أن اسمه أمين موجود من غير شك؛ لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز يمكن أن يُحصَى أمثاله وأترابه إحصاء دقيقًا في كل قرية، وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود؛ لأن عدده محدود، ولأننا نستطيع إحصاءه واستقصاءه والدلالة عليه. وهنا يرتفع رأس القارئ وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة، وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز، وهو يسألني في صوت فاتر ساحر: لقد أردت أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت إلا ممعن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد! معذرة يا سيدي القارئ الكريم، بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء، ويفيد كل الفائدة؛ فأنت تلقى في كل يوم ألف صالح وصالح دون أن تحس لواحد منهم خطرًا، أو تعرف له وجودًا، قد كثر لقاؤك لهم، واتصلت معاشرتك إياهم حتى أصبحت الحياة بينهم شيئًا يسيرًا مألوفًا لا يحفل به، ولا يلتفت إليه، وحتى أصبحت معاشرة البؤس والشقاء والحرمان شيئًا تطمئن إليه كما تطمئن إلى الصحة والعافية، ولا تلتفت إليه كما أنك لا تلتفت إلى الهواء الذي تتنفسه، والنور الذي تهتدي به. وترى أمينًا أو أمينَيْن أو أمناء بين حين وحين، فيملأ كل واحد منهم قلبك وعقلك، ويشغل همك وعنايتك. فأيهما خير: أن ألفتك إلى صالحٍ هذا البائس المسكين الذي ملأ مصر نعمة وخيرًا، وملأت مصر حياته شقاءً وبؤسًا، أم أن أحدِّثك عن أمين وموطنه وبيئته وأسرته لتستقيم القصة، وتستوي رائعة بارعة ملائمة لأصول الفن التي رسمها النقَّاد؟ أما أنا فأوثر أن أتحدَّث إلى قلبك، وما يضطرب فيه من عاطفة، وما يشيع فيه من شعور، على أن أتحدث إلى عقلك وذوقك، وما يثيران في نفسك من تهالكٍ على النقد وحبٍّ للاستطلاع.
أؤثر أن أتحدَّثَ إلى قلبك، وأن ألفتك إلى صالح هذا الذي وجد وأسرف في الوجود، حتى اعتقدنا أو كدنا نعتقد أنه غير موجود. ومَن يدري! لعَلِّي حينما ألفتك إلى صالح إنما ألفتك إلى نفسك، وما أحب أن تغضب ولا أن تثور، فما أردتُ، وما ينبغي أن أريد إلى إيذائك، أو التعريض بأنك قد اتخذت في يوم من الأيام زهرات الحقول وسيلةً إلى خير تصيبه كما فعل صالح، وإنما أردت أن أقول: إن في حياة كل واحد منا نحن كثرة المصريين شيئًا من صالح، فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان. وما أقل المصريين الذين لا يصورون بؤسًا ولا شقاءً ولا حرمانًا! وليس البؤس مقصورًا على هذه الصفة التي تأتي من الفقر، وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزِّق البطون، والإعدام الذي يمزِّق الثياب، ويظهر من ثناياها الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتصل بأشياء أخرى ليست جوعًا ولا إعدامًا، ولكنها قد تكون شرًّا من الجوع والإعدام؛ لأنها تتصل بالنفوس والقلوب. وإني لأعرف قومًا كثيرين تمتلئ أيديهم بالمال، ويعظم حظهم من الثراء حتى يضيقوا به، وهم مع ذلك يجدون بؤسًا أي بؤس، وشقاءً أي شقاء، ويتخذون زهرات الحقول أو هذا الزهر الذي تصنفه أيدي الحسان تصنيفًا في الحواضر والمدن وسيلةً إلى شيء يصيبونه عند مَن يكونون أقل منهم غنى، وأضيق منهم ثراءً.
مهما يكن من شيء فقد غدا الصبي الذي اتفقنا على أن اسمه أمين على كتابه كما تعوَّدَ أن يفعل إذا كان الصباح، فلقي أترابه وشاركهم في الجد والهزل، وفي الدرس واللعب. حاول أن يحفظ حصته من القرآن فانصرف عن هذا الحفظ إلى مداعبة اللِّدَات والأتراب، وكان قد أُنسي قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخِر النهار إلى الدار، ولكنه اضطر حين تقدم النهار إلى أن يذكر صالحًا في كثير جدًّا من القلق والخوف، ثم في كثير جدًّا من الجزع والهلع، ثم في كثير جدًّا من الألم والحزن، فقد سمع سيدنا الضرير يسأل عريفه البصير: هل تفقدت الأختام؟ قال العريف: نعم. قال سيدنا: وهل سُلِّمَتْ لكَ كلها؟ قال العريف: نعم، إلا ختم صالح بن الحاج علي؛ فإنه قد ضاع، وما أشد حاجة هذا الفتى إلى التأديب، فإنه لا يطيع أمرًا ولا يسمع كلامًا، ولا يخرج من الكتَّاب مع العصر إلا لينغمس في الماء.
وهنا يسأل القارئ — وما أكثر ما يسألني القراء كما كانوا يسألون الكاتب الفرنسي الذي ذكرته آنفًا — هنا يسأل القارئ عن هذه الأختام ما هي؟ وماذا يمكن أن تكون؟ ولا بد من أن أجيبهم، فأكثرهم من أبناء هذا الجيل الذين لم يذهبوا إلى الكتَّاب، ولم يعرفوا قصة الأختام والماء، وقليل منهم قد بعد عهده بالكتَّاب، وما كان يحدث فيه من خطوب. كانت قصة الأختام هذه تمثل في الكتاب كل عام حين يقدم الصيف، ويشتد القيظ، ويحب الصبية والفتيان أن يبتردوا بماء النهر أو بماء القناة إذا خرجوا من الكتَّاب مع العصر، أو إذا ذهبوا إلى دورهم للغداء، وكانوا يسرعون إلى نسيان القيظ والتبرد متى انغمسوا في الماء، وينصرفون إلى العبث والسباحة والاستباق في العوم. وكانت الأسر تشفق عليهم من ماء النهر، ومن ماء القناة، وتطلب إلى سيدنا أن يتخذ ما يرى من وسائل التأديب والتقويم ليصدهم عن هذه الرياضة الخطرة. وسيدنا قد اتخذ قطعة مستديرة من الخشب، واحتفر فيها شيئًا لا أدري ما هو، فإذا كان الضحى يرتفع أقبل العريف بهذه القطعة من الخشب التي كانت تُسمَّى الختم، وغمسها في مادة حمراء، وختم بها أفخاذ الصبية والفتيان الذين كان يظن بهم حب الرياضة في ماء النهر أو ماء القناة، وكان زوال الآية التي يتركها الخاتم في فخذ الصبي أو الفتى دليلًا على أنه قد خالف الأمر، وقارب هذا الإثم العظيم؛ فلم يكن بدٌّ إذن من تفقُّدِ هذه الأختام في كل يوم، وتجديدها إذا محاها طول الوقت، وعقابِ الصبي أو الفتى إذا مُحِيت آية الختم عن فخذه قبل الأوان. ولست أدري أيعرف القارئ أو لا يعرف أن العريف في الكتَّاب قد كان رمز الرشوة والفساد، كما أن سيدنا قد كان رمز السذاجة والقسوة، ولكن المحقق أن الصبية والفتيان كانوا يقترفون إثمهم هذا العظيم في غير اكتراث، ولا يكادون يخرجون من الكتَّاب حتى يسرعوا إلى الماء، ويلقوا أنفسهم فيه، وكانوا يشترون كذب العريف ورضاه بما يقدمون إليه من هذه الطرف اليسيرة التي يحملونها من بيوتهم، يسرقونها للعريف أحيانًا، ويصرفونها عن أنفسهم إليه دائمًا. ولم يكن صالح يحمل طرفًا يسيرة ولا خطيرة لنفسه أو للعريف، وقد طال على العريف إبطاء صالح عليه بالرشوة، ولم يسأل نفسه أكان هذا الإبطاء عن عجز أم كان عن عمد ومكر، فأراد أن يؤدبه فأفشى أمره لسيدنا، ولو آثَرَ الصدق لما خصَّ صالحًا بهذه الوشاية.
وكان أمين يعلم هذا حق العلم كما كان يعرفه غيره من أترابه، ولأمرٍ ما امتلأ قلبه فجاءة حبًّا لصالح، وعطفًا عليه، ورحمةً له، فلم يكد يسمع العريف البصير يغري به سيدنا الضرير حتى صاح بأعلى صوته: إن العريف لم يَقُلْ لك الحق كله، فليس صالح وحده هو الذي فقَدَ ختمه، وإنما فقَدَه الأتراب جميعًا؛ لأنهم يذهبون جميعًا إلى النهر أو إلى القناة، ولكنهم يرشون العريف بما يحملون إليه من طرف، فأما صالح فلا يحمل إليه شيئًا. وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الشجاعة أن أديرت الفلقة على ساقَيْ صالح، وعمل السوط في رجليه حتى دميتا، ثم أديرت الفلقة على ساق أمين، ومسَّ السوط رجليه مسًّا خفيفًا لم يدمهما، ولكنه علَّمَ أمينًا أن الشجاعة والصراحة وقول الحق خصالٌ لا تحسن في جميع المواطن. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت المحنة وسهل احتمالها، ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين، واتخذوهما عدوًّا، وجعلوا يكيدون لهما ويمكرون بهما، ويذيقونهما من العنت فنونًا وألوانًا. وقد عاد صالح مع أمين إلى داره لا يكاد يحسن المشي على رجليه، ولكنه وجد عند رفيقه تسلية وتعزية.
ولم تكد أم أمين ترى هذا البائس المسكين حتى رحمته ورقَّتْ له وآثرته ببعض الخير، ثم أهدت إليه ثوبًا من ثياب ابنها، لم يَكَدْ صالح يراه حتى جنَّ جنونه وخرج عن طوره من الفرح، ونسي الفلقة التي دارت على ساقيه والسوط الذي مزَّقَ قدميه، وأقسم ليسرعن إلى الماء ويغسلَنَّ نفسه فيه، وليضيعن آية الختم الجديدة، وليتعرضن لوشاية العريف وغضب سيدنا، فما ينبغي أن يلبس هذا الثوب الجميل دون أن يستحم ويزيل من جسمه آثار ذلك الثوب البالي القذر. قالت له أم أمين: لا بأس عليك، فسأطلب من سيدنا أن يعفيك من الفلقة والسوط غدًا. وانصرف الصبي فرحًا مرحًا محبورًا. وقال أمين لأمه: أَلَا تنبئينني الآن لماذا ضرَبَ سيدنا صالحًا ضربًا مبرحًا حتى أدمى رجليه، ولم يضربني أنا إلا عابثًا؟ قالت: لأن صالحًا أضاع الختم وخالف الأمر وانغمس في الماء، فكان ذنبه عظيمًا يستحق عقابًا عظيمًا، فأما أنت فقد خرجت عن حدود اللياقة حين قلت أمام أترابك ما قلت في العريف، فكنتَ خليقًا أن تلقى عقابًا يسيرًا. قال الصبي: وأنا مع ذلك لم أقل إلا الحق. قالت أمه وهي تضحك: فإن الحق لا يقال في جميع المواطن. قال الصبي: وكيف السبيل إلى أن أعرف المواطن التي يقال فيها الحق، والمواطن التي يقال فيها الباطل؟ قالت أمه وهي تضحك: ستعرف هذا كله إذا تقدَّمَتْ بك السن، فأما الآن فانصرف إلى حديدك هذا الذي في زاويتك تلك والعب به، وتحدَّث إليه حتى تُدعَى للعشاء.
وذهب أمين إلى حديده فلعب به، وتحدَّث إليه، وأحدث من الضجيج والعجيج ما شاء الله أن يُحدِث، ولكنه انصرف عن حديده وزاويته، وسعى إلى أمه يسألها: ما بال صالح لا يحمل إلى العريف مثل ما يحمل إليه غيره من الطرف والهدايا؟ قالت أمه: لأن صالحًا فقير معدم لا يجد ما يقوت به نفسه، فضلًا عن أن يجد ما يهدي إلى العريف. قال أمين: ولماذا كان صالح فقيرًا معدمًا لا يجد ما يقوت به نفسه، وما يدفع به شر العريف؟ قالت أمه وقد أخذت تضيق بإلحاحه: لقد عُدْتَ إلى ثرثرتك، فامضِ لشأنك ولا تثقل عليَّ. ولكن الصبي لم يمضِ لشأنه، وإنما مضى في الإثقال على أمه، فلم تتخلص منه إلا حين أظهرت له الغضب، وأنذرته إنذارًا كاد يبكي له، ثم رحمته فوضعت في يده قطعة من النقد وهي تقول: اذهب فاشترِ بهذا شيئًا من الحلوى. قال الصبي مبتهجًا: سأشتري بنصفه شيئًا من الحلوى، وسأدفع نصفه الآخَر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد. ثم انصرف يعدو وقد ارتفع صوته بالغناء.
ولكن أمينًا لم يدفع نصف القرش إلى صالح؛ لأن صالحًا لم يذهب إلى الكتَّاب من غده، وقد وقع في نفس الصبي شيء من الغيظ، ثم من الحزن، حين التمس رفيقه فلم يجده، وحين انتظر مقدمه فلم يُقبِل حتى ارتفع الضحى، وحين استيقن أن صالحًا لن يلمَّ بالكتَّاب من يومه، ثم لم يلبث أن تسلَّى عن صالح وغيبته بمداعبة الرفاق والأتراب، ثم لم يكد يفرغ من غدائه بين سيدنا الضرير وعريفه البصير حتى خرج ليشهد صلاة الظهر فيما زعم، ولكنه اشترى بنصف القرش هذا السخف الذي يحبه الصبية، وعبث مع أترابه حول المسجد، وعاد معهم إلى الكتَّاب، وما يشك سيدنا وما يشك عريفه في أنه قد شهد الصلاة.
وانقطع صالح عن الكتَّاب يومًا ويومًا، ثم أقبل ذات صباح كئيبًا محزونًا لا يكاد قَدُّه يستقيم من الضعف، ونظر أمينٌ فإذا هو في ثوبه ذلك البالي القذر، وقد تلقَّى أمين رفيقه مبتسمًا له، حفيًّا به، مستنبئًا عن غيبته تلك التي طالت. وهمَّ صالح أن يجيب، ولكن صوته احتبس في حلقه، وجرت على خديه دموع منسجمة غزار، فبهت أمين لأنه لم يعرف البكاء الصامت قطُّ، ولم يقدر أن الصبية يمكن أن يبكوا دون أن يمسهم سوط سيدنا، أو دون أن يعنف بهم الآباء والأمهات ليؤدبوهم بالأيدي حينًا، وبالكلام أحيانًا. ثم استبان لأمين من أمر رفيقه ما ملأ قلبه حزنًا، ودفعه إلى كثير من الحيرة والشك والاضطراب، فقد كان الثوب الذي أهدته أمه لرفيقه مصدر شقاءٍ عظيمٍ، وضرٍّ مُلِحٍّ لهذا الرفيق البائس.
خرج صالح بثوبه الجديد مسرورًا محبورًا، تكاد ساقاه تسبقان الريح عدوًا، ويكاد صوته المرتفع بالغناء يسكت الطير التي كانت ترقص على أغصان التوت، وتنشر في الجو ألحانها العذاب، وانغمس في القناة كأحسن ما تعلم أن ينغمس، وعام في القناة كأحسن ما تعوَّدَ أن يعوم، فبذَّ الأتراب وتفوَّقَ على الرفاق، وخرج من القناة فرحًا مرحًا، مبتهجًا مغتبطًا، وقد امتلأت نفسه رضًا، وامتلأ قلبه سعادة، وفاض من نفس الرضية وقلبه السعيدة على جسمه جمال غريب، لفت إليه أصحابه وأترابه، وقال بعضهم لبعض: ما رأينا صالحًا كما نراه اليوم، حسن المنظر، رائع الطلعة، قد امتلأ قوة وحياة ونشاطًا! ثم دخل في ثوبه الجديد، وكاد السرور أن يدفعه إلى شيء من الغرور، ولكن الحياء اضطره إلى بعض القصد وأمسكه في بعض الاعتدال، فرضي عن نفسه في دخيلة ضميره، وارتفعت إليه أبصار أصحابه بألوان من الغبطة والحسد، ومن العطف والبغض.
وعاد مع مغرب الشمس إلى داره يكاد يخطر في ثوبه الجديد، وقد طوى ثوبه البالي القذر وحمله بين ذراعيه وجنبه متأذيًا متكرهًا لاحتماله، ولو استطاع لتركه في بعض الطريق، ولكنه كان أذكى من ذلك قلبًا، وأصدق من ذلك فطنة، فاحتمل ثوبه ذلك البالي إلى امرأة أبيه لعلها تستطيع أن تصنع منه شيئًا.
وما أشك في أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث، وسيسأل نفسه ولو استطاع لَسألني أنا: ألَمْ يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحًا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيمًا ينعم بما يختلس من حبِّ أبيه سرًّا، ويشقى جهرة بما يُصَبُّ عليه من بغض هذه الضرة التي قامت مقام أمه في البيت؟
ولستُ أشك في أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شيء من القسوة والسخرية والغيظ، فيقول في نفسه: لو أن الكاتب سلك في قصته هذه الطرق الممهدة، والسبل المعبدة التي رسمها النقَّاد للقصة لعرَّف إلينا صالحًا في أول حديثه، ولأنبأنا بموت أمه، وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التي لم نكن في حاجة إليها. ولكني أعيد على القارئ ما قلته آنفًا من أني لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثًا، وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدِّمون بين يديها هذه المقدمات التي يبينون فيها الموطن والبيئة والأسرة، والزمان والمكان، إلى آخِر هذا الكلام الكثير الفارغ الذي يلهج به النقاد، ولو أني بدأت هذا الحديث برسم واضح دقيق لشخصية صالح وأمين، ومَن يتصل بصالح وأمين من الناس؛ لَضاقَ القرَّاء بهذه المقدمات أشد الضيق، ولَقال بعضهم: تجاوَزْ حديثَ الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد.
وبعدُ، فمَن أنبأ القارئ بأن صالحًا يتيم، وبأن أمه قد ماتت؟ الشيء الذي لا أشك فيه، ولا ينبغي أن يشك فيه القارئ هو أن صالحًا لم يكن يتيمًا، وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حية أكثر مما ينبغي أن يحيا الناس، إنْ صحَّ أن تكثر الحياة وتقل. وسواء رضي القارئ أم لم يرضَ، فقد كانت أمُّ صالح حية من غير شك؛ لأني أنا أريد ذلك، وليس يعنيني ما يريد غيري من الناس، فأنا الذي اخترع صالحًا من لا شيء، أو أخذ صالحًا من عرض الطريق؛ لأن صالحًا موجود، ولأنه غير موجود، موجود في حقيقة الأمر؛ لأننا نراه في كل ساعة وفي كل مكان، وغير موجود في حقيقة الأمر أيضًا؛ لأنه يملأ المدن والقرى، ويسرف على نفسه وعلى الناس في الوجود، والشيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضده، كما يقال، فأنا إذن وحدي — كما كان يقال أيضًا — أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيري من الناس، وأقرِّر أن أمه لم تترك الدار لأنها ماتت، وإنما تركت الدار لأنها طُلِّقَتْ. وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد هذا الطلاق ما أشاء: أستطيع أن أدعها مطلَّقَة تعمل خادمًا في بعض الدور، وأستطيع أن أجد لها زوجًا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التي يعيش منها أمثالها من البائسات، فقد أسخِّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز في بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب في هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله؛ لأني حر فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث، ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقَّى حديثي كما أسوقه إليه، ثم هو حر بعد ذلك في أن يقبله أو يرفضه، وفي أن يرضى عنه أو يسخط عليه.
والواقع من الأمر أني لا أكلِّف أمَّ صالحٍ شيئًا من هذه الأعمال التي ذكرتها، ولا أفرض عليها شيئًا من هذه الخطط التي رسمتها؛ لأني على حريتي في أن أصنع بها ما أشاء، أوثر الأمانة في رواية التاريخ، وقد حدَّثَني التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة، وبأن الحاج عليًّا أبا صالح لم يكن ظالمًا ولا جائرًا حين طلَّقَها بعد أن ولدت له صالحًا بعام أو عامين؛ فقد كان هذا الرجل طيب القلب، سليم النفس، لا يحب شيئًا كما يحب الدعة والهدوء. وكانت امرأته خديجة أم صالح منكرة الخلق، بغيضة العشرة، كثيرة الكلام، شديدة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، فاضطر هذا الرجل البائس إلى فراقها، واستبقى ابنه صالح في كنفه، وحاول أن يفرغ له ويقوم على تربيته فلم يستطع؛ لأن خطوب الحياة تكلِّف أمثاله أن يعملوا ليعيشوا. ولم يكن من الممكن أن يعمل الرجل لكسب القوت، وأن يفرغ لتربية ابنه، وهو بعد ذلك رجل من الناس لا يستطيع إلا أن يعيش كما يعيش الناس، فاضطر إذن أن يتخذ لنفسه امرأة تربِّي له صالحًا، وتمنحه غيرَه من الولد، واتخذت خديجة لنفسها زوجًا يُعِينها على الحياة، ويعوضها من صالح هذا الذي احتجزه أبوه؛ لأنه اشترى القاضي بأرطال من البن. وماذا تريد أن أصنع وقد كانت الحياة تجري على هذا النحو في ذلك العهد القديم؟!
وليس أدل على أن أبا صالح قد كان معذورًا حين فارق امرأته، من أن خديجة قد اضطرت زوجها الثاني إلى أن يطلِّقها بعد أن وهبت له غلامًا أسماه سعيدًا، وهو قد فارقها لتلك الأسباب التي فارقها من أجلها زوجها الأول؛ فقد كانت سيئة العشرة، بغيضة الخلق، كثيرة الكلام، مرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، ولكن حظها في هذا الطلاق الثاني كان حسنًا أو سيئًا لا أدري! فما أكثر ما تختلط أمور الناس على الأذكياء حتى لا يفرِّقوا بين الخير والشر، فكيف بمَن كان مثلي قليل الحظ من الذكاء لا يفرِّق بين السعادة والشقاء! والشيء المحقق هو أن خديجة لم تكد تُطلَّق حتى مات زوجها وترك لها سعيدًا تربِّيه كما تشاء أو كما تستطيع، ولم تربِّه كما شاءت أو كما استطاعت، وإنما ربَّتْه الطبيعة كما أحبت. وقد زهد الأزواج في هذه المرأة ذات العشرة السيئة والخلق البغيض، وثقلت الحياة على هذه المرأة ذات الحيلة الضيقة والعقل الكليل، فباعت الفجل حينًا، والترمس حينًا آخَر، ثم اختلط الأمر عليها فجنت جنونًا هادئًا رفيقًا، عطف عليها القلوب، وأخاف منها الناس، فسُمِّيَتْ «خديجة المعفرتة»، وعاشت من إحسان المحسنين. وبينما كان ابنها سعيد ينمو في ظل هذا الجنون الهادئ المخيف، كان ابنها صالح ينشأ في ظل هذه الضرة التي أظهرت حبًّا له وعطفًا عليه، ثم رُزِقت البنين والبنات فأظهرت بغضًا له وضيقًا به. وكذلك نشأ أحد الأخوين في حماية البغض العاقل، ونشأ الآخَر في رعاية الحب المجنون.
حدِّثْني أيها القارئ العزيز أكان من الخير أن أعرض عليك تفصيل هذا كله، في أول هذا الحديث فتضيق بي وبصالح وبأمين، وبالسِّفْر الذي يحمل إليك هذا الحديث، أم كان الخير أن أذهب إلى المذهب اليسير الذي اخترته، وأن أحدِّثك بكل شيء حين يحين التحدث به إليك؟ أنا أعرف أنك ستعاند وستماري، وستذهب في عنادك ومرائك مذاهب مختلفة، فأنت وما تشاء. أما أنا فقد ذهبت المذهب الذي اخترته، وحدثتك بالأمر على النحو الذي آثرته، وانتهيت منذ حين إلى أن صالحًا قد استحمَّ في القناة، ودخل في ثوبه الجديد، وعاد إلى امرأة أبيه مسرورًا بهذا الثوب الذي لبسه، مهديًا ثوبه القديم الذي ضمه بين ذراعيه وجنبه.
ولكن امرأة أبيه نظرت إليه من رأسه إلى قدمه، فرأت ثوبه الجديد ورضيت عنه، ورأت ثوبه القديم وضاقت به، ثم أدارت بصرها في الحجرة، فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم، يبديان عن الكتفين كما يبديان عن الظهور والصدور، ثم ردَّتِ النظر إلى صالح في ثوبه الجديد، ثم أعادت النظر إلى ابنَيْها في ثوبيهما القديمَيْن، ثم ارتَدَّتْ عيناها إليها وقد ارتسمت في نفسها الخطة واضحة جلية، ولكنها بشعة بغيضة؛ فإن هذا الثوب الجديد لم يُخلَق لصالح، وإنما خُلِق لابنها محمود. ولم يشرق الصبح من غدٍ حتى كان صالح قد لقي من أبيه ومن امرأة أبيه نكرًا، فضُرِب ضربًا مبرحًا مرض له أيامًا، وجُرِّدَ من ثوبه الجديد الجميل ورُدَّ إلى ثوبه القديم البالي، وعجز الفتى عن الذهاب إلى الكتَّاب من غده، وأقام في الدار ملقًى في زاوية من زواياها، يُهمَل في ازدراء ويمرض في عنف، حتى إذا استطاع أن يمشي على قدميه سعى إلى الكتَّاب ليشقى فيه ببغض العريف وقسوة سيدنا، ولينعم فيه بعشرة أمين.
كذلك عرف أمين قصة رفيقه البائس، فلم يَدْرِ عقله الناشئ كيف يقضي في هذه القصة. لو أنه لم يتحدَّثْ إلى أمه عن ذلك الثوب البالي الذي كان صالح يلبسه، لما أهدت أمه إلى صالح ذلك الثوب الجديد، ولمضت أمور صالح على ذلك البؤس الهادئ المطرد. فهو إذن قد أراد أن يحسن إلى رفيقه فأساء إليه. أيلوم نفسه في ذلك أم يلتمس لها المعاذير؟ والحق أنه لم يلم نفسه أو يعذرها، وإنما فرغ لصاحبه يعزيه ويسليه، وحدَّثَ نفسه بأن أمه الكريمة الرحيمة قد تجد بين ثيابه ثوبًا آخَر تكسو به رفيقه المسكين. ولكن القارئ يخطئ أشد الخطأ إن ظن أن الحياة تجري دائمًا على هذا النحو المألوف من المنطق، وتلائم دائمًا ما ألف الناس من التفكير والتقدير؛ فليست الحياة أقل مني ثورة على الأصول الموضوعة والقواعد المرسومة والخطط المدبرة، وإنما الحياة تمضي كما تريد هي لا كما يريد الناس. وقد راح صالح وأمين من الكتَّاب مساء ذلك اليوم، فلم يرعهما حين بلغا ذلك المكان الذي تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، إلا جماعة مزدحمة تتصايح، ويدعو بعضها بعضًا، ولم يبلغا هذه الجماعة حتى رأَيَا منظرًا راعهما وروعهما؛ جثة قد شُطِرت شطرين وألقى عليها ثوب غليظ يستر بشاعتها عن العيون، وامرأة قائمة تلطم وجهها، وتضرب صدرها، وتسفح دمعها، وتنشر في الفضاء ضحكًا عريضًا. فأما الجثة فكانت جثة سعيد أكلها القطار، كما كان يقال في تلك الأيام، وأما المرأة فكانت خديجة تدفعها الغريزة إلى الجزع ويدفعها الجنون إلى الضحك، وأما صالح فنظر إلى أخيه ونظر إلى أمه وهمَّ أن يقف، ولكنه آثَرَ أن يمضي مع رفيقه كأنه لم يَرَ شيئًا. ولست أدري ما صنع الرفيقان، ولكني أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدَّمَ الليل وهو يقول محزونًا: لقد كانت القُطُر شرهة منذ اليوم، أكل أحدها سعيدًا مع الظهر، وأكل الآخَر صالحًا مع الليل، وفقدت «خديجة المعفرتة» ابنيها في يوم واحد. ثم التفت فرأى ابنه أمينًا مذعورًا يكاد ينقَدُّ من البكاء، فمسح على رأسه وقبَّل بين عينيه، وقال له في صوت رفيق: لن تغدو على الكتَّاب إذا كان الصبح؛ لأنك ستذهب إلى المدرسة الابتدائية في عاصمة الإقليم.
قال أمين بعد أن تقدَّمَتْ به السن وأصبح رجلًا ذا خطر: ما زلت أرى تلك الجثة قد أُلقِيَ عليها ثوب غليظ، ولكني أنظر إلى وجهها فلا أرى وجه سعيد، وإنما أرى وجه صالح، ومع ذلك فلم أَرَ صالحًا حين أكله القطار.