كلمة في الرواية
بعد حمد الله تعالى الذي هو في بَدْءِ ومُنتَهَى كل عمل، أقول: إن انقطاعي عن الكتابة ومناجاة إخواني السوريين وأخواتي السوريات — ولا سيما المهاجرات منهن — على صفحات «الهدى»، كان مني تفرُّغًا لتأليف رواية نسائية أدبية غرامية، سبكت فيها بعض أفكاري لسببين؛ الأول: لأن للسيدات ولعًا شديدًا بقراءة الروايات، فهنَّ يطالعنها بصبر وجلادة لا يكونان منهنَّ في مطالعة سائر الكتب، وذلك ما يساعد مبادئ الرواية والأفكار المبثوثة فيها على دخول عقولهنَّ وقلوبهنَّ مصحوبة بالتفكِهة والفائدة. فالكتابات — وأخصها الروايات — «نارٌ ونورٌ» كما يقولون، وتكون بحسب مبادئها إما محرقة وإما مضيئة. والثاني: لأن الأفكار متى جمعت ونسقت بقالب رواية تصبح كالسلسلة المتصلة الحلقات، فتفيد القارئ وتكون أشدَّ تأثيرًا وأحسن وقعًا عليه من سواها، فضلًا عن أنها تُحفظ في البيت كما تُحفظ في الذاكرة زمانًا طويلًا، وتُقرأ بلذة ورغبة، بخلاف المقالات والفصول المتقطعة.
ومعلوم أن الروايات إنما هي المرايا تنعكس عليها صور أعمال وحوادث كل إنسان تقريبًا، فيقرأ من بين تضاعيف سطورها وخلال حوادثها ما يمثل له نفسه في بعض الأحيان، فيتأثر ممَّا هو مؤثر أو يبكي ويفرح لما يكون مُبكِيًا ومُفرِحًا، ويطلب فوق ذلك لنفسه الدواء الناجع الذي يصفه المؤلف لغيره، وتلك هي أجلُّ منافع الروايات المفيدة التي لا تستفاد إلا منها ومن أمثالها من الكتب.
- أولًا: أمهاتنا اللواتي «بَنَيْنَ» البيوت التي استقبلتنا أول دخولنا هذا العالم.
- ثانيًا: زوجاتنا اللواتي «يبنين» لنا البيوت التي نسكنها الآن.
- ثالثًا: بناتنا المزمعات أن «يبنين» البيوت للذين يأتون بعدنا.
- رابعًا: القراء الذين تلطفوا باعتبار كتاباتنا الماضية، وهم غير متحولين عما تفضلوا علينا به من قبلُ إن شاء الله.
- خامسًا: الذين لهم بيوت سعيدة والذين يحتاجون إليها.
ولا أحبُّ الاعتذار الكثير عن الخلل ولا الترجي بالتجاوز عنه، بل أقول بكل بساطة وحرية: إنني علقت في هذه الرواية كل ما حضرني وخطر لي من الخواطر في بضعة الشهور التي انقطعت فيها عن متابعة الكتابة في «الهدى» وهي ستة، وكان قصدي المساعدة على الخدمة والإصلاح بما في الوسع وليس دون ذلك أم فوقه، ولم أكتب كلمة إلا رجوت من ورائها النفع العام لأبناء وبنات جنسي، فإن كان الأمر ما حسبته فمكافأتي الوحيدة المبتغاة منهم هي تدبُّر كلامي والعمل بما يرونه حسنًا منه، أو انتقاده الذي هو عندي من خير المكافأة على أتعابي أيضًا.
وأخالف عادة البعض ثالثًا بأنني أشترط على القراء شروطًا، منها: أن يتأكدوا بأنني لم أهتم كثيرًا في روايتي هذه بتنسيق الحوادث وسردها؛ إذ لكل قارئة وقارئ روايات مما يمرُّ عليهما ومعهما وأمامهما كل يوم، بل كانت غايتي التي أعتبرها أسمى من كل تنسيق وتنميق والتي وجهت إليها أكثر عنايتي: «بث الأفكار الإصلاحية التهذيبية الانتقادية»، ومنها التوسل إلى أبناء وطني أن يتناسَوْا بعض العوائد السورية، وألَّا يذكروا بأن المؤلفة امرأة سورية ولو عند قراءة الرواية فقط؛ ذلك لأنني وأنا أكتب هذه السطور بأُذن ضميري انتقادهم على المؤلفة لأنها كتبت عن «الحب والزواج»، وأنظر بعين فكري «ازورار الأعين» وعض الشفاه، وأنا لا أبالي بكل هذه العادات المذمومة التي هي من الحوائل في سبيل تقدُّم النساء وحرمان هذا الجنس من نصائح بناته، بل إنني أخشى على ذَهاب الفائدة مع القراء الذين يعتقدون بهذه الحشمة المضرة التي توقف المرأة عن تقديم المفيد لبنات جنسها، ومعلوم أن الذي لا يعتقد بوجوب الشيء لا يستفيد منه.
وأكرِّر توسُّلاتي القلبية إلى البعض من القراء، ولا سيما إلى النساء أن يتروَّوا في قراءة هذه الرواية الصغيرة، وألا يدنوا من الحقيقة حتى إذا كادت تصافحهم نَفَرُوا منها سراعًا إلى الوهم، أي أن يقرءوا بتمعُّن ويَطرُقوا بصبر الطريق الموصلة إلى الحوادث المبثوثة بين الأفكار، بأن يعتبروا ما حلَّ بفؤاد وما عملت بديعة وما لقيته لوسيا بعد معيشتها المتطرفة. كل هذه أمور مشوِّقة، ولكن الأفكار التي قد يحسبونها «مملة» هي مفيدة، والفرق بين الفائدة واللذة عظيم.
وفي الختام، أنبه القراء الكرام إلى أن روايتي هذه هي باكورة مؤلفاتي وأنها لامرأة سورية، فانتقادها يأتي بالفائدة المطلوبة، وتقريظها قائم في «الرضى عنها». وهنا يجب أن أصرح بأمر على غاية من الأهمية، هو أن الرواية كُتِبَتْ بقصد الخدمة المجرَّدة لا بقصد الأرباح المادية. وأن ما يباع منها بعد أداء أجرة طبعها يكون للإحسان، وأن كل سيدة مشتركة في «الهدى» لها حق بنسخة منها تُرسَل إليها مجانًا، فإذا لم تَصِلْهَا يجب أن تطلبها مني أو من إدارة «الهدى». وما هذا إلا بعض الواجب عليَّ من الخدمة العامة، وبعض الدليل على حسن القصد. وأنا لكم سيداتي وسادتي القراء المخلصة في خدمة الوطنية والآداب.