قاسم
كان يسعى في ظلمة الليل القاتمة، قد هدأ من حوله كل شيء، وجثم على الكون سكون رهيب مرهق، ولو قد رفع رأسه إلى السماء لرأى فيها نقطًا من النور ضئيلة منتثرة، ولكنه لم يكن يرفع رأسه إلى السماء، ولم يكن يطرق برأسه إلى الأرض، وإنما كان يمضي أمامه يمد بصره كأنما يريد أن يخترق به هذه الحجب الكثيفة من الظلام، بل لم يكن يلتفت عن يمين ولا عن شمال، وإنما كان أشبه شيء بقطعة من الجماد قد صُوِّرَتْ في صورة إنسان، ولو قد عدا أو أسرع الخطو لجاز أن يشبه بسهم حي يشق هذه الظلمات المتكاثفة أمامه، ولكنه لم يكن يسرع الخطو، كان يسعى هادئًا مطمئنًّا، يتردد في سعيه كأنما تدفعه إلى أمام قوة خفية رفيقة، فهو يسعى سعيًا مستأنيًا رفيقًا، لا يتعجل شيئًا، ولا يقف عند شيء، وإنما يمضي إلى غايته كما يمضي الزمان إلى غايته، في أناة ومهل وحزم.
ولو كان شاعرًا أو راوية للشعر أو على حظٍّ من ثقافة، لذكر تلك الأصبع الوردية التي تشير إلى ظلمة الليل بأن تنجلي، أو لتصور سهمًا ضئيلًا من الفضة النقية يمضي في هذه الظلمات المتكاثفة، فتنهزم أمامه هذه الظلمات متهالكة، وتساقط أمامه نجوم السماء في الأفق الغربي كأنما يدعو بعضها بعضًا إلى الفرار، ولكنه رأى نور الفجر يمد لسانه الدقيق وراء النهر، وسمع صوتًا قد أقبل من ورائه في الجو ضئيلًا نحيلًا ماضيًا أمامه إلى الشرق، كأنما يريد أن يلقي بالتحية والترحيب ذلك الضوء الضئيل. ثم رأى النور يمتد طولًا، وينبسط عرضًا، حتى أحس كأن الجو كله قد أخذ يمتلئ نورًا وغناء؛ فأما النور فكان يوقظ الأشياء وينبئها بمطلع الفجر، وأما الصوت فكان يوقظ الأحياء وينبئهم بأن الصلاة خير من النوم. ولم يذكره شيء من هذا كله بشعر ولا بنثر، ولم يخرج من أعماق ذاكرته أدبًا قديمًا أو حديثًا؛ لأنه لم يكن من هذا كله في شيء، ولم يكن يقدر أن شيئًا من هذا كله يمكن أن يوجد أو يخطر لأحد على بال، وكل ما في الأمر أن أخاه الشيخ الضرير قد قال له ذات يوم: إنك تسعى في ظلمة الليل فتطيل السعي، وتمتد بك الطريق مخوفة غير آمنة، فاحفظ هذه الآية من القرآن، وردِّدْها في قلبك أو في لسانك، فإنها تؤمنك من خوف، وتؤنسك من وحشة. ثم قرأ الآية الكريمة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فكان لا يخرج من بيته الحقير المتضائل ساعيًا إلى النهر في ظلمة الليل، إلا تردَّدَتْ هذه الآية في صدره تردُّدًا متصلًا، فملأت ضميره أمنًا وراحة وهدوءًا، فإذا أحس نَبْأَة من قريب أو من بعيد، تجاوزت هذه الآيةُ الكريمة قلبَه إلى لسانه، واندفع بها صوته إلى الفضاء، فأمن كل كيد، وجنب كل مكروم.
وكان في تلك الليلة يمضي أمامه، تؤنس قلبه هذه الآية التي تتردد فيه، فلما رأى ما رأى، وسمع ما سمع، لم يَخَفْ شيئًا، ولم يذكر شيئًا، وإنما كفَّ عن التلاوة، وسأل نفسه مسرعًا: أيمضي إلى النهر أمامه، أم يرجع إلى المسجد وراءه حتى إذا أدى الصلاة مضى إلى النهر، فاستخرج منه ما يسوقه الله إليه من رزق؟ ولم يشك طويلًا حين ألقى على نفسه هذا السؤال، وإنما استدار إلى المسجد فأدى صلاته لم يكلم أحدًا ولم يكلمه أحد، ثم استأنف سعيه إلى النهر هادئًا مطمئنًّا وحيدًا، لا يذكر شيئًا، ولا يكاد يفكِّر في شيء، وإنما هو قطعة جامدة قد صُوِّرَتْ في صورة إنسان تمضي أمامها في أناة ومهل، لا تنظر في السماء ولا تنظر في الأرض، ولا تلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، ولا تحس جلال الليل المنهزم، ولا جمال الصبح المنتصر، وإنما خرجت من ذلك البيت الحقير، وسعت إلى ذلك النهر العظيم، تلتمس فيه ما ساقه الله لها من رزق، فلم يكن قاسم شاعرًا ولا راوية شعر، ولا محبًّا لجلال الليل وجمال النهار، بل لم يخطر له قطُّ أن لِلَّيْل جلالًا، وأن للنهار جمالًا. فلم يكن قاسم إلا رجلًا جاهلًا بائسًا مريضًا، يلتمس في النهر ما يستعين به على أن يقيم أوده، ويقوت امرأته «أمونة»، وابنته «سكينة» في بيته ذلك الحقير، ولولا أن قاسمًا كان يردِّد في صدره هذه الآية، ويؤدي صلاة الفجر إن أدركته وهو في طريقه إلى النهر، ويفكِّر أيسر التفكير وأهونه في بيع ما يخرج له من سمك النهر ليقوت نفسه وأهله، لولا ذلك لكان سعيه بين بيته وبين النهر شيئًا غريزيًّا خالصًا يشبه سعي النمل والنحل إلى أرزاقها.
وقد كان قاسم عليلًا قد نهكه المرض، وكاد يسل جسمه سلًّا، ومن أجل ذلك لم يكن يجد ولا يكد، ولا يضطرب في شئون الحياة كما يضطرب غيره من الناس، وإنما كان ينفق أيسر الجهد ليمسك الحياة على نفسه وعلى أسرته الصغيرة. يسعى إلى النهر بين حين وحين، فإن ساق الله إلى شبكته شيئًا من السمك باعه في غير مشقة ولا مساومة، ثم عاد بما يغل ذلك عليه من نقد فاشترى في كثير من الفتور والسأم ما يُصلِح أمره وأمر زوجه وابنته، ثم يعود بذلك كله إلى البيت فيلقيه بين يدي أمونة إلقاءً، ويسعى متخاذلًا متهالكًا إلى حصير بالٍ رثٍّ قد أُلقِيَ في ناحية من نواحي البيت، فيمتد عليه ضئيلًا نحيلًا يكاد السقم يفنيه إفناء. وما يزال على حصيره ذاك لا ينطق كلمة، ولا يفكر في شيء حتى تهيِّئ امرأته ما يمكن أن تهيِّئ من الطعام، فتضعه بين يديه ويصيب ثلاثتهم منه ما يصيبون. وما أكثر الليالي التي لم يكن قاسم ينهض فيها للصيد! يقعد به الداء، وتثقل عليه العلة، فيستقر في مكانه مثبتًا لا يأتي حركة، ولا ينطق بكلمة، وفي نفسه ما فيها من حسرة وألم إنْ استطاعت نفسه أن تحس حسرة أو ألمًا، وربما كلَّف نفسه فوق ما تطيق، وحمل جسمه أكثر مما يحتمل، ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعي، وبلغ النهر فوجده كريمًا بالقياس إلى غيره من الناس، بخيلًا بالقياس إليه، فعاد إلى بيته مكدودًا محزونًا، صفر اليدين، وألقى إلى امرأته نظرةً حزينةً مريضةً، ومضى إلى حصيره فامتد عليه لا يقول شيئًا ولا يصنع شيئًا.
هنالك كانت أمونة تخرج متباطئة، فتلمُّ بهذه الدار أو تلك تعين أهلها من أمرهم على بعض ما يصنعون، وتعود حين ينتصف النهار، وقد حملت ما يمسك عليها وعلى زوجها وابنتها الحياة، ويرد عنهم الجوع.
في ذلك الصباح خرج قاسم من المسجد بعد أن أدَّى الصلاة، فسعى إلى النهر مطمئن القلب، هادئ النفس، على ثغره ابتسامة ضئيلة شاحبة تريد أن تصور الراحة والرضا، فلا تستطيع أن تصوِّر إلا حزنًا هادئًا فيه شيء من أمل يسير، وقد صادف النهرَ كريمًا في ذلك اليوم، وساق الله إليه رزقًا حسنًا، فخرجت له شبكته بسمكة عظيمة لم يكد يحس ثقلها، ولم يكد يرى طولها وعرضها حتى اضطرب في قلبه فرح ضئيل، اتسعت له الابتسامة التي كانت مرتسمة على ثغره، وذهب عنها ما كان يظهر فيها من شحوب، ولمع في عينيه الصغيرتين نور متهالك ضئيل، ثم أحسَّ أنه لن يستطيع أن يحمل صيده إلى أمد بعيد، فأقام أمامه ينظر إليه حينًا وإلى النهر حينًا، ويتلفت من حوله حينًا، ويرفع رأسه إلى السماء بالشكر حينًا، وينتظر أن يمر به بعض الأصحاء من شباب المدينة فيحمل له هذا الصيد إلى بيت العمدة؛ فقد استقر في نفسه منذ رأى هذا الصيد الرائع الجميل أنه لا ينبغي أن يباع في السوق، وإنما ينبغي أن يُحمَل إلى بيت العمدة، هذا الرجل الموسر الذي يرفق به ويعطف عليه، ويوصيه بين حين وحين بأن يحمل إلى داره ما قد يتاح له من صيد حسن.
وكانت فتاة من فتيات الدار قد نهضت مع الصبح قبل أن تستيقظ الأسرة من نومها، فبدأت بما تعودت أن تبدأ به مع الصباح من كل يوم، وأخذت تكنس فناء الدار وترده إلى هيئته التي ينبغي أن يكون عليها، فتصفِّف الكراسيَّ في أماكنها، وتنفض التراب عن تلك الدكة الطويلة التي كانت تمتد في صدر الفناء، وتهيِّئها لمجلس سيدنا حين يقبل مطلع الشمس ليقرأ السورة ويشرب القهوة، ويتحدث إليها حديثًا يطوله حينًا ويقصره حينًا حسب ما يكون عليه من عجلة أو ريث. وإن الفتاة لفي ذلك وإذا بالباب يطرق طرقًا خفيفًا، فإذا فتحته رأت قاسمًا حزينًا تظهر على وجهه الشاحب آية الرضا والأمل، ومن ورائه غلام يحمل عنه عبأه، فحيَّا قاسم وحيَّا معه الغلام، ثم دخل الرجلان صامتين ووضعا صيدهما العظيم على هذه الدكة في صدر الفناء، وقال قاسم في صوته الخافت المريض: ما أشك في أن السيدة ستسر بهذا الصيد. وهَمَّ صاحبه أن ينصرف، ولكن الفتاة ألقت في يده شيئًا فقبله راضيًا وولَّى محبورًا، وهمَّ قاسم أن ينصرف، ولكن الفتاة أشارت إليه أن أقم، ثم غابت عنه لحظة وعادت إليه بقليل مما يُؤكَل، وبقدح من القهوة فأكل وشرب ودعا.
وهو في ذلك وإذا سيدنا الضرير يقبل كما تعود أن يقبل في كل صباح، متكلِّفًا شيئًا من العنف في دفع الباب أمامه، رافعًا صوته بدعاء ربه الستار، يريد أن ينبئ الأسرة بمقدمه، حتى إذا أغلق الباب وراءه في غير رفق سعى إلى دكته في صدر الفناء، ولكنه لم يكد يجلس حتى وثب مرتاعًا وجلًا، قد تملكه ذعر ضرير مثله لم يعرف كيف يظهر، ولا في أي عضو من أعضائه يظهر، فوجهه يضطرب، وجسمه يرتعد، ويداه تذهبان وتجيئان في الهواء، وفمه مفتوح عن أسنان متحطمة، وصوته يتردد في حشرجة بين جوفه وشفتيه. ويرى قاسم وترى الفتاة معه هذا المنظر، ويشهدان هذا الذعر، فيُدفَعان إلى ضحك عالٍ متصل. ويثوب سيدنا إلى نفسه وقد أمن بعد خوف، وظن أن فتيان الدار وفتياتها قد كادوا له الكيد، حتى إذا علم آخِر الأمر أن أحدًا من أهل الدار لم يهيِّئ له كيدًا، وإنما أخطأ قاسم فوضع هذه السمكة في غير موضعها، وشُغِلت الفتاة بالصيد والصائد عن مقدم سيدنا، فلم تهيِّئ له مجلسه، تضاحك الشيخ الضرير من نفسه ومن قاسم ومن الفتاة، ثم جلس على كرسي وأبى أن يقرأ السورة حتى يشرب قهوة قبل القراءة، لا تغني عن قهوته تلك التي تعوَّد أن يشربها متى فرغ من الترتيب، وقد شرب القهوتين، ولكنه قال وهو ينهض للانصراف: إن حكمة الله بالغة، لقد ضحكتما مني وأضحكتماني من نفسي، ولكن الله قد أراد بي خيرًا؛ فلن أتكلَّف لأهلي طعامًا منذ اليوم، أَنْبِئي السيدة يا ابنتي بأن هذه السمكة قد ملأت قلبي رعبًا، وبأني أنتظر منها نصيبي حين يتقدَّم النهار، وما أشك في أنكم ستتخذون منها ألوانًا مختلفة، وما أرضى أن ترسلوا لي لونًا واحدًا، وإنما يجب أن أصيب من هذه الألوان جميعًا. وانصرف الشيخ الضرير راضيًا عن نفسه، مستبشرًا بهذا اليوم الذي يسَّرَ الله فيه رزقه حسنًا دون أن يسعى إليه. والله يرزق مَن يشاء بغير حساب.
وقد استيقظت الأسرة كلها على ذعر الشيخ الضرير وعلى تضاحُك الصائد والفتاة، وعلى قراءة القرآن، فأخذت تستقبل النهار كما تعوَّدَتْ أن تستقبله، يعمل بعضها ويكسل بعضها، والصائد في مكانه لا يبرحه لعله نسي نفسه، أو لعله ينتظر ثمن صيده، أو لعله قد أنس إلى الدار لما أكل فيها وما شرب، وما وجد من تسلية عن همه وسقمه. ومهما يكن من شيء فقد رآه صاحب الدار، فقال له قولًا حسنًا، ووضع في يده قروشًا، وخرج الصائد راضيًا مغتبطًا، ولكنه لم يمضِ إلى داره وإنما استدار وذهب إلى السوق.
والقارئ يستطيع أن يلاحظ أننا قد انتهينا إلى مفرق من مفارق الطرق في هذا الحديث، فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق التي ذهب إليها قاسم الصياد، وأنا أستطيع أن أذهب إلى هذه الدور، التي يلم بها سيدنا كل صباح ليقرأ القرآن، ويشرب فيها القهوة، ويجاذب أهلها أطراف الحديث، لا يضعف صوته، ولا يضيق جوفه بما يُلقَى فيه من أقداح القهوة المُرَّة، ثم أذهب معه إلى الكتَّاب الذي سينتهي إليه سيدنا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول. وأنا أستطيع أن أترك قاسمًا يشتري في السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور وينتهي إلى الكتَّاب، وأن أقيم في الدار لا أبرحها، وإنما أتبع السمكة إلى حيث نُقِلت من الفناء واستقرت في مكانها من المطبخ بين الفرن وهذا الصف الطويل من الكوانين التي تختلف سعة وضيقًا وارتفاعًا وانخفاضًا، وأشهد إقبال النساء على هذه السمكة العظيمة، ينظِّفْنَها ويقطِّعْنَها ويهيِّئْنَها لما يراد أن يُتَّخَذ منها من ألوان الطعام، ولكني لن أقيم في الدار، ولن أتبع قاسمًا، ولن أتبع سيدنا، وإنما سأخرج من الدار، وسأنحرف إلى الشمال فأسعى حينًا، ثم أنحرف إلى الشمال مرة أخرى فأسعى قليلًا، ثم أنحرف إلى يمين فأمضي أمامي خطوات، ثم أجد في أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرةً حقيرةً قد اتُّخِذَت من الطين، لا من الحجارة ولا من الطوب الأحمر ولا من اللبن، وإنما اتخذت من الطين الذي سويت قطع منه تسوية ما، وخلط بها شيء من القش والتبن، ورُصَّ بعضها إلى بعض حتى ارتفعت في الجو ارتفاعًا ما، وأحاطت بقطعة متضائلة من الأرض، ثم أُلقِيَ عليها شيء من سعف النخل فأصبح لها سقفًا، ثم نُصِب في فرجتها لوح ضيق قليل الطول من خشب رقيق فأصبح لها بابًا، فهذا البيت هو الذي أوثره على السوق وما يُعرَض فيها من السلع، وما يدار فيها من التجارة، وعلى الدور وما يكون فيها من حديث، وعلى الكتَّاب وما يكون فيه من جد ولعب، ومن سذاجة ومكر.
أوثر هذا البيت الحقير لأني أحب أن أجد فيه أمونة وابنتها سكينة، وقد استقبلتا النهار بائستين كما استقبلتا الليل بائستين، أحَسَّتَا قاسمًا وهو ينهض متثاقلًا يجر قدميه، ويغلق الباب الضئيل من ورائه، وينغمس انغماسًا رفيقًا مستأنيًا في ظلمة الليل يرجو أن يبلغ النهر، وأن يجد فيه رزقه ورزقهما، أحَسَّتَا نهوضه في جوف الليل، فلم تنهضا معه ولم تقولا له شيئًا. ولِمَ تنهضان؟ وما عسى أن تفعلا؟ ولِمَ تقولان؟ وما عسى أن تقولا؟ مضى قاسم وأقامتا، واشتملهما الليل ساكنتين نائمتين كما اشتمله يقظان ساعيًا، وأسفر الصباح لهما ساكنتين قائمتين كما أسفر له ساعيًا إلى الرزق. فأما هما فقد نهضتا من نومهما حين أشرقت الشمس، فجلست كل واحدة منهما في مكانها واجمة لا تدري ما تصنع، ولا تعرف ما تقول، وظلتا تنتظران قاسمًا لعله يعود إليهما بشيء من خير. وقد جرت العادة إذا طال عليهما الانتظار أن تصيبا شيئًا من خبز جاف تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تُبعِدان به نفسيهما عن الجوع، وربما خرجتا من البيت فتحدَّثَتَا إلى الجارات.
وسكينة فتاة في السابعة عشرة من عمرها، فيها دعة ولين، وفيها سذاجة تشبه الغفلة، وعلى وجهها مسحة من جمال توشك أن تروق الناظرين لولا ما يبدو على الفتاة من الضر، وفي جسمها تناسق وفي قدها اعتدال يظهران للناظر دون أن يتكلَّف التماسًا، فالفتاة عارية أو كالعارية، لا تستر جسمها إلا أسمال تتكشف هنا وهناك عن حُسْن أليم.
على أن وجومهما في ذلك الصباح لم يتصل إلا قليلًا، وقد قالت أمونة لابنتها فجاءةً في صوت فاتر منكسر: ألَمْ تنهضي وتتركي البيت بعد أن خرج أبوك إلى النهر بساعة قصيرة؟ قالت الفتاة: بلى، قد نهضت وخرجت من البيت، ولكني عدت بعد لحظة. قالت أمونة: فإني قدرت ذلك وانتظرت أن تعودي بعد لحظة، ولكن هذه اللحظة طالت، واشتَدَّ طولها حتى أشفقتُ عليكِ من بعض الشر، وحتى همَمْتُ أن أخرج في الْتِمَاسِكِ، ولكني أكرهت نفسي على البقاء مخافةَ أن يفطن إلينا الجيران، وما زلت أنتظرك وأنتظرك حتى أسفر الصبح، وإذا أنت تقبلين مترفِّقة، وتدخلين متلصِّصة، وتندسِّين في مضجعك حريصة على ألا أحسَّ مقدمك كما كنتِ حريصةً على ألَّا أحس انسلالك من البيت، فإلى أين ذهبت؟ وماذا كنت تصنعين؟ وقد سمعت سكينة حديث أمها مرفوعة الرأس أول الأمر، ولكنها لم تلبث أن انخفض رأسها فجأة، كأنما عجزت الأعصاب والعضلات أن تمسكه فانكبَّ نحو الأرض انكبابًا، ولبثت الفتاة صامتة لا تقول شيئًا، جامدة لا تأتي حركة. وقد أعادت أمها عليها المسألة مرة ومرة، فلم تظفر منها برجع الحديث؛ هنالك تنمرت أمونة، وظهر في وجهها شيء من الجد، لم يلبث أن استحال إلى غضب منكر عنيف، وقالت لابنتها في صوت مكظوم: ستنبئينني إلى أين ذهبت وماذا كنتِ تصنعين؟ ثم انحرفت بنصفها الأعلى إلى يمين وتناولت عودًا يابسًا من سعف النخيل كانت تصطنعه في تقليب الخبز وإنضاجه، ثم استقبلت الفتاة ملوحة بهذا العود اليابس، وهي تقول لها في صوتها المكظوم: ستنبئينني أين كنتِ، وماذا كنتِ تصنعين؟
ولم تقل الفتاة شيئًا، ولكن العود أخذ يقع ما بين كتفيها في عنف شديد وَثَبَتْ له الفتاة كأنما دفعها إلى الوثوب لولب في الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب في السقف، على أن وقوفها لم يَطُلْ، فقد أخذ العود يصيب من جسمها ما شاءت المصادفة الغاضبة، وإذا الفتاة تجثو وقد جمعت يديها إلى وجهها وهي تتلوى من الألم، تدافع شهيقًا يريد أن ينطلق ويكاد أن ينفجر عنه حلقها. ثم يستأثر الغضب بأمونة، فإذا هي لم تَبْقَ امرأة، وإنما استحالت إلى جنية ثائرة، وقد ألقت العود من يدها، ووثبت بسرعة وخفة، فكبت الفتاة على وجهها وجمعت شعر البائسة بين يديها، وجعلت تجذب الفتاة من شعرها في غير رفق، وتدفع بقدميها وجهها في غير نظام. وقد انفجر صوت الفتاة عن صيحة منكرة، فتُلقِي أمونة نفسها على ابنتها، وتضغط بيدها على فم الفتاة وتنبئها في صوتها المكظوم دائمًا بأنه الموت إذا لم تكظم صوتها، ولم تضبط نفسها، ولم تنبئها في هدوء وصدق إلى أين ذهبت، وماذا صنعت حين انسلت من البيت في ظلمة الليل.
وقد ضاق صدر الفتاة لثقل ما حملت من جسم أمها، ولهذا الضغط المتصل على فمها، فاستيقنت أو كادت تستيقن أنه الموت، ولكنها جاهدت جهادًا عنيفًا حتى تخلَّصَتْ من ثقل أمها واستوت جالسة، وظهر في وجهها هدوء حازم عنيد، ودفعت يد أمها عن فمها وقالت في صوت مكظوم كصوت أمها، ولكنه ينمُّ عن التحدي والعناد: تريدين أن تعلمي إلى أين ذهبت، وماذا كنتُ أصنع حين انسللْتُ من البيت في ظلمة الليل؟ فاعلمي إذن أني لقيت زوج عمتي غير بعيد في مزرعته، وأقمت معه ما أقمت، ثم رجعت حين كاد الصبح أن يسفر. أعلمت الآن ما كنت تجهلين؟ أراضية أنت بما عملت؟
وجمت أمونة شيئًا ثم قالت مستخذية: ومتى لقي الفتيات أزواج عماتهن في جنح الليل؟ إنك لتلقينه متى شئتِ في وضح النهار. قالت الفتاة: ألقاه في وضح النهار، وألقاه في ظلمة الليل، ذلك شأنه وشأني، وما أنت وذاك؟ فإنه لا يعنيك من قريب ولا من بعيد. هنالك استأنف العود تمزيقه لجسم الفتاة، ولكن الفتاة قالت لأمها بصوت تكلَّفَتْ كظمه: ستكفين يدك عني أو أستغيث بالجيران؟ قالت أمونة وقد سقط العود من يدها: الجيران؟ يا للفضيحة! يا للعار! ثم انحنى أعلاها على أسفلها وجعلت تنتحب غير جاهرة بالنحيب، وظلت الفتاة في مكانها واجمة ساهمة كأنها قطعة من المرمر، على أنها لم تلبث أن فرقت بين أجفانها فانهلَّ على وجهها دمع غزير.
وفي القارئ حب استطلاع أقل ما يُوصَف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضي في كتابته، أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضِّل ألَّا يتجاوز الموضوع الذي يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأتُه به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها، وانتهزت غيبة أبيها وانسلَّتْ من بيتها في ظلمة الليل، واعترفت لأمها آخِر الأمر، وبعد ما ذاقت من عذابٍ بأنها خرجت لغيٍّ لا لرشد، وبأن قد كان بينها وبين زوج عمتها إثم بغيض.
القارئ لا يكتفي بهذا، وإنما يحب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المنكرة بين فتاة في السابعة عشرة من عمرها ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أني أرفق بالقارئ ولا أحب أن أشقَّ عليه، ولا أن أردَّه خائبًا حين يحب الاستطلاع، لمضيتُ في الحديث كما بدأته، ولأبيتُ الانحراف إلى نشأة هذه الصلة البغيضة؛ لأن الحديث عنها بغيض، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب في كتابته، ولكن من حق القارئ أيضًا أن يفهم في وضوح وجلاء ما يقدِّم إليه الكتاب من المقالات والفصول. وقد عرف القارئ أن قد كان لقاسمٍ أخ شيخ ضرير أقرأه آية كريمة من القرآن تؤمنه من خوف وتؤنسه من وحشة، فقد ينبغي أن يعرف القارئ الآن أن قد كانت لقاسم أخت فاتنة لعوب، خلبت عقول كثير من الشباب حين واتاها الحظ وابتسمت لها الدنيا واستقامت لها الأمور، ثم توَّلَتْ عنها الدنيا كما تتولى عن كثير من الناس، وأصاب جسمها ذبولٌ، وألَمَّ بجمالها ذواء حين دخلت في الكهولة ودنت من الشيخوخة. وقد كانت خليقة أن تضطر إلى بؤس كبؤس أخيها الصياد أو أخيها الضرير، لولا أنها صادفت الحاج محمودًا، وكان رجلًا يقيم في طرف من أطراف المدينة، فيه بقية من قوة وفضل من شباب، ويملك قراريط من الأرض يستغلها في استنبات البقول، وقد لعبت الأيام بالحاج محمود كما لعبت بتلك المرأة، ثم أحَسَّ حاجةً إلى شيء من الاستقامة، فاصطنع الهدوء وتكلَّفَ التقوى وحافظ على الصلوات، ثم سعى إلى الحج وعاد وعليه زيٌّ من وقار ومسحة من نقاء، فاتخذ هذه المرأة له زوجًا واستقر في حياة مطمئنة لا يظهر أحدٌ منها على بأس. وكأن غريزته كانت أقوى من إرادته، وكأن ميله إلى اللهو كان أقوى من طموحه إلى التقوى، وكأن دنو امرأته من الشيخوخة أو دنو الشيخوخة من امرأته قد حوَّل نفسه عن القناعة والرضا إلى المجانة والطمع، فكان يمشي في المدينة زائغ الطرف يدير عينه يمينًا وشمالًا، ويقصر بصره إلى هنا ويمد بصره إلى هناك، وكان كل شيء في تقلُّب وجهه واضطراب بصره يدلُّ على أن في نفسه طموحًا إلى الشر، ونزوعًا إلى ما لا يستحب من الأمر. وكان قاسيًا على أخي امرأته، يرمقه في ازدراء ويتحدَّث عنه في استخفاف، ولا يمد إليه يدًا بالمعونة ولا يُظهِر إشفاقًا عليه مما كان يبهظه من الفقر والبؤس والداء، ولكنه رأى ابنة هذا الرجل فتاةً كاعبًا تستقبل الحياة في قوة وجمال، وفي بؤس وشقاء أيضًا، فلم يرق لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها وطمع في محاسنها، وابتغى إليها الوسائل. وما أكثر وسائل الإغراء للذين يبهظهم الشقاء!
وقد رأى هذه الفتاة الجميلة البائسة تنظر ذات يوم نظرةً فيها كثير جدًّا من الأمل إلى رجل من هؤلاء الباعة، الذين كانوا يطوفون في المدن والقرى يحملون هذه السخافات التي تطمح إليها نفوس البائسين من أهل المدن والقرى، يحملون حقيبةً فيها هذا الصمغ الذي يُمضَغ في الأفواه، ويسميه أهل القرى «لبانًا»، ويسميه المترفون من أهل المدن «لادنًا»، ويحملون حقيبةً أخرى فيها صنوف من الخرز، وضروب من الخواتم والأساور قد اتُّخِذَت من المعدن الرخيص. ونساء الريف يكلفن بهذه السخافات، يتخذن من الخرز عقودًا، ويزيِّنَّ أيديهن ومرافقهن بهذه الخواتم والأساور، ويتجمَّلن بمضغ اللبان يدرنه في أفواههن، ويُحدِثن في مضغه بين حين وحين صوتًا يفتن به الرجال المكتملين والشباب الناشئين. وقد رأى الحاج محمود تلك الفتاة البائسة ذات الجمال البارع وقد تعلَّقَتْ نفسها بشيء من هذه السخافات، بين يدي رجل من هؤلاء الباعة قد أطاف به النساء والفتيات من أهل المدينة يأخذن منه سخفه الرخيص، ويدفعن إليه نقدهن القليل. وسكينة تنظر وتشتهي ولكنها لا تستطيع أن تأخذ شيئًا؛ لأنها لا تستطيع أن تدفع شيئًا، فرَقَّ الحاج محمود لهذه الفتاة، أو مال قلبه إلى هذه الفتاة، فاشترى من سقط المتاع هذا شيئًا قليلًا أدى له ثمنًا ضئيلًا، وملأ قلب الفتاة به فرحًا وأفعم به نفسها سرورًا، وأفاض على وجهها بهجة زادتها حُسْنًا إلى حُسْنٍ وروعةً إلى روعةٍ. ومنذ ذلك اليوم وقع في قلب الحاج محمود لهذه الفتاة الغافلة حبٌّ أثيم، ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة، بدأ بالحديث الرفيق، وثنَّى بالمعونة اليسيرة، واختص الفتاة بعطف كاد يتصل لولا أن الحاج محمودًا كان يحتاط ويتحفَّظ ويخشى الريبة. وكان قاسم وامرأته يتلقيان هذا الود الجديد في تردُّد بين ما يحمل إليهما من خير، وما يثير في نفسيهما بعض الشك، ولكن الحاجةَ كانت أقوى من الحيطة، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به، وتعلَّقَتْ نفسها بما كان يطرفها به بين حين وحين من هذه الطيبات المتواضعة، فأكثرت التردُّد على دار عمتها، ثم اتَّصَلَتِ المودة بينها وبين هذا الرجل الذي كانت تسميه عمها.
وهنا ليس يحتاج القارئ فيما أظن إلى أن أمضي به في هذا الحديث البغيض إلى غايته، فهو يستطيع أن يبلغها وحده. وأحسبه قد أطال الانتظار لقاسم هذا الذي ذهب إلى السوق، وفي يده أو في جيبه قروش العمدة؛ فَلْينظر إليه إنْ شاء عائدًا من السوق قد امتلأت يداه بالخير، وظهر على وجهه الشاحب حبور كئيب، وأقبل يسعى إلى بيته الحقير متباطئًا ثقيل الخطو، وفي نفسه شيء من رضا، فسيطعم امرأته وابنته ما لم تتعوَّدَا أن تصيبا منه إلا نادرًا، حين يكرم النهر أو حين يتصدق الموسرون. ومهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئًا من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذةً، لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه؛ فقد كان قاسم في تلك الساعة يشعر بشيء من هذه الكرامة، ويريد أن يعتدَّ بنفسه، لولا أنه كان أشد بؤسًا وتضاؤلًا وإذعانًا للعلة من هذا الاعتداد، وهو على ذلك كان يسعى متباطئًا ثقيل الخطو، ولم يكن يسوءه أن يلحظ الجيران كلما دنا من بيته، وأن يروا ما يحمل من طيبات السوق، وأن يقولوا في أنفسهم: لقد حسن صيد قاسم منذ اليوم، وسينعم مع امراته وابنته بطعام لذيذ. يقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الرفق والإشفاق، ويقول بعضهم ذلك لنفسه مع كثير من الحسد والغيظ. ويرى قاسم هذا كله في لحظ العيون، واضطراب الوجوه، ويكاد قاسم يجد في نفسه الرضا عن رفق الرفيق وحسد الحسود، ولكنه يبلغ البيت ويدفع الباب الدقيق الضئيل ويخطو، وقد جعل الدم يصَّاعَد إلى وجهه، وجعلت عيناه تبرقان، وشفتاه تنفرجان، وهمَّ صوته الخافت أن يصبِّح أهله بالخير، وهمَّتْ يداه المتهالكتان أن تضعا بين يدي زوجه ما حملا إليها من طعام، وهمَّ أن يداعبها في بعض الحزن، ولكنه يخطو وينظر، فإذا امرأة تساقط دموعها غزارًا وهي جامدة هامدة، وإذا فتاة تنتحب، وتدافع شهيقًا لا تحب أن يُسمَع، وإذا قاسم واجِمٌ أول الأمر، ثم سائلٌ بعد ذلك، ثم مكرِّر المسألة، وإذا امرأته ترد عليه في صوت مختنق منقطع بكلمات تقع من قلبه البائس موقع الجمر، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير الذي كان يحمله حفيًّا به حريصًا عليه، يسقط إلى الأرض في غير نظام، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه تلتقيان ثم تمتدَّان، وإذا هو يسعى إلى حصيره ذاك البالي فيجلس عليه متهالكًا، ثم يمتد وقد نهكه ما أصاب جسمه النحيل وقلبه العليل الضئيل من جهد، وإذا امرأته تسمع صوتًا خافتًا يأتي من بعيد جدًّا، وهو يقول: لو رزقَنَا الله مكانها غلامًا لم نتعرض لهذا الخزي. ثم يعيد: لهذا الخزي. ثم ينقطع الصوت حينًا، ثم يعود أشد خفوتًا وأعظم بُعْدًا وهو يقول: ما ينبغي للفقراء أن يلدوا البنات! ثم ينقطع صوته فلا تسمعه امرأته سائر النهار، ليس هو نائمًا وليس يقظان، وإنما هو شيء بين ذلك. وقد همَّت حين تقدم النهار أن تنظر إلى هذا الطعام وتحاول تهيئته، ولكنها تنظر إليه ثم تعرض عنه، وتظل في مكانها هامدة جامدة، تنهلُّ دموعها حين تجود عيناها بالدموع، وتنقطع دموعها حين تجمد عيناها من البكاء. والفتاة ملقاة في مكانها لا هي بالحية ولا بالميتة، وإنما تأخذها رعدة بين حين وحين، ثم يشتمل عليها الخمول والجمود. ولم يَرَ الجيران في ذلك اليوم أمونة تخرج لالتماس الحطب، ولم يَرَ الجيران في ذلك اليوم دخانًا من ذلك البيت، ولم يشمَّ الجيران في ذلك اليوم رائحةَ الطعام الذي تنضجه النار، وقد كانوا مع ذلك يتوقعون هذا كله حين رأوا قاسمًا يروح إلى داره وقد امتلأت يداه بالخير.
وسَعَتِ الشمس إلى مغربها متباطئة، وأقبلت ظلمة الليل فنشرت أرديتها السود على كل شيء، وجثم الليل على المدينة ثقيلًا مرهقًا، فاضطر الناس إلى مضاجعهم وفُرِض الهدوء والصمت على كل شيء، وانتثرت في السماء نقطة ضئيلة من النور، ونهض من فراش قاسم شخص ضئيل يوشك أن يكون شبحًا، فانسلَّ من البيت لم يلتفت إلى أحد، ولم يلتفت إليه أحد، وغمس نفسه في ظلمة الليل وجعل يمضي فيها متباطئًا وإنْ أراد الإسراع، متثاقلًا وإن كان في نفسه خفيفًا. مضى أمامه لا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، فقد نفذت ظلمة الليل إلى نفسه، فأصبح ضميره فحمة قاتمة ليس لها حظ من صفاء، وقد نفذ سكون الليل إلى قلبه فلم يتردد فيه صدى، ولم تخطر له الآية الكريمة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ولم يشعر في الوقت نفسه بشيء من خوف؛ لأنه قد استحال كله خوفًا.
وقد تجاوز المسجد في طريقه إلى النهر، وأقبل أمامه من الشرق ضوء الفجر ضئيلًا يمتد طولًا وينبسط عرضًا، وأقبل وراءه من المسجد صوتُ المؤذِّن يمتدُّ طولًا وينبسط عرضًا، وامتلأ الجو من حوله ضياءً يوقظ الأشياء، وغناءً يوقظ الأحياء ويدعو الناس إلى الصلاة، ولكن قاسمًا لم يَرَ ضياءً ولم يسمع غناءً، قد أظلمت عيناه وسُدَّتْ أذناه، ومضى أمامه كأنه السهم الكليل الفاتر تدفعه قوة كليلة فاترة، وجعل يمضي أمامه ويمضي مترفقًا، حتى أحس أنه يخطو في فراغ، ثم أحس بردًا يأخذه من جميع أقطاره، ثم لم يحس شيئًا، ولم يحسه شيء، وإنما مضى إلى الغيب كما تمضي في كل لحظة أشياء كثيرة إلى الغيب.
وما من شك في أن الشمس قد أشرقت بعد ذلك بنور ربها، وفي أن المدينة امتلأت حياة ونشاطًا، وفي أن الناس اضطربوا في أعمالهم بما يضطرب في قلوبهم من نزعات الخير والشر، وفي أن أمونة وابنتها قد انتظرتا أن يعود إليهما قاسم كما تعوَّدَتَا أن تنتظرا كلما سعى إلى النهر من آخِر الليل، ولكنهما أطالتا الانتظار، ولم تظفرا منه بشيء.
وقد يحب القارئ أن يعرف كيف عبث بهما الأمل، وكيف بطش بهما اليأس، وكيف لعبت بهما صروف الأيام، ولكن القارئ ليس في حاجة إلى أن أقص عليه هذه الخطوب، فأيسر شيء عليه أن ينظر إلى هذه الحياة الصاخبة من حوله، فسيرى فيها «أمونات وسكينات» كثيرات لا يُحصَين بالمئات ولا بالألوف، وإنما يُحصَين بمئات الألوف وقد يُحصَين بالملايين، تطلع الشمس عليهن كل يوم مشرقة بنور ربها، ولكنها لا تحمل إليهن رضًا ولا غبطة ولا أملًا في الرضا أو الغبطة، ويُقبِل الليل عليهن مظلمًا قاتم الظلمة يزدان بهذا القمر في أطواره المختلفة، ويزدان بنقط النور هذه التي تنتثر في السماء، ولكنه لا يحمل إليهن راحةً ولا أملًا في الراحة، وإنما يدفعهن إلى نوم ثقيل بغيض كريه يشقين فيه بأحلام بغيضة تصوِّر ما يشقين به في النهار من حياة بغيضة، لا تحفل الشمس بهن حين تطلع، ولا يحفل الليل بهن حين يُقبِل. ومتى حفل الليل والنهار ببؤس البائسين ونعيم الناعمين! ولكن الغريب أن الأحياء من الناس الذين أُتِيحت لهم قلوب تشعر، وعقول تفكِّر، ونفوس تميِّز بين الخير والشر، ونعيمٌ كان خليقًا أن يلفتهم إلى جحيم البؤس، هؤلاء الناس يمضون حياتهم كما يمضي الليل والنهار إلى غايتهما، لا يحفلون بأمونة ولا بسكينة ولا بقاسم، شغلتهم أنفسهم عن كل شيء وعن كل إنسان.