ملامسة الضفاف
لاحظت الدهشة في عينيك لإشارتي؛ بما يعني أني أنا الشخص الذي كنت تنتظره، لم أكن حدَّثتك عن نفسي، وكنت قد قرأت حديثك عن أسرتك؛ التي قدِمت من بولندا إلى الخليل، لا تقتصر حياتك على المستوطنة التي تعيش فيها، لكنك تهبط إلى المدينة، تتجوَّل في شوارعها وأزقَّتها، تنزل الأسواق، تجلس على المقاهي، تتردد على الساحات والخلاء ودور السينما.
عانيت ارتباكًا، وما يشبه الخوف في الأيام التي سبقت السفر.
الخليل.
فرض الخوف من العودة نفسه على لقائي بك للمرة الأولى.
لم أذكر غير اسمي والجنسية الكندية التي أحملها، رسائل متبادَلة — عبر الإنترنت — بين الخليل وكويبيك.
بدت ملامحك مغايرة لما تصورته، القامة المتوسطة، الممتلئة، العينان الضيقتان، الأنف الأقنى، البشرة البيضاء التي تناثر فيها النمش، الشعر الأسود المنسدل على الكتفين.
تتابع من ورائنا لافتات بالعربية والعبرية، أعرف بعضها، وحلَّت — بدلًا من التي كنت أعرفها — أسماء أخرى.
لم تكن العودة إلى الخليل مما أحاول تصوُّره، ألملم الجزئيات من المَشاهد التي أتابعها في التليفزيون؛ المظاهرات، نقاط التفتيش، الأسلاك الشائكة، تقاذف الحجارة والرصاص المطاطي، القنابل المسيلة للدموع.
أعرف أن المكان تغيَّر، طبيعي أن يتغيَّر، ظلَّ ناسه، وإن قدِم إليه ناس آخرون، تداخلت معتقدات وعادات وطرق حياة، لكنني لم أتصوَّر التغيير الذي حدث، لم أرسم له في ذهني ملامح محددة، يصعب أن تتشكَّل صورة ما أطمئن إليها. استعدت ما حدث بكل تفصيلاته، فوهة المدفع الرشاش المطلة من الباب، دخل البيت أربعة أو خمسة جنود، لم يكسروا أو يدمِّروا، أخذوا ما في الأدراج، وما استطاعوا حَمْله من الأشياء الصغيرة.
أبطأ السائق قيادته لرؤية جنود يحملون الأسلحة، يقفون على مفارق الطرق والميادين. أشار الجندي الواقف خلف الكردون الخشبي بالتوقف، وعدم الاقتراب، التفتُّ — بتلقائية — ناحيتك، عندما أشار الجندي بيده: «يريد أن ننزل.»
– ننزل؟!
– نترجل؛ لنعبر نقطة التفتيش!
امتدت الأيدي بالأوراق، قلَّب فيها، تنقَّلت نظراته المتفحصة بين الوجوه أمامه، والوجوه في الأوراق؛ استعدت ما تصوَّرت أنني نسيته تمامًا.
المزروعات الممتدة في الآفاق من حولي، أعرفها جيدًا، أعرف أنواعها وأسماءها، التعريشة التي تغطيها خضرة النباتات المتسلقة، الأحراش، زهر الحنون الأحمر، العنب، التين، الزيتون، البرقوق، السرخس، الفترة ما بين ديسمبر ومارس هي فترة الجو البارد، واحتمالات سقوط الأمطار.
تابعت إشارة إصبعك إلى الأراضي والتلال الممتدة حتى الأفق: «أنت تشير إلى أماكن أعرفها جيدًا.»
وأغمضت عينَي كالمتذكِّر: «روى أبي عن المئات من أشجار الزيتون التي زرعها.»
وفردت ذراعَي إلى امتداد المكان من حولي: «هنا نشأت حتى تركت فلسطين!»
الهجرة قلَّصت أعداد الفلسطينيين، فرُّوا — بالخوف — إلى الأردن بعد ١٩٦٧م، لم أكن ضمن الفارِّين، اضطررت لمغادرة الخليل غصبًا، هاجرت بإرادتي للظروف المادية الصعبة، بِعْت معصرة الزيتون، ورحلت.
لم أكن أستطيع أن أتجنَّب الرحيل.
– لي ثلاثة أشقاء هاجروا إلى ثلاثة بلدان، وأختان أقامتا مع زوجيهما في الخليل.
تنبَّهت إلى اسم المكان عند نطقك له: ما اسمه؟
– كريات أربع.
– هذا المكان؟
– طبعًا.
– كان خلاء.
– ربما، أعرف الاسم منذ طفولتي.
ترامى عواء من موضعٍ لم أتبيَّنه.
– هل تعانون هجمات الضباع؟
– أنا لا أعرف حتى شكل الضبع، ربما كان ذلك في القديم.
كان الليل يأتي بعواء الضباع، نغلق أبواب البيوت، لا نغادرها إلا لضرورة، كنَّا نخاف هجمات الضباع، قلتُ: «هذه الساحة، هل هي في موضعها منذ زمن؟»
شوَّحت بيدك: «أُزيل بيت متهدم، تحوَّلت الأرض إلى هذه الساحة.»
– كان البيت لأسرتي، وكان آخر ما رأيت قبل أن أرحل.
البيت شيِّد قبل أن أولد، وربما قبل أن يُولَد أبي، موضعه متفرد فوق التلة الخالية بدلًا من شجرة زيتون، كان الناس ينسبون البيت إلى لقب العائلة، العابد، هو بيت العابد، لا أعرف الأسماء التي تبدأ باسم عبد ربه وتنتهي إليه، لكنها — وفق قول أبي — أسماء كثيرة، وقال أبي: «إن لديه أوراقًا رسمية تُثبِت حقَّه في البيت، وتتيح له استرجاع حقِّه.» أخرَج من بين ثيابه مفتاحًا هائلًا، قلت في دهشة: لماذا تركته، آلاف العرب ظلُّوا في المدينة.
– الآلاف قُتِلوا أو فرُّوا.
رفت على شفتيك ابتسامة تأسُّف: دفعت ثمن الخوف.
في تهوين: كنت في التاسعة.
تابعت ما حدث؛ لِبُعد المسافة، اقتصرت وقفتي على رؤية الجندي، وهو يدفع المرأة بالمدفع الرشاش، يلاحقها بركلاتٍ من قدمه، انبجست الدماء من وجهها وفمها، ارتجف جسدها المتكوم حول بعضه، قبل أن يهدأ تمامًا.
لم أعرف ماذا قالت، ففعل الجندي ما فعل.
هرع رجل — بابتعاد الجندي — ناحية المرأة المتكوِّمة، حملها على ذراعيه، لا أعرف إن كانت قد ماتت، أم أنَّ الرجل أفلح في إنقاذها، تمنيت لو أن الجندي ألقى سلاحه، وتعاركنا بالأيدي.
تنقَّل الجنود بين البيوت، يفتشون، يقلبون الأثاث، يمزقون المراتب والوسائد، يأخذون الأوراق والكتب والأقلام والحلي، ما لا يجمعه معنًى محدد. الوجوه مستغرقة، والأيدي مدلاة، والعجز يقتل الفعل.
قلت وأنت تسبقني إلى شوارع جانبية: «الشارع التجاري مغلق.» هززت رأسي مؤمنًا: «منذ حادثة الحرم الإبراهيمي.»
لاحظت — بطرف عيني — مغالبتك للمفاجأة.
زرنا الحرم الإبراهيمي، دُرنا حول السور الهائل، أطيل تأمُّل الحجارة الصلبة المصقولة المقطَّعة بشكلٍ هندسي، والمنارتين، والتكية، والباب السليماني، والباب الشرقي، والباب الغربي، وباب الدرج الأبيض، وباب المغارة، والمقامات السبعة لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وسارة ورفقة ولائقة ونسر صلاح الدين، زرنا مسجد ابن عثمان، ومسجد القزازين الصغير، ومسجد القزازين الكبير، ومسجد البركة.
«كنت أصحب أبي إلى الأقصى، أجاوره في الجلوس أمام المنبر. وهززت إصبعي: ليس هذا هو المنبر!»
قطبت ملامحك بالتذكُّر: أعرف أنهم استبدلوا به منبرًا جديدًا بعد حريق الأقصى.
وتنهدت: زمان!
ثمة ما أتذكره، وما لم أرَه من قبل، الكثير من المقدسات الدينية هي أماكن عبادة لليهود؛ حتى الحرم الإبراهيمي أذهلني تحوُّله إلى معبد لليهود، وضعوا فيه كتبهم الدينية، الصحن المكشوف في الداخل يضم الجامع المعقود، وأضرحة إبراهيم وسارة وإسحاق ورفقة، الغار الشريف يضم مراقد الأنبياء وزوجاتهم، له ثلاثة مداخل، أبوابها إلكترونية، أو لولبية، اللافتات على أضرحة الأنبياء بالعبرية، لم تكن هذه العدسات موجودة من قبل.
– هل تنقل كل شيء؟
أغمضت عيني، أستعيد ابتهالات ما قبل الأذان، الأذان السلطاني، الصلاة على النبي، الدعاء للأنبياء، التحميد، التسبيح، الأذان الأول، الصلاة.
سِرنا في الأرض الصاعدة والمنحدرة، لم تدعني إلى زيارة المستوطنة التي تقيم فيها، أعرف أنها واحدة من عشرات المستوطنات. هذه الأرض، لم يكن يطأ فوقها إلا أهل فلسطين، يتكلمون العربية، ويقرءون بها، يتصورون زوارًا، وإن لم يتصوروا أن يأتي الزوار، فيقيمون بينهم، البيوت قديمة من الطوب الأبيض، متناثرة فوق التلال، غالبيتها من طابقٍ واحدٍ، تحيط بها أشجار الزيتون. معظم شوارع المدينة خالية، إلا من العسكريين، أزياء كاكية وبنادق ومدافع رشاش، أعرف أن اليهود ليسوا فقط مَن يرتدون الملابس العسكرية، اليهود المدنيون يرتدون الثياب العادية، مثلي، مثل الناس كلهم، وإن ميَّزت ذوي الكوفية والجلباب؛ بأنهم فلسطينيون.
كنت قد نسيت الفصال في البيع والشراء، تلقِّي السعر الأعلى، تقديم السعر الأقل، رفع السعر من البائع، وتنزيله من الزبون؛ حتى يستقر السعر الذي يقبل به البائع والشاري، ليس السعر المغالى فيه الذي عرضه البائع، ولا السعر الذي قلَّصه الزبون، نسيت ذلك كله، ذكَّرني به الثمن الذي عرضه بائع الكوفيات، لكنه أصرَّ على ما عرضه.
لاحظت تلفُّت نظراتي بين البيوت في أعلى الطريق، والبيوت من ورائنا.
أدركت من سحن الواقفين والمارة والمطلِّين من النوافذ في البيوت المتقابلة، أن الأسر اليهودية تسكن في مواجهة الأسر العربية.
– حاذر من سقوط شيء!
أشرت إلى البيوت في أعلى: أعرف ما في الداخل.
وسألت متضاحكًا: هل قذفوا بهذه الأوساخ؟
كانت الأرض مغطاة ببقايا الطعام وعلب السجاير والكراتين وقطع الزجاج والحجارة، وكانت أوراق الشجر قد بدأت في السقوط.
ران على صوتك تأسُّف: الأطفال يعاكسون الناس في أسفل.
استطردتَ، وأنت تدفع بي لصق الجدار: الحجارة قد تسقط عليك!
مزجتُ ذكرياتي بالخيال، ما عشته، وما أتخيل أنه قد أضيف إلى المكان؛ التلال، البيوت القديمة، البنايات الحديثة، العالية، الطرق الصاعدة والمنحدرة، نقاط التفتيش، أشجار التين والزيتون والليمون والبرتقال واللارنج.
كلمتك عن الأشياء؛ التي يحرص العرب من أبناء فلسطين على اقتنائهم لها، في داخل الوطن أو خارجه؛ مفتاح بيت، مستند مِلكية، قصاصة جريدة، صور أشخاص، وكل ما يذكِّرهم بالأعوام القديمة.
ملاحظاتك المتوالية، وصمتك عن ملاحظاتي، لم تتيحا لي أن أشير إلى معنى لقائنا، تصورت أنك تتعمَّد التجاهل، فيغيب ما يجب تذكُّره.
تخلَّل حواراتنا قولك: «أريد أن أعرف شيئًا عنك» كان يجب أن ألتقط الخيط، أكرُّه حتى نهايته، لا أفلت حتى التفصيلات الصغيرة، الإرجاء إلى ما بعد يفوِّت فرصًا كثيرة، أزمعنا أن تستغرق زيارتي أيامًا تأذن بالألفة والبوح، لكن توالي الأيام، تقضِّيها، أنساني حتى القول: إني من الخليل، من الأماكن التي ظللتَ صامتًا، وأنت تروي، وتوضح، وتبدي الملاحظات.
تصاعد في نفسي ما لم أبُح به، لماذا بقيت على صمتك، وأنا أحدِّثك عن البيوت والأسواق والشوارع والأزقة والشجر والحقول؟ لماذا لم تتكلم؟ حين قلت: «الخليل هي مدينتي؟»