نافذة على ميدان
المصادفة هي التي فتحت الباب السحري، أطلَّ من النافذة في الطابق الرابع، نصف الدائرة أمامي يحتضن الميدان ذا النافورة الساكنة. على الناصية قهوة، يلاصقها دكان أدوات منزلية، وصالون حلاقة، ومكتبة، الحركة في القهوة إلى بعد الظهر قليلة، الروَّاد في الداخل يستغرقون — متأثرين — في قراءة الصحف. أتابع حركة الحلاق داخل الصالون، ما يظهر من قامته أسفل الستارة المسدلة، يرفعها بيدٍ، ويزيح باليد الأخرى كناسة الصالون إلى أسفل الرصيف، يضع حمَّالة الفوط أمام الجدار الخارجي، ينثر نشارة الخشب في الداخل، وفي المساحة المقابلة من الرصيف. وقفة الحلاق تبدو من الباب المفتوح إلى ما تحت الركبتين، يخلو الصالون، فيجلس الرجل بالقرب من الباب، ينادي على جرسون القهوة، يتأمل حركة الميدان، خطواته البطيئة تشي بتقدُّم عمره، وإن بهتت ملامحه لبُعد المسافة. كان الوقت ضحًى.
الميدان يخلو من المارة وحركة السيارات، عدا كنَّاس جلس مسترخيًا في زاوية الرصيف، إلى جانبه عربة حديدية صغيرة، تنبش في القمامة داخلها، ثلاث قطط.
لم أفُه بكلماتٍ من أي نوعٍ، وارب الباب، فشغلني الفضول لمعرفة ما وراءه …
نظرتُ في المرآة بعد أن جلست على الكرسي المقابل.
كان الصالون أقرب إلى الضيق، الأرضية السيراميك تغطيها نشارة الخشب، أخذ كرسيَّا الحلاقة معظم المساحة إلى اليمين، أمامهما مرآتان تحت كل واحدة رف زجاجي، فوقه أدوات الحلاقة؛ ماكينة الشعر والمقصات ووعاء الصابون والفرشاة وعلب البودرة وزجاجات الكولونيا، إلى اليسار ثلاثة كراسٍ للانتظار، تعلوها نتيجة حائط باسم الهيئة، حدست أن الرجل أخذها من موظف يتردَّد على الصالون. في الركن كومودينو صغير بثلاث أرجلٍ، فوقه دورق مياه معدني، في الركن المقابل، خلف الباب، طاولة مستطيلة، تكوَّمت عليها مجموعة صحف، السقف مرتفع، تتدلَّى منه نجفة مطفأة اللمبات، وبين السقف وأعلى الباب يد زرقاء التفَّ حول أصابعها عقد رفيع من الخرز الملون.
بدا الرجل متغيرًا عن رؤيتي له من النافذة، شحبت ملامحه في بُعد المسافة بين النافذة والصالون، أميَل إلى القِصر والامتلاء، تطلُّ من عينيه طيبة، على وجهه حفاوة مرحِّبة، اكتفى من شاربه بمربعٍ صغير بين فتحتَي الأنف، البالطو الأبيض ينسدل إلى ما تحت الركبتين، والبنطال يغطي القدم، عدا الأصابع في مقدمة الصندل.
– الأستاذ القصبي أثنى على قرار سيادتك بزيادة مدة الإجازات العارضة.
فطنت إلى أن نظرتي المتسائلة لم تخفِ ما اقتحمني من الدهشة.
أشار بيده إلى فوق: أسيادتك رئيس الهيئة؟
– من هو القصبي؟
– موظف عند سيادتك … من زبائني.
حدجته بنظرة متفحصة: «هل يكلمك عن الهيئة؟»
وهو يتكلَّف ابتسامة: «لا يقول إلا الخير.» ومسَّد صدره براحته: «خادمك زهيري، معظم موظفي الهيئة زبائني.»
قلت بالفضول: أية إدارة؟
– كل الإدارات.
طقت الفكرة في دماغي، أزمعت تأجيل عرضها حتى لا أثير حذره، وتنشأ الثقة، لو أني تسرعت، ربما احتمى الرجل بالصمت. استغنيت عن الحلاق الذي كان يتردد على البيت، ربما عرفت من زهيري ما لا أعرفه من أحوال الهيئة، قلتُ وأنا أتحسَّس ذقني بأصابعي: «نسيت.»
لاحظت أن حفاوته المرحِّبة لا تخص أحدًا، ولا تستثني، كأنه ألصقها بوجهه، لا تتبدَّل، تكلمت عن ظروف الهيئة، الأسرار يعكسها تعمُّد الهمس، فسَّرتُ انشغال زهيري بالتليفزيون المفتوح، فهو تربة غير مستهلكة.
في تعدُّد زياراتي، عرفت أن زهيري لا يبدِّل وقفته أمام الكرسي القريب من الباب، لا أحد يعاونه، ربما جلس زائر على الكرسي المجاور، ينتظر دوره.
توالت الأسئلة، أسئلتي، تحاول كشف ما يخفيه الرجل، تخلَّى زهيري عن الكناية والإضمار والتلميح، يردف اسم الشخص، بوظيفته وأقواله وتصرفاته، يفرق بين من يعمل للأذى، ومن يتمناه، ومن يكتفي بالفضفضة، تعبيرات الوجه واليدين، طريقة الكلام، عُلو الصوت وهمسه.
أدركت أني لم أكن مخطئًا حين طلبت من الرجل أن ينقل لي ما يعرفه، ما يستمع إليه ويشاهده، يروي ما حدث تمامًا، ووثق في صحته، لا إضافة، ولا حذف، ولا محاولة للتهويل أو التهوين، أصِل الرواية بروايات سابقة، فأعرف أن الصورة صحيحة.
حذرت من أن تقتصر الملاحظات على تعبيرات مائعة، مثل: علمت، قال موظف، ذاعت شائعة، وغيرها من العبارات التي تعاني عدم التثبُّت، يفرق بين الواقعة الصحيحة والشائعة والنكتة، ما أريده اسم الموظف، سنه بالتقريب، ماذا يرتدي، عمله، القسم الذي يعمل فيه، إذا كان له زملاء يصحبونه إلى الصالون، ملامحه الظاهرة، هل تبدو عليه الجِدة، أم الخفة، أم أنه يكتفي بالبوح؟ مدى اتسام تصرفاته بالعفوية؟ أو أنه يدبِّر لشيء يخفيه؟ أهم ما تضمنه كلامه؟ العبارات كلها؟ الخطأ وارد لو أن العبارات اختلطت، فلا أعرف قائلها، أضع توقعاتي، وما يجب أن أفعله لتوقعاتٍ قد تكون غير صحيحة وخاطئة.
أهملت التعرُّف إلى ظروف زهيري الشخصية، إن كان له زوجة وأبناء، وهل يسكن بالقرب من الصالون، أو في حي بعيد، اقتصر كلامه على موظفي الهيئة، ما يلتقطه من ثنايا الحكايات، لا يفلت واقعة ولا عبارة يرى أنها قد تفيدني، لم تفاجئني كلماته المحذِّرة: «راشد الميهي لا يحمل لك ودًّا.»
تابعتُ موظفي الأمن وهم ينقلون النظرات وإشارات الأيدي بين النافذة التي أطل منها وداخل الدكان، لم يبدُ في وقفة زهيري ما يشي بالرفض لما أخرجوا الأسلاك والأجهزة الدقيقة، عانوا حتى اطمأنوا إلى دسِّها أسفل مقاعد الصالون.
حين يجلس المرء على كرسي الحلاق، يكون أميَل إلى البوح، إلى الفضفضة، يأخذه زهيري في الكلام، يحرِّضه على رفع الكلفة، وفتح الباب الموارب، يحكي ما كان قد احتفظ به لنفسه.
تركتُ للسكرتارية تنبيه من أستدعيهم، أو يطلبون لقائي، فيحرصون على حلاقة ذقونهم، أو تشذيبها، يقترحون — اختصارًا للوقت — دكان الحلاق المقابل، ما لا يتذكره زهيري يسجله الجهاز الصغير تحت الكرسي، أعرف ما يتناقله الموظفون من الشائعات والوشايات والدسائس.
ضايقتني نظرات التساؤل وعدم الفهم من عملاء الهيئة، أبديت ملاحظة عن التليفون، قال: إنه لا يقتني محمولًا، والصالون بلا تليفون أرضي.
التليفون الأرضي أول ما سعيت إلى وضعه، فلا يضطر للصعود إلى الطابق الثالث، تركت للسكرتارية تدبير الأمر، حتى جاء عمال الهيئة، استبدلوا بالدورق فوق طاولة الركن هاتفًا أرضيًّا.
أظهر زهيري الفرحة عند زيارتي، وجد في الهاتف إضافة مهمة إلى قيمة الصالون، ناوشني قلق في تصوُّري لزبائن الصالون، ينصتون إلى المكالمات التي قد تفرضها الضرورة، إذا اتصل بي، أو ردَّ على مكالماتي، فإن التنصُّت سيظل قائمًا؛ حتى لو خفت الصوت إلى درجة الهمس.
– كيف يتصرف إن لم يغادر الزبائن أماكنهم؟
أهديته جهاز المحمول، لم أدقق في نوع الجهاز ولا استخداماته، ما يهمني أن يبلِّغني بما يراه أو يسمعه، حدَّدت له الرنات الثلاث، ثم أتلقَّى مكالمته.
ألِفت إمساكه بالمحمول في وقفته على باب الصالون، أو جلوسه في المدخل، يلمح نظرتي من وراء النافذة، يهز المحمول؛ كمن يبلِّغني بحسن الأداء.
تكررت مكالماته بتكرار تردُّد الموظفين على الصالون، ربما تكلم لمجرد أنه يذكر معلومة نسيها:
– مكالماتك تحرجني!
وحاولتُ بنبرة صوتي تأكيد معنى الكلمات: «اتصل عند الضرورة.»
حملقت في وجه زهيري، كأني لا أصدق وقفته على باب المكتب: «ماذا قال للسكرتارية؛ حتى أذنوا له بالدخول؟» ربما حدسوا من تردُّدي على الدكان أن الرجل صار قريبًا.
قال لنظرتي الغاضبة: «موضوع يستحق مجيئي.»
ثم، وهو يخرج ورقة من جيبه: «يوزِّعون منشورات ضدك.»
أزمعت الانتظار حتى يبلِّغني زهيري، في الصالون بما رآه، أو سمعه، ألِفت زياراته، يدفع عم طه الساعي الباب دون أن يقدمه، كما يفعل مع بقية الزوار، أضغط على اللمبة الحمراء، تظل مضاءة حتى يفرغ زهيري من كل ما أتى لروايته، أودَع الموظفين ذاكرته، يحفظ أسماءهم ووظائفهم وأحوالهم داخل الهيئة وفي بيوتهم.
قبل أن أترأس اجتماعًا لمجلس الإدارة، يتفحَّص موظفو الأمن الغرفة جيدًا، يتبيَّنون ما وراء اللوحات، يرفعون غطاء التكييف، يفتحون الأدراج، يدسُّون الأيدي أسفل المقاعد وتحت السجادة الشنواه.
تردَّدت في أن أشجع زهيري على مجالسة رواد القهوة القريبة من موظفي الهيئة، يقطع الخطوات القليلة بين الصالون والقهوة، يعود من الداخل بكوب شاي، يرشفه في جلسته على مدخل الصالون. أعرف تخفي موظفين — ساعات طويلة — داخل القهوة، دردشات القهاوي تربة مناسبة لفض الأسرار، وإطلاق الشائعات، الجلسة المسترخية، وأدوار الدومينو والطاولة والمعسل والشاي، ينبِّهني إلى الكلمات التي تقال في حقي، والتلميحات التي تنال مني، وإلى ما يُعَد من المؤامرات، أتدخل في الوقت المناسب لأحبطها.
إذا زادت مساحة السر، فإنه لن يكون كذلك.
أرجأت قرار تعيين الشاب محمد عبد السميع مفتاح، حتى قرأت كل ما يتصل بحياته، من قرية كمشيش في المنوفية، أتى إلى الوظيفة بقراءة الإعلان، لا أقارب له في القاهرة، حتى شهادته في الحاسب الآلي حصل عليها من معهد بشبين الكوم، ما يضعه زهيري في أذني، أسجله، أدفع بالورقة إلى مفتاح، يمضي إلى الحجرة الصغيرة المجاورة، يغلقها — من الداخل — جيدًا، يضيف بيانات الورقة إلى ما في الكمبيوتر، يقتصر على الأسماء التي يذكرها زهيري، إهمال سرية البيانات يعني فصله بلا مساءلة.
ما أتلقَّاه من زهيري دافعي لاتخاذ القرار: أوافق على الحافز، أو الخصم، عدم احتساب الإجازة، إيقاف الترقية، الإنذار بالفصل، أكتفي بما يبلغني من زهيري، أهمل مذكرات رءوساء الأقسام، لا ألتفت إليها.
انتفضت من الكرسي لصوت الاقتحام، أغلق زهيري البابَ خلفه، واتجه ناحيتي بنظرة مرتعبة، تقلَّصت ملامحه بما لم أره من قبل، غابت الحفاوة الدائمة التي كان قد ألصقها بوجهه، تطوحت يداه بارتعاشة واضحة، كمن يواجه خطرًا لا يقوى على احتماله.
– إنهم يصعدون إليك.
قفزتُ — بتلقائية — خارج المكتب، أحسست بالنيران تتصاعد في داخلي، وبميلٍ حادٍّ للتبول، انطمست المرئيات. لا أحد؛ حتى زهيري تحوَّل إلى شبحٍ غائب التفاصيل، التوقع أقسى مما أحتمله، تطايرت الأوراق — في اندفاعي — من فوق المكتب بتطويحة يدي، ارتطمت بالكراسي والطاولات الصغيرة، قذفني الخوف خارج النافذة المفتوحة.