شمس الليل تؤذن بالمغيب
تنبَّه على قرقعة عجلات «البنز» على الأرض الحجرية، اتجهت نظراته إلى أول الشارع الصغير، ينتظر رؤيته. عرف موعد قدومه إلى القهوة، وانصرافه منها، يغادر الحلقة إلى أبو العباس لصلاة العصر، يعبر الميدان — بعدها — إلى شارع السيالة، حتى ناصية العوامري، يدخل قهوة الزردوني، عرف الكرسي الذي يختاره الريس المغاوري إلى يسار المدخل، يكتفي بالجلوس على الرصيف، ربما لأن الجرسون مدين يعرف موعد قدومه، فهو يسرع بالصينية فوقها كوب ماء، وفنجان أعشاب مغلية، لا يبدِّله، يتلفَّت حوله — بعفوية — كمن يبحث عن شخصٍ ما.
أول مرات قدومه إلى القهوة داخَله قلقٌ، لم يعرف له سببًا محددًا، وإن انعكس في الشرود، وتشتُّت الأفكار، واستعادة الكلمات التي ينبغي أن يردَّ بها.
نصحه الباعة في الحلقة — قبل أن يلبي دعوة الريس المغازي — أن يُظهِر الموافقة على ما يقوله، حتى لو بدا في الكلمات ما يثير التساؤل أو القلق، إبداء الموافقة شرط لضمان العيش، يفارقه ليخلو إلى نفسه، يناقش ما يجب أن يفعله. مضى المغازي إلى الكرسي، الذي خصَّصه له صبيانه، يختلف عن كراسي بقية معلمي الحلقة، استبدلوا بالكرسي المجدول من الخوص كرسيًّا، يكسوه قماش مخملي أحمر، وتغطي مسنداه خيوط بلون الذهب، إن قام عنه الريس ظل خاليًا، حتى يعود إليه. أدار قبضته حول كوب القرفة بالزنجبيل، مشروبه الذي يفضِّله، أعاده إلى الطاولة، والتقط مبسم النرجيلة، اكتفى بالقول وهو يشير إلى نفسه: أنا بلال عبد ربه.
نفض المغازي مبسم الشيشة أمامه؛ كمن ينفض الهواء: أنت ابن حلال.
وفي لهجة مبطَّنة بالود: «أنت تختلف عن سواك … أطمئن إليك.»
– الطمأنينة؟
لم يلحظ قوته؛ التي لاحظها الريس المغازي … يعيش حياته؛ بما تيسِّره له الأوقات، نبَّهه الريس إلى قدراته، ربما شاهده، وهو يحمل الطبالي في الحلقة، أهمل نصيحة الصياد عتريس الفشني، من أنه إذا نفَّذ ما يطلبه الريس المغازي فسيصير قاتلًا، يستطيع أن يفيد نفسه، ويفيد الريس أيضًا.
قال المغازي: انسَ القرفة بالزنجبيل … كوب الشاي بالحليب هو أجمل ما نبدأ به يومنا.
– هل رأيتني في الحلقة، أو في قعدة الزردوني؟ أو أن رجالك أبلغوك بما قد لا أعرفه؟ أخذته الفكرة، شغلته عن المخاطر التي تواجهه، خصَّه بإقبالٍ أكثر من إقباله على بقية الرجال، كلَّمه — في خلو الحلقة وقت الغروب — عن رؤيته له — للمرة الأولى — في مولد أبو العباس، المطواة بديل للسيف والشومة وسلسلة الحديد، مَن تلامسه يترك الساحة الدائرية، تلاصق حولها الزحام.
تعدَّدت جلساته إلى الرجل، يبدي الخضوع والتذلُّل، يشتري ولا يبيع، لو أن الريس سأله فيما يشغله، ربما لا يجد ما يقوله، يأخذه الشرود، وتصور ما ينبغي فعله.
كان صوت ارتطام الأمواج بالمصدات الأسمنتية يترامى من النوافذ العلوية الصغيرة، قال الريس وهو يتهيأ للقيام: أريدك في أمرٍ.
لم يجد في نفسه حتى القدرة على السؤال، ولا مناقشة خطورة ما يدفعه الريس إليه، استبدل بنظرته المتعاطفة، المشفقة، نظرة صارمة لم يعهدها من قبل.
لاحقه بالقول، وهو يتهيأ لمغادرة الحلقة: «أراك صباح غدٍ في قهوة الزردوني.»
رُوِيت عن أفعال الريس المغازي حكايات كثيرة: احتاز الأموال، وظلم الحقوق، ونسب إلى نفسه ما يملكه سواه، وتناقل الناس أخبار القتلى الذين استُلبت أرواحهم في ظروفٍ يعلمها الجميع، تشير الإيماءات إلى البواعث الحقيقية والأيدي المنفِّذة، لكن الصمت يظل سادرًا، ما رأته الأعين كوابيس لا سبيل إلى استعادتها، قيَّد أعوانُه الصيادَ أبو علي سليمان في فلوكة، دفعوا بها إلى البحر، يقتله الجوع والشمس، أو تبتلع الأمواج الفلوكة، إن دخل على مأمور قسم الجمرك، انتصب له واقفًا، وبسط ذراعيه لاحتضانه.
يتنقل الريس بين الحلقة والقهوة، يجلس بمفرده أو يحيط به أعوانه، أوامره كلمات قليلة، ينفِّذها الأعوان بلا سؤالٍ ولا مناقشة، من يتردد ربما خسر حياته. يكتفي بإلقاء السلام من دون أن يلتفت، يظل صامتًا، منشغلًا بالتحديق في الفراغ، يعزل نفسه، حتى عن صيحات لاعبي النرد والدومينو والطاولة. يعود إلى ما حوله بقدوم الجرسون مدين، في يده صينية نحاسية صغيرة، فوقها كوب ماء وفنجان أعشاب مغلية، في اليد الأخرى نارجيلة، ينحني يسوِّي الفحم بالماشة، يتبادلان كلمات هامسة، قبل أن يغيب الجرسون في الداخل.
مبسم النرجيلة بين شفتيه في الحلقة، وعلى القهوة، والأوامر والملاحظات والهمسات والفصال، وعلى بركة الله، تتعدد أوامره بالقتل، وإسالة الدم، والضرب الذي لا يخلف أثرًا، والشتم القاسي، والتهديد؛ لكلِّ خطأ عقوبة تساويه، ما يقضي به يعنى أعوانه بتنفيذه دون إبطاء، لا يبدي اهتمامًا بمصائر القتلى، ولا بالمخاطر التي يعانيها الأعوان.
يتناثر الأعوان في المساحة الممتدة أمام مجلس الريس، يترقَّبون نداءه بالاسم، أو إشارته بهزة الرأس، أو باليد، يهرع مَن يدعوه، ينتظر الأمر متشابك اليدين، متدلي الذقن على الصدر.
لم يعُد يرى مصيره إلا في الجلوس بالقرب من مجلس الريس، يقذفه بالأوامر، وعليه التلبية، لا يذكر أنه التفت ناحيته إلا ليلقي الأوامر: «اضرب فلانًا، لا تترك فلانًا قبل أن تعجزه عن الحركة … ماء النار سيمنع فلانة من التباهي بحسنها.» تضايقه لمعة عينَي الريس، وهو يروي له ما فعله، يستحثه — بإيماءات رأسه — على استكمال روايته، تتفحَّص نظراته ما لم يقله، أو أخفاه: «لم أرَ ما فعلتَ، فاروِ لي ما يضعني في قلب الحكاية.»
دخل خناقة في ميدان المنشية، سقط بطعنة سكين ذهبت به إلى المستشفى الأميري، طال ترقُّبه زيارة المعلم، سبعة أيام بلياليها، غادر المستشفى دون أن يسأل، أو يصحبه أحد، عرف أن المعلم يهمله، يستصغر شأنه، وأنه — في نظره — بلا قيمة. تنبَّه لقول الجرسون طاطا: الريس يطلب من رجاله أن ينفذوا أوامره بلا أسئلة.
– لا أرفض العراك مع شخص يعادي الريس، لكنني أحب أن أعرف السبب.
وعلا صوته بالحيرة: لماذا أتعارك؟
أردف كأنه يخاطب نفسه: أنا لا أرفض حتى القتل، بشرط أن أعرف لماذا؟
قال طاطا: أنت لم تتكلم، وأنا لم أسمع.
ووشى صوتُه بنبرة تحذير: مِن طبع الريس أنه لا يحتمل الأسئلة!
إذا كان التخلص من أعداء الريس حلقات لا يعرف عددها، تتواصل بلا نهاية، فإن التخلص من الرجل نفسه هو النهاية، التي يسترد فيها الأتباع — صار واحدًا منهم — نفوسهم، لا بد — كي يحتفظ بحياته — أن يختفي الرجل، لا يجد الأتباع من يخضعون لأوامره، ويسرعون لتلبيتها.
لم يقتل في حياته، وإن تمنى أن يقتل الرجل، يتولى هذه المهمة بنفسه.
رفع مدين النرجيلة بيدٍ، والصينية باليد الأخرى، وعاد إلى الداخل، فطن إلى أنَّ ما يعد له حان، فتهيَّأ للقيام؛ سبقه في ترك القهوة.
مال إلى شارع العوامري، في تقاطعه مع السيالة، بدا شحوب الضوء في نهاية الشارع الضيق موضعًا مناسبًا، تابع خطوات المغازي من القهوة — عبر الحواري — إلى الحلقة، طالعه عند دخوله المساحة الرمادية.
تبيَّن — من نظرة الرجل — أنه لا يريد العراك، يشغله الفرار بحياته.
لم تكن المعارك بينه وبين من يوصيه به المغازي تستغرق أكثر من ثوانٍ، يلوح بالمطواة في وجه الرجل، قبل أن يجد الموضع الذي ينفَذ بها إليه.
إذا بدأ الضرب، فقدَ السيطرة على نفسه، الضربة الأولى تمتد إلى الضربة العشرين والثلاثين.
ربما أخطأ قذفة المطواة في صدر الرجل، أو أنه تعمَّد أن يخطئ، النظرة المتشكِّكة في عينَي الريس المغازي لم تحجب شعوره بالراحة؛ حينما قذف الرجل بنفسه في بابٍ مفتوحٍ خلفه، أفلت بحياته دون أن يفطن إلى مصدر الطعنة التي أخطأته.
إذا واجه عدوًّا لم يهيئ نفسه لملاقاته، فإن الهتاف باسم الريس المغازي يكفل طلوع عشرات الأتباع، من البيوت والدكاكين والقهاوي والمساجد والمقامات؛ وحتى من الخرابات، يشاركونه العراك ضد المعادين، يردُّونهم إلى ما بعد الحي، يعودون إلى أماكنهم بعد أن يطمئنوا إلى سلامته.
أذن له أن يحمل اسمه في الحلقة وخارجها، هو من أعوانه عند البيع والشراء والجلوس على المقاهي، وفي حلقات الذكر وموالد أولياء الله، اسم الريس حصَّنه من الاعتداء، أو نية الغدر، يتيح له الطمأنينة والسلام.
لمَّا كرَّر الريس عرضه، بدت المشكلة حلقات ينبغي فصمها، في لحظة لا يتوقعها، ربما قبل أن يتجه إلى البحر وقت الفجر، أو عقب عودته من الصيد، أو عند جلوسه على القهوة، يستدعيه صبيان المغازي للقائه، يعرف أنه سيأمره بفعل ما يجب عليه فعله، من يعمل في خدمة الريس ليس له في نفسه حقٌّ، هو خادم ينفِّذ ما يُطلَب منه، لا يسأل، ولا يناقش، ولا يبدي رأيًا، حتى إن كان موافقًا. نزع الريس النرجيلة من فمه، كست ملامحه النظرة الصارمة: «أرجو ألا تخطئ في المرات القادمة.»
استعاد المشهد من بداياته، القبول بالخطوة الأولى يفضي إلى الخطوة التالية، لا تنتهي إن ظل الريس على عداواته، لا شأن له بما يدفعه للمشاركة فيه، أخطاء القذفة — في مرة تالية — ربما نقل عداوة الريس له، تجرُّ وراءها عداوات الأعوان، لا يستطيع حتى الاختفاء في البيت.
تصاعدت في داخله كراهية هائلة، اندفع ناحيته بكل ما يكتمه نفسه. تلفَّت المغازي — بعفوية — حوله.
كان المكان خاليًا، إلا من درويش راح في النوم على بسطة البيت المجاور، حاول أن يقفز إلى داخل البيت، مدَّ بلال عبد ربه قدمه، تعثَّر المغازي، وسقط من طوله، تلاحقت ركلات بلال في الجسد المتكوم، حتى تغطى الجلباب بالدم المنبثق من الوجه والأجزاء الظاهرة من الجسد.
رفعه بيدين متقلصتين، وجَّه إليه ثلاث ضربات متوالية بجانب فكِّه الأيمن، مال وجه المغازي، لوَّح بلال بمطواة، أدارها حتى وجد منفذًا في العنق، فسدَّدها، لم يستطع المغازي الدفاع عن نفسه، دفعته الضربات المتلاحقة إلى الصراخ والصيحات المستغيثة. حاول المغازي — في صراخه — كتم انبثاق الدم، بدا الصدر مكشوفًا، توالت الطعنات حادة، نافذة، فسقط الرجل من طوله. ألَّف الناس دائرة لصق الجدران، وعلى أبواب البيوت والدكاكين، وتقاطع العوامري مع السيالة، يشاهدون ما لم يتوقعوا رؤيته، حلَّ الخوف في النظرات المتابعة، اقتصرت ردود الأفعال على المُشاهدة، لا محاولة للتدخل، سكتت الكلمات والتصرفات، لم يعد إلا صيحات الغضب ترافق كلمات بلال، وتأوهات المغازي المستذلة.
بعزمه شاط بلال الجسد المتكوم على مؤخرته، حاول الجسد أن يتصالب، لكنه تطوح كمن أصيب بدوارٍ، اختلج، وسقط من طوله، ثم سكن.
هرولت خطوات بلال عبد ربه، حين وصل إلى انحناءة الطريق لرأس التين، استدار خلفه، ألقى نظرة سريعة، كمن يتوقع ملاحقة.