تمهيد
من الشرق يطلع النور، وإليه اتجه الغرب — على حدِّ قول الشاعرِ والمترجم العبقري و«عاشق الأدب العربي» فريدريش ريكرت (١٧٨٨–١٨٦٦م) — كما يتجه القمر الشاحب لضياء الشمس كي يتجلَّى بنورها ويُحدِّق فيها وجهًا لوجه. وإذا كان بعض أدباء الغرب قد رجعوا إلى الشرق لِيَنهَلوا من منابِعه الروحية، ويُلْقوا بأنفسهم في أحضان «الأم الأولى» للُّغة والشعر والحضارة، ويُحاكوا موادَّه وأساليبه الفنية والأدبية محاكاةً إبداعية؛ فقد آن الأوانُ لكي يتوجه الشرقيُّ صوبَ الشرق؛ لعله أن يتعرَّف على كنوزه، ويُحققَ يومًا ذلك الأملَ العسير الذي تُلخِّصه حكمةُ سقراط ومعبد دلفي: «اعرِف نفسَك»؛ يتساوى في ذلك الشرقُ الأدنى الذي لم نقترب بعدُ من جوهره، ولم نتمثَّل حقيقتَه التي تكشف عنها آثارُه الفنية والأدبية والفكرية في مصر القديمة وأرض الرافدين، أو الشرق الأقصى الذي لم يَزِد اهتمامُنا بتراثه الضخم عن عددٍ جِدِّ قليلٍ من الترجمات والتعريفات المبتسَرة، ناهيك عن تقصيرنا حتى اليوم في دراسة لُغاته وآدابه ومدارسه الفكرية دراسةً عِلمية دقيقة، كما تفعل كلُّ البلاد المتقدمة.
•••
والمسرحية الأولى في هذا الكتاب، وهي القيصر الأصفر، ثمرةُ انشغالٍ طويل بالفلسفة الصينية القديمة المعروفة باسم «الطاوية» أو فلسفة «الطاو» (الطريق) التي تقول بالعودة إلى الطبيعة والحياة في ظلِّ البساطة والبراءة والسَّكينة والاستغناء، بعيدًا عن كلِّ رغبة أو فعل يُمكن أن يُفسِد مجرى الطبيعة ويعوق التوافقَ والتجانس معها، بذلك يتَّحد الإنسان ﺑ «الطاو» أو بالأحرى يُصبح هو «الطاو»؛ لأنه هو الطريق والمعنى، وهو الحقيقة والأصل والقوة التي تُسيِّر الكون، وهو الواحد الأزلي الأبدي الذي لا يُوصَف ولا يُسمَّى. وقد اقترنَت الطاويَّة باسم الحكيم المؤسِّس لها وهو لاو-تزو (من حوالي ٥٧٠ إلى حوالي ٥١٧ق.م.). كما ارتبطت باسم الحكيم الذي بعث في أفكارها المجردةِ أنفاسَ الحياة، وأضفى عليها من شاعريته المبدِعة ومثاليتِه الحالمة، وهو تشوانج-تزو (من حوالي ٣٦٩ إلى ٢٨٦ق.م.).
وتختلف الروايات المأثورة كذلك حول هذا الحكيم الصيني؛ فبعضها يجعل تاريخ مولده في الفترة الواقعة بين القرنَين الثالثَ عشر والسادس قبل الميلاد، وبعضها الآخر يُؤكِّد أنه عاصرَ حكيم الصين الأكبر كونج-فو-تسو أو كونفوشيوس (من ٥٥١–٤٧٩ق.م.) الذي كان يصغره في العمر، وأن الأخير سعى للقائه حوالي سنة ٥١٧ق.م. فعنَّفه المعلم العجوز على غروره وادعائه وكثرة تعليماته وقواعده الأخلاقية والاجتماعية، ونصحه بالعودة إلى طريق الحكماء القدماء. ومن هذه الروايات ما يزعم أنه عاش مائة سنة، ومنها ما يدَّعي أنه لم يَمُت أبدًا، حتى إن كاتبًا طاويًّا من القرن الرابع بعد الميلاد يُقرر أن لاو-تزو قد ظهر عدة مرات خلال التاريخ، وأنه في إحدى جولاته إلى الغرب من جزيرة سيلان قد وُلد ولادة جديدة على هيئة بوذا. غير أن أرجح المعلومات التاريخية تقول إنه وُلد في مزرعة بمقاطعة هو-نان (إلى الجنوب من بكين) وعمل أمينًا للوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في فترة من أشدِّ فترات التاريخ الصيني اضطرابًا وأكثرِها حروبًا. ويبدو أنه اقتنع بعد خدمته الطويلة في «تشو» بأن الدولة في طريقها إلى الخراب، فاعتزل العمل، ووضع متاعَه القليل على عربة يجرها ثوران أسودان، واصطحب معه صبيًّا صغيرًا كان هو تابِعَه الأمينَ في رحلته. وعند حدود الإمبراطورية وأمام بوابتها الأخيرة تعرَّف عليه موظف الجمرك أو حارسُ الحدود، ورجَاه أن يُقيم في كوخه الفقير ويُدوِّنَ فلسفته، فاستجاب لرجائه وأملاه أكثرَ من خمسة آلاف كلمة يتألف منها ذلك الكتاب العجيب الذي ذكرناه. ثم رجَع إلى عربته ومعه الصبي الصغير، وعبَرَ الجبل في طريقه إلى الغربة، فلم يظهر بعد ذلك أبدًا ولم يُعرَف المكان الذي مات فيه، وإن كان البعض يُرجِّح أنه مات في التييت.
وتعتمد المادة التي نسجت منها «القيصر الأصفر» على شخصية هذا المعلم الحكيم والكثير من أقواله وأشعاره التي وردت في الكتاب الشهير المنسوب إليه، كما تعتمد على عددٍ من الحكايات والأمثولات التي جاءت في كتابات حكيم الطاوية الآخر تشوانج تزو. وإذا كان لاو-تزو يقوم بدور ثانوي في المسرحية، فإن «بطلها» — إذا صح الحديث هنا عن بطولة! — هو تلميذه الناسك الشابُّ الذي أعطيته اسم «مين-كين-وو». وهو قديس ثائر أو ثائر قديس يحمل بين جنبَيه ذلك الطموحَ الذي يُعذِّب المصلحين ويتعذَّبون به، ألا وهو الطموح إلى تغيير العالم. بيد أن الناسك الشاب يتعجل تغيير العالم قبل أن يُغيِّر نفسه، ويحاول معلمه أن يردَّه عن تهوره فلا ينتصح، وينطلق لمواجهة الظلم والقهر والتسلط المجسَّد في شخصية القيصر الأصفر، فيَلْقى الأهوالَ ولا يتخلَّى عن حلمه بإقامة العدل. وينزوي بعيدًا في قرية منسيَّة على حدود الصين يُحقق فيها نوعًا من «اليوتوبيا» الصوفية التي تصوَّرَها حكماء الطاوية في صورة الجماعة الإنسانية المثالية التي تعيش تحت ظلال المحبة والتراحُم، والوداعة والنقاء. ولكن هل تصمد مثل هذه «اليوتوبيا» لِقُوى الظلم والردع والعقاب التي اشتهرت بها الصين القديمة؟ وهل يمكن في ظروف عالمنا المعقَّد أن نُفكر فيها لحظة واحدة، أم هي شطحة من شطحات الحكماء والأدباء لا تستحقُّ منا اليوم أكثرَ من ابتسامة الإشفاق والرثاء؟ ليس مهمًّا أن نجيب عن هذه الأسئلة؛ فالأهم من ذلك أن «اليوتوبيا»، حتى على هذا المستوى البسيط المتواضع، تظل حلمًا لا نستطيع أن نتخلى عنه بسهولة. وأكثر من ذلك أهمية أنها تُعبر عن ضرورة خالدة لا يُمكن التنازل عنها، وهي ضرورة تحدي التسلُّط الذي يسحق كل أحلام الإنسان، لا في حياة حرة وعادلة ومبدعة فحسب، بل في مجرد أن يحيا حياة سوية. ولا يخفى على القارئ أن التسلط مرضُنا العربي المزمِن الذي لا أمل في شيء على الإطلاق قبل القضاء عليه. ولولا ضيق المجال لطال بي الحديث عن هذا الموضوع الشائك الذي يمدُّ جذوره في تراثنا ونظُمِ حياتنا وتعليمنا وسلوكنا، والذي ترك في نفسي جراحًا ستُلازمني إلى آخر عمري وتدخل معي في قبري!
•••
والمسرحية الثانية وهي «الطفل والفراشة» أثارتها في نفسي إحدى حكايات «تشوانج-تزو» البديعة التي تقوم على المفارَقة الذكية المحيِّرة، والنزعة المثالية المتطرفة إلى الحد الذي تُطمَس معه الحواجزُ الفارقة بين الحقيقة والوهم. ولعل هذه النزعةَ الذاتية المسرفة — التي تظل تهدد الشعراء والأدباء والفلاسفة أن لم يحترزوا منها بالبدء من الواقع الحي وموضوعية البناء الفني والفكري! — قد كانت وراء تشدد تشوانج-تزو في تأكيد الجوانب السلبية في الفلسفة الطاوية، وخصوصًا عدم الفعل «الوو = وي» الذي سبق الحديث عنه، بحيث صوَّرها في صورة الفلسفة الرافضة للقيام بأي دور اجتماعي وإصلاحي أو العاجزة عنه؛ وذلك خلافًا لما أراده مؤسسها الأول الذي ضمَّنها آراء ومواقفَ تُعَد ثورية بكل المقاييس إلى اليوم. ولعل ذلك أيضًا كان من أسباب معارضة علماء الكونفوشية لتفكير تشوانج-تزو، واتهامهم له بمعاداة الإنسان والتقاليد والمجتمع، ومُعاشَرة الأشباح والظِّلال والرياح الشمالية وجماجم الموتى.
وبجانب هذه الحكاية الشهيرة نسج الخيال حكاية أو أمثولة أخرى عن حكيم دعَوتُه «هوي-تسو» وجعلَته يرى في المنام أنه سمكة. والحق إنني عندما بدأت في كتابة هذه المسرحية القصيرة لم أكن أتصور أنها ستُصبح سخريةً من نوع «الفارس»، أو أنها ستكون نوعًا من النقد الذاتي! وربما كان أهمَّ ما يستحقُّ الالتفات فيها هو «التحول» الذي أكده حكماء الطاوية نحو الذات الحقيقية التي تتَّحد مع السماء والأرض والأبديَّة والكل، وتتخطى حدود التراب. وتُحول الفلاسفة إلى الاتحاد بمعاناة الفقراء المتعَبين من أمثال المرأة الشابة التي تشقى لإطعام نفسِها وولدِها هو في النهاية نوعٌ من التصحيح لأحلام الفلاسفة!
كان أول ما جذبني إلى هذا النصِّ هو الحسَّ الدرامي الذي أجرى به الكاتبُ أو الشاعر المجهول حواره الذكي الساخر بين السيد البابلي الملول وعبدِه الصابر الذي تصورتُ أن الابتسامة لم تُفارق شفتَيه، ولا شك أن الحوار يُمكن أن يُوحي بالتشاؤم القاتم والعدمية المطلقة، وربما أشار من بعيدٍ إلى خلفيةٍ حضارية أصبح فيها الكلُّ باطلًا، وتَساوى الفعل وعدمُ الفعل، وفقد كلُّ شيء قيمتَه مع انهيار القيم جميعًا. ومع ذلك فقد ثُرتُ بطبعي على هذا التفسير المتشائم، وعبَّرت في ختام المسرحية التي استندتُ فيها إلى ذلك الحوار عن استحالة الحياة بغير أمل ولا عمل. ولم يمنع هذا من استغلال النص إلى آخر مدًى، على الرغم من التصرف في ترتيب أجزائه واللجوء إلى الحق المشروع لأيِّ كاتب في تشكيل مادته بما لا يخرج بها عن هدفها وهيكلها الأصلي.
والمسرحية الأخيرة وهي «رؤيا ننجال» ليست مسرحيةً بالمعنى التقليدي ولا غير التقليدي. ولا يرجع هذا لكونها «مناجاة» (مونولوج) تدور في صدر ملكة «أور» التي تجترُّ رؤيا كابوسيةً أرَّقَت نومها وملأَت نفسها رعبًا من مصير مدينتها السومرية التي دُمِّرت بالفعل على يد قبائل «الجوتيِّين» من البدو الغزاة، وإنما يرجع قبلَ كل شيء إلى أنها ضراعةٌ أو ترتيلة طويلة لمجمع الآلهة السومريين وإلهِهم الأكبر «إنليل» تنتهي بانتفاضة الشعب المطحون والملكة المتردِّدة المذعورة، وعزمِها على إنقاذ «أور» من السقوط؛ صحيحٌ أننا نلتقي خلالها بألوان من الحوار ومشاهدَ تُصوِّر خراب المدينة على يد الشُّطار والانتهازيين والمتسلِّطين القُدامى في أرض سومر، ولكنها تظل في النهاية ضراعةً ومناجاة وترتيلة تُردِّد لحنَ البكاء على تلك المدينة الماضية الحاضرة، وهو لحن يُختتَم بالثورة على الفساد والمفسدين فيما يُشبه انتفاضةَ الأطفال الأبرياء والعُزْلِ المحاصَرين اليوم في فلسطين، بعد أن فاض بهم اليأسُ من كل شيء، وأوشك بعضهم على انتظار برابرة العصر كما فعلت ننجال وبعضُ سكان أور في لحظةٍ من لحظات الضعف التي لم تلبث أن تحولَت إلى زلزلة وإعصار وطوفان.
•••
وأخيرًا يبقى أن أدفع عن نفسي شبهات قد يقع فيها القارئ الذي أفسد فطرته «شبه النقد وأشباه النُّقاد» الذين استفحل شرُّهم وزاد إزعاجهم في السنوات الأخيرة. وأول هذه الشبهات أن يتصور أحدٌ أن هذه المسرحيات — كما سبق أن ذكرت — ليست سوى نسيجٍ مصطنَع من قراءات ونصوص متفرقة. وأعتقد أن القارئ المتعاطف النقيَّ الفطرةِ والإحساس سيردُّ بنفسه على أمثال هذه التصورات عندما يُجرِّب النص ويلمس صدقه. وعلى هذا القارئ أعتمد على الدوام؛ به أثق، وإليه ألجأ مِن تجاهُل النقد الزائف وجهلِه. ولستُ في حاجة إلى القول بأن عددًا كبيرًا من الحكايات والمواقف والشخصيات في «القيصر الأصفر» وغيرها ليس لها أصلٌ بالمرة فيما قرأتُ من نصوص، وأنَّ أصلها ومنبعها في خيالي وقلبي المهموم بواقعه المِصري والعربي الذي لم تَعُد أزماته خافيةً على أحد.
«كان فلاح من منطقة سونج» «يحرث حقلًا يقوم في منتصفه جِذعُ شجرة. وفي يوم من الأيام اندفع أرنبٌ بري عبر الحقل واصطدم بجذع الشجرة، فانكسرَ عنُقه ومات. وترك الفلاحُ محراثه ووقف بالقرب من الشجرة؛ على أن يتمكن من الإمساك بأرنب آخر بنفس الطريقة. غير أنه لم يحصل على هذا الأرنب أبدًا، ولم يَجنِ من ذلك إلا سخرية أهل سونج وضحكهم عليه.» ويُعلِّق الحكيمُ على هذه الحكاية بقوله: لو أراد أحدٌ اليوم أن يحكم الشعب بنفس السياسة التي اتبعها الملوك القدماء لكان شأنه في تصرفه هذا شأنَ الفلاح الذي راح ينتظر الأرنب البري بجوار جذع الشجرة.
وأخيرًا فليست هذه المسرحيات آخِرَ الأمر سوى محاولاتٍ وتَجارِبَ أُضيفها — ورزقي على الله! — إلى تجارِبَ ومحاولات سابقة، وأُقدمها إلى القارئ المتعاطف البصير الذي لن يخذل الإخلاص والصدق أبدًا.
القاهرة في شهر شوال ١٤٠٨ﻫ/يوليو ١٩٨٨م.