آه يا ننجال!
في صدركِ تتصارع نفسان؛
واحدة تدعوك: اذهبي للبعيد البعيد،
هناك خلف الأفق ووراء الحدود،
ولا تُفكري يا ننجال أبدًا أن تعودي!
والأخرى تهتف بك: بل تبقَين يا ننجال في أور،
تبقين لتواجهي الشر المستطير،
وتقضي على سارق الأرملة واليتيم والضعيف والفقير،
والظالم والكاذب والنمام والمغرور!
آه يا ننجال!
تحت قدمَيك يمتدُّ طريقان،
تضطرب وتتعثر تحتهما خطوتان:
تريد إحداهما أن تأخذَكِ إلى أعدائك،
في «أوما» أو «أكد» أو «عيلام»،
وهناك تصرخين أمام عرش الملوك القساة:
ساعدوني فقد عجزت عن حكم البلاد،
سقط الميزان من يدي وفي الدم والوحل والتراب،
مرَّغه السَّفِلة والجهَلة والأنذال والأوغاد!
آه يا ننجال!
في حلقك يحتبس ويتقابل صوتان؛
أحدهما يعول وينوح: سقطت أور!
سقطت أور ولا أمل هناك ولا نور!
والآخر يُنذِر ويُحذر ويقول: لا، لم تسقط أور.
ولن تسقط أور،
لن يُهدَم هذا السور،
ولن تُقتلَع من الأرض جذور.
آه يا ننجال!
عندما حضرت إلى هذه الساحة كان الليل قد بدأ يُغطي أور بستاره
الكئيب. خُيِّل إليك أن الرؤيا تأخذك إلى الماضي وتطوق حاضرك المختنق،
ثم تطير بك على جَناحَي نسرٍ أسود إلى الغد المجهول. ورأيتِ نفسَك في
الماضي عندما كان موكبك يبدأ من هذه البوابة العظيمة، لِيَعبر الساحة
تحت الأقواس المزينة بالرياحين وباقات الزهور، ووسط الهتافات والدعوات
بالنصر والبِشر والرخاء ليمرَّ بشوارع وبيوت أور. كان مهرجان الاحتفال
يبعث الأرضَ والخصب هو مهرجانَ مُلكي المتجدِّد وعدالتي الساهرة بالليل
والنهار. وتذكرت الميزان المنصوب في الساحة، وجثث الأشرار المشنوقين
على الأسوار والأعمدة والأشجار، والكتَبة المشغولين بوَسْمِ ذنوبهم على
جباههم، وتدليةِ مسروقاتهم وآثار جرائمهم وبقايا أسلحتهم من أقواس
البوابة وأركانها، ثم تذكرت خاتمة الحفل وذروته في معبد إنليل، وأنا
أحمل الشاة السمينة والحمَل الوديع على صدري وأُقدِّمه لكبير الكهَنة
والحُجَّاب ليُسرع بتقديمه مع السكائب والقرابين. كانت الرءوس السُّود
تُطرِق رهبةً أمام الميزان، والقلوب تخشع إجلالًا للناموس، والسيئون
والأشرار يرتجفون لمرأى التاج والصولجان.
آه يا ننجال!
وماذا رأيت اليوم وأنت تقطعين ميادينَ وطرقاتِ أور؟ ماذا قلتِ
للتائهين الذين وجدتِهم في هذه الساحة من جائعين وضائعين وعاجزين: يا
أبنائي، لِمَ تسيرون في الليل الأعمى كأنكم لا تُبصرون؟!
– اسألي أور؛ فقد ضيعتنا أور!
– يا أرباب الحِرَف، لماذا تقفون هنا ولا تعملون؟
– أصبحَت حرفتنا الوحيدة هي التسولَ في الطريق!
– هل يتسول من يُتقن عمله؟
– لا يتسول إلا مَن يتقن عمله؛ ما دامت صَنعتُه لا تملأ جوفه، ما دام
الإنسيُّ والشرطي والمشرف والناظر والنبيل والكبير يسرقون، ما دام
الإتقان يجرُّ عليه الحسد والهوان.
– وممن تتسوَّلون والكل جائعٌ وفقير؟
– ممن أجاعَنا وأفقرَنا!
– من تقصدون؟
– قد يتعطف علينا موكبُ الإنسي العابر ببعض الفضلات، قد يُلقي
الكهَنة من فوق جدار المعبد بنُفايات القربان، وأخيرًا …
– أخيرًا؟
– قد يأتي الحلُّ على أيديهم!
– أيدي مَن؟
ويُقهقه العاطلون والمتسكعون والعجَزة المكتئبون والمشلولون
والمجدورون والمجذومون الذين يتجولون في الساحة أو ينتظرون.
ويقول واحدٌ منهم: ألم تعرفي بعد؟
– ألم تسمعي؟
– ألم تشعري؟
– ماذا أعرف أو أسمع؟ وبماذا أشعر؟
وتعلو ضحكاتُهم وهم يسعلون ويبصقون: البرابرة قادمون!
البرابرة قادمون!
وتدور الفكرة في رأسي وتدور. يُوشك أن يخرج من حلقي الصوتُ الصارخ
ويقول: أنا ننجال ملكتُكم، وملكة أور، ضائعة وسط الساحات،
وتائهةٌ بين الدُّور،
وأدور أدور أدور؛
كأني قطعة صلصال،
في يد فخار مخمور،
من يحضر ثوبي الملكي،
وسيفي المشهور؟
من يضع التاج على رأسٍ
أثقلَه الحزن،
فسقطَ كالطير الهالك،
في شبكة قدر مستور!
قدرٌ يُنذر بالويل القادم،
والخطر الداهم كالديجور!
يا أبناءَ أور وبناتِ أور! ها أنا أتقدَّمكم إلى البوابة العظيمة.
أجلس على كرسيِّ الملك وأضع التاجَ على رأسي، أجلس منتظرةً وفي يدي
مفتاح المدينة؛ هل هم قادمون؟ نعم. لا بد أنهم قادمون؛ من الجبال
الشمالية كالجراد زاحفون. وعندما تبدو جيوشهم من بعيد وهي تُثير سحب
الغبار والدمار الزاحف على أور، سأقول في نفسي كما تقولون: آه! إنهم
قادمون، إنهم قادمون. ربما يكون حضورهم هو أحدَ الحلول.
وتمر أمامك المرأة المثقَلة بحمل السنين والأحزان كأنها نخلة عجفاء،
ويتمدَّد صوتها القاتم ويتلوَّى كحبل يلتفُّ عليك:
يا من تضَعين التاج على رأسك،
وفي يدَيك السيف والصولجان،
اخلعي التاج والمجد والشارة والوسام،
واهدمي خيمة الملك والأبهة والسلطان؛
فالبرابرة على وشك الوصول،
البرابرة على وشك الوصول!
يا من تقود عربتك المطهَّمة بأربعة حمير،
وتجدُّ لتصل بحمولتك إلى بيتك القريب،
ابحث عن جدار تأوي إليه واترك العربة والحمير؛
فالبرابرة في الطريق، وهم على وشك الوصول!
يا من تقف على عتبة الحياة وتنظر للبعيد البعيد،
فترى الظلام وراءك وأمامك،
ولا شيء غير الحاضر المنكود والغد الموءود،
تعال إلى البوابة العظيمة؛
لتكون في استقبال المواكب والحشود؛
فالبرابرة — كما سمعت — على وشك الوصول!
والبرابرة — كما علمت — هم أحد الحلول!
آه يا ننجال!
لكن النفس الأخرى تقفز في الصدر كوحشٍ مسعور. تَثبُت وتتحدَّى وتثور،
والقدَم الأخرى تقف وتتصلَّب كالحجر الراسخ في فتحة نفَق مهجور.
والصوت الآخر يرتفع ويزعق، يُنذر ويُحذر، يشكو ويقول:
أيتها الملكة التي هُدِّمت مدينتها، كيف تقدرين الآن على
البقاء؟
أيتها المرأة التي هلَكَت بلادها، كيف أبقى عليكِ قلبُك؟
بعد أن هُدمت مدينتك، كيف تقدرين على البقاء؟
وبعد أن دُمِّر بيتك، كيف أبقى عليك قلبك؟
ذَوو الرءوس السود تحوَّل غناؤهم إلى بكاء،
حقولهم وبساتينهم صارت أرضًا جرداء،
مدينتك التي كانت مدينةَ الخير والصلاح أصبحَت خرائب!
بيتك الذي كان بيتَ العدل سُلِّم للمغول!
كيف أبقى عليكِ قلبُك؟
كيف تقدرين على البقاء؟
الخادم لم يُعِد لك الآنيةَ المقدسة،
عندما حلَّت أعيادك لم يحتفلوا بالأعياد على طريقك الذي أُعِد
للمواكب والعربات تنمو الأشواك،
وتشكو العجوز المثقلة بالأحزان ويئنُّ الأعمى المتجدد العناء.
آه! كيف أبقى عليك قلبك،
كيف تقدرين الآن على البقاء؟
ننجال يا مَليكتي، مدينتك تنتحبُ بين يدَي أمها،
كطفل يتيم في شارع خرِب، تبحث عنك أور،
والبيت الصالح المشيَّد بالآجُرِّ يمدُّ يده إليك،
كرجلُ فقد كل شيء وهو يقول:
إلى أين تتركينني، كيف أبقى عليك قلبك؟
غادرتِ البيت يا مليكتي، غادرت المدينة،
خرجتِ إلى الساحات والطرقات ككاهنٍ طردَه إلهه،
وراح يمشي تائهًا في العراء،
كيف طاوعَكِ قلبُك أن تقفي عند البوابة العظيمة وتُخاصمي
المدينة؟
كيف تقدرين على الجلوس هناك في انتظار البرابرة القادمين؟
هل يُرضيكِ أن تُذبَح الأرملة واليتيم والضعيف والفقير؟
هل يرضيكِ أن يخطفوا الزوجة من زوجها والابنة من أبيها؟
ننجال أيتها الأم والمليكة،
عودي كثورٍ لإسطبلك،
كشاةٍ لحظيرتك،
كطفل صغير لحجرة نومك.
أيتها العذراء، عودي إلى بيتك!
يا راعية العدل، عودي إلى بيتك وارفعي الميزان.
وفجأة يا ننجال وأنت غارقةٌ في رؤياك،
فجأة وأنت تنتظرين البرابرة وزحفَ الإعصار والطوفان،
فجأةً يُجلجِل صوتٌ صارخ كأنه صوت إلهك إنليل:
طارِدي السيئين والأشرار!
طهِّري أور من اللصوص والأوغاد! عودي أيتها الشاردة إلى قصرك!
عودي أيتها العذراء إلى بيتك!
ورأيتُ جموعًا تتزاحم مقتربة كالأمواج الهادرة. وعندما اقتربَت من
البوابة العظيمة لمحتُ على رأسها وجهًا أعرفه. كان هو وجهَ مرضعتي
ومربيتي العجوز. أعرف هذا الوجه الطيب الحبيب، بل أوشك في همي وحزني
ألا أعرف سواه أو أثق بسواه. لكن ماذا تحمل في يدها المرتفعة فوق زحام
الحشود كالعلَم الخفَّاق؟ كان في يدها السيفُ والتاج والصولجان. تلمع
في وهج الشمس الساطعة كأنها شموسٌ وكواكبُ صغيرة. وتَردَّد الصياح
الحاد ودوَّى كالرعود.
ننجال! عودي إلى مدينتك،
مليكتي! عودي إلى أور،
إن كان اللصوص والأوغاد في كل مكان،
إن كان هذا هو غضب إنليل،
ونذيره بالسيل الماحق والطوفان،
فها هو صوت إنليل راعي العدل والأمانة والأمان،
يرتفع من قلب اليتيم الفقير والعامل والزارع والكاتب المهان!
يعلو في أذنيك ويعلو ويصيح:
عودي يا ننجال!
عودي يا ننجال!
باسمِ الحقل وباسم السنبلة الخضراء،
باسم المحراث وباسم المركب والمجداف،
باسم الأشجار وباسم الأسوار،
باسم الماضين وباسم الآتين،
عودي يا ننجال إلى أور، ورُدِّي أور إلى أور،
خذيها من فكِّ الأفعى والتنين،
وأعطيها للطفل الضاحكِ للمستقبل،
ولكل شريف وأمين عودي يا ننجال!
ها هو سيفك، تاجُك،
مُدِّي يدك ليضع الشعب الحكمة فيها والميزان!
عودي يا ننجال إلى أور،
قولي معنا: لن تسقط أور!
لا لا لا، لن تسقط أور!
قمت مذعورة من مكاني كأني حيوان ضُرِب على رأسه أو قُطع لسانه بسيف
المفاجأة. زاغت عينايَ ولم أفهم شيئًا مما يدور حولي، وانحسرَت ظلماتُ
الرؤيا شيئًا فشيئًا وتسللَت أشعة الضوء إلى صدري ورأسي وعينَي،
ففتحتُهما على الطوفان الهادر من حولي، والإعصار المدوِّي في
سمعي.
وامتدت يدايَ إلى يد مربيتي لتستقبل الحب ومعه التاج والسيف
والصولجان والميزان. وقبل أن ينفتح فمي ويخرج منه الصوتُ الغاضب
كالإعصار شعرت بجسدي محمولًا فوق الطوفان.
شكرًا يا إنليل! هذا هو إعصارك والطوفان. ولا بد أنني قد نطقت وصِحت
وصرخت؛ إذ راح الصوت يهدر ويزمجر ويزحف مع الموكب الزاحف على
أور:
لا لا لا، لن تسقط أور!
أبدًا لن تسقط أور!
لن تسقط أور!