الفصل الرابع
ولما مَثَّل ذلك الشاب دور انتقاده وانتهى من ملاحظاته، ذهب وهو يقول: إنني رأيت كل أعضاء جسم العوائد المضرة بين الهيئة الاجتماعية في هذه الليلة، ولكن الحمد لله لم أر «رأسها» الذي هو «لعب القمار»؛ فالفضل بهذا راجع إلى أصحاب البيت الأفاضل الذين لا يحبون أن يكون بيتهم هيكلًا يضحى على مذابحه شرف وعقل ومال الناس بسرور ورغبة.
حدثت كل هذه الأشياء وفؤاد لم يكترث لأكثرها؛ لأنه لم يكُن موجودًا بغير الجسد هناك. ومع أنه كان في الوليمة بنات يُخجلن بجمالهنَّ زنابق حزيران الجميلة في الصباح، ويمثلن ضروبًا من الجمال والدلال؛ فإن الشاب لم يكترث لهنَّ إلا من جهة الضيافة والقيام بواجب الملاطفة المعتدلة، وكان كل فكره عند تلك الفتاة التي رآها حين دخوله الباب، وعلى ذلك الثوب البسيط الذي ظهر جمال وجهها وقدِّها فيه بأبهى مظهريهما؛ إذ لا شيء يظهر الجمال الحقيقي كالبساطة الطبيعية بكل شيء. وكان يفتكر في من عسى أن تكون تلك الفتاة التي لم يقدر على التمتع بمرآها أكثر من دقائق معدودة والتي أوجدت في قلبه شوقًا عظيمًا إلى نظرة ثانية منها لم يعرف سببه.
وهذا التأمل صيَّره مشتت الأفكار وجعل وجوه أكثر الفتيات كالحة في تلك الليلة التي كان هو فيها مطمح أبصارهنَّ وأبصار أمهاتهنَّ اللواتي كنَّ يراقبنه ويطوِّقنه بأنظارهنَّ كيفما دار، وكل واحدة منهنَّ تتوهم «أنه في قبضة يدها»؛ لأن بنتها أحسن من بنت فلانة أو أن نحلتها «الدوطة» أكبر من نحلة فلانة. ولو كان لإصابة العين أثر من الصحة مع شدة اعتقاد بني وطننا بها، لكان وقع فؤاد صريعًا من عيون بعض الأمهات اللواتي كنَّ يترقَّبْنَه كما تترقب الهرة العصفور … أما هو فقد كان — وا أسفاه — مشغولًا عنهن بالنظر بلهفة إلى الباب كلما فتح أو دخل منه أحد؛ لأنه كان يعلل النفس باستعادة النظر إلى تلك الصورة التي تركت في قلبه أثرًا لا يُمحى، ولكنه كان يُرجِعُ نظره بالقنوط والخيبة إذ يرى بأن الداخل ليس من يريد، وانتبه لأمره كل من كان حاضرًا من أصحاب الذوق في تلك الليلة؛ لأن أفكاره كانت مرسومة على جبينه.
وكان يسأل نفسه عن سبب حضور تلك الفتاة الحفلة ويودُّ الاختلاء بوالدته ليسألها عنه، ولكنه تَصَبَّرَ احتشامًا إلى ما بعد ذهاب المدعوِّين. وعند منتصف الليل كان قد ذهب أكثرهم وكانت السيدة مريم قد تعبت جدًّا من الجهد الذي قاسته بمقابلة الضيوف والقيام بواجباتهم بتدقيق، ومن الحرِّ الشديد في تلك الليلة، فنزلت إلى الحديقة وجلست على مقعد هناك للاستراحة من عناء الأشغال، ولتنشق الهواء النقي الذي هو أحسن وسيلة للراحة وأعظم منعش للقلب في مثل هذه الظروف.
وكان فؤاد ينتظر هذه الفرصة أيضًا، فلما خرجت والدته تبعها ماشيًا وراءها إلى أن وصلت إلى ذلك المقعد وجلست، فأتى هو ووضع يده اللطيفة على كتفها فأحست بأن هذه اليد هي التي خففت عناءها وليس النسيم العليل، وللحال أخذتها عن كتفها وأدنتها من فمها فقبلتها بحرارة والدية، واجتذبت ولدها بلطف قائلة: اجلس بجانبي يا حبيبي لنريح نفسينا قليلًا بالحديث.
وكانت السيدة مريم في الأربعين من عمرها، ولكن من ينظر إليها يظن أنها في الثلاثين فقط؛ لأنها كانت اكتسبت الظهور بأقل من سِنِّهَا بعشر سنوات، واستبقت جمالها على حاله من اعتنائها بصحتها اعتناءً زائدًا، وهذا سرٌّ قد لا يفهمه جميع الناس ولكنه أصل سعادة العائلة؛ لأن المرأة متى كانت قادرة على الاعتناء بصحتها وجمالها تبقى إلى ما بعد الخمسين صبيَّة، وتكون بذلك لم تزل «عروسًا» محبوبة من زوجها ورفيقة عزيزة لبناتها وصبيانها؛ لأن الأم الصبية تكون رفيقة للبنت قادرة على مسرَّتها والسرور بها، فتفهم احتياجاتها أكثر مما لو كانت شيخة وبنتها صبية، ورُبَّ امرأة تلبس هي وابنتها فسطانًا من قماش وتخريج واحد، فتعيش بنتها سعيدة معها أكثر ممَّا لو كانت غضَّنتها الأيام فأصبحت لا تكترث لشيء، وقد قيل: «كل جيل مع جيله يلعب.» وأما منفعة الأم الشابة الجميلة للشاب فهي عظيمة جدًّا؛ إذ تكون له مدرِّبة ومحبة ورفيقة يسرُّ بمعاشرتها واستشارتها بوقت واحد.
وكان فؤاد يشبه أمه أكثر مما يشبه أباه، فكان وهو جالس معها على ذلك المقعد يُظن أنها أخته لا والدته، ومن جهة أخرى يشعر بقوتها عليه وبوجوب طاعته لها لشعوره باللذة والسعادة بمحادثتها. وفي خلال الحديث سألها بلطف قائلًا: هل حضر كل مدعوِّيك الوليمة يا أمي؟ فارتابت والدته من سؤاله وقالت له: وما الذي حملك على هذا السؤال؟ أجاب: لا شيء سوى أنني أظن أن البعض منهم ذهبوا بعد حضورهم لأسباب لا أعلمها. فتعجبت والدتُه من هذا السؤال الغريب، وقالت: لم يذهب أحد من هنا على الإطلاق، ولكن عائلة واحدة لم تحضُر؛ لأن أحد أعضائها مريض، فما الذي دعاك لِأَنْ تقول بأن البعض حضروا ورجعوا؟ أجاب: ومن هي إذن تلك الفتاة الجميلة التي نظرتها عند وصولي للبيت ولم أعُدْ أنظرها فيما بعد البتة مع ضيوفك؟
وكان الولد مخاطبًا الوالدة وهو كما يقولون «فلذة كبدها»، فكانت أفكاره بعض أفكارها! فلما سمعت كلامه اضطرب قلبها ولكنها ابتسمت وقالت في نفسها: إن التفات الشبان للفتيات الجميلات أمر طبيعي، فما بالي أخشى منه؟ وأجابت الولد قائلة: أنت غلطان يا عزيزي؛ لأن الفتاة التي رأيتها لم تكن من جملة الضيوف، بل هي خادمة عندنا.
ظنت الوالدة أن ولدها يشعر بقلبها، وأن مجرد قولها له بأن الفتاة خادمة يحقرها في عينه ويوقفه عند حدِّ السؤال عنها ثانية. أما هو فلم تؤثر به معرفة كونها خادمة شيئًا، بل زادت رغبته بالنظر إليها ثانية ومخاطبتها منفردًا، وعظم سروره أنها قريبة منه وفي بيته. ومن حظ تلك السيدة المتعظمة أنها لم تقدر على معرفة الدلائل التي ظهرت على وجه ولدها في ذلك الليل.
وبعد أن سمع فؤاد كلام والدته وعرف ما عرفه عن الفتاة، حمله الشوق على التفتيش عنها في تلك الساعة، ولم تدعه آدابه أن يترك والدته في ذلك المكان وحدها، فقال لها: إن الرطوبة تضرُّ برأسك يا سيدتي لا سيما وأنت تعبانة، فالأوفق أن نرجع. فأذعنت والدته وأخذت ذراعه إلى قاعة الاستقبال حيث كان بعض المدعوِّين لا يزال باقيًا.
أما هو فمضى يفتش عن بديعة، ولكنه رجع بالخيبة بعد أن ذهب إلى المطبخ وغرفة المائدة وكل مكان يدخله الخدم؛ إذ إن بديعة كانت قد ذهبت إلى غرفتها قبل نصف الليل بساعتين؛ لأن النوم قبل نصف الليل بساعتين أو ثلاث كان من القواعد الصحية التي لم تخالفها قط.
وفي غد اليوم الثاني رأت السيدة مريم أن تفي بوعدها لبديعة؛ لأنها كانت تعاملها معاملةَ رفيقةٍ، لا خادمة في البيت، فذهبت إليها، وكانت في ذلك الصباح كوردة نيسان المفتحة في الليل والمستقبلة ندى الربيع صباحًا. فأخذتها من يدها وهي تقول: إنني امرأة وأعشقها، فهل ألوم فؤادًا لأنه سأل عنها؟! وكان في غرفة السيدة مريم الخاصة زوجها وولدها وابن أختها نسيب يدخنون ويشربون قهوة الصباح، فلما دخلت السيدتان انتصب الخواجة منصور واقفًا لهما، فعجب فؤاد ونسيب اللذان وقفا أيضًا. أكان هذا الاحترام لامرأته أم لبديعة الخادمة؟ وأشرق على وجه فؤاد نور غير عاديٍّ عند دخول بديعة لم تلحظه والدته لحسن حظها، ولا والده الذي كان ناظرًا إلى بديعة، ولا بديعة التي كانت منخفضة الرأس وعيناها كزهرتي نرجس أطبقهما النسيم.
ولكن لم يشأ الله أن يبقى سرُّ الشاب مكتومًا عن الجميع؛ لأن ابن خالته كان ينظر إليه بتلك الساعة، وكأنه كان ينتظر أن يرى ما رأى من دلائل السرور على وجه فؤاد، فابتسم عن مكر. واستأنفت السيدة مريم خطوها إلى ابن أختها، وعرَّفته ببديعة أولًا، ثم نادت فؤادًا وعرفته بها ثانيًا، وقالت له وهي تنظر ببديعة: إنها أتت إلينا بصفة خادمة، ولكنها قدرت بآدابها على إيجاد مقام أسمى لنفسها حتى أصبحت لي رفيقة وصديقة. ثم حولت نظرها إلى فؤاد ورمته بسهم آخر من الكلام؛ إذ قالت له بلطف: إن بديعة أديبة جدًّا يا فؤاد، وهي تستحق منك إكرام أخٍ لأخته وليس سيد لخادمته.
ولكن هذين السهمين من نظر أمه وكلامها لم يصيبا منه مقتلًا؛ لأنهما خرجا من القلب وفتشا عن القلب فلم يجداه في صدر فؤاد؛ إذ إنه كان قد نزعه وسلمه لبديعة عند مصافحته لها، أما بديعة فلم يخفَ عليها المعنى من كلام سيدتها ولكنها قدرت على إخفاء عواطفها في هذه المرة، كما كانت قادرة كل وقت فلم يصبغ وجنتيها لون الورد.
جلست بديعة بين تلك العائلة المحبوبة منها وهي غاضَّة الطرف عن النظر إلى فؤاد ونسيب، اللذين كانا إلى جانبها يرشقانها بسهام العيون بنظرات أحدَّ من السهام، كانت تشعر بأنها مصوَّبة إليها وهي لم تنظرها. وأما السيدة مريم فإنها بقيت واقفة وهي لا تدري؛ لأن عينيها الحادَّتين كانتا مُحْدِقَتَيْنِ إلى ولدها الذي كانت تقرأ على وجهه فصولًا حسبتها من مقدمة الليلة البارحة.
ولم تصدِّق بديعة أن أتى وقت الانصراف حتى خرجت من ذلك السجن الذي لم تقدر فيه على تحريك يديها وعينيها ولسانها؛ إذ كان الاضطراب سائدًا عليها فيه لأسباب لا تعلمها، وأسرعت إلى غرفتها حيث جلست على كرسيٍّ هزاز أمام النافذة وأطلقت لما سجنته في صدرها من الأنفاس العِنان، وبعد أن تنفست طويلًا وأدخلت لرئتيها الهواء النقي شعرت براحة في فكرها وقلبها وجسمها، وقالت: آه … ما أجمل الحرية الحقيقية بكل شيء!
اشتغلت بديعة كل شغلها طول ذلك النهار، ولم تنظر أحدًا من أصحاب البيت الذين كانوا مهتمِّين باستقبال المُسَلِّمِين والزائرين، وكانت ترى في وسط أشغالها صورة مع أنها لم تعرف ما هي جليًّا، فهي حقيقية لا وهمية؛ لأنها كانت تشعر بها. وكانت تشعر من جهة بسرور زائد ومن أخرى بانقباض شديد، ولا تعرف لهما معنى. وكان في نفسها شوق إلى مرأى فؤاد بكل دقيقة، حتى إنها كانت تتصوره قادمًا إليها أو أنه يخاطبها. ومع أنها لم ترغب بهذا الشعور نحو ابن سيدها، فإنها لم تقدر على غلق أبواب قلبها دونه إلى أن غلبها على أمرها. وكان شوقها يزداد يومًا عن يوم حتى رأته خطرًا عليها، فاستعدَّت لمحاربته، وكانت مسرورة؛ لأنها لم ترَ فؤادًا من أيام لاجتنابها الالتقاء به، وكان هو مشغولًا بردِّ الزيارات. وكما أن بديعة كانت تفتكر في فؤاد هكذا كان فؤاد يفتكر فيها، والفرق بينهما أنها هي كانت ترى الاسترسال بالافتكار خطرًا عظيمًا يجب ملافاته، وما ذلك إلا للفاصل الذي يفصل بينهما لعدم المناسبة، أما هو فلم يكن هذا الفكر فكره؛ لأنه كان يسعى جهده لإنهاء أعماله والتفرُّغ لمحادثة بديعة وتعليمها حبه واستمالتها إليه، مع غض النظر عن مقامها الذي لم يقدِّم ولم يؤخر معه شيئًا.