الحقيقة تحتمل الكذب
اخترقنا الطرق الترابية الضيقة، على جانبيها أحواش يتوسَّطها شواهد القبور، ويتخلَّلها أضرحة منفردة، متجاورة، وأشجار صبَّار، وقطع حجارة، وكومات رمال، ويحيط بنا الفراغ، والخلاء، وصمت الموت.
في بالي حكايات أمي عن عفاريت القيالة، تفاجئ المارَّ في المقابر وحده بما لا يتوقعه، تسخطه، أو تسحبه إلى باطن الأرض، أو تصيبه بالخبال.
مِلنا إلى تقاطعات، حتى توقَّفنا أمام بابٍ خشبي، منزوع المصاريع، يعلو ثلاث درجات حجرية، أطلَّ من ورائه رجلٌ في حوالي الخمسين، أميَل إلى البدانة، على جانبَي عينيه الضيقتين عماص، أفطس الأنف، يرتدي جلبابًا شمَّر كمَّيه وذيله، وحافي القدمين. حدج الرجل أمي بنظرة متسائلة: «تأخرتم … تصورت أنك بدَّلت الموعد!»
قالت أمي: «كنت سأتصل بك.»
لحقنا أمي في صعود الدرجات الرخامية الثلاث، فتح الرجل الباب الموارب، طالعنا الصمت، يعمقه ترامي نباح كلب، عبْر الجدران المتآكلة، وفي مدى الرؤية من حولنا حجراتٌ متهدمة، وأبواب منزوعة الضلف، وأشجار صبار، وشواهد بدت — لاقترابها — كأنها متلاصقة، وأضرحة، وقِباب، ومآذن صغيرة، ورائحة الموت.
تكوَّمت الرمال على جانبَي القبر المفتوح، ورفعت المجاديل، الضوء المنبعث من الفتحة في أعلى يغطي — بالكاد — بضعة أمتارٍ، والظلمة تلفُّ المكان، عدا الفسقية في أسفل، رمالٌ ممتزجة بالحناء.
اطمأنت أمي إلى وقفتي تحت سقيفة الصاج المموَّج، قبالة السلالم النازلة إلى القبر، أرقب تعالي الظلال أسفل الجدران، واصطباغها بالحمرة فوق الشواهد المتصاعدة في مدى الرؤية.
قال خالي نجاتي، وهو يشير إلى أشجار الصبار المتجاورة: «واحدة تكفي، جذور الأشجار تمتص دماء الموتى.»
شوَّحت أمي بيدها: «ليس صحيحًا.» ثم، وهي تغالب تأثُّرها: «التراب يأكل الدماء … مثل باقي الجسد!»
ظلَّت عينا أبي — بعد وفاته — مفتوحتين، ثابتتين، لا تدوران في محجريهما، ولا تطرفان، حاولت أمي تسبيلهما، فظلَّتا على ما هما عليه.
لم يستطع أعمامي ولا أخوالي إغماضهما، حين قدم إمام جامع سيدي خضر القريب، قرأ الفاتحة والمعوذتين، وما لم أتبيَّنه من الأدعية، لكنَّ العينين ظلتا مفتوحتين، كأنهما قد ثبتتا على ما كانتا عليه، فلا يمكن إغماضهما.
قال الشيخ: «إنه ميت، لا يشعر بشيء!»
راحت عينا أمي في الفراغ: «أعرف أنَّ الموت لا بد أن يأتي، لكن لماذا بهذه الصورة؟!»
ووشى صوتها بحيرة: «لماذا عيناه مفتوحتان؟»
أضافت في حيرتها: «لماذا لا يستكمل الجسد نومَه بإغماض العينين؟!»
وهو يتحسَّس ذقنه: «ربما نسيتم إغماضهما عقب وفاته.»
– حاولت.
وطوَّحت يديها دلالة العجز. أشار خالي نجاتي إلى الشيخ ذي الجلباب للقعود في ركن الصالة، قال لنظرات أمي المتسائلة: «تلاوة القرآن رحمة.»
– «كلام الله جميل في الأوقات كلها.» وارتجفت ملامحها بالانفعال: «ما يشغلني كيف أغلق عينيه فأريحه؟»
وقالت في انفعالها: «قال لي: «ستظل عيناي مفتوحتين لأشاهد ما أخافه»، تصورت أنه يقصد المعنى.»
حدس القارئ ذو الصوت الأخن، أمام العينين اللتين رفضتا الإغماض، أنَّ أبي حيٌّ، ظل على تلاوته لآيات القرآن، يعاود رفع نظراته إلى عيني أبي، بتواصل تلاواته، سور قصيرة، وآيات من السور الطويلة.
ظلَّت عينا أبي مفتوحتين، لا يتحرك في داخلهما شيء، ولا تتجه نظراتهما إلى شيء محدد.
استعادت قول أبي إنه لن يغمض عينيه؛ حتى يشاهد ما ينتظر قدومه، تصيخ السمع إلى وقع قدميه، يكتفي بإيماءات التحية، حيث نجلس في الصالة وداخل الحجرات، يغلق باب حجرته وراءه، يحمل ما يريد روايته لأمي، مما صادفه خارج البيت، يعلو صوت أبي بالانفعال، نلتقط من زيق الباب كلمات واضحة أو مدغمة، نصلها بتصورات، أنه يعاني في خارج البيت مما يرفضه، ولا قدرة على احتماله، تسبقه أمي في خروجهما من الحجرة، لا يستعيدان ما تكلَّما فيه داخل الحجرة، وإن أربد وجه أبي بالحزن، بينما أودعت أمي قلقًا في تسلُّل نظراتها إليه.
كان أبي — كما روت أمي — يدرك أن العمر قد لا يمتد به، حتى يبلغه النبأ الذي طال انتظاره له، كل ما تراه عيناه يلغي الأمل والانتظار والترقب والتوقع واللهفة والحنين، وكانت تفسر وتنقل نظراته بينها وبين الباب المغلق، هو يخشى ما قد نعانيه بعد وفاته، كان المجهول يشد عينيه، يجتذبهما فيكاد يغيب عما حوله.
تكلم — في أوقات عافيته — عن الخطر الذي لم يأذن له بأن يقترب من حياتنا وتساءل: «من يؤدي الدور نفسه لو أنه مضى؟» وشى توتُّر صوته بالعصبية: «حتى لو مت، لن أغمض عيني قبل أن أشاهد ما أتوقعه.»
أدركت أمي من ملاحظات الطبيب والنظرات المشفِقة، الصامتة، أنه يمضي إلى النهاية، كانت تحرص على تلبية ما أوصى به الطبيب، حذَّر من خطورة ماء السقيا لأبي على تقدُّم العلاج، أدركت المعنى لما فاجأ الطبيب إصرارها على إهمال طلب أبي كوب ماء، بالقول في نبرة خطابية: «أعطوه ما يطلبه!»
تقبَّلت فكرة الموت، توقَّعته، نحن نتوقع الموت، لكننا لا نعرف موعده، الموت حادثة، نهاية حكاية لا نضع نهايتها: «إذا حان الأجل فإن ملك الموت لن يستأذن.»
ثم في لهجة مستسلمة: «تصرفاته رهن بمشيئة الله!»
خيَّب الطبيب أملها لما صرَّح بالدفن، كانت تتوقَّع، تتمنَّى، أن يرفض التصريح، العينان جزء من جسد ميت، هما ميتتان؛ حتى لو ظلَّتا مفتوحتين، أنهما لا تريان شيئًا.
أهمل خالي نجاتي توسُّلات أمي، أصرَّ أن يواري جسد أبي التراب، دون أن تغيب النظرة الثابتة.
قال: «إكرام الميت دفنه.»
ومال برأسه: «هو الآن ميت، لا فرق إن فتح عينيه أم أغلقهما.»
– ظني أنه إذا ظلَّت عيناه مفتوحتين، فلن يكون له حساب.
استطردت موضحة: «لا بد لناكرٍ ونكير أن يتركاه وشأنه!»
وتعانقت راحتا يديها: عمومًا، هو كان طيبًا، ينتظر ما يبدِّل حياتنا.
أسلمت أمي عينيها للبكاء، وعمي في داخل القاعة المغلقة، يتابع تغسيل الحانوتي لأبي، وتكفينه، بينما العينان مفتوحتان. اختلطت حول القبر تلاوات القرآن، والأدعية، والابتهالات.
حين حمل الرجال جسد أبي إلى داخل القبر، مدَّت أمي يدها، تحاول منع توريته التراب، أحاطت يدَا خالي نجاتي بكتفَيها، وعاد بها إلى الوراء، وضع راحته على فمها، يمنعها من الصراخ، اخترق بها اللمة الملتفة حتى نهاية الحوش، ظل إلى جوارها، حتى ترامى صوت الشيخ بالتلقين، فعرف أنه قد تمَّت تسوية القبر.
كرر التُّربي ملاحظته في تعدُّد زياراتنا لأبي أيام طلعة رجب ومنتصف رمضان وأول أيام العيدين، بأن الجسد لم يطرأ عليه تغيُّر ما، اهترأ الكفن، وتمزق في مواضع كثيرة، لكن الجسد ظل على حاله، وظلت العينان مفتوحتين.
هبط خالي نجاتي إلى داخل القبر، وصعد ليؤمِّن على ملاحظة التربي.
استعادت أمي، ما قاله أبي، وتساءلت: «ماذا كان يريد أن يرى؟»
طافت بالمبخرة الخزفية حول القبر في منتصف الحوش، تلاحق تضوع المسك والمستكة والجاوي والحبهان بآيات من القرآن وبسملات وحوقلات وأدعية، حدست أنها تطلب الراحة لأبي، وإبعاد ما يشقي روحه، فيطمئن، تنشر البخور في الزوايا والأركان، وبأعلى ما تصل إليه يدها، تميل — بالآيات والأدعية — ناحية القبر، كأنها تحاول النفاذ من المجاديل، ينصت لها، فيجد التعزية والسلوى وهدوء النفس.
كان الألم ينطق في ملامحها، وهي تتحدث عن الواجب الذي لم تقدر على أدائه؛ أن تغمض عينَي زوجها الميت، فهو آخر واجباتها نحو أبي في حياتها، تطرح الأسئلة على نفسها، وتجيب عنها، إذا كان العجز الذي لا حيلة لها فيه عن أداء واجب، يخضعها للمساءلة يوم الحشر؟!
لم تعد أمي تلزم البيت إلا ساعات الليل، تتردد معظم النهار على الجوامع والزوايا والمقامات وأضرحة الأولياء، تصحبني، أو تذهب بمفردها، تطيل الوقفة، وتلاوة آيات القرآن وعبارات الاستغاثة والتذلل، ابتعدت بالخوف لرؤية الشيخ ذي العباءة الملونة، والذقن التي بلغت أسفل صدره، تصدر الحجرة المطلة — من نافذة حديدية — على ضريح سيدي كظمان، خالية من الأثاث تمامًا، عدا حصير ملون، فوقه شلتة يتربع عليها الرجل، وشلت خالية صنعت ما يشبه نصف الدائرة، يتوسَّطها حامل قرآن فتح المصحف داخل جانبيه، ودخان البخور المتصاعد يرسم أشكالًا تغلب عليها الرمادية في سقف الحجرة، وثمة عنكبوت استقر في نسيجه، في زاوية السقف.
تتناثر في أحاديث الشيخ كلمات استحضار الروح، ودم الهدهد، وجلد الغزال، والخفاش، والزعفران، والحبة السوداء، والحبر الزفر، والفراشات الملونة الميتة.
تكلمت أمي عن طيفٍ كأنه لأبي، يطوف حجرات البيت، لا يتلفَّت، ولا يستوقفه ما تتجه إليه نظراته، يتنقل بين الحجرات، يخترق الأبواب والجدران، ينفذ من قطع الأثاث، لا يهمس بينه وبين نفسه، أو يعلو صوته بسؤالٍ، عيناه في اتساعهما، والحزن يقلص ملامحه. أصاخت السمع عند ترامي أذان العشاء من جامع البوصيري إلى كلمات تبينتها بتوالي الأسئلة.
سبقتني إلى البيت.
قالت: «غدًا … تصحبني لزيارة أبيك!»
لم أجد في ملامحها ما يشجعني على مجرد السؤال، أدركت أن القرار الذي اتخذَته، لا سبيل إلى مراجعته.
عند الضحى، رافقتها إلى ميدان المنشية، ركبنا الترام حتى مقابر العمود، اتجهنا إلى شارع الرحمة بين الأحواش والشواهد الساكنة، دفعت أمي الباب الخشبي المفضي إلى المقبرة الغارقة في الظلمة والصمت، ونباح كلب يترامى من موضعٍ بعيدٍ.
أصرَّت أمي أن تنزل القبر بنفسها.
ساعدها التربي في نزول الدرجات الخمس إلى الفسقية في أسفل، رأيتها — في الضوء الشاحب المتسلل من فوهة القبر — تميل على جسد أبي، تقرِّب فمها من أذنه، وتهمس.
مدَّت أمي أصابعها فأغمضت العينين.
ساعد الرجل أمي في صعودها من داخل القبر، التقطت همسة الرجل وهو يقترب بفمه من أذنها: «هذا ما كنتِ تستطيعين فعله.»
ما كادت تستقيم في وقفتها داخل الحوش الساكن، حتى أسلمت وجهها إلى يديها المرتجفتين، وراحت في البكاء.