عهد الإقطاع والهكسوس (٢١٦٠ق.م–١٥٨٠ق.م)
تجربة جديدة
لما انتصر أمراء طيبة على هرقليوبوليس، أخضعوا جميع مقاطعات مصر لهم، ووحدوا القطر من جديد.
غير أنَّ تلك الوحدة تأسست على نظام جديد؛ هو نظام الإقطاع.
ويتلخص ذلك النظام في أنَّ مصر قُسِّمت إلى عدة مقاطعات، يحكم كل مقاطعة أمير، يكاد يكون فرعونًا في مقاطعته، يملك الأرض وما عليها، وكان الأمراء يرثون الحكم عن آبائهم، ولم تكن هناك رابطة تربطهم بالملك إلَّا دفع قدر من المال لخزينته كل عام، وإمداده بالجنود إذا احتاج إلى ذلك، وكان الأمراء بوجه عام يشعرون بواجب الولاء للملك، غير أنهم كانوا إذا استضعفوا الملك يمتنعون عن دفع الضرائب، ويحاربونه إذا أصرَّ على أخذها، ومن أجل ذلك كان الملوك يقيمون حرسًا قائمًا لحمايتهم، وكان هذا أول عهد لمصر بالجيوش القائمة.
تحت هذا النظام خدم ملوك الأسرة الثانية عشرة — أشهر نجوم ذلك العصر الزاهرة — مصر خدمات جمة.
فهذا «امنمحعت الأول» يملأ جو البلاد رغدًا وسكينةً، ويفتخر قائلًا: «لا جائع في مدتي ولا عطشان تحت سلطاني.» وهذا «اسرتسن الثالث» يغزو الشام، ويخضع بلاد النوبة، ويشيد القلاع لحمايتها عند نقطتي قمة وسمنة، ويحفر خليج «سيزوستريس» الذي كان يصل النيل بالبحر الأحمر.
وذلك هو «امنمحعت الثالث»، يرى بثاقب بصره أنَّ الزراعة مصدر ثروة مصر الهام، فيتخذ من إقليم الفيوم المنخفض خزان «موريس»، تُحْفظ فيه المياه في أوقات الفيضان؛ لينتفع بها وقت انخفاض النيل، ويؤسس عند مدخل الخزان قصر لابيرنته العجيب.
نجاح وفشل
لنسرح الطرْف الآن في بعض البلاد أيام الدولة الوسطى، ها هو ذا أحد الأمراء الإقطاعيين يشتغل بنحت قبره في جانب الجبل. انظر! أليس قبره هذا رشيقًا؟ وكم ينفق الصناع من حذق ومهارة في تجميله وزخرفته؟! وها هو ذا قصر أمير آخر على ضفاف النيل. انظر إلى الحدائق الغنَّاء وإلى طيور الماء تأوي إليه هادئةً. تعال معي نتتبع إحدى بعثات التجار التي كان يبعثها أمراء الإقطاع في ذلك الوقت السحيق، انظر! ها هي جمهرة كبيرة من السفن. إنها تبرح مياه الأمير. إنَّ الملاحين ينشدون ويغنون، والمراكب تسير بهم إلى الجنوب. انظر! ها هم قد وصلوا إلى جنادل أسوان. إنهم يخترقون القناة التي حفرها «اسرتسن الثالث» في حجر الجرانيت ليتجنبوا الجنادل. ها هم يتوغلون في أواسط السودان. إنهم يبتاعون للأمير من بلاد النوبة وبلاد بنت — السومال وعدن — ريش النعام، وسن الفيل، والعطور والطيوب. ها هم يعودون وقد وصفوا رحلاتهم في قصص طويلة مسلية. هل ترى كيف يقرؤها الناس بشوق ويدرسها الطلبة في المدارس؟!
إنَّ أمثال هذه الرحلات البرية والبحرية التي كانت تتوغل في الجنوب حتى تصل إلى المحيط الهندي — آخر حد للدنيا! — وتتوغل في الشمال حتى تدرك بلاد فلسطين، وفينيقيا، ولبنان، وجزائر اليونان، واليونان نفسها، والتي كان يدون أخبارها ويصفها الربابين ومن معهم من الأدباء؛ هي أساس الأدب المصري القديم، الذي كان يتميز به عصر الإقطاع، كما كان يتميز عصر الدولة القديمة بالأبنية الضخمة كالأهرام. لقد وُضِعت في ذلك العهد جملة صالحة من الأناشيد والأشعار، كما أُلِّفت أول رواية تمثيلية في العالم؛ وهي «درامة أوزوريس» أول إله سكن مصر، التي صورت فيها حياة «أوزوريس» ومماته ودفْنه وبعْثه، والتي كانت تُمَثل كل عام، فيشترك في تمثيلها عدد عظيم من الناس. كذلك تقدم علم الطب والعلاج، ولا تزال بعض الأدوية والمعالجات التي كان يصفها الأطباء المصريون قديمًا لمرضاهم في تذاكرهم الطبية — الروشتات — كزيت الخروع والحجامة والكيِّ؛ تستعمل إلى وقتنا هذا. وتقدمت في هذا العهد أيضًا العلوم الرياضية والفلكية؛ فأُلِّفت كتب في الحساب على النظام العشري، الذي لا يزال مستعملًا إلى الآن، كما وُضِعت مبادئ الهندسة والجبر، واخْتُرِعت آلات بسيطة لرصد الأجرام السماوية.
وترقت الإدارة الحكومية، فكان يُعْمَل كل بضع سنين إحصاء يعتمد عليه في جباية الضرائب، كما أنشأ «امنمحعت الثالث» مقياسًا للنيل عن حصن سمنة — الشلال الثاني — لينبئ بحالة الفيضان؛ لكي تتناسب الضرائب مع مقدار الفيضان. ولقد أُقِيمت في هذا العصر السدود والخزانات؛ فأخصب خزان بحيرة «موريس»، الذي أنشأه امنمحعت الثالث، ما يقرب من ٢٧ ألف فدان من إقليم الفيوم وحده، فكانت الحكومة منذ ٤٠٠٠ سنة تفكر فيما يشغل بال الحكومات في وقتنا هذا.
وكان لمصر أسطول ضخم وصل إلى جزائر اليونان، واستولى على كريد وغيرها من الجزائر، وكانت السفن المصرية تأتي من بحر إيجه، فتدخل أحد فروع النيل، ثم تسير إلى أنْ تصل إلى قناة «سيزوستريس»، إلى البحر الأحمر، إلى بلاد بنت، إلى المحيط الهندي الذي كان يعتبره المصريون آخر حد للدنيا.
ولم يهمل المصريون الصناعة في هذا العصر؛ فحذقوا صياغة الحلي الدقيقة، ونظرةٌ واحدة إلى قاعة الذهب في المتحف المصري تترك الإنسان حائرًا من جمال ما يرَى، أما مباني هذا العصر فكانت تمتاز بالدقة والتناسق، وحسن الذوق، والجمال والرشاقة، على عكس مباني الدولة القديمة التي كانت تمتاز بالضخامة والعظم.
تلك كانت الحال أيام الأسرة الثانية عشرة؛ نجاح على طول الطريق، فإذا كنا في أيام الأسرة الثالثة عشرة — ذلك الرقم المشئوم — إذا بذلك النظام الهائل ينقضُّ، وإذا بنجاح عهد الإقطاع يتبدل فشلًا، وإذا بالأمراء وحكام المقاطعات يستقلون ويغيرون على مقاطعات جيرانهم، يبتغون الوصول إلى مصر بأسرها، ولم تكن مصر بدون أعداء في ذلك الوقت؛ فلقد كانت تتكون في الشمال الشرقي من حدودها إذ ذاك دولةٌ جديدة، وكانت حالة مصر التعسة تشجع أي دولة على غزو البلاد؛ الأمر الذي تم بكل أسف في أواخر الأسرة ١٣ المشئومة؛ إذ بدأ الهكسوس الآسيويون يغيرون على مصر.
ولسنا نعلم عن الهكسوس أو الملوك الرعاة أكثر من أنهم شعب سامي الأصل، شجعتهم انقسامات مصر على الدخول، فهبطوا الوادي المقدس عن طريق برزخ السويس، واستطاعوا أنْ يجتاحوا الوجه البحري وبعض أقاليم الوجه القبلي بدون عناء كبير، وساعدهم على التمكن من مصر بعض الزعانف من أمراء المصريين، الذين يعبدون السلطة حيثما ظهرت، وكان حكم هؤلاء الأجانب أشد ما يكون بغضًا إلى المصريين؛ لا لأنهم عاملوا المصريين بقسوة وفظاظة، ولا لأنهم حطموا الهياكل والمعابد فحسب؛ بل لأن عهدهم كان في مصر أول حكم أجنبي عليها.
غير أنَّ الهكسوس ابتلعتهم المدنية المصرية، فلم يلبثوا بعد أنْ كانوا همجًا، حتى تمصروا واندمجوا في المصريين، وقلدوا أنماطهم وعبدوا آلهة مصر، ولكن على الرغم من ذلك لم يغفر لهم المصريون جرم فتحهم لبلادهم، فكانوا يلقبونهم بالهمج والرعاة والكفرة احتقارًا لهم وحطًّا من شأنهم.
وقر الهكسوس في مصر أيام الأسرات ١٤، ١٥، ١٦، ١٧ زمنًا اختلف المؤرخون في تقديره من قرنين إلى خمسة قرون، كانوا يحكمون مصر، إما مباشرة من عاصمتهم أفاريس — في برزخ السويس — أو بواسطة ولاة أو ملوك من المصريين يحكمون باسم الهكسوس.
وغيَّر الهكسوس أساليبهم العتيقة في حكم البلاد، ولكن ذلك لم يغير من قلوب المصريين نحوهم.
وقرب آخر أيامهم استطاعت عدة ولايات في الوجه القبلي أنْ تنفصل عن الهكسوس، وكانت أهم هذه الولايات طيبة، التي بدأ أمراؤها أو ملوكها يشقون عصا الطاعة على الهكسوس ويجابهونهم بالعداء، وما زالوا في حروب مستمرة معهم حتى تم طردهم على يد «أحمس» مؤسس الأسرة ١٨.
حرب الاستقلال
لم يبدأ هذه الحرب «أحمس»، بل بدأها ثلاثة؛ هم: «سكنن رع الأول» ملك طيبة، و«سكنن رع الثاني»، و«سكنن رع الثالث».
ونجح «كاموز» بن «سكنن رع» في طرد الهكسوس من الوجه القبلي حتى مدينة منف، تاركًا لأخيه «أحمس» مهمة إجلاء الهكسوس عن مصر تمامًا.
لقد كانت مهمة «أحمس» من أشق المهام، لقد كان فرضًا عليه أنْ يطوي الأمراء تحت جناحيه. لقد رأى من حسن السياسة أنْ يضمن الحالة في الجنوب في حرب قد تستبقيه أعوامًا طوالًا في الشمال، فتزوج من ابنة ملك إتيوبيا الذي أمده بجيش من جنوده الأشداء. لم يكد «أحمس» يبدأ بالزحف إلى الشمال، حتى كانت جماهير المتطوعين من المصريين تتدفق إلى جيشه؛ لتخلص البلاد من الأعداء. لقد اضطر «أحمس» إلى إرجاع الجنود الإتيوبيين؛ حتى لا يشارك المصريين أحدٌ في فخر استرجاع الاستقلال. ها هو ذا الجيش يسير إلى الشمال، ولواء البر معقود «لأحمس بنحب»، ولواء الأسطول معقود «لأحمس بن أبانا»، والقيادة العامة للجيش، والأسطول لجلالة الملك «أحمس». سار الأحاميس الثلاثة حتى وصلوا عاصمة المغتصبين — وكانت تحوطها قناة متصلة بأحد فروع النيل — وحاصروا مدينة «أفاريس» يعضدهم الرأي العام المصري، ولم يفت في عضدهم خيانة الخائنين، ودعاة الهزيمة الذين اضْطَروا «أحمس» لفك الحصار والعودة إلى الجنوب؛ لإخماد تلك الثورات عدة مرات.
وأخيرًا أسقط في يد الهكسوس، ووقعت «أفاريس» في يد المصريين الذين عمدوا إليها، فدكوها دكًّا، واقتلعوا الأحجار من أساسها؛ حتى لا يبقى شيء يذكرهم بذلك العصر المنحوس، وولى الهكسوس الأدبار، لا ليعودوا من حيث أتوا؛ ولكن ليتحصنوا في عدة حصون، كانوا قد أقاموها على الطريق الشرقي، وكان الهكسوس يستبسلون في الدفاع عن هذه الحصون، وكان «أحمس» يقتلعهم اقتلاعًا من الحصن بعد الحصن، حتى يتم جلاؤهم عن الحدود، وغابوا عن نظر أحمس، فتحقق وتم الاستقلال.
ولم يقنع «أحمس» — محرر مصر — بهذا، بل توغل وراء الهكسوس في فلسطين وسوريا، وهناك رأت عيون المصريين بلادًا غير بلادهم، وتفتحت لغير ما عهدوه في مصر، فدفعهم النجاح في طرد الهكسوس إلى محاربة هذه البلاد وضمها إلى مصر، ففتح «أحمس» بلاد فلسطين، ووضع بذلك الحجر الأول في بناء الإمبراطورية المصرية الشامخ، الذي أتمه أخلافه ملوك الأسرة ١٨.