الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام (٣٤٠٠ق.م–٢١٦٠ق.م)
أول مملكة في العالم
وهنالك في مملكة الجنوب حوالي سنة ٣٤٠٠ قبل ميلاد المسيح، خطرت فكرة هائلة في رأس الجالس على العرش. زحف ذلك الملك من عاصمته طينة — على مقربة من جرجا الحالية — إلى الشمال، وما هي إلَّا مدة قصيرة حتى أخضع سكان الشمال، فلبس التاجين، ووحد الوجهين، وأصبح صوته مسموعًا من جنادل أسوان إلى مصابِّ النيل، ذلك هو «مينا» رأس أسرات الفراعنة، ومؤسس أول مملكة أشرقت عليها شمس التاريخ، في وقت كان كل سكان الأرض فيه يعيشون هملًا لا رابطة بينهم.
ولا تسل عما جره ذلك الاتحاد على مصر من خير؛ فقد تقدمت العلوم والفنون في المملكة الأولى في العالم، وترقت العمارة وكثر تشييد المقابر والهياكل، وانتظمت حركة التجارة والصناعة.
ولم تكن مثل تلك الحكومة — بما فيها من موظفين وجباة — تستطيع أنْ تستغني عن طريقة تضبط بها ميزانية الدولة ومقادير الضرائب، فاضطرتهم الحاجة إلى اختراع الكتابة، فكان المصريون أول قوم ورَّثوا العالم تلك النعمة الكبرى، التي حملها الفينيقيون بعد ذلك بآلاف السنين ونقلوها إلى كل الشعوب.
ولمس المصريون منافع الوحدة الوطنية بأيديهم، وكان هَمُّ خلفاء «مينا» من ملوك الأسرتين الأولى والثانية، هو تثبيت دعائمها والتمكين لها.
ولم يكن الناس حتى ذلك الوقت يعرفون البناء بالحجر، حتى جاء «زوسر» من ملوك الأسرة الثالثة، فأسس هرم سقارة المدرج، الذي يعتبر أقدم بناء من الحجر في العالم.
وكثرت الأهرام في عهد الأسرات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. أما الغرض من بنائها فكان حفظ أجساد الموتى؛ لأن المصريين القدماء كانوا يؤمنون باليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، غير أنهم كانوا يعتقدون أنَّ الأجساد إذا فنيت عُذِّبَت الأرواح وقضي عليها؛ فكانوا لذلك يعمدون إلى تحنيط أجسادهم، فينقعونها في ماء النطرون، ثم يستخرجون الأحشاء والأمعاء ويحشون مكانها التوابل والعقاقير المختلفة، ويصمغون الجلد عدة مرات، ثم يلفونه بالأربطة، ويودعون تلك الموميات — الأجساد المحنطة — بطون تلك القبور الهائلة؛ حتى لا تصل إليها يد العبث أو الفناء.
الأهرام معجزة الدهر
هلمَّ نحاول التغلغل وسط ضباب ثمانية وأربعين قرنًا؛ لننظر «خوفو» مؤسس الأسرة الرابعة يبني هرم الجيزة الأكبر.
ها هو طريق طويل معبد بين المحجر، وبين اثني عشر فدانًا هي قاعدة الهرم، انظر كيف يدحرج عشرات الآلاف من العمال الحجارة المنحوتة على أساطين من الخشب. إنهم يصلون إلى مكان الهرم حيث يعمل البناءون. انظر كيف يلصق البناءون الحجارة المصقولة بواسطة تفريغ الهواء، وكيف يشرف المهندسون على العمل. ها هو ذا «رع» إله الشمس ينحدر إلى الأفق، وها هم العمال يغربون معه إلى ثكناتهم التي أعدها لهم الفرعون ليستيقظوا عند شروق «رع»، ويبدءوا من جديد خدمة خوفو الإله الأصغر. انظر! ها هم العمال يروحون إلى حقولهم في مبدأ الشتاء ليزرعوا الأرض، وها هم يعودون إلى العمل وقد غطى فيضان النيل الحقول. إنَّ الهرم يعلو عامًا بعد عام والعمال يهيلون حوله التراب ليدحرجوا فوقه الحجارة، لقد وصل البناءون إلى القمة. إنهم الآن يَطْلون الهرم ببياض من المرمر المسحوق. إنهم يزيلون التراب ويطلون الهرم من أعلى إلى أسفل. لقد مرت ثلاثون سنة منذ بُدِئ في عمل الهرم. لقد تم بناء الهرم الآن.
ونحا «خفرع» و«منقرع» في بناء هرميهما الأوسط والأصغر نحو خوفو، فلا تصدق ما تقوله اليونان على خوفو وخفرع ومنقرع؛ إنهم ينقمون عليهم إدارتهم تلك الأعمال الفنية الهائلة.
إنهم يحسدون المصريين على حذقهم فنون البناء والهندسة والطبيعة والفلك، التي استلزمتها إقامة تلك الأهرام الهائلة. أليست هي معجزة الدهر الخالدة؟!
بصيص من الديمقراطية
إذا وُلِّيتَ أمر قوم فلا تتحكمْ في أعناقهم بظلم، ولا تسعَ في سلب نعمتهم؛ فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم … وكن عادلًا؛ فإن العدل يضمن لك الفوز في الحياة؛ لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض … وإذا كنت رئيسًا فعامل من هم أقل مرتبةً منك برفق، واعلم أنَّ مرءوسك هو ساعدك وعضدك، وأنَّ التشدد في معاملته يجعله يخفي عنك ما يفيدك العلم به …
أليست هذه بذور الديمقراطية؟!
فإن أبيت إلَّا برهانًا عمليًّا، واعتبرت هذا مجرد كلام، فها هو «بيبي الأول» — من ملوك الأسرة السادسة — لم يرَ غضاضةً في أنْ ينزل إلى صفوف العامة والأوساط المنحطة، فيستخدم ذوي الكفايات منهم ويقلدهم معظم مناصب الدولة الهامة، التي كانت من قبلُ وقفًا على الكهنة والأمراء. أليست هذه هي الديمقراطية لحمًا ودمًا ومعنًى، وإنْ لم تكن لفظًا؟!
وخلف هذا الملك الديمقراطي «بيبي الثاني»، الذي حكم ما يزيد على ٩٠ سنة، وهو أطول حكم حكمه ملك واحد في التاريخ، وقرْب آخر أيامه استقل حكام المقاطعات، وصاروا يتنازعون فيما بينهم، وعادت مصر إلى الانقسام الذي أنقذها منه «مينا» منذ ألف سنة.
وظل الانقسام تتبعه الفوضى مخيمًا على مصر أيام الأسرتين السابعة والثامنة، وفي أيام الأسرتين التاسعة والعاشرة انحصر النزاع بين مدينتي هرقليوبوليس — مكانها أهناسية — ومدينة طيبة — مكانها الأقصر — وانتهى هذا النزاع بسقوط هرقليوبوليس وانتصار طيبة.