تعدد الوسائل إلى المبتغى
لما طالت وقفتي إلى جانب الحقائب، بدأت في تبديل موضعي، أسندت الحقيبة لصق الجدار، اطمأننت إلى موضع جلستي فوقها، ثم اتجهت — بنظرة محدقة — ناحية القطار القادم، أرقب القضبان الملتمعة بألق الشمس، والسيمافورات، والتحويلات، والفلنكات الخشبية.
على الرصيف المواجه، تناثر ركاب قليلون، وباعة حقائب وأجولة وقفف وأسبتة وصناديق وأكياس، النفق — أسفل القضبان — هجره الناس، وانتشرت فيه الأوساخ والظلمة، لم يعد موصلًا بين ضفتَي الطريق، من خلف السور المقابل مآذن وأبراج وقِباب وطوابق عليا.
من نزلوا يقصدون المدينة الصغيرة، آخر المحطات، لا محطات أخرى يتجه إليها القطار، تتلفَّت نظراتهم في الاتجاهين، المحطة هي آخر ما ينتهي إليه القطار، يتوقف صوت أصكاك العربات، يصعد الركاب بتوقع العودة إلى محطة البداية، يعلو احتكاك القضبان في تحويل اتجاهها، يتبدَّل موضع القاطرة إلى الناحية المقابلة، ساعات، ثم تصدر صافرتها تأهبًا للرحلة المعاكسة.
يعرف الناس اسم المحطة، وإن لم يعد مكتوبًا على اللافتة، نزعته الأيدي من القوائم الخشبية، كانت ضمن محطات كثيرة، تأتي إليها القطارات، يسبقها التماع الأضواء الكاشفة على القضبان، اصطفاق مفاتيح التحويلات، نداء الموظف بموعد الرحلة التالية.
غابت مواعيد القطارات، لم تعد تأتي في موعدٍ محددٍ، أو تواصِل السير، أو تعود في موعد ينتظره الركاب.
أذكر حين كانت القطارات تنطلق إلى تفريعات في أراضٍ واسعة، مدن بعيدة، ينزل منها الركاب ويصعدون.
أعرف — دون أن أنظر إلى درجة العربة — نوعيات المسافرين التي تضمهم، وأشكال المقاعد، في ومضة خاطفة، ألمح الأزياء التي تميز الركاب بين عربة وأخرى، اختلاط البدل والجلابيب والفساتين والقفاطين والجبب والعباءات، وزحام الحقائب في الطرقة الواصلة بين عربتين.
تشغي المحطة عند وصول القطار بصخبٍ وزعيقٍ، تدبُّ الحركة، تختلط أحاديث الركاب والمودعين ونداءات الباعة وصافرة القطار وقرع الجرس إيذانًا ببدء الرحلة.
يقف القطار دقيقتين أو ثلاثًا، ثم يبدأ في التحرك، ربما انطلق من دون أن يبطئ، أو يتوقف، أمام المحطة، ينطلق كعاصفة، يخترق المدن الصغيرة والقرى والضواحي والأنفاق والزراعات والجبال والتلال والوديان والسهول والسلالم والكباري والأنفاق والسيمافورات والمزلقانات وأعمدة التليفون والتلغراف والأشجار المتقاربة، وتتناثر البنايات في آخر الأفق.
اعتدت الوقوف على المحطة، أنتظر قطارًا يبطئ في سرعته، ثم يتوقف، أو يمر الوقت فلا يأتي.
تسبق الصفارة الطويلة قدوم القطار، يعلو ما يشبه الاحتكاك في السيمافور العالي، أعرف أن عامل المحطة يفسح للقطار القادم طريقه، يظل القطار على سرعته في اقترابه، واندفاعه بعيدًا عن المحطة، القطارات تنطلق كهبة ريح، تصعب رؤية الركاب خلف النوافذ الزجاجية المغلقة، السرعة المذهلة التي ينطلق بها القطار، لا تتيح الرؤية الواضحة، أشبه بإدارة الشريط السينمائي بأضعاف سرعته، لا أكاد أحدق في مشهد استلفتني؛ حتى تكون العربات قد خلفت المحطة وراءها، أتابع آخر العربات في انطلاقها إلى محطات تالية، أرقب ابتعاد القطار، حتى يتحوَّل إلى نقطة صغيرة قبل أن يغيب في انحناءة نهاية الأفق.
لم أر المحطات التالية كلها، ولا وضعت لها صورًا أطمئن إليها، محطات القطار في أفلام السينما بناية خشبية، بابها يفضي إلى ما يشبه القاعة، يتدلَّى مصباح بترولي من أحد عوارض السقف، في الجانب شباك التذاكر، وإلى يسار المدخل جرس يعلن موعد قيام القطار. رُويت حكايات كثيرة عن أيام اتصال المحطة بمحطات أخرى، قبلها وبعدها، ليست — كما تدل صورتها الحالية — بعيدة عن العمران، لكنها — إن استردت موضعها — في قلبه، من كانوا يترددون عليها ينزلون فيها، أو يواصلون الرحلة إلى مدن تالية، يعيدون ما كان إلى سيرته الأولى.
كانت قطارات البخار تسدل غلالة من السواد على البيت وما حوله، في انطلاقها عبر المحطة، تلاشت الغلالة السوداء بقدوم قطارات الديزل، لكن الضوضاء ظلَّت على حالها في اندفاع القطارات.
توالت الأفعال التي جعلت إعادة المحطة إلى سابق عهدها متعذَّرة، القضبان علاها الصدأ، بينها أعشاب وحشائش صفراء، تخلَّلتها بقايا أشياء وأوساخ، نزعت القضبان لمسافة، بعيدًا عن رصيف المحطة، رفعت التحويلة من مكانها، تساقطت أسلاك من أبراج الهواتف والبرق، تحطمت أكشاك الإشارات، مالت الأعمدة أو تهاوت، ما يشبه المخزن المسقوف بكمرات الحديد والصاج، تلاصقت فيه عربات البضائع، وهياكل عربات الركاب.
غاب وقوف الناس يرقبون قدوم القطار، توقُّفه قبل أن يمضي إلى المحطات التالية، أو انطلاقه دون توقف، الجدران يتساند عليها الصناديق الكرتونية والسلال والصرر والقفف والأقفاص.
لم تعُد السوق في مكانها خلف السور، يترامى عبره نداءات الباعة وأصوات الزحام وروائح الخضر والفاكهة والبهائم والطير والسمك، يسهل استدعاؤها إلى الخاطر في أوقات الابتعاد عن المكان.
من بعد، يبدو كوبري المشاة خاليًا، حتى الباعة الذين كانوا يستندون إلى أعمدته الحديدية، لم يعودوا في أماكنهم، تعرَّى الكوبري من الإعلانات على لافتات القماش والورق.
ما حدث لم يكن مفاجئًا.
نخر التسوُّس سقف المحطة وعروقها الخشبية، تقوَّست الأحجار، وتساقطت أجزاء منها، وتقشَّر طلاء الحوائط، وتشقق، تساندت في جوانبها على أشجار مقطوعة، تغطَّى السقف بالجريد وسعف النخيل، معظم النوافذ خالية من الزجاج، أو غُطيت بألواح الأبلكاش والكرتون، علا التراب ما تبقى من الزجاج، وتساقط على الأرض، وحواف النوافذ، وقطع الأثاث، استقر — في الداخل — على الأرضية والأثاث المتهرئ القليل.
يقضي المفتش ذو الشعر المهوش، والبشرة القمحية، والكتفين المتهدلتين، نهاره ممددًا على بقايا الكنبة، داخل الحجرة الترابية، أو يستأذن من الفراش لمشوار، يغيب حتى ثاني يوم.
الكشك الخالي المجاور لباب الدخول، تحطَّمت نوافذه الزجاجية الصغيرة، تلاشى ما كان يعرضه من صحفٍ وكتبٍ وسجائر وحلوى، خلا من كل شيء، حتى أعمدة الإنارة — بامتداد الرصيف — تحطَّم زجاجها، وانطفأت.
لا يذكر الناس أول من أبدَّى التململ، وأصرَّ أن يلازم المحطة، لا يترك موضعه حتى يعود القطار من محطة البداية إلى المحطة التي كان ينتهي إليها.
زادت — بمرور الأوقات — أعداد الواقفين، تحوَّلت — في مناسبة الاحتفال بمولد ولي في مدينة بعيدة — إلى حشودٍ هائلة، علت الهتافات والنداءات والأعلام واللافتات، نزل الكثيرون إلى القضبان، حول القطار وخلفه، كان ضغط الناس هزَّ القطار في موضعه، صاح السائق لتوقُّف المؤشر أمامه، بينما تحرك القطار إلى الأمام، تعالى الهتاف والتهليل، أُلقي الملح والزهور على الحشود التي غطت العربات.
واصل الناس دفعهم للقطار، لا يأبهون بتحذيرات السائق من أن المحطة هي آخر ما يبلغه القطار، صارت العربات جزءًا من حشود الناس، تلاصق الأجساد جعل لها مسارًا على الأرض، تخترق الأرض بلا قضبان، تختلط الأصوات بصرير العجلات في تقدُّمها البطيء. بدا ما حدث عصيًّا على التوقُّع، وعلى الفهم، كان القطار يستجيب لضغط التدافع، انزلق في الأرض الرملية، شقَّ له الناس — بتدافعهم — طريقًا، خلا الأفق من القضبان، أزيلت، أو تكوَّمت فوقها الأوساخ، تدافع الحشود شقَّ لها طريقًا، هي الطريق التي كان يقطعها القطار إلى المحطات التالية.