ثقل الغنى
كان عبد الرحمن بن عوف — رحمه الله — كثير المال عريض الثراء في جاهليته، وقد أسرع إلى الإسلام حين ظهرت الدعوة إليه فيمَن أسرع إليه من السابقين الأولين، لم يبطره الغنى ولم يصرف الثراء قلبه عن الخير، ولم يَخَفْ كما خاف الأغنياء المترفون من قريش ما كان الإسلام يدعو إليه من التسوية بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقوياء والضعفاء، وبين الأحرار والعبيد، وإنما شرح الله صدره للإسلام، فأقبل عليه مشغوفًا به مضحيًا في سبيله بما جمع من مال وما ضمَّ من ثروة وما اكتسب من سُؤْدَد، مستعدًّا لمشاركة أصحابه في التعرُّض للأذى واحتمال المكروه، ولم يتردد — كما لم يتردد غيره من أصحابه — حين اشتدت المحنة وثقلت الفتنة وعظم البلاء، في أن يفر بدينه إلى حيث يأمن على رأيه وعقيدته وعبادته لربه، تاركًا وراءه ماله الكثير وثراءه العريض ومكانه الرفيع، وقومًا من أهله ذوي قرابته كان يحبهم أشد الحب ويعطف عليهم أرق العطف ويمنحهم صفو ما كان يفيض به قلبه من الرفق والبر والحنان، فهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي ﷺ للإسلام دارًا، فانتهى إليها وهو لا يملك إلا قلبه الذكي، وضميره النقي، وأنفه الحمي، وإيمانه الذي ملأ نفسه ثقة ويقينًا.
وقد آخَى النبي ﷺ بينه وبين رجل من أغنياء الأنصار هو سعد بن الربيع الخزرجي رحمه الله، فقال له سعد: انظر إلى مالي وخُذْ نصفه، ولي زوجتان أطلِّق لك أيتهما أعجب إليك فتتخذها لنفسك زوجًا! قال عبد الرحمن: بارك الله لك، ولكن إذا أصبحت فدلُّوني على سوقكم. فلما أصبح ذهب إلى السوق فأنفق فيها وجه النهار، ثم عاد وقد باع واشترى واكتسب ما يقيم به الأود، ثم أقبل بعد حين على مجلس النبي ﷺ وقد لبس الجديد، واتخذ من الزينة ما كان يباح للمسلين في ذلك الوقت، فلما سأله النبي ﷺ عن ذلك أنبأه بأنه قد اتخذ لنفسه زوجًا من نساء المدينة، وبأنه قد أمهر زوجه وزن نواة من ذهب، فأمره النبي ﷺ أن يولم لأصحابه، ففعل.
ولم تمضِ أعوام حتى كان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء المدينة قد اكتسب ثروةً مكان ثروة، وكنز مالًا مكان مال، واستطاع أن يتزوَّج فيمهر امرأته ثلاثين ألفًا، وكان يقول: لقد رأيتني وما أرفع حجرًا إلا ظننتُ أني سأجد تحته ذهبًا أو فضة!
كان عبد الرحمن إذن من كبار الأغنياء قبل أن تُفتَح مكة، فلما تمَّ فتح مكة ضمَّ إلى ثرائه الجديد ثراءه التليد، ثم استثمر هذا كله كأحسن ما يستثمر المال، وكأحسن ما كانت قريش تستثمر المال، حتى أصبح ذات يوم وإنه لمن أغنياء العرب كافة، ولعله أن يكون أغناهم كافة، لا يُستثنَى منهم إلا عثمان بن عفان رحمه الله. وربما كان من الممكن أن يقال إن عبد الرحمن بن عوف كان أغنى من بيت مال المسلمين أيام النبي ﷺ، فلم يكن بيت المال في ذلك الوقت يدَّخِر شيئًا، ولم تكن تُجبى إليه الضرائب، ولم يكن يُحمَل إليه فيء ذو خطر، وإنما كانت تصاب الغنائم اليسيرة في الغزوات فتُقسَّم بين الغزاة، ويُحفَظ خُمْسها للمرافق العامة ولوجوه الإحسان والبر. وكانت الصدقات تؤخذ من الأغنياء فتُقسَّم بين الفقراء، ولا يصل منها إلى المدينة إلا أقلها، فإذا وصل حُبِس على المصارف التي بيَّنَها الله في القرآن الكريم، فكان بيت المال فقيرًا. وليس أدل على فقر بيت المال من إلحاح النبي ﷺ على الأغنياء من الناس في أن يعينوه على بعض غزواته بأموالهم؛ يخرجون له عن بعض فضولها، أو ينزلون له عن بعض أصولها.
ولم يكن النبي ﷺ يكره شيئًا كما كان يكره اجتماع المال، ولم يكن يشفق على نفسه وعلى أصحابه من شيء كما كان يشفق على نفسه وعلى أصحابه من اجتماع المال وتضخُّم الثراء، فنظر ذات يوم إلى عبد الرحمن وقال له: «يا ابن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفًا؛ فأقرض الله يُطلِق لك قدَمَيْك.» قال عبد الرحمن بن عوف: «وما الذي أقرض الله يا رسول الله؟» قال: «تبدأ بما أمسيت فيه.» قال: «أبكلِّه أجمع يا رسول الله؟» قال: «نعم!» فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأرسل إليه رسول الله ﷺ فقال: إن جبريل قال مُرِ ابن عوف فَلْيُضِف الضيفَ، وَلْيُطعِم المسكين، وَلْيُعطِ السائل ويبدأ بمَن يعول، فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه.
وأحب قبل كل شيء أن يقف القارئ معي عند ما في هذا الحديث من سذاجة رائعة، أو روعة ساذجة في لفظه وفي معناه وفي قصته كلها، فرسول الله يشفق على عبد الرحمن من غناه الواسع وماله الكثير، ويصور هذه الثروة ثقيلة باهظة يحملها صاحبها على كاهله، فتمنعه من السعي وتعسر عليه الحركة، حتى كأنه مُقيَّد لا يستطيع أن يمشي إلى الجنة مع الساعين، أو يعدو إليها مع العادين. وهو لا يشير عليه بأن يتخفَّف من هذا الثقل يلقيه عن كاهله إلقاءً، وإنما يشير عليه بأن يثمر هذا المال ولا يضيعه، وذلك بأن يقرض الله قرضًا حسنًا، فلا يضيع عليه ماله وإنما يُرَدُّ عليه يوم القيامة أضعافًا مضاعفة. وعبد الرحمن يسأل عمَّا ينبغي أن يقرض الله من ماله، فيقال له: ابدأ بما أمسيت فيه، أي قُمْ فتصدَّق بكل ما اجتمع لك من مال حين استقبلت المساء، واعلم أنك حين تفعل ذلك لا تزيد على أن تبتدئ، وأنك ستُمتحَن فيما سيجتمع لك من المال في مستقبل أيامك، بمثل ما امتُحِنْتَ به فيما اجتمع لك من المال في أيامك الماضية.
وقد ثقل الامتحان على عبد الرحمن بعض الثقل، فهو يسأل النبي: أبكل ما اجتمع لي من المال؟ فيجيبه النبي: نعم. وينهض عبد الرحمن مصمِّمًا على أن يمضي أمر الله ورسوله في هذا المال الذي يحبه، والذي أنفق في جمعه وتثميره ما أنفق من الجهد والوقت، واحتمل في تثميره ما احتمل من المشقة والعناء. ولا بأس عليه من أن يحب المال، وإنما البأس كل البأس والجناح كل الجناح أن يمنعه حب المال من أن ينفقه ليبر به اليتامى والمساكين وذوي القربى وأبناء السبيل. أليس الله قد بيَّن البر للمسلمين بأنه ليس التوجُّه إلى المشرق أو المغرب، وإنما هو الإيمان بالله وإيتاء المال على حبه للذين يحتاجون إليه.
ينهض عبد الرحمن إذن مصمِّمًا على أن يُمضِي في ماله أمر الله ورسوله، ولكن النبي يرسل إليه أن الله ورسوله يرفقان به بعد أن امتحناه ومحَّصَاه، فيأمرانه بأن يضيف الضيف ويُطعِم المسكين ويعطي السائل، ويبدأ بأهله وعياله؛ فإنْ فعَلَ فقد زكَّى نفسه تزكية، وطهَّرَ ماله تطهيرًا.
حزم في الامتحان حتى تستبين العزيمة الصادقة الماضية على الإذعان مهما يكن شاقًّا، وعلى التضحية مهما تكن عزيزة، وعلى الجهد مهما يكن ثقيلًا، فإذا استبانت العزيمة الجازمة وظهرت النية الصادقة فالله ورسوله يضعان عنهم بعض ما يحتملون من الثقل.
وقد اختار الله نبيَّه لجواره، وانقطع خبر السماء، وحُرِم المسلمون هذا الوحي الذي كان يصابحهم ويماسيهم، وأصبح الناس ذات يوم وإذا رجَّة عنيفة تتجاوب أصداؤها أرجاء المدينة كلها، وتسأل عائشة أم المؤمنين رحمها الله عن هذه الرجة، فيقال لها: هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت. فتقول عائشة: أما إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت، ولم يكد!»
ويبلغ حديث عائشة عبد الرحمن، وكانت هذه العير خمسمائة راحلة تحمل نفائس العروض من الشام، فإذا سمع هذا الحديث قال: هي وما تحمله صدقة! لم يكتفِ ببعض ما كانت تحمل، ولم يكتفِ بكل ما كانت تحمل، ولم يكتفِ بها دون ما كانت تحمل، وإنما تصدَّقَ بها وبأحمالها. ولو قد امتدت الحياة برسول الله واتصل نزول الوحي وتنزلت أخبار السماء إلى الأرض، لكان من الممكن أن يقبل النبي من عبد الرحمن التصدُّق ببعض تجارته والإبقاء على بعضها الآخَر، ولكن عائشة لم تزد على أن روت ما سمعت من رسول الله، وأشفق عبد الرحمن من أن يميل به الصراط مرةً ويستقيم به أخرى حتى يبلغ الجنة بعد جهد، وحرص عبد الرحمن على أن يستقيم له الصراط، فلا يكون فيه ميل ولا اضطراب حتى يبلغ الجنة في غير تعثُّر ولا جهد ولا عناء.
وكان عبد الرحمن رحمه الله من أكبر المسلمين تصدُّقًا، ومن أسخاهم بماله، ومن أوصلهم للرحم، ومن أبرهم بالناس، أنفق حياته كلها مستثمرًا لماله متصدقًا به، وكان تصدُّقه لا ينقص من ماله، وإنما يزيد فيه ويضاعفه أضعافًا، كأنما قضى الله ألَّا يجزيه عن صدقته في الآخِرة وحدها، وألَّا يضاعف له قرضه في الجنة وحدها، وإنما يكفل له ثواب الدنيا والآخِرة جميعًا.
هذا حديث قديم، ولكن الأيام التي نعيش فيها تجعله جديدًا كل الجدة، وأنا أسوقه إلى الذين أتيح لهم من الغنى والثراء مثل ما أتيح لعبد الرحمن أو أكثر مما أتيح لعبد الرحمن، وأحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إنْ ثَقُلَ على عبد الرحمن مع أنه كان من السابقين الأولين، ومع أنه جاهَدَ بنفسه وماله مع رسول الله ﷺ، ومع أنه لم ينفق يومًا من أيامه إلا تصدَّق فيه بالكثير؛ أحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إنْ ثقل على عبد الرحمن، مع أن النبي قد ضمن له الجنة في نفر من السابقين الأولين، فهو عليهم أثقل؛ لأنهم لم يسبقوا إلى الإسلام، ولم يجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يضمن النبي لهم شيئًا إلا أنهم إنْ أحسنوا طاعةَ الله في أنفسهم وأموالهم، لم يضع عليهم مما قدَّموا شيئًا. وإذا خاف النبي على عبد الرحمن ألَّا يبلغ الجنة إلا زحفًا، وألَّا يعبر الصراط إلا بعد جهد، فنحن أجدر أن نخاف على أغنيائنا ألَّا يبلغوا الجنة زاحفين، وألَّا يعبروا الصراط جاهدين أو غير جاهدين.
فَلْينظر أغنياؤنا إلى ما حولهم من بؤس وشقاء ووباء وموت، وَلْيفكروا في أن أموالهم عارية مردودة، وفي أن الذين يقرضون الله قرضًا حسنًا يضاعف لهم قرضهم يوم القيامة، وفي أن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله قد بُشِّروا بعذاب أليم، يوم يُحمَى عليها في نار جهنم فتُكوَى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون!