مدار القلب
صحوتُ في غرفتي، أمضيتُ الليل أناقش أصدقائي مشكلات تهمُّنا، تلفَّت بالدهشة، فهي ليست الغرفة نفسها، ولم تكن كراسي الأصدقاء في مواضعها.
كتمت أمي إشفاقها: «كنت تحلم.»
لا أعرف إن كان ما شاهدته حلمًا، أم أنه حلم يقظة، أي تلك اللحظات التي تسبق الصحو من النوم؟ أم أنه مجرد تشوُّش يصنعه اختلاط المرئيات في الذاكرة؟
أظل دقائق ممددًا على السرير، أسرح فيما يشبه الخيالات، أحاول تجميع أجزاء الحلم، أفصل بينه وبين وقائع الحياة اليومية، الحياة المعاشة بالفعل، أتذكر المشهد، والذي يليه، تتوالى المَشاهِد، أتبيَّن الفجوات التي نسيتها.
نظرت — بتلقائية — ناحية بقعة الفراولة التي انتترت على الجلباب الأبيض، بدت البقعة الحمراء في موضعها بالصورة التي نمت عليها، لم أتبيَّن إن كان حلمًا أم حادثًا يشبه الحلم! لغرابته تصورته حلمًا.
حين قال لي سيد عبد ربه أنه طلق زوجته، سألت: «ألم تقل هذا من قبل؟»
قال إنه صحبها إلى المأذون في الصباح، وطلَّقها، أملى الانفعال قراره، ولم يكن في باله.
كتمت الدهشة في داخلي، كان قد روى لي عن الطريق المسدود الذي أوصله إلى قرار الطلاق، لا أذكر المكان ولا الزمان، تغلَّفت المرئيات بضبابية غيَّبت الملامح، وإن ترامى هدير أمواج البحر في اصطدامها بصخور الشاطئ.
عيناي المفتوحتان، وحركة جسدي، والكلمات التي أقولها، والمَشاهِد التي أراها، والتلفُّت، والأذان في أبو العباس، وضوء النهار، والزحام، والعراك، والاندساس في حلقة الذكر، وتلاغط الأصوات، ذلك كله يضعني في قلب الحياة، الفعل والأخذ والرد والفصال، يفاجئني الحلم في لحظة لا أتوقعها، يتسلَّل وسط انشغالاتي اليومية، لا أتذكر الليلة التي جرى فيها، ولا أتذكر الحلم نفسه، لكنه ينبثق كالمفاجأة، أطيل التأمُّل، والتقليب، واستعادة الملامح والتصرفات، يرافقني طيلة ساعات اليوم.
بدت سمكة القرش في سكونها على الطاولة، مختلفة عما عرضه الفيلم الأمريكي، صغيرة بما يصعب التصور أنها تُحدِث الأذى، بدت صغيرة حتى عن مثيلتها في مرة سابقة.
قال الرجل: «هذه أول مرة نضع القرش داخل الحلقة.»
حدست أن صورة القرش اختلفت في ذاكرتي بما رأيته في الفيلم، وما أراه الآن، وما بقي من صورة الحلم الذي — ربما — أتاني في النوم. قال لي عبد الله فودة في قهوة فاروق: «كنت تحلم.»
فركت عينَي لأتأكد إن كنت أحلم بالفعل، عرفت أنه يقصد تهويل ما قلت، وإن ما قلته لا صلة له بالظروف التي نعيشها. انتترت من النوم على نداء باسمي، تلفَّت لأعرف مصدر الصوت، طالعني الصمت السادر، وحطَّ السكون على الأشياء كلِّها من حولي. هو صوت أبي، أميِّزه جيدًا، على الرغم من رحيله منذ سنوات.
ومضت عينا أمي بإشفاقٍ: «قد يزور الموتى أحباءهم، أطلب لأبيك الرحمة.»
تنهدت، وعدتُ إلى موضعي، ظللت صاحيًا لصدِّي النداء الذي ملأ أذني، حتى غلبني النوم.
أغمض عيني بعد الصحو، لا للنوم، وإنما للتذكُّر، لاستعادة أحلام ناقصة، ومتقطعة، وبها فجوات، وأحلام واضحة، متصلة، كأني عشتها في الواقع، تختلط الأحلام والكوابيس والمَشاهِد الحقيقية والمنامات والأخيلة والرؤى والتصورات متشابكة، تتداخل، أعجز عن التمييز بينها، لا أدري أيُّها جرى في اليقظة، وأيُّها جرى في المنام، يصعب أن يتشكَّل مشهد أطمئن إليه؛ «شوارع خافتة الضوء، بنايات، مساجد، ميادين، ساحات، ضوء فنار، حلقات ذكر، زراعات، مقاهٍ، شاطئ، مآذن، سيارات، جبال، رمال، غابات، أسواق، بلانسات صيد، إنشاد، ربما عجزت عن فصل ما بينها.» أستقر على المعنى الذي صحوت عليه، أو أنه يظل في الذهن، يعاودني في أثناء النهار.
أضيِّع وقتًا في إقناع نفسي أن ما رأيته كان حلمًا، مشاهد متصلة صنعتها المخيِّلة، وليست وقائع حقيقية عشتها. في ذات صباح دعكت عينَي، وسألت: «أين محسن الغمري؟»
قالت زوجتي: «من أسبوع ودَّعك؛ ليعود إلى طنطا.»
أظهرت الحيرة: «أمضينا الليل على هذه الشرفة.»
جدران الغرفة المصمتة، إلا من نافذة صغيرة تطل على الكورنيش، نبَّهتني إلى أن جلستي إلى محسن الغمري كانت في الحلم، يختلط فهمي لما جرى، إن كان حلمًا، أم أنه حقيقة عشت تفصيلاتها.
بدا الشارع الضيق ملتفًّا بالظلمة والصمت … شدَّتني العِصي الغليظة في أيدي الرجال الثلاثة، فلم أتبيَّن ملامحهم، اندفعوا من أول الطريق، أحطت وجهي بذراعي أتقي العصي المرفوعة، الضربة الأولى انبجس فيها الدم والألم والصراخ، زاد صراخي للدماء التي غطَّت الرؤية.
قلت وأنا أهز رأسي: «كابوس فظيع!»
أرجعت الخدش في وجنتي إلى شفرة الحلاقة، فطنت — لرؤية ذقني في المرآة — أني لم أكن حلقتها. كان اهتزاز الباص قد قارب الأجساد الواقفة في الممر، اصطدمت الأيدي والأكتاف والصدور، ربما الخدش أحدثته — في تلك اللحظة — إصبع تتقي الخطر، لكن إقامتي في البيت ثلاثة أيام أخيرة، يقصر الزحام — الذي أذكره — على الحلم، في الحلم اصطدم الظفر — لحظة اهتزاز الباص — بالوجنة، لغياب الألم، فلم أتحسَّس الموضع عند الصحو، لكن الحادثة، الحلم أتذكرها، يصعب أن تكون قد جرت في الحياة المعيشة.
حين سأل عبد الله فودة عن سبب وجود كدمة زرقاء في جبهتي، فتشت عن إجابة لا تستدعي سؤالًا تاليًا، ابتسمت أعيننا وهو يودعني آخر الليل، لا بد أنه رأى جبهتي الخالية من الكدمات، الغلالات أحاطت بالميدان؛ الذي شحبت قسماته، أقف وسط المصلين، أؤدي الركعات والسجدات وراء الإمام الذي لا أراه، الكدمة ليست أثر حادث، لكنها تأثير الصلاة، «هل تداخل الحلم بما حدث فعلًا.»
أعجز عن تذكُّر الأحلام، أو أتذكر وقائع، وتنطمس وقائع أخرى، ألتقط ما جرى بالفعل، أنتزعه من زحام الرؤى والأحلام والكوابيس والمنامات والأخيلة؛ التي تبدِّدها اليقظة، صلَّيت في غير موعد، قرأت القرآن، تأمَّلت عِظات أمام أبو العباس، اجتذبتني كلمات المنشد في الساحة الملاصقة لحلقة السمك، تطوَّحتُ مع الذاكرين على رصيف البوصيري.
صعدت الطريق — ذات عصر — إلى مكتبات الموازيني، تأكدت من سهولة دسِّ النوتة الصغيرة داخل جيب الجاكتة العلوي، أزمعت أن أسجِّل فيها أحداث يومي كلها، وما أعيشه من لحظة استيقاظي في الصباح إلى تهيُّئي للنوم. أستعيد ما علِق من ضبابية الحلم، اليوم أربع وعشرون ساعة، هل ما حدث قد حدث بالفعل، أو أنَّ الحلم تداخل في حركة اليوم، فتصورت أنه ما حدث! تأخذني المشغوليات، أحاول الاستعادة، أسجِّل ما يصل الأحداث، لا أغفل شيئًا، لا أفلت حتى التأمُّلات الشخصية واستعادة الذكريات، لا يشغلني التذكُّر في ذاته؛ إنما متى جرت الواقعة؟ وكيف؟ وأين؟
إذا بدَّلت ثيابي، فإنني أتأكد من دسِّ النوتة الصغيرة في الجيب العلوي للجاكت أو البيجامة أو الجلباب، يختفي الجيب فأطمئن إلى موضع النوتة في جيب البنطلون الخلفي، تدوين ما ألاحظه، ما ألامسه، ما يلفت انتباهي، أعيش حياة حقيقية، وحياة في الحلم، أكتب كل شيء، ما أحياه — بالمعايشة المتيقظة — يمكن أن يساعدني في الغربلة، التفرقة بين ما جرى في الواقع، وما جرى في الحلم؛ الوقت، طبيعة المكان، الكلمات المتبادَلة، حتى التفصيلات الهامشية، التي لا تثير الانتباه.
امتلأت النوتة بالكثير من الأرقام والحكايات والمشاهدات والملاحظات والأسئلة والآراء والنكت، أسجِّل ما حدث، أهمل التعليقات، لا أكتب: في رأيي، أظن أن، ألاحظ، هذا خطأ، هذا صواب.
أغمض العينين عند الاستيقاظ، لا أفتحهما، أستعيد ما جرى في النوم، ما أتذكره من الأحلام والكوابيس، أشرد في الأحلام التي لا تزول، والأحلام العابرة، وأحلام اليقظة، والمنامات والكوابيس، الكوابيس لا تشغلني، لا أوفَّق — عند الصحو — في لملمة ما رأيته، تختلط الأنياب والمخالب والأجسام الهائلة والزئير والصراخ، المشاهد متقطعة كما التشويش في التليفزيون.
ربما الاستيقاظ مخرج من كابوس أتعبني، أنتفض بجسدي كلِّه، بآخر ما عندي، أحرِّك أطرافي حتى يبتعد الكابوس، أعود إلى ما لا يخيفني.
بدا الانزعاج في عينَي زوجتي: «كنت تصرخ؟!»
– كابوس مخيف.
– زال والحمد لله.
ومضت خارج الغرفة: «سأحضر لك كوب ماء.»
استعدت الرؤى، وأنا ألتقط أنفاسي: أجري بكل قوتي، والسكين الهائلة في يد الرجل الذي يطاردني … تلامس جسدي. حسرت الجلباب، نظرت إلى موضع الملامسة، في منتصف البطن تمامًا، بدت الثقوب الحمراء الصغيرة، كان ما عانيته في أثناء النوم قد جرى بالفعل.
تبيَّنت أن الحلم لا ينقطع بالاستيقاظ، أعود إلى النوم، فيعود الحلم إلى تواصله، هو الحلم نفسه بتفصيلاته. قلت لزوجتي: «أيقظتِني من حلم جميل.»
بدا الحلم في انفصاله بالصحو واتصاله، كأنه بلا نهاية، أغمضت عينَي، كأني أعود إلى النوم، استغرقت في النوم بالفعل، في حلمٍ أحببتُ ما جرى فيه.
ضِقت بكثرة ما رأيت، بدأت في استعادة ما أذكره من الأحلام، ألتقط ما يبدو غريبًا، وغير مألوف، وما يحتاج إلى تفسير. تكتفي زوجتي بالقول: «خير؟»
وحين رأيتني في قبوٍ مظلمٍ كالقبر، قال لي عبد الله فودة: «إن الموت في الحلم يعني طول الحياة»، شغلني — في الفترة الأخيرة — ما كنت أصحو على مشاهدته، تختلط الرؤى، وتتشابك، تبدو واضحة، أو يلفُّها الشحوب، يتبدَّل الأشخاص والتصرفات، تظل الأماكن على حالها، كأنها القدس بالأقصى وحائط البراق وقبة الصخرة (ثبتت الصورة في ذاكرتي منذ الطفولة)، والتلال المحيطة والمآذن وأبراج الكنائس وبيت الشرق والبيوت القديمة (شاهدتها في فيلم تسجيلي) والنوافذ الأشبه بالمشربيات والمصاطب والبواكي والبازارات والدكاكين ذات الأبواب الحديدية، ومعاصر الزيتون وباعة الخضار والفاكهة والخبز والميرمية والشوارع الضيقة والأزقة والأسوار والقلاع والحصون والأبواب التاريخية والأقبية والأضواء المتسللة من القيساريات (لاحظت المَشاهد نفسها تتكرر في كل المدن العربية القديمة) وأعمدة النور ومفارق الطرق والميادين والساحات وباب الخليل وباب العمود ومنطقة الباب الجديد ومنطقة القصور الأموية والملابس الفلسطينية والكوفية (قرأت — آخر الليل — كتابًا عن القدس) والبساتين وأشجار الصنوبر والزيتون والبرتقال والنخيل والزعتر والنرجس والحنون (أسماء متكررة في الإبداعات الفلسطينية) واختلاط روائح البخور والزعتر والبهارات والفلافل وتبغ النارجيلات، تقارب الحلم، تكرر — في الليلة الواحدة — أكثر من مرة، كأنه صور متلاحقة، ما يختفي تحل — بدلًا منه — صور أخرى، تتعدد الصور، لكنَّ الملامح والألوان والظلال تعمِّق المشهد الكلي، وتثبته، رؤى شفيفة، هامسة، كحلمٍ، أو تقتحم نومي بالرؤى مرة، وأن تتغير المواقف والتصرفات والكلمات، كأنها كابوس.