ارتحال السكون
طرف الخيط يصعب التقاطه، وصْل النتائج بأسبابها ربما ساعد على توضيح ما غمض، أتابعكِ وأنتِ تميلين من ناحية شارع سيدي داود إلى شارع الحجاري، لا أحاول اجتذابك إلى حديثٍ بسؤالٍ، أو ملاحظة، أكتفي بهزة الرأس، أظهِر التأثُّر لرؤيتكِ؛ وأنتِ تفتحين الباب الزجاجي، وتعيدين ترتيب البضائع على الأرفف وفي الفاترينا، وتكنسين داخل الدكان وخارجه، ثم تظهر حلوى من كل الأنواع، علب الشوكولاتة والبسكويت، وأقراص المشبك والكعك والمعمولة، ومكعبات الزبدة والكيك والجاتوه، والمرطبات والمياه الغازية، والدولاب الزجاجي على أرففه قطع التورتة بتكوينات مختلفة، وصينية الهريسة تعلو النيران الهادئة.
لم يعد في حياتي قبل ولا بعد، خلت مساحة الصورة إلا منكِ، لم أعد أرى في الدنيا فتاة أخرى، أضع اهتمامي — بالساعات — في وقفتي وراء النافذة، أتابع كل ما تفعلين، ألحظ حتى التصرفات العفوية، أخمِّن الكلمات التي ترافقها ابتسامة وجهك، في بيع الحلوى للزبائن، أرهف سمعي كأني أريد التقاط الهمسات المتبادَلة بينكِ وبين مدحت شاهين، أهمل حتى مواربة ضلفَتي النافذة حينما تقتحم الشمس الشقة، بعد أن تتجه إلى الناحية المقابلة، ذلك ما كنت أحرص عليه، أو أغلق النافذة تمامًا، منذ الظهر إلى ما بعد المغرب.
أذكر متى ظهر مدحت شاهين في حياتك، في حياتنا، هزَّ المفتاح في يده؛ وهو يتجه ناحية دكان أدوات الصيد الملاصق لدكان الحلواني الذي تعملين فيه، القامة طويلة، والبشرة نحاسية، والعينان تشيان بنظرة مقتحِمة. تابعت انشغاله بترتيب كومات الغزل والحبال وقطع الفلين والإسفنج وبراميل القطران والبوص والسنارات والسكاكين والخطافات وطعم السمك.
لاحظت من وقفتي في النافذة المطلة على ناصية شارع الحجاري أنه قدَّم نفسه في اللحظة الأولى، كأنه قدِم للتعرف إليك، تحوَّلت هزة الرأس المحيية في الأيام التالية إلى مناقشات، وأخذ وردٍّ وملاحظات، اعتدت وقوفه بعيدًا عن دكان أدوات الصيد، ووقوفه أمام دكانك، بدا مثل شيطان برز في حياتنا ليفسدها، يشغلك حتى عن نفسك، ويقتلني بالتوتر.
حين يقرر المرء أن يحب فهو يبحث عمن يبادله العاطفة، تصوَّرت ظهوره في حياتك، بداية علاقة جميلة تأنسين إليها، ألمح التماع عينيك البُنيتين، وارتعاشة أنفك الدقيق، والحمرة التي تغطي وجنتَيك. تابعت لهفتك وأنت تنظرين إلى دكان الصيد المغلق، التوتر ينطق في ملامحك وتصرفاتك، لمَّا عاد في اليوم السابع وعلى شفتيه ابتسامة فقدت المعنى، حدست أن غيابه ليعرف ما في نفسك، ليزيد من شوقكِ إلى لقائه وإيلامك.
كنت أضيق — أحيانًا — بسكوتك عن تصرفاته، وقبولك ما لا ينبغي أن تقبليه، أتململ في وقفتي وراء النافذة لرؤية تطور العلاقة بغير ما كنت أتوقعه، يناوشني الفضول والرغبة في المتابعة، يداخلني شعور بالضيق، وربما الغضب؛ لصمتك أمام ما يقوله، أو يفعله، تؤلمني نظرة الرضا في عينيك، تتصاعد في أعماقي موجات غضب من تصرفاته في مواجهة عجزك الواضح، تثيرني قدرته السيطرة على حياتك؛ الثياب، ومفردات الكلام، وطريقة المشي، والجلوس، حتى ما تضيفينه إلى جسدك أو تختزلينه من كيلوجرامات، كأنه أخطبوط يقيد تصرفاتك، يمنعك من الحركة، يعتصر حياتك، تواجهين الموت لو أنك حاولت المقاومة.
فقدت صبري تجاهك، أعاني ما يفعله، أرتجف للتصرف الذي يمليه عليك، كأني أنا المقصود بنصائحه وملاحظاته وأوامره، حتى الثياب التي أحدس أنه دفعك إلى ارتدائها، تمنيت لو أنك رفضت نصيحته.
بدا الأمر شخصيًّا، أحسست أنه يخصُّني، وأنك تخذلينني بصمتك عن تصرفاته، في ذات لحظة شعرت بميلٍ إلى الغثيان، أرفض مجرد الإشفاق على ما بدت عليه العلاقة بينك وبينه، أفسد — بتصرفاته — صورتك الجميلة، غابت النظرة الطفولية الصافية، حلَّ بدلًا منها توتر، ينعكس في ارتجاف أنفك وعينيك، والارتباك الذي يسِم تصرفاتك، تخفضين رأسك أمام عباراته القاسية — لا بد أن تكون قاسية — وتكوُّر قبضة يده بما يعني التهديد، أحدس مشاعرك وما تعانين، من تعبيرات يديك، وملامح وجهك، والدموع التي تمسحينها بكم البلوزة البيضاء. لم تعُد متابعتي فضولًا، ولا حب استطلاع، شغلني ما يحدث، أضيق بتصرفاته، وأحزن لصمتك عما يفعل، تشغلني توقُّعات أخشاها، ولا تفطنين إليها، وإن اكتفيت بالوقوف وراء النافذة، وتأمُّل ما يجري في الناحية المقابلة.
همس في أذنك بما لم أتبيَّنه، انعكست كلماته ضيقًا في ملامحك، وأشحتِ بيدكِ، عاد إلى أذنك بفمه، حدست أنه يهون عليك، ويعتذر عمَّا فعل، قال ما استدعيتِ له ابتسامة، أدركت أنها لإنهاء الموقف، أو للمجاملة، عرفت أنه لم تعُد بينكما مساحة ودٍّ، تداخلت في نفسي مشاعر غامضة، لم أدرِ إن كنت قد حزنت أم سررت لها.
أزمعت أن أفعل شيئًا، وإن لم أدرك — على وجه التحديد — ما يمكن أن أفعله، أقاوم التردُّد، وأطرده، أعبر المسافة بين البيت والدكان، أواجهه بما أكتمه في نفسي، وأتقبَّل النتائج، لكنني أعاني من فقدان الرغبة في أثناء مواجهته، أو أني كنت أخشى المواجهة، ما أراه من تصرفاته، يتسلل إلى داخلي بأسئلة قاسية، ولعلَّه الخوف.
كنت دائم التخيُّل لمواجهتي له، أحاصره في زاوية الدكان، أحذِّره من تصرفاته القاسية مع أميرتي الجميلة، أصوِّب إليه من اللكمات ما يجبره على التدخل.
ناقشت الأمر بيني وبين نفسي: ماذا لو أني وقفت أمامك، وهمست شفتاي بالتحذير، فواجهت الصدود! هل أظل في وقفتي؟ أو أتمنى الموت؟ هل فطنتِ إلى ارتباكي وأنت تطالعينني بملامح الأميرة في وقفتك أمام باب الشقة؟ تداخلت في نفسي مشاعر كثيرة، غامضة، ما أذكره أنني أخفقت في استدعاء الكلمات؛ التي أردُّ بها على قولك الهامس: أستأذنك في التليفون.
اتسم ردُّ الفعل في تصرفي بعفوية لم أتدبَّرها، غمغمت بعبارة ترحيب لا أذكرها، أفسحت لك الطريق، تأمَّلت الشقة بتوقع نظراتك لها، الصالة الواسعة، تتوسطها طاولة خشبية صغيرة، مغطاة بمفرشٍ من القطيفة الحمراء، حولها أربعة كراسٍ، تحتها فروة خروف، فُرِشت كسجادة، اللوحات على الجدران للكعبة، وصور فوتوغرافية، ولوحات تآكلت حوافها، أو شحبت ألوانها بمرور الوقت، الأبليكان المتقابلان على الحائط المكتب الخشبي الصغير، فوقه أوراق تصدير واستيراد وكتب في المعاملات التجارية، النجفة الخالية إلا من لمبة واحدة، الكنبة الاستانبولي، المروحة المتدلية من السقف تصدر طنينًا خافتًا.
غالبتُ التردد لكي أنبِّهك إلى خطورة ما يفعله مدحت شاهين: مدحت شاهين، قريبك؟
التمعت عيناك البُنيتان بتساؤلٍ: «لا، هو المسئول عن دكان الصيد.»
ثم، في نبرة التساؤل: لماذا؟
– لا أرتاح له.
وأنت تربتين صدرك: أراه إنسانًا لطيفًا.
– هذا رأيك … لي رأي آخر.
واتجهتُ بنظري إلى الناحية المقابلة.
أدركت أنك تهملين تصرفاته القاسية لأنك تخشين غيابه، فقْده، لا يشغلك سوى أن يظل في حياتك، يأتي إلى دكانه كل صباح، يقضي فيه النهار، يحدِّثك في وقفته على الحد الفاصل، أو أمام دكان الحلوى، أجد انعكاسات كلماته على ملامحك بما يسهل فهمه.
ألزمت نفسي أن أظل هادئًا، وأترك الأحداث تمضي كما هي، هذه إرادتك، لا أتدخل على أي نحوٍ.
لم أعد أتردد على الدائرة الجمركية إلا لأوقِّع في الساعة، ها أنا ذا أحرص على المجيء إلى عملي، ثم أعود، ألزم موضعي وراء النافذة، أرقب ما يحدث في الدكانَين المتلاصقَين، يبدأ يومي حينما تُقبلين من ناحية الموازيني أو رأس التين، تضعين المفتاح في الباب الزجاجي، تتأكدين من ترتيب الحلوى، أو تعيدين ترتيبها، أهملت ملابسي والقراءة ومشاهدة التليفزيون ونوم القيلولة، حتى الطعام أتناوله في وقفتي وراء النافذة، لا تتحوَّل عيناي عن الموضع الذي اجتذب اهتمامي، إذا أغلقتما الدكانَين … أنسحب إلى الداخل، أرتمي — بالتعب — على السرير، أغيب في النوم، أصحو على رنين جرس الباب، أضع الجريدة على الطاولة الصغيرة، لا أحاول حتى مطالعة عناوينها، أمضي إلى الدائرة الجمركية، وأعود، ألزم وقفتي وراء النافذة.
أثارت الحقيبة الجلدية في يدك دهشتي، أشرت إليه وأنتِ تتكلمين، خمَّنت أن ما بالحقيبة يخصُّكما، لم تحاولي فتحها، فأحاول تبين ما فيها، حين أغلقتما الدكانَين، ورفع الحقيبة على كتفه، وسرتما معًا، انداحت في داخلي مشاعر الضيق، أظن أنه لم يكن مجرد ضيق، حدست أنه يرافقك إلى مكان لا أعرفه، وإن كنت لا أحب أن تذهبي إليه، تابعتكما — في رمادية الغروب — تمضيان إلى نهاية الحجاري.
كانت الظلال قد تقلَّصت، وانسحبت بقايا الشمس خلف البيوت وأعلى الجدران، لم تعد إلا ذؤابات أميَل إلى الحمرة. تكرَّر ما حدث في الأيام التالية، يدفعني التوتر إلى خارج البيت، تتابعكما عيناي حتى تغيبا في انحناءة الطريق إلى شارع رأس التين. أترك النافذة مفتوحة، أهبط درجات السُّلم، أتجه ناحية البحر، تلازمني أفكار مختلطة ومتشابكة، لا حصر لها، تتأمَّل نظراتي ما لا أراه، أو أتبيَّنه، التفصيلات الصغيرة تلحُّ على ذاكرتي؛ الكلمات الهامسة والزاعقة، تكوُّر قبضة اليد، توبيخه المتكرر لك من دون مقدماتٍ، وبلا سببٍ.
أدركت أن مراقبة ما يجري من وراء النافذة خطأ، ينبغي التنبُّه إليه، أزمعت أن أبادره بتصرفات العداء، وأدفعه إلى ترك دكان الصيد، والحي كله، تحاصره المضايقات، فيذهب بلا عودة، هو غريب عن بحري، وإن لم أعرف إن كان من الإسكندرية أم من خارجها، لا أذكر أني التقيت به في جامعٍ ولا شارعٍ ولا مقهًى، بدت سحنته غريبة حين رأيته — أمام الدكان — للمرة الأولى. في غبشة الصباح الباكر، عبرت مسافة الطريق بين البيت ودكان الصيد، دلقت الماء الوسخ على بلاط الرصيف، أمام الدكان، صبغت بابه بالشحم وبويا الزيت وما شوَّهه، كتبت على الجدار عبارات التهديد والشتم، دسست في أسفل زيق الباب عملًا؛ يذهل الشاب عن نفسه، تغيبين عن عينيه وذاكرته وعن حياته.
ظلَّت علاقتكما — في الأيام التالية — على حالها، لم تتأثَّر بما صنعته، قاومت الاستياء حين رأيته يكتفي بتأمُّلكِ، وأنت تكنسين الماء الوسخ، وتزيلين الصبغة من الباب، وتقذفين العمل في فتحة البالوعة، لصق الرصيف.
كان الشارع — وقت الظهر — خاليًا، ودكان الحلوى بلا زبائن، ودكان الصيد مغلقًا بلا سببٍ أعرفه. لم أطل مناقشة ما اعتزمت، اندفعت إلى الناحية المقابلة:
– هل استغنى صاحب الدكان عن مدحت شاهين؟
علا حاجباك الدهشة، وأنت تنفضين يديك من بقايا الفانيليا: ما شأنك؟
– الدكان لم يُغلَق منذ فترة طويلة.
أشرت إلى صدرك بأصابع مضمومة: «لا شأن لي.» ورمقتني بنظرة غاضبة: «ولا شأن لك.»
حاولت أن أتكلم، لكن نظرتك الزاجرة، أعادتني إلى حيث كنت.
•••
«أذهلني ما رأيت.»
كان يدفعك بقبضته في كتفك، وهو يتكلم، وأنت تتراجعين إلى الوراء، وتتألمين، أومأت بعينكِ إلى الطريق، تنبِّهينه إلى الأعين؛ التي — ربما — تلحظ ما يفعل، رفعتِ يديك تحمين وجهك من ضرباته المتوقعة، قاومتِه، حاولتِ أن تتملَّصي من يديه، تفلتي بجسدكِ، لكنه جذب شعرك، لفَّه حول يده، خبط رأسك في الحائط، خلت ملامحه من التوقُّع؛ ما إذا كانت الضربات ستجرحك، أو — ربما — تقتلك، تلقي بك على الأرض، لا يأبه بصراخك، ولا انحسار الفستان عن ساقيك إلى أعلى الفخذين، توقَّعت، تمنَّيت، أن تردِّي ضرباته، لا تهملين جسدك بين يديه، يضربه بآخر قوته، من دون أن يعبأ بتألمُّك وصراخك.
انبثقت من كتفيه أذرع كثيرة، امتدت الأصابع الخمس في كل يد، أحاطت بجسدك كله، لم تترك جزءًا من دون أن تصل إليه الضربات، تحوَّلتِ إلى دمية يمارس فيها العنف.
تبدَّلت المرئيات، تحوَّلت إلى أشكالٍ لم أفهمها، وفقدت الملامح معانيها.
لم يكن أمامي وقتٌ؛ حتى لمجرد التفكير فيما يحدث، تصاعد من أعماقي ما غطَّى على قدرتي في التفكير، علا في صدري ما يشبه قرع الطبول.
ينبغي على المرء — في لحظة ما — أن يتخذ قرارًا، يتصل بحياته، وحياة من يهمُّونه، زايلتني القدرة على الوقوف في موضعي وراء النافذة، والاكتفاء بالمتابعة، أزمعت أن أتصرف حتى يعرف مدحت شاهين أن لك أصدقاء، يقفون إلى جانبك، ويدافعون عنك. هبطت الدرجات القليلة المفضية إلى الطريق، عبرتُ الزحام والسيارات والنداءات والصيحات والعبارات المتسائلة، واجهته بملامح غاضبة.
لم يشغلني رد الفعل، ولا ما إذا كان يستطيع ردَّ ضرباتي، لكنني ضربته بكل الترقُّب والمعاناة والغل والغضب والتحدي، لم أتدبَّر أين اتجهتْ ضرباتي، أضرب، وأضرب، وأضرب، ضربته بآخر قوتي.
حين تنبَّه إلى ما فعلت، انتفض مثل عملاق، وواجه ضرباتي بما لم أكن أتوقعه، ولا قدرة لي على مغالبته. أهملت التخاذل والتهاوي، لم يشغلني حتى الدم الذي انبثق من جبهتي، ولا الآلام التي صرخت في جسدي كلِّه، دفس ركبتيه في صدري، توالت صفعاته وركلاته، من دون أن أقوى على مجرد الرد.
تماوجت ملامحه، واهتزَّ الواقفون والمارة والجدران، وأسفلت الطريق والسيارات والنوافذ والشرفات وأعمدة النور، شعرت بما يشبه الدوار، والميل إلى الإغماء، وأن روحي آخذة في التلاشي، لكنني تماسكت في وقفتي، وتساندت على إفريز الجدار، حاولت أن أستجمع قوتي، أرد على ضرباته الموجعة بما وسعني، مجرد أن ألامس رأسه أو وجهه أو ساقيه.
كنت أدافع عنكِ، كنت أدافع عن نفسي.