في انتظار ما لا يأتي
أضع قدمَي على سلم القطار؛ حتى يتوقف تمامًا، أعبر ميدان محطة دمنهور إلى شارع الصاغة، أجاوز محطة الأوتوبيسات وفندق ذهب وكازينو الشريف وتقاطع شارع القلعة ومسجد الزرقا وفندق الربيع ومسجد الزواوي، أمضي في الشارع إلى نهايته، أميل — ناحية اليسار — في شارع المحكمة، على جانبيه أسوار حجرية وأبواب معظمها مغلق، وعربات نقل مصطفَّة جانب الأرصفة.
يطالعني الكوبري ومسجد أبو الريش، أستعيد ملامح جدتي؛ القامة الضئيلة، العينان الخضراوان، بقايا الشعر الأصفر المتداخلة مع البياض … تتناثر وتتلاصق تحت الكوبري، وبالقرب منه، عربات ميكروباس يجلس داخلها رجال ونساء، وتدور أمامها أسئلة وأجوبة ومناقشات ونداءات؛ أدرك أن الميدان نقطة تجمع لسيارات الميكروباس في انطلاقها، وعودتها من المدن والقرى القريبة.
تبطئ خطواتي، وأنا أجعل سور المحلج الهائل إلى اليسار، وإلى اليمين، البيوت المتلاصقة ذات الطابق الواحد، أو الطابقين، تفصل بينها شوارع ترابية ضيقة، يغيِّب الالتواء نهايتها، مدخنة وابور النور في نهاية الشارع، إلى يسارها الشارع المفضي إلى الترعة والطريق الزراعية.
قبل أن أبلغ الوابور، أنحني إلى الشارع الجانبي الضيق، البيوت الطينية، النوافذ الواطئة، روائح الطعام المنبعثة من الأفران والكوانين، البهائم العائدة من الغيطان، كومات القشِّ والحطب المتدلية من فوق الأسطح، التراب المختلط بالروث. أصعد السلالم الحجرية الضيقة، أخلف ثلاثة طوابق، ثم أدفع باب السطح الخشبي الموارب، أتخيل جلسة جدتي أمام الفرن، تدسُّ في الشاروقة صينية البطاطس وقطع البطاطا وأرغفة الخبز.
كانت تدفع باليد الطويلة للمطرحة، تستعيد الأرغفة بعد نضجها، ثم تلقِّم الحنية أرغفة أخرى. قالت وهي تستعيد المطرحة من داخل الحنية: «ألم يكلمك أبوك في سفري إلى الإسكندرية؟»
كنت أتوقَّع هذه اللحظة، أنتظرها، أستعيد السؤال الذي حفظته: «أبي يسأل، متى تأتين؟»
تشيح بظهر يدها، وتتجه بنظرتها إلى الفرن.
أعيد السؤال: «متى تأتين إلى الإسكندرية؟»
ألِفت جوابها: «إذا حان أجلي فلن أموت إلا في هذا البيت.»
– لم يعد — هنا — غيرك، كلنا سافرنا.
تعدُّ على أصابعها: «أبوك للعمل … وأنت وأختك للدراسة.»
وتهز رأسها: «لا سبب يدعوني للسفر.»
تنهض من موضعها، تتحرك خطوات إلى الباب، ثم تميل ناحية سور السطح، تطيل النظر — من وراء السور — إلى مدخنة المحلج الواقفة أمامها، خلف الأسوار العالية، كأنها تعيد التعرُّف إليها، أو تهمُّ بالتحدث إليها: «لا أتصوَّر نفسي بعيدة عن هذا البيت.»
قلت: «أبي زهق من إصرارك على الرفض.»
شردت بنظراتها؛ فيما لم أتبيَّنه: «إذا وعدني أبوك بإعادتي في مولد سيدي أبو حصيرة، فسأذهب معكم.»
– الإسكندرية فيها أولياء كثيرون!
– عليهم رضوان الله، لكنني من محاسيب سيدي أبو حصيرة.
– سيدي أبو الريش قريب من البيت.
أكدت موافقتها بهزة رأس: سره باتع.
واتجهت ناحية الأفق: «جدك رآني مع أبي في مولد أبو حصيرة؛ فخطبني في الأسبوع نفسه.»
حدَّثتني عن مشوارها كلَّ عام بمفردها، أو بمن تختاره من نساء أبو الريش إلى دمتيو القريبة من دمنهور. عرفت الطريق إلى المولد بعد رحيل زوجها، جدِّي، لم يكن يأذن لها بالخروج من البيت في أيامه الأخيرة، ترك السوق والبيع والشراء، ولزم البيت، لم يكن يغادره إلا إلى مسجد أبو الريش القريب، كان يطوي المصحف عند رفع الأذان، يؤدِّيها — بمفرده، أو في الجامع — ويعود إلى قراءة القرآن، تهمس: «ذهب كطيفٍ.»
ألِفت الحضرة وحلقات الذكر ورواة السيرة والمدَّاحين وأكشاك الختان وخيام الصوفية وذبائح النذور وولائم الطعام والبيارق والأعلام والمناديل الملونة والسيوف الخشبية والسبح الكبيرة والطبول والدفوف وجماعة أبو الغيط والميكروفونات والتراتيل والتكبيرات والتسابيح والعمائم الهائلة وتهليلات المريدين والدراويش والمجاذيب، ونداءات النصفة والمدد، والآهات، والأنفاس، والقلوب المفعمة بالوجد والأشواق. ما طالعها — آخر مرة — في المولد يختلف عما ألِفته؛ آلاف الناس ذوي السحن الغريبة، يأتون إلى المولد في أوتوبيسات، يرتدون البدل والبنطلونات والسويترات، يتكلمون لغة لا تعرفها، ويصلُّون بما لا تفهمه، ويرقصون، ويسكرون، وشى صوتها بالأسى: «رفض العسكري دخولي إلى منطقة الضريح.»
كوبري أبو الريش الذي تبدأ به منطقة حظر دخول السيارات من معالم حي أبو الريش الذي يقع فيه بيت جدي، هو البيت الذي أمضَت فيه حياتها، تذهب في ديسمبر من كل عام إلى دمتيو، لا تصادفها كلمات منعٍ من أي نوعٍ.
أبو حصيرة، مبنًى قديم في أعلى هضبة ترابية تقارب المترين، إلى جواره عدة مقابر، تستقبل الساحة المواجهة للضريح آلاف اليهود، ويتحوَّل ليل «دمتيو» إلى صخبٍ قوامه الشموع المضاءة والأغاني والصرخات والبكاء والنحيب والرقص وتناول الطعام والشراب.
قلت: «ألا تزورين الضريح الآن؟»
حملت صوتها نبرة وهن: «لم أعد أستطيع المشي كل تلك المسافة، الحنطور ينقلني إلى قرب الضريح.» استعدت مرافقتي لأبي قبل ثلاثة أشهر، هبطنا ميدان المحطة، سِرنا في شارع الصاغة، ثم إلى شارع المحكمة العريض المزدحم بالسيارات والباعة والمارة.
أسرعت خطوات أبي حين طالعنا الميدان المفضي إلى أبو الريش، بدا وابور المياه في نهاية الشارع، والبيوت التي تعاني القِدم والتهالك إلى اليمين، تفرعات الأزقة الترابية تعلو على الشارع الرئيس بطبقات الروث المدكوكة، وإلى اليسار من السور العالي لمحلج القطن، لا تبيِّن منه سوى المدخنة الحجرية المستديرة، أشبه بمئذنة.
رنت إلينا جدتي — في وقفتها على بسطة السلم — بالفرحة والتوجُّس.
قال أبي في هيئة من اتخذ قرارًا: «جئنا لنصحبك إلى الإسكندرية.»
تبدَّل وجه جدتي بحزنٍ لم يسبق أن رأيته في ملامحها، نفرت العروق في رقبتها، ودمعت عيناها، وارتعش أنفها، كأنها تواجه ما لا تملك مغالبته.
ظلَّت جدتي ساكنة في جلستها إلى جانب نافذة القطار، أصرَّ أبي أن يصحبها إلى الإسكندرية، تجاهل الدمع في عينيها، وحزنها البادي، وشرودها فيما لا نراه.
أشارت — بإصبع مرتعشة — إلى ملابس قليلة، وضعها أبي في الحقيبة، كانت تضع حاجياتها في صندوق خشبي، تحيط به سيور نحاسية منقوشة، تأخذ منه ما تريده، تدير المفتاح في القفل، تتأكد من إغلاقه.
أطل بها أبي على زحام شارع الميدان.
قال: «لا اختلاف في الحياة هنا عن الحياة في أبو الريش.»
الشارع — في أسفل — يشغي بالبضائع خارج الدكاكين: طبالي السمك وتعاليق اللحم وأقفاص الخضر والفاكهة وأجولة الأرز والملح ورصات الصابون، وكراسي البلاج، والزحام، والنداءات، والفصال، وعربات اليد، والسيارات، وكومات الزبالة. وزَّعت جدتي نظرات توجُّس بين أبي وأمي، تحدَّث أبي عن قرار هدم بيت أبو الريش، هو قرار مجلس المدينة، ولا بد من تنفيذه؛ حدجته بنظرة تخلو من المعنى، وظلَّت ساكتة.
خامس يوم، قالت جدتي، وهي تضع يدها على صدرها: «أشعر بتقطيع سكين!»
لم تكن جدتي تشكو ألمًا، ربما همست عن وخزٍ خفيفٍ في جانب صدرها، هي بصحة جيدة ما دامت تتحرك، وتكنس الحجرات، وتربي الكتاكيت، وتزغط الإوز، وتطبخ، وتجلس أمام الفرن، إذا ألمَّ بها صداع؛ فإنها تلفُّ حول رأسها عصابة من القماش، تعقدها مرات متوالية، حتى تضغط على الرأس، وتهب الشفاء، لا تجرع الأدوية، ولا تعرفها.
همَّت بالاستطراد، لكنَّ الكلمات خذلتها، بدت أشبه بالغمغمة، ترنَّحت في وقفتها، كأنها تعاني دوارًا، ثم سقطت على الأرض؛ عادت جدتي إلى بيتها بالقرب من مقام سيدي أبو الريش.
تقاربت زياراتي لها. طالت جلساتنا، حدَّثتها عن خطوات أبي لتنكيس البيت، فلا يسقط، كنت أكتم إشفاقي عليها من الحياة في البيت ذي الطوابق الثلاثة، وكانت تغلق شقة الطابق الثالث ومعظم حجرات الطابق الثاني، وتكتفي بكنس الحجرات الباقية، والسلم، إلى الباب الخارجي. أتابعها وهي تجلس أمام الفرن، وتطبخ، ثم أكشف — بالفضول — أغطية الأواني، لأرى ما بداخلها، تنشر جدتي الغسيل، وتتذكر، وتروي الحكايات، في جعبتها الكثير من الوقائع والأحداث والأسرار، تعاود النظر ناحية المحلج، اتساع مساحة الشارع، تصعِّب رؤية ما خلف السور الحجري العالي: مداخن، وبنايات متباعدة، لا تشي بكل ما في الداخل.
قامت جدتي، وهي تنفض ذرات الدقيق والرَّدة من ثوبها: «هل تريد زيارة خالتك نبوية؟»
هززت رأسي بإيماءة موافقة.
خالتي نبوية هي أخت جدتي، أعرف أنه كان ينبغي أن أصفها بالجدة، مثل جدتي تمامًا، لكن ما لقنته منذ طفولتي هو: الخالة، هي خالتي على الرغم من أنها تكبر جدتي بضع سنوات.
ما كادت تخطو من عتبة باب البيت، ترتدي «الملس» بتكسراته وضخامته؛ حتى اتجه الأولاد ناحيتها، يمدُّون أيديهم بالسلام، يلمسون ثوبها، ربما لتأكيد المعرفة، يسألونها لمجرد أن تبادلهم الكلام، يحبونها … هذه هي صورة التفافهم حولها، تعلو البسمة شفتيها، وهي تمسِّد على رءوسهم، أو، وهي تدفعهم من حولها برفقٍ.
سرتُ وراءها، أتأمل خطواتها البطيئة، وهي تتجه، بعينيها ويديها، إلى كل ما حولها، مالت إلى اليسار في حارة شمَّة، تسلِّم، وتسأل، وتجيب، وتشير إلى النوافذ المفتوحة والمغلقة، وتحاذر خطواتها في الأرض المغطاة بالتراب وروث البهائم، البيوت الواطئة من الطوب الأحمر، على الجانبين، الشرفات والنوافذ التي امتدت أمامها حبال الغسيل، النسوة على العتبات، يبادرن جدتي بالتحية، ويتكلَّمن، وينقين الأرز، ويقشرن البصل، روائح البخور والتوابل وزفارة السمك وأنواع الطعام.
هتفت: «يا طاهر» — اسم أكبر أبناء خالتي نبوية — وهي تدفع الباب، طالعنا امتزاج الظلمة الشاحبة ورائحة القِدم والعطن. الأرضية مكسوة بالتراب والروث والمتساقط من بقايا الطعام واللبن، أتبيَّن كومات الحطب إلى جانب الدرجات الحجرية الصاعدة إلى أعلى البيت. تكوَّمت — في الناحية المقابلة — جرار وقدور وبلاليص وأقفاص وأجولة مربوطة وقُفَف وأوعية مكسورة، الزنابيل معلَّقة في الأوتاد، وثمة رائحة صنانة تترامى من مرحاضٍ قريبٍ.
استيقظت جدتي — كعادتها — عند صلاة الفجر، انشغلت بتنظيف البيت وإعداد الطعام، وتفقد عشة الدجاج وبنيات الحمام، قلت — وأنا أرنو إليها — متأملًا: «من أين خضرة عينيك؟»
وهي تخفض نظرها: «كانت عينا أبي خضراوين.»
رنت — بعفوية — إلى صورة جدِّي على الجدار، يرتدي قفطانًا مزهرًا، وجُبَّة مقلمة، وحزامًا أخضر، وطربوشًا، وحذاءً أجليسيه برقبة، وفي يده منشَّة، إلى جوار الصورة، وفي الجدار المقابل، لوحات كُتِب عليها آيات من القرآن، وصورة للكعبة، وصورة للمسجد الأقصى، وثمة أصوات أولاد — يلعبون بالكرة — تترامى إلى النافذة الصغيرة المفتوحة.
ظللتُ مسترخيًا على سريرها في حجرة الطابق الأرضي، أهملَت طلبي أن أنام في حجرة أخرى: «إنه صغير، قد لا يسعنا.»
وعلا صوتها بالغضب: «ترفض النوم في حضن جدتك؟»
ثم في لهجة محرِّضة: «كان أبوك يقيم في هذه الحجرة قبل أن يترك البيت.»
لم أستعد ما قالته عند قدومي، ولم أفكر؛ إن كان ما قالته هو ما تريده بالفعل، تابعتها، وهي تكنس، وتمسح، وتبدِّل مواضع الأشياء، تتمتم بأدعية لا أتبيَّن مفرداتها، تلاغيني بأسئلتها ودعاباتها دون أن تجالسني، يعلو صوتها ويخفت بقدر ابتعادها عن حجرة الطابق الأرضي، واقترابها من الحجرة أو من باب البيت.
ألِفتُ الحياة في طفولة جدتي، أتصوَّر الأمكنة والملامح والقسمات والتصرفات، دنيا المناقب والبركات والمكاشفات والخوارق والمعجزات، حكايات السحر والجان والمردة والغيلان، العوالم المملوءة بالأطياف والقرناء والأشباح والمخلوقات الغريبة.
تحدثت — بصعوبة — عن جدي، وأخوالي، الذين فارقوا البيت بانتقالهم مع زوجاتهم، أو بالموت. ظلَّت في البيت — ذي الطوابق الثلاثة — بمفردها، اكتفت بحجرة الطابق الأرضي، المطلة نحو الطريق على السطح؛ لإعداد الطعام، وتربية الطير، ونشر الغسيل، تفتح الحجرات الأخرى، وتعدها، إن قدمت أسر الأبناء من خارج دمنهور. روت عن تسلُّل لصٍّ إلى داخل البيت، عرف أنها تسكن البيت بمفردها، قفز من نافذة الدور الأرضي المفتوحة، تبيَّنته في وقتها على البسطة العلوية، أرادت أن تصرخ، فاختنق الصوت في حلقها، انحنت على الأرض، قبضت حفنة من التراب، وقذفت بها وجهه، صرخ الرجل لغياب بصره، وعانى التخبُّط، وهو يدفع باب البيت إلى الشارع.
أدركت جدتي أنَّ أولياء الله أنقذوها مما كاد يهدد حياتها.
تنبَّهت لنصيحتها: «ضع ظهر يدك على فمك، وأنت تتثاءب؛ حتى لا يقفز الشيطان إلى فمك.»، أعادت جدتي قولها: «قد لا أزور ضريح سيدي أبو حصيرة.» ظللتُ صامتًا.
فردَت خرقة تمسح بها التراب:
– «يشاركنا الاحتفال بمولده ناسٌ لا أعرفهم، تنقلهم إلى الضريح سيارات كبيرة، ويفعلون مساخر.» ثم، وهي تلمُّ الخرقة في يدها: «لن أتردَّد على الضريح، ولا أشارك في المولد؛ حتى تقتصر المشاركة على ناسه.»
مضت إلى الناحية الأخرى من السطح، ترنو إلى أعلى البنايات، وتباعد السحب في انفراجات تنفذ منها أشعة الشمس، والأفق البعيد. تضع كفَّها على حاجبيها، كأنها تتجه بنظراتها إلى موضعٍ تراه، ولا أراه.
تمتمت بآياتٍ قرآنية، وأدعية، وكلمات غير مترابطة.
كوَّرت الخرقة في قبضتها، ومالت إلى الباب.
تبعتُها، وهي تهبط درجات السُّلم، وصوتها المتعب يحذِّرني من السلَّمات المكسورة.