الفصل السابع والعشرون
وبعد انقضاء أربعة أيام على مشاهدة فؤاد لنسيب، نزل الشابان في محطة سنسيناتي، فوجدا فيها شابًّا كان يعرفه نسيب، وهو من أصدقائه، فسُرَّ بالالتقاء به ودعاه إلى ركوب العربة معهما.
وفيما هما في العربة كان نسيب يسأل الشاب قائلًا: كيف حال صاحبتك بديعة يا يوسف؟ وهل عهد اقترانها بأديب قريب.
فقال يوسف: هذا ما أسمعه، وقد مرضت بديعة مرضة قوية ولكنها في طور الإبلال الآن وتتقدم إلى الصحة. فاضطرب قلب فؤاد من سماع الجملة الأخيرة كما اضطرب من الأولى؛ لأنه كان لا يزال يحب الفتاة بالرغم عن كل ما صار. وسمع حديثهما الباقي بصبر غريب، واستأنف نسيب حديثه قائلًا ليوسف، وقد غمزه بطرف عينه: يظهر بأن بديعة تحب أديبًا كثيرًا.
أجاب الشاب: كيف لا وهو لم يفارق سريرها كل وقت مرضها، وكنت تراه آتيًا من السوق كل صباح وسلة الفاكهة في يد وضمة الزهور في أخرى …
وعند هذا الحد من الكلام فرَغ صبر فؤاد، فقال لنسيب وهو ينظر من النافذة: ألم نزل بعيدَيْن عن محل قصدنا؟
فقال هذا: كلا. وبعد برهة وقفت العربة بهم أمام نزل شهير، فنزل فؤاد ونسيب وقيدا اسمهما وصعدا إلى غرفتيهما.
وكان نسيب يترقب الفرص إلى أن علِم من أحد أصدقائه بوجود أديب في غرفة بديعة، فذهب مع فؤاد إلى هناك، وكانت تلك الغرفة من جهة السوق وبابها ونوافذها مفتوحة؛ لأن الفصل فصل الصيف وأديب وبديعة وجميلة في داخلها.
وإذ وصلا وقفا إلى جانب الباب، وتوقَّع وصولها؛ إذ كان أديب يضع ذلك الخاتم في إصبع بديعة، وهو ينظر إلى يدها نظرة لم تخفَ على فؤاد، فثارت به الغَيْرَةُ وهجم على تلك الغرفة بغتة كالأسد وصرخ بصوت عال: آه يا خائنة! ثم خرج حالًا ونسيب وراءه يضحك في سرِّه من هذا الفوز الباهر.
وكان نسيب مسرورًا جدًّا من إبعاد بديعة عن فؤاد، حتى نسي أنه هو خسرها أيضًا.
وظن نسيب وهو راجع إلى نيويورك مع ابن خالته أن هذا ربما أحبَّ لوسيا واقترن بها، فيكون قد رمي عصفورين بوقت واحد، ولكن ظنه خاب بعد رجوعهما لأنه «لم يتبين عاطلًا من مطوَّق» من كل امرأة رآها بعد بديعة؛ إذ إن حبه الصادق كان قد خُلق ومات فيها.
وبعد أن اختبر فؤاد بديعة بنفسه وتَحَقَّقَ خيانتها كما ظنَّ صار هذا الفكر يحاربه في ليله ونهاره حتى نحل جسمه، وسئم المعيشة فأذعن أخيرًا «لنصيحة» نسيب له بإدمان الخمرة؛ لأنها «تطرد الهموم».
وكان مع فؤاد مال كثير فكان يبذله على أصدقائه بغير شفقة؛ لأنه لم يتعود قبض الكف في مال والده الكثير، وكان منعكفًا على القصف والزهو مع رفقائه نسيب ووديع وآخر غيرهما.
وكان يخلص لهم الصداقة؛ لأنه كان خارجًا حديثًا من المدرسة، ولم يتعود غير الإخلاص مع رفقائه التلامذة. وكان يظن أن معيشته الحاضرة هي كمعيشته السابقة في المدرسة وأن رفقاءه هؤلاء هم كأولئك التلامذة، ولكن الفرق كان عظيمًا؛ لأنه بينما كان يعيش مع هؤلاء في عالم عظيم مملوء من المصائب والتجارِب والشرور، كان يعيش مع أولئك في عالم هادئ وتحت سماء المدرة الصافية من غيوم الحسد والبغض والكبرياء والانتقام، فارتشاف كأس الخمرة المؤذِيَة المؤدِّيَة إلى الهلاك النفسي والجسدي هي غير ارتشاف كأس العلوم الصافية التي هي بلسم جروح الشرور والجهل.
وبعد اتباع فؤاد نصيحة ابن خالته «المخلص» لم يتبين طرق هذه المعيشة من تلك، ولا عرَف كم أضافت إليه تلك النصيحة من الآلام والهموم؛ لأنه كان ثملًا لا يفيق.
ولما مشى فؤاد على هذه الطريق نسي نصائح والده له تمامًا؛ لأنه كان قد نسيه معها، وأخذ يكتب إليه كثيرًا واعدًا بقرب رجوعه وبإيقافه على قصته، وهذا ما كان يسلِّي ذلك الوالد التعيس الذي أوقعه شرفُ مبدئه بهذه الوهدة، وتلك الوالدة المستحِقة الرحمة التي أوصلها كبرياؤها إلى هذه النتيجة الهائلة.
وكان فؤاد يمشي مع رفقائه على طريق الهلاك، ومن يراه يعرف بأنه مدفوع إلى سلوكها مرغمًا؛ لأنه كان لا يَعِي على شيء ولا يصغي أو يفتكر، فكان إذا قَدَّمَ له الناس كأسًا يشربها وربما شرب عشرات مثلها ولا يرفض، ولكنه لم يذهب بنفسه ويشربها. ولم يتغير شيء من أحواله قط؛ فإنه بقي كما كان دمث الأخلاق لطيف المعشر كثير الافتكار يحب الرحمة والإحسان، وكثيرًا ما يكون سكرانًا ومتوكئًا على ذراع أحد أصدقائه، فيمر بأحد الفقراء ولا ينساه، بل يأخذ من جيبه مالًا ويدفعه إليه. وكان يأتي أمورًا كثيرة شريفة تدل على أن سلوكه كان إما رغمًا عنه وإما عن غير انتباه.
وبينما كان فؤاد بهذه الحالة على موائد الخمور وبين أسباب السرور ويتعذب بنفسه وجسده ولا يدري، كانت بديعة في أشد حالات العذاب وهي تتعذب وتدري لماذا هو عذابها.