الفصل الرابع والأربعون
مضت تلك السهرة وبديعة وفؤاد يتخاطبان بالنظر أمام الضيوف؛ لأن السيدة مريم رغبت ببقاء الأمر سرًّا، وهكذا أحبت بديعة إكرامًا لمن هي عتيدة أن تصير لها والدة ثانية، ولمن هي مضطرة أن تتعود محبتها لتتم سعادتها.
ولم تقدر بديعة على إغماض جفنها طول ذلك الليل لشدة فرحها، بل كانت تمشي في غرفتها مصلية لله وشاكرة له على نعمه التي لا تستحقها. وقبل انبثاق الفجر لبست ثيابها، ونزلت إلى الحديقة قبل أن يفيق أحد، وقَصْدُهَا أن تشارك الطيور بتغريدها وتسبح الله معها. وفيما هي صاعدة بالفكر إلى ما فوق الأرضيات، وقلبها ثمل من صوت الموسيقى الطبيعية التي كانت مؤلفة من تغريد الطيور وحفيف ورق الأشجار وخرير الماء من أنبوبة كانت أمامها، سمعت وقع أقدام تقترب منها، فخافت لأن الفجر كان لم ينبثق بعد تمامًا. وبعد ثوانٍ قليلة طردت ذلك الخوف بابتسامة حلوة كشفت عن شيء مضيء كالماس في تلك الظلمة؛ ذلك لأن القادم كان فؤادًا، ولما وصل إليها بهتت ثم قالت: كيف أفقتَ وما أدراك بأنني في هذه الحديقة ولستَ في غرفتي في مثل هذا الوقت؟
فأجابها بفرح: أتظنين أن الله خَصَّكِ بالسعادة وحدك وأنك قد سهرت تتلذَّذِين بهذا السرور وتشكرين الله على نعمته، بينما أنا غارق في بحر النوم العميق ولي نفس الحق الذي لك بالسهر. كلا إن هذا لم يتم يا سيدتي؛ لأن الشعور كان متبادلًا، وكلانا عرَف واجبه نحو خالقه ونفسه، فسهر شاكرًا ربه وسعيدًا بذكرى اجتماعه، كأنه خاف أن ينام فلا تغنيه الأحلام عن اليقظة شيئًا «وشتان ما بين الحقيقة والوهم». وأظنك نسيتِ بأن غرفتي مطلة على الحديقة، وقد رأيتك إذ أتيت إلى هنا، فتبعتُك لأنني لا أحب أن تكوني وحدك دقيقة واحدة بعد اليوم، وأنا أخاف عليك من الوحدة …
فقالت بديعة: قد نسيت بأن غرفتك هذه — وأومأت برأسها إليها — ولا غرو إذا كنت تخاف عليَّ من الوحدة الآن ولم تفعل هذا من قبلُ؛ لأنني بحالة يخشى فيها عليَّ منها في هذه الحالة، ولم أعد خاملةً فقيرةً كما كنت من قبل!
فنظر فؤاد إليها نظرة توبيخ وقال: مهما دَنَتِ المرأة من الكمال النسائي ومهما تقدمت في العقل والتهذيب، تبقى على بعض أخلاق مختصة بالنساء؛ من مثل حب النكاية وجرح إحساسات الرجل. فإنك يا بديعة الحبيبة تعلمين بأنني لم أتركك إذ ذاك برغبة مني بل إتمامًا لرغائبك أنت، ولو علمت بأنه سيحدث ما حدث لفضلت أن أخسر علمي — حتى وحياتي — على أن أفقدك سعادة يوم من حياتك. وأرى بأن لتغيُّر الأحوال تأثيرًا عليك، وأنك سوف تضعين ذكر «المال» أمامك في كل أحاديثك. فإذا كان الأمر هكذا وكنت لا تنسين كل شيء، ما عدا أنني أنا ذلك الشاب الذي نظرتِه في مستشفى الفقراء في نيويورك، وأنك تلك الخادمة التي تعرفتُ عليها في بيروت؛ فاطرديني من أمام وجهك. قال هذا وتظاهر بأنه يروم الابتعاد عنها، فضحكت وقالت: اصبر يا فؤاد، فقد فاتك بأن في النساء عادة هي تفقد حبهنَّ في قلوب الرجال دائمًا، وطبيعي فيهن استخراج مديح الرجال بذم نفوسهن، فدع الماضي حتى والمستقبل أيضًا، ودعنا نتلذَّذِ الآن بجمال هذه الطبيعة المحتفية بنا. اسمع اسمع! إنا نسرُّ باستماع أصوات الطيور الجميلة. أما يلذ لك ويطربك صوت خرير الماء وحفيف أوراق الشجر. فكل هذه أنغام طبيعية سماوية، أين منها الألحان الاصطناعية وهي تذكرنا الآن بأن حبنا ابتدأ صادقًا وطاهرًا لا أثر للأَثَرَةِ فيه، وهكذا يجب أن ينتهي. فاجلس ولا تفتكر بغير الحاضر، وانسَ الماضي حتى والمستقبل أيضًا.
فأطاعها فؤاد وهو يقول: إنني أقدر على تناسِي الحاضر، ولكنني شديد الافتكار بالمستقبل لأنني لا أتصوَّر به غير السعادة، أعني أن سعادتي هي باجتماعي بك، وكل مصائب العالم لا تُعَدُّ شيئًا إذا كنت بالقرب مني، كما أن كل سعادة لا تكون شيئًا بدونك. والشيء بالشيء يُذْكَرُ؛ فأي متى تريدين أن يكون وقت اقتراننا يا بديعة؟
أجابت بديعة: إنك لا تطلب تعجيل هذا الأمر بعد يا فؤاد؛ لأن لوالدتي حقًّا بي، وأرى من واجباتي أن أخصص لها كل التفاتي وذاتي مدة أعوض عليها بها ما خسرته في الماضي.
وكان إذ ذاك جيش الظلام قد ابتدأ بالانهزام، وانبثق نور الفجر على الزهور الباسمة بقطرات الندى من ثغورها. فقدرت بديعة أن ترى وجه فؤاد المكفهر عند استماع جوابها، فقال: ليس هذا عذرًا يا بديعة؛ لأن والدتك ستكون معنا دائمًا قبل اقتراننا وبعده، وهي لا شك ترضى باقتراننا العاجل.
– إنني أترك الأمر لها ولك ولوالديك — قالت بديعة — وكما تحبون أجري.