تمهيد
أولًا: حياة ليبنتز
وإذا كان قد شاع بين الناس أن التأمُّل الفَلسفي يَجني بالضرورة على حظِّ الإنسان من النجاح في الحياة العمَلية، فإن ليبنتز يعدُّ دليلًا حيًّا على خطأ هذا الظن، وليس معنى هذا أن حياته خلَت من الهموم والآلام، أو نجَت من الوقيعة والدس. فقد لقيَ في أواخر حياته ما لقيَ من الجُحود والنُّكران، ومات وحيدًا كالمونادة الوحيدة، ولكنه نال على كل حالٍ ما لم ينلْه غيره من المكانة والحظوة في أوساط العلم والسياسة والبلاط. ثم ظلَّ بعد موته منسيًّا أو شبه منسي، حتى قُدِّر لأغلب إنتاجِه أن يُنشَر، وسطع مجدُه منذ أوائل هذا القرن، وعكف الباحثون على درسه، وإلقاء الأضواء على شخصيتِه الموسوعية الرائدة.
وجذبته طبيعتُه المتطلِّعة لكل جديدٍ وغريب إلى مدينة نورمبرج، فقضى فيها فترة قصيرة أشبع فيها شوقه إلى معرفة أسرار إحدى الجمعيات الرُّوحية التي كانت تُسمِّي نفسها جمعية «أصحاب الصليب الوردي»، وتمارس طقوسًا خفية لاستجلاء أسرار الدين والطبيعة والمعادن والعثور على حجر الفلاسفة!
وتعرف ليبنتز بعد ذلك بقليل — أو ربما أثناء إقامته القصيرة في نورمبرج — على البارون يوهان كرستيان بوينبرج المُستشار السابق لأمير «ماينس» وأسقفها يوهان فيليب فون شونبرج. وفطن المُستشار إلى مواهب المحامي الشاب، وسعى له في العمل لدى الأمير، كما ساعده على الإلمام بمشكلات السياسة الأوروبية. وقد كانت المشكلة الكبرى التي تشغل عقول السياسيِّين وترجف قلوبهم في ذلك الحين هي حماية الإمبراطورية الجرمانية المُمزقة من مطامع فرنسا وقوتها المتزايدة. وسافر ليبنتز في شهر مارس سنة ١٦٧٢م في مهمة دبلوماسية إلى باريس، وفي جعبته مشروع مفصل لغزو مصر، يكشف عن علم غزير بأحوال مصر وثرواتها في ذلك الحين. وحاول أن يُغريَ «الملك الشمس» (لويس الرابع عشر) على محاربة الإمبراطورية العثمانية لتحويل نظره عن أطماعه في الحدود الغربية المشتركة بين البلدَين. غير أن الملك الشمس لم يأبه بهذا المشروع، ولعله لم يسمع به على الإطلاق. وأفهم وزراؤُه المَبعوثَ أن زمن الحروب المقدسة قد فات؛ فأخفقت المهمة الدبلوماسية إخفاقًا ذريعًا. (ويشاء القدر أن يكتشف نابليون هذا المشروع العجيب أثناء احتلاله لمدينة هانوفر بعد ذلك بأكثر من قرنٍ كامل!) غير أن إقامته في باريس عوضته عن هذا الفشل السياسي؛ إذ أتاحت له فرصة الالتقاء بعددٍ كبيرٍ من رجال الدين والفلسفة والعلم الرياضي والطبيعي نذكر منهم على الترتيب: أنطوان آرنو، ومالبرانش، وكرستيان هيجنز، وآدم ماريوت، بل لقد أسعده الحظ بمُشاهَدة موليير في إحدى مسرحياته، ولا بد أنه شعر أثناء وجوده في باريس كأنه يعيش في بيته وبين أهله، فانطلق لسانه باللغة الفرنسية التي لم يَلبث أن أتقنها، وساعده هذا على كتابة أهم أعماله بهذه اللغة التي كانت، إلى جانب اللاتينية، لغة العلم والعلماء.
وسافر ليبنتز في شهر يناير سنة ١٦٧٣م في بعثةٍ أرسلها أمير ماينس إلى لندن، وكانت إذ ذاك مركزًا هامًّا للبحوث الرياضية والعلمية. وقد اغتنم فرصة إقامته في العاصمة الإنجليزية، فكتب رسالة إلى هوبز الذي كان مُعجبًا بفلسفته الطبيعية، ولكنه لم يَتلقَّ ردًّا عليها، فاتصل بأعضاء الجمعية الملَكية، وتوثَّقَت أواصرُ المودَّة الرُّوحية والعِلمية بينه وبين العالم الكيماوي الشهير روبرت بويل، غير أن إقامته في لندن لم تَدُم طويلًا، فلم يَلبث أن غادَرَها في شهر مارس من نفس السنة عائدًا إلى باريس على أثر الأنباء التي بلغتْه عن وفاة أمير ماينس. وأذن له الأمير الجديد في الاحتفاظ بلقبِ مُستَشارِه القانوني، ولكنه حرَمَه راتبَه وجرَّده من بعثته الدبلوماسية! ومع ذلك فقد تمكَّن من مد فترة إقامته في باريس ثلاث سنواتٍ أخرى، قضاها مُتفرغًا للدراسات العلمية، عاكفًا على البحث والاطِّلاع، وتبادل الأفكار مع العلماء في عاصمة النور، وكسب عيشه من الاستِشارات القانونية (إذ كان خبيرًا في شئون الطلاق!) والإشراف على تربية ابن بوينبرج المُستشار السابق الذكر.
كانت أهم كتاباته وبحوثه في تلك الفترة في الرياضة «فتَعرف إلى أعمال باسكال وطور الآلة الحاسبة»، وفتح له هيجنز باب الدراسات الرياضية العالية التي سرعان ما تفوَّق فيها على أستاذه! وكان أعظم ما أدَّت إليه هو اكتشافه لحساب اللامُتناهي في الصغر (التفاضُل) الذي أتمَّه سنة ١٦٧٦م، وكان نيوتن قد سبَقَه إليه سنة ١٦٦٥م دون أن يعلم. وقد بيَّن البحث بعد ذلك أنهما توصَّلا إليه بطرقٍ مختلفة، وفي استقلالٍ تامٍّ عن بعضهما البعض، وإن كان هذا لم يَمنع من نشوب خلافات مؤسِفة حول أسبقية أحدهما الآخر.
مهما يكن من شيء، فقد ماتَ إسبينوزا بعد ذلك بشهورٍ قليلة. وكتب ليبنتز رسالة إلى القس جالوا يقول فيها هذه العبارة العجيبة: «مات إسبينوزا في هذا الشتاء، إن له ميتافيزيقا غريبة، مليئة بالمتناقِضات …»
وصَل ليبنتز إلى هانوفر في شهر ديسمبر سنة ١٦٧٦م. وقبل وظيفة مُستشار في بلاط الدوق يوهان فريدريش وأمين مكتبته. وأظهر الدوق عطفه الشديد على ليبنتز وتفهُّمه لمشروعاته السياسية والدينية ومنجزاته العِلمية، وبقيت العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى العلاقة بين الأصدقاء، حتى مات الدُّوق في سنة ١٦٧٩م، فأحسَّ ليبنتز بخسارته الفادحة، التي زاد من وقعها على نفسه أن خلفاءَه لم يفهموه أو يُقدِّروه. فقد خلف الدوق شقيقه أرنست أوجست، ثم جاء بعده ابنه جورج لودفيج، ولم يكن لهما نصيبٌ من ذكاء العقل أو رقة القلب، ومع ذلك فقد شاءت العناية الإلهية أن تُعزِّي الفيلسوف الوحيد عن خسارته بالقرب من سيدة مثقَّفة نبيلة لم تبخَل عليه هي ولا ابنتها بمودَّتها ورعايتها.
وكانت هذه السيدة هي الدُّوقة صوفي، زوجة الدوق أرنست أوجست، وأما ابنتها فهيَ صوفي شارلوت التي صارت بعد ذلك ملكة بروسيا، واتصلت الصداقة العقلية الخالصة بينهما، فألهمته الكثير من أفكاره الأصيلة، ومدَّت إلى قلبه الوجيد أشعَّة دافئة أوحت إليه ببعض مؤلفاته الفلسفية!
قضى ليبنتز في بلاط هانوفر أربعين سنة حافلة بالنشاط السياسي والدبلوماسي، الذي أتاح له فرصة السفر في رحلاتٍ طويلة. وقد ساقته هذه الرحلات بين سنتَي ١٦٨٧–١٦٩٠م إلى نابولي عن طريق فيينا وروما، والتقى في فيينا بالإمبراطور ليويولد الأول، وتناقَشَ في روما مع رجال العلم والكنيسة، كما تحاوَر مع بعض اللاهوتيِّين الجزويت عن بعثتهم إلى الصين، وعن عظمة الحضارة الصينية، وعرضت عليه وظيفة أمين مكتبة الفاتيكان. وكان من المُمكِن أن يُساعده هذا العرض المُغري على الوصول لمنصب الكاردينال، لولا أنه رفض أن يتحوَّل إلى المذهب الكاثوليكي.
كان ليبنتز من هُواة كتابة الرسائل، وتضم قائمة مراسلاته أكثر من ستمائة اسم! وقد ضمَّنها عددًا كبيرًا من آرائه في السياسة والدين والفلسفة، وبث فيها كثيرًا من هموم العالم الوحيد الذي يستضيء الناس بنور عقله، ويضنُّون عليه بشعاعٍ يُدفئ قلبه. ولعلَّها كانت أنسب وسيلة للتعبير عن أفكاره العميقة وخواطره ولمحاته الأصيلة التي حرَمه التشتُّت والترحال فرصة تقييد طيورها الشاردة في قفص الكتب المنهجية المنسقة! ولم يَتسنَّ بعدُ للباحثين أن ينشُروا كل هذه الرسائل المبعثرة المكتوبة بخطٍّ رديء تصعب قراءته! ولا شك أنها جزء لا يَتجزَّأ من حياته وشخصيته ونشاطه العقلي المتدفِّق.
مات ليبنتز في هانوفر في الرابع عشر من نوفمبر سنة ١٧١٦م بعد أن بلَغ السبعين. مرض قبل موته بالنقرس، وامتلأت نفسُه مرارة من جحود الأصدقاء والمعارف والزملاء، وبقيت معظم أعماله الفلسفية والعلمية شذرات ناقصة، وأخفقَت أغلب مشروعاته السياسية والدينية. وكان أمير هانوفر — الذي اعتلى عرشَ إنجلترا قبل وفاة ليبنتز بسنتَين وسمَّى نفسه جورج الأول — قد تخلَّى قبل ذلك عنه. وكانت صديقتاه وراعيتاه النبيلتان — الأميرة صُوفي أم هذا الملك وشقيقتُه الملكة صوفي شارلوته — قد اختفَتا من مسرح حياته التي لم تَعُد تَحتمِل بُعدهما، وفكر في أيامه الأخيرة أن يُغادِر هانوفر، ولكن صحَّته كانت قد تحطَّمت. وعندما مات لم يَمشِ في جنازته أحد من رجال الدين الذين اتهموه قبل ذلك بمقاطعة الكنيسة، ولقَّبوه «المؤمن بلا شيء»، ولا من رجال البلاط الذي وهبه أربعين سنة من عمره. وتجاهلَتِ الجمعية الملَكية البريطانية نبأ وفاته، وأهملته أكاديمية برلين التي أسسها، وكان أول رئيسٍ لها. لم يُشيِّعه إلى قبره سوى تابعه وسكرتيره الأمين اكهارت. وسار نعشه، كما قال أحد شهود العيان كأنه نعشُ لصٍّ أو قاطع طريق، وكأنه لم يكن زينة بلده. ولولا الخُطبة البليغة التي نعاه بها فونتينيل — ابن أخ الشاعر المسرحي كورني — بعد موته بسنةٍ كاملة أمام أكاديمية العلوم في باريس لأصابنا اليأس المُطبق من قسوة الإنسان.
ولكن أعماله بقيَت على الرغم من سوء الحظ الذي صادفه في أواخر حياته. وستضمَن له المَجد والخلود، إن كان في هذا العالم الشَّقي المظلم الذي أسرف في حُسنِ الظن به شيءٌ اسمه الخلود!
ثانيًا: فلسفة ليبنتز
(أ) العالم كلٌّ مُتجانس
ترجع فكرة «الجوهر» إلى أرسطو الذي نَدين له بعددٍ ضخمٍ من أفكارنا ومُصطلحاتنا الفلسفية والجوهر عنده هو الماهية التي يقوم عليها وجود كائن فردي مُعيَّن، هذه الماهية تظلُّ ثابتة وإن تغيرت كل الخصائص الخارجية التي تُميِّز هذا الكائن من حجمٍ وكيفياتٍ وعلاقات … إلخ. وقد دارت مُناقشات عديدة حول فكرة الجوهر الأرسطية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ووقف منها الفلاسفة بين مؤيدٍ ومعارض. أصرَّ التجريبيُّون على رفضها، وحاولوا أن يُلغوها من الفلسفة إلغاء (فهيوم مثلًا يقول إنها وهم، وأن الجوهر ليس إلا مجموع صفاته). ودافع عنها المدرسيُّون؛ لأنها كانت تُمثِّل نقطة أساسية في مذهبهم الفلسفي، وعارضها العقليون مثل ديكارت وإسبينوزا، ولكنهم تمثَّلوها في صورةٍ أخرى معدلة (فبينما يقول ديكارت بجوهرين مخلوقين هما الفكر والامتداد، إلى جانب الجوهر المطلق أو الله، يقول إسبينوزا بجوهرٍ واحد لا متناهٍ يُمكِن أن نُسمِّيَه الله أو الطبيعة).
وقد احتفظ ليبنتز بفكرة الجوهر، بل جعل منها محور فلسفته، وجمع فيها بين عناصر قديمة من التراث الفلسفي إلى جانب أفكاره الخاصة؛ بحيث انتهى بها إلى تصورٍ أصيلٍ وجديد، واختار لها كذلك اصطلاحًا جديدًا هو «المونادة» لم يستخدمه إلا منذ سنة ١٦٩٧م.
ويبدأ ليبنتز بالأجسام الطبيعية، فهذه الأجسام تقبل القسمة، وهي لهذا مركبة، أو هي على حدِّ تعبيره الذي لم يُوفَّق فيه «جواهر مركبة». ولما كانت هناك جواهر مركبة، فلا بدَّ في رأيه أن تكون هناك جواهر بسيطة، هذه الجواهر البسيطة هي التي يُسمِّيها المونادات، وهي «الذرات الحقيقية التي تتكوَّن منها الطبيعة».
ولكن وصْف المونادات بأنها ذرات لا يخلو من إساءة الفهم؛ لأنها شيء مُختلِف عما نعرفه اليوم عن الذرات؛ ذلك أن ليبنتز لا يقصد منها أن تكون هي العناصر الطبيعية النهائية التي تنحلُّ إليها المادة؛ ومن ثم فليست هي الذرات ولا الجسيمات أو الجزئيات الأولية التي تتكوَّن منها الذرة، بل إنه لن يتردَّد في وصف الذرات والجزئيات التي تتكلَّم عنها الفيزياء الحديثة بأنها «جواهر مركبة»؛ لأن كل الأجسام في نظره تقبل القسمة مهما كانت صغيرة، وعملية القسمة هذه يُمكِن أن تمضي إلى ما لا نهاية. ولن تؤدِّي مناهج الفيزياء الحديثة إلى اكتشاف المونادة التي يتصورها؛ لأن المونادة لا يمكن تصورها إلا عن طريق الفكر، ولهذا فهي كما يدلُّ اسمها بسيطة، ومعنى هذا في رأيه أنها لا تقبل القسمة، وليست مادية ولا شكل لها، وهي كذلك لا تتكون ولا تفنى، ومثل هذا الجوهر لا يُمكن أن يكون موضوعًا من موضوعات العلم الطبيعي الحديث.
وإذا كانت مناهج العلم عاجزة عن الوصول إلى فكرة المونادة، فهل يُمكن أن تُطبق عليها مناهج الرياضة؟ يحتمل أن تكون بحوث ليبنتز عن الكميات المتناهية في الصغر داخل حساب اللامُتناهي الذي اكتشفه قد أثَّرت على آرائه الميتافيزيقية، ولكن لا ينبغي أن نُبالغ في تقدير هذا الأثر، فالحقيقة أن المونادات ليست كميات مُتناهية في الصغر، بل ليست كميات على الإطلاق. وفكرة المونادة ليست فكرة رياضية؛ لأن ليبنتز يعترض صراحةً على وصف المونادات بأنها نقط رياضية. لقد درَس الفلسفة الفيثاغورية بغير شك، ولكنه لم يَذهب إلى ما ذهب إليه فيثاغورس وأتباعه من تفسير ماهية الواقع تفسيرًا رياضيًّا؛ فالحقائق الرياضية في رأيه تفتقر إلى كل الخصائص الدينامية. إنها أفكار وليسَت قوًى أو طاقات. والمونادات في حقيقتها مراكز حية للقوة أو الطاقة. وقد عبَّر عن هذه الفكرة الأساسية في تعريفه المشهور للجوهر، وهو الذي نُطالعه في أول عبارةٍ استهل بها كتابه مبادئ الطبيعة والفضل الإلهي: «إنَّ الجوهر كائن قادر على الفعل.»
المونادات إذن مبادئ دينامية تدخل في الأجسام الواقعية (أو التجريبية) كما تَنتج عنها هذه الأجسام. ويَعتقد ليبنتز أن فكرة المونادة تُقدِّم لنا المفتاح الذي نُفسِّر به وضع النباتات والحيوانات والكائنات البشرية ومكانها من العالم الجِسمي في مجموعه؛ ففي كل كائن حي فرد تُوجد مونادة رئيسية تتحكَّم في سائر المونادات التي يتألَّف منها. ويطلق ليبنتز على هذه المونادة الرئيسية اسمًا استعارَهُ من المصطلح الأرسطي وهو «الأنتليخيا». فالمونادات «أنتليخيات»، ولكلِّ نبات «أنتليخياه». والأنتيليخيا الموجودة في الحيوان تُسمَّى «النفس»، والتي توجد في الإنسان تُدعى «العقل».
وواضحٌ أن فلسفة ليبنتز عن المونادات تحتفظ بالفكرة القديمة عن تسلسُل الكون، أو تدرُّجه إلى طبقاتٍ يَرتفِع بعضها فوق بعض، فمونادات الأجسام تحتلُّ أدنى طبقة، تعلوها المونادات التي تتحكَّم في النباتات، ثم تأتي مونادات الحيوانات التي تَرتفِع فوقها، إلى أن نَبلغ المونادات التي تتحكَّم في الكائنات البشرية، وتتجاوَز سائر الطبقات. ثم نجد أرواحًا أسمى من الأرواح البشرية تتوسَّط بين الإنسان والله، وأخيرًا نجد المونادة المركزية «المُطلَقة» الكاملة التي تعلو فوق سلسلة المونادات الفانية؛ ألا وهي الله.
ولكن هذه المستويات المتعدِّدة ليست مناطق مختلفة معزولة؛ لأن العالم لا يتكون من أجزاءٍ مُنفصِلة، وإنما يتَّصل فيه كل شيء بكل شيء، وهذا الاتصال يقوم على أن كل ما هو موجود إنما هو مونادة أو كائن فرد مُستقِل. والواقع كله له طابع الأنتيليخيا أو صفة الروح. وفكرة الاتصال والترابط بين كل الموجودات تهدم كل محاولة يُراد بها تفتيت الواقع إلى عناصر متنافِرة. وتاريخ الفكر البشري مليء بمثل هذه المحاوَلات. ولا شك أن الهوة السحيقة التي حفرها ديكارت بين «الجوهر المفكِّر» و«الجوهر الممتد» كانت بمثابة إنذار خطير لم يستطع ليبنتز أن يتجاهَلَه، ولكن لا شك أيضًا أن ليبنتز عندما أكد الترابط بين جميع الموجودات قد عرَّض نفسه ومذهبه لخطرٍ آخر؛ ألا وهو إغفال الحدود الفاصِلة بين مناطق الوجود المتميِّزة أو طمسها، وهذه نتيجة تَنتهي إليها كل الفلسفات الواحدية التي تعجز عن تفسير الواقع المتنوِّع؛ نظرًا لأنها تقع فريسة لإغراء الوحدة التي تنطوي عليها.
وتعبر فلسفة ليبنتز عن فكرة الاتصال المستمر بين جميع الموجودات عن طريق تطبيق فكرة المونادة اللامادية على كل شيء، ولكن الإنصاف يقتضينا القول بأنه يطبق هذه الفكرة بصورةٍ لا تخلو من العمق والأصالة؛ فهو يقول في الفقرة ٥٦ من المونادولوجيا: «هذا الترابط أو هذا التلاؤم بين جميع المخلوقات وبين كل منها على حدة، ثم بيَّن كل واحدٍ منها، والجميع يترتب عليه أن يحتوي كل جوهرٍ بسيطٍ على علاقاتٍ تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى، وأن يكون تبعًا لذلك مرآة حية دائمة للعالم» (المونادولوجيا ٥٦). ولكن بينما تعكس المرآة جزءًا معينًا من الواقع فحسب، فإن كل مونادة فردية تعكس الواقع في مجموعه.
فكرة ساحرة بغير شك، ولكنها تُحير القارئ، وتدفعه إلى السؤال عن طبيعة ذلك الانعكاس. ولا بدَّ أن نتذكر ما قلناه من أن المونادات غير مادية؛ أي إنها شيء عقلي أو فكري خالص، وهذا يُفسر لنا أن ما هو في الخارج، يمكن أن يتمثل داخل المونادة، وهذا هو الذي جعل ليبنتز يصف هذه التمثلات بأنها «إدراكات». وليس من الضروري أن تشعر المونادة الفردية بهذه الإدراكات. فالمونادات العليا — كنفوس الحيوانات والعقل الإنساني بوجهٍ خاص — هي التي تَشعُر بها شعورًا واعيًا، بل إن هذه المونادات العليا لا تشعر إلا بجزءٍ من هذه الإدراكات.
وهكذا يُوفِّق ليبنتز بين المبدأ الأساسي الذي يقول إن كل مونادة مرآة تَعكِس الكون بأكمله، وبين التجربة المباشرة التي تقول بأن عقلنا لا يَعي سوى جزء بسيط من العالم. وتصورات المونادات أو إدراكاتها ليست صورًا دائمة باقية، وإنما هي جزء من عملية دينامية يتمُّ فيها الانتقال بصفةٍ مُستمرةٍ من إدراكٍ إلى إدراكٍ آخر. والفعل الذي يُسبِّب هذا الانتقال المستمر هو «النزوع»، وبهذا يكون الإدراك والنزوع مظهرين للحياة التي تتميز بها المونادة.
•••
وتفكير ليبنتز يميل إلى التأليف والتركيب والتوفيق بين الآراء والمذاهب والأفكار المُتعارضة، ولكن يبدو أنه لا ينجح دائمًا في ذلك، فهو إذا كان يقول بترابط جميع المونادات واتصالها ببعضها البعض، فهو يقول من ناحيةٍ أخرى إن كل مونادة على حدة ذات كيانٍ فرديٍّ مُستقلٍّ بنفسه تمام الاستقلال. وقد قيل بحق إن ليبنتز هو أعظم من قال بفكرة التفرُّد، صحيح أنه لم يكن أول القائلين بها؛ إذ إن المشكلة موجودة في الفكر الغربي منذ عهد أفلاطون، ولكن الحق أنه حاول أن يجيب عليها إجابة جديدة وأصيلة، فهو يرى أن مبدأ التفرد موجود في مبدأ الترابط بين جميع المونادات، أو بالأحرى في نفس الحقيقة التي يقوم عليها هذا المبدأ الأخير؛ أي في انعكاس الكون كله عن طريق الإدراك، فكل مونادة تتميز عن الأخرى حسب درجة إدراكها، ومدى هذا الإدراك من الوضوح والتميز، أو الغموض والاختلاط. وثمة تدرج مُستمر يبدأ من الإدراكات المظلمة الغامضة التي لا يصاحبها الشعور، إلى الإدراكات الواضحة المتميزة التي يتمثلها العقل الإنساني. ولا تتفاوت الإدراكات من حيث الدرجة فحسب، بل إن لكل مونادة منظورًا خاصًّا تعكس العالم كله من خلاله. «وكما أن مدينة واحدة بعينها، إذا تأملها المرء من جوانب مختلفة، تبدو في كل مرة على صورةٍ مختلفةٍ تمام الاختلاف، وكأن لها منظورات متعدِّدة، كذلك توجد أيضًا — بسبب الكثرة اللانهائية للجواهر البسيطة — عوالم عديدة مختلفة ليست في الواقع إلا منظورات لعالمٍ واحدٍ وفقًا لوجهات النظر المختلفة لكل مونادة على حدة» (المونادولوجيا ٥٧). وهذه في الحقيقة فكرة بالغة الخصوبة. إنها توفِّق كما قلت بين المبدأين، وتنسق بين تفرد كل وجهة نظر للعالم وبين وحدة العالم المنظور إليه، هذا بالإضافة إلى أن تفرد كل مونادة على حدة يتسق مع الترابط المتصل بين المونادات؛ أي إن تفرد الفرد متصل بترابط الكل.
ويؤكد ليبنتز فكرة التفرد بفكرةٍ أخرى؛ فهو يرى أن المونادة ليست فريدة وحسب، وإنما هي كذلك منعزلة تمامًا عن سائر المونادات، ومحكوم عليها بالعزلة بحكم ماهيتها، وهو يذهب إلى استحالة التفاعُل المباشر بين المونادات الفردية، فليست هناك مونادة تُؤثِّر على الأخرى، والمونادة عندما تحصل على إدراكاتها، أو تنتقل من إدراكٍ إلى آخر، إنما تفعل هذا من داخلها فحسب. وقد وضح هذه الفكرة بقوله المشهور: «ليس للمونادات نوافذُ يُمكِن من خلالها أن ينفذ إليها شيء أو يخرج منها» (المونادولوجيا ٧).
وإذن فكل مونادة تَعتمد على نفسها في تكوين الصورة التي لديها عن العالم، ولكن كيف نعرف أن هذه الصورة تتَّفق مع واقع العالم؟ وإذا تغير العالم فكيف نعرف أن صورته قد تغيرت كذلك بما يتفق معه؟ وكيف نبين أن كل مونادة في العالم متعلقة بكل المونادات، وأن كل تغير يلحق بإحدى المونادات ينعكس في كل مونادة أخرى على نحوٍ واضحٍ أو غامض؟
يلجأ ليبنتز إلى فكرة الله للإجابة على هذه الأسئلة العسيرة. لقد خلق الله جميع المونادات المتناهية أو الفانية، وقد خلقها بحيث لو تمَّت إدراكاتها وفقًا للقوانين الداخلية الكامنة فيها، لعكست هذه الإدراكات إدراكات المونادات الأخرى، ومن ثم العالم كله، وهذا هو ما عبر عنه بمبدئِه المشهور عن «التناسق المقدر» أو «التجانس المدبَّر». فقد حرص الله عند خلق المونادات على تحقيق التجانس بينها جميعًا.
وقد استعار ليبنتز تشبيهًا طريفًا سبقه إليه غيره عندما صوَّر الله في صورة صانع الساعات الذي أنشأ عدة ساعات تدور في وقتٍ واحدٍ بغير أن تؤثر إحداها على الأخرى.
كيف اهتدى ليبنتز إلى هذه الفكرة العجيبة؟ لا بد أن نبحث عن جذورها في مذهبه نفسه، وسنجدها في فكرته عن المونادة كما نجدها في فكرته عن العلِّية. إن المونادة بسيطة، ومعنى هذا أنها غير مادية. والعلية عند ليبنتز علية آلية لا يُمكن أن توجد إلا في عالم من الأجسام، ويترتَّب على هذا في نظره استحالة تصور علاقة عِلِّية بين جواهر لا مادية.
وهذه الفكرة شأنها شأن أفكار كثيرة غيرها توضح أن ليبنتز هو ابن عصره المخلص، الذي لم يستطع أن يتحرر من التصور العِلي الذي قيدته الآلية في أغلالها الثقيلة.
ولعل لليبنتز بعض العذر في هذا، فقد اهتم بالتفسير الآلي الذي كان من أهم الكشوف العلمية في عصره، وإن لم يُسلِّم به مع ذلك تسليمًا أعمى، فهو يقبل فكرة الآلية من ناحية، ولا يريد من ناحيةٍ أخرى أن يفرط في فكرة الغائية. ولهذا نجده يحاول التوفيق بينهما، كما حاول التوفيق بين كثيرٍ من الأفكار والآراء المتعارضة. إن كلا الرأيين يفسر أحداث العالم من وجهة نظرٍ مختلفة، فهذه الأحداث من وجهة النظر الغائية تخدم غرضًا معينًا، وهي تتمُّ من وجهة النظر الآلية؛ لأن الأجسام المادية التي تقوم عليها تحتك ببعضها على أساس القوانين الآلية التي لا تتغيَّر، وهو يحاول أن يوفق بين وجهتي النظر كما قلنا بغير أن يحدد لكل منهما مجالًا يختص به ولا يتعداه، فيسلم بالفكرة الآلية التي تذهب إلى أن كل العمليات الفيزيائية بما في ذلك العمليات البيولوجية، يمكن تفسيرها تفسيرًا آليًّا، ولكنه يحد من هذه الفكرة فيُبين أن جميع الأحداث الفيزيائية يمكن تفسيرها كذلك تفسيرًا غائيًّا.
وهو يوضح هذا عن طريق التمييز بين «مملكتين» مملكة الجواهر المركبة أي الأجسام، ومملكة الجواهر البسيطة أي المونادات. والعِلِّية الآلية تحكم مملكة الأجسام، أما مملكة المونادات فتحكمها الغائية، وهاتان المملكتان ليستا مستقلتين عن بعضهما البعض، ولا توجدان جنبًا إلى جنب، بل يكونان وحدة واحدة، وإحداهما هي الصورة التي تظهر بها الأخرى. وهكذا فإن فكرة اتساق العالم التي تحدثنا عنها في سياق الكلام عن «الاتساق المقدر» لا تتأثَّر عندما نتحدث عن عالمَين أو مملكتَين للعِلِّية والغائية، يعبر عن هذا قوله: «ومملكتا العِلَل الفاعلة والغائية متجانستان» (المونادولوجيا ٧٩).
هكذا تُوفِّق نظرية المونادات بين العلية والغائية. وهناك سبب فلسفي آخر جعله يتمسَّك بفكرة الغائية، وهو تأكيد أن قوانين الآلية تقوم في الحقيقة على قوانين الغائية وتَعتمِد عليها. وتفسير هذا أن القوانين الآلية بطبيعتها قوانين عرضية حادثة؛ أي يمكن أن تكون غير ما هي عليه في الواقع، إذ يُمكن من الناحية المنطقية البحتة أن نتصوَّر وجود عوالم أخرى تحكمها قوانين طبيعية أخرى مختلفة عن القوانين التي تحكم عالَمنا. أما أن هناك قوانين معينة تحكم عالَمنا، فلا يمكن أن نقره إلا إذا سلمنا بحرية المبدأ الذي يقوم عليه العالم؛ أي إلا إذا سلمنا بحرية الله التي تتَّجه إلى هدفٍ أو غاية، شأنها في هذا شأن كل حريةٍ أخرى.
ومن هذا كله نرى أن القوانين الآلية للحركة تشير إلى أساسٍ غائي تستند إليه، وأن فكرة الغائية فكرة أساسية في فلسفة ليبنتز الطبيعية وبغيرها لا يُمكن تصور هذه الفلسفة.
(ب) الإنسان مونادة عاقلة
العقل إذن هو المبدأ الأعلى لحياة الإنسان، وكثيرًا ما قارن الباحثون بين ليبنتز وأفلاطون حول هذه النقطة التي تتصل بالنفس العاقلة، ولكنهم نسوا في أغلب الأحيان أن فلسفة ليبنتز عن الإنسان فلسفة غير أفلاطونية بالمرة. فالمعروف أن أفلاطون يعد النفس مستقلة عن البدن الذي حلَّت فيه، وهي تقضي فيه زمنًا ينتهي بانتهاء الأجل، فتتحرر منه وتنفصل عنه. فالبدن هو سجن النفس، أو هو قبرها على حد تعبيره المشهور في محاورة فايدون (سوما سيما)، ولكن ليبنتز ينظر للعلاقة بين النفس والجسم نظرة مختلفة كل الاختلاف، فوجود العقل الإنساني في رأيه يعتمد بالضرورة على وجود الجسد، وهو إن وجد فلا بد أن يكون مونادة رئيسية متحكِّمة في مجموعة من المونادات الدنيا، أعني في جسدٍ عضوي، ويستحيل عليه أن يكون غير ذلك. ولهذا نجده يصف رأي أفلاطون في وجود منفصل للنفوس عن الأجساد بأنه «دعوى مدرسية» (المونادولوجيا ١٤)، وواضح أن نظرة ليبنتز هذه إلى العلاقة بين النفس والجسد — وهي تختلف كما رأينا كل الاختلاف عن نظرة أفلاطون — هي النتيجة الضرورية المترتِّبة على مذهبه الميتافيزيقي. فإذا كانت المادة عند أفلاطون شيئًا غريبًا على العقل، بل شيئًا معاديًا له، فإن المادة عند ليبنتز هي المظهر الذي تتجلَّى فيه المونادات اللامادية. ومعنى هذا أن المادة متعلِّقة بالعقل تعلقًا أساسيًّا، بل إنها لتُوشِك أن تكون ذات طبيعة عقلية، ومعناه أيضًا أن ليبنتز يشترك مع غيره من الثائرين على النظرة اليونانية التي تَنتقِص من شأن المادة، وتُقلِّل من قيمة الأشياء المادية. صحيح أن الصراع بين أنصار المادة وأنصار الرُّوح لم ينتهِ بعد، وأن الحرب بينهما لم تحسم حتى اليوم، ولا نظنُّ أنها ستُحسَم بشكلٍ نهائي؛ إذ يبدو أنه ليس من السهل أن نُعطيَ العالم المادي المحسوس حقه بغير أن نبالغ بغير حق في شأن الجانب الكمي من الواقع على حساب الجانب الكيفي. وهذا هو الذي حاوله ليبنتز فترك أثره على فلسفته الإنسانية. لقد فسَّر المادة من خلال المبادئ اللامادية الكامنة فيها، وأتاح له هذا التفسير أن يُصوِّر العلاقة بين النفس والجسم، أو بين العقل والمادة في صورة الحاكم والمحكوم لا في صورة السجَّان والمسجون!
كلنا يعرف حكاية البراهين التي ساقها أفلاطون لإثبات خلود النفس. لقد أجهد نفسه في صياغتها، ووُفِّق في بعضها، وخانه التوفيق في بعضها الآخر، ولكنَّها جميعًا لم تسلم من النقد. أما ليبنتز فهو يرى أن الخلود لا يحتاج إلى براهين معقَّدة ولا بسيطة، إنه مُترتِّب على مفهوم المونادة. فالمونادات كما علمنا لا تقبل القسمة، وهي لهذا خالدة، ولا شك أن هذا يَسري على مونادة العقل. وقد يسأل سائل: كيف يُوفِّق ليبنتز بين مبدأ خلود العقل (أو الروح) ومبدأ الارتباط الضروري الدائم بين العقل والجسد؟
ينفي ليبنتز أن يكون الترابط بين الجسد والنفس من النوع السكوني (أو الإستاتيكي)؛ لأنه في الحقيقة يُعبِّر عن علاقة حية إلى أبعد حد. فكلُّ الأجسام في حالة تغيُّر وتحوُّل دائمَين، وحتى الأجسام العُضوية تفقد باستمرار بعض الأجزاء وتكتسب أجزاء غيرها. وما نُسمِّيه «الموت» لا يعدو أن يكون حالة خاصة من أحوال التغيُّر الدائم والصيرورة المتجدِّدة. والنفس تفقد جزءًا من المونادات التي تتحكَّم فيها، ولكنها تحتفظ بأجزاء أو تكسب أجزاء أخرى، ولهذا فليس هناك موت بالمعنى الطبي الدقيق لهذه الكلمة.
وهذا هو ما يُعبِّر عنه ليبنتز في المونادولوجيا (٧٢-٧٣) بقوله: «وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدًا من جميع أعضائها دفعة واحدة، وكثيرًا ما يتمُّ التحول بين الحيوانات، ولكن تقمُّص الأرواح أو تناسخها لا وجود له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلَّة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح بغير أجسام. إن الله وحده منزَّه عن الجسمية كل التنزيه، ولهذا السبب لا يوجد أبدًا تولُّد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، أي بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نُسمِّيه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نُسمِّيه بالموت فهو انكماش وتناقص.»
هكذا يُحاول ليبنتز أن يُقلِّم مخالب الموت، ويجعل منه حالة خاصة من العمليات البيولوجية العادية، ولا شكَّ أن هذا شيء يَستثير سخطنا ودهشتَنا؛ فالموت يحيط بنا في كل لحظة، وليس مجرد ضيف ثقيل نلقاه في نهاية الطريق، إنه مأساة تُخيِّم على وجودنا كله، ولولا تحدِّيه الدائم ما كان فن ولا أدب ولا فلسفة، هو الصخرة الخالدة التي تُدمي أجسادنا وأرواحنا على مر العصور، من قلل من خطره أو أخذه مأخذًا هينًا حرم نفسه أعمق يَنابيع التأمل الفلسفي، ومن واجهه بالكلمات الفخمة والبطولات الطنانة أضاع سره العظيم المُخيف (فالفلسفة تأمُّل دائم للموت كما يقول أفلاطون)، وكلام ليبنتز عن الموت يُوحي بأنه لم يَفهم شيئًا عن هذا الجانب المظلم من وجود الإنسان وقَدرِه. ولعلَّه أيضًا أن يَحملنا على مُواجَهة تفاؤله العقلي بالابتسام المرير، بدلًا من أن يُشجِّعَنا على الفرح والبهجة بالحياة في «أفضل عالمٍ مُمكن!»
إذا كانت العلاقة بين العقل والجسد العُضوي شرطًا لا غنى عنه لوجود العقل نفسه، فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ هل يُمكن أن تكون نوعًا من التفاعُل المُشترَك بينهما؟ وهل يَستقيم هذا مع فكرته عن انعزال المونادات التي لا نوافذ لها؟ ألا يكون قد خان هذه الفكرة الأساسية في مذهبه؟
الحق أنه ظلَّ على وفائه لهذه الفكرة؛ ولهذا نجد عنده في النهاية نوعًا غريبًا من ثنائية النفس والجسم، وهي ثُنائية لم تنشأ عن اختلاف طبيعة الطرفَين وماهيتهما، كما هو الحال مثلًا عند ديكارت، بل جاءت من أن كلَيهما له طبيعة المونادة، وهذه الطبيعة تُحتِّم عليهما الانعزال والاكتفاء الذاتي، ولكن هذا لم يمنعه من القول بوحدة النفس والجسم، وهو يفسر هذه الوحدة بنفس الطريقة التي يفسر بها وحدة العالم في مجموعه، أعني بالرجوع إلى فكرته عن الاتِّساق المقدَّر أو التجانُس والتواؤم السابق في علم الله. استمع إليه وهو يقول: «وقد أتاحت لي هذه المبادئ وسيلةَ تفسير اتحاد النفس مع الجسم العُضوي، أو بالأحرى اتساقها معه تفسيرًا طبيعيًّا. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة، كما يخضع الجسم لقوانينه الخاصة، وهما يتوافَقان بفضل الاتساق المقدَّر بين جميع الجواهر؛ لأنها جميعًا تمثلات عالم واحد بعينه» (المونادولوجيا ٧٨).
•••
إذا كانت هذه هي طبيعة العلاقة بين العقل الإنساني والجسم، فما هو القول في نشاط العقل وفاعليته؟
يرى ليبنتز أن معرفة الإنسان ونشاطه العقلي هي التي تُحدِّد طبيعته. يقول في الفقرة التاسعة والعشرين من المونادولوجيا: «بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل، ونتزود بالعلوم، حين ترتفع بنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله، وهذا هو الذي يُسمَّى فينا بالنفس العاقلة أو العقل» (٢٩).
ولكن عملية الإدراك ليست مقصورة على الإنسان، فالحيوانات تدرك أيضًا، وهي قادرة على الربط بين المدركات عن طريق الخبرة والذاكرة. والمثل الذي يذكره ليبنتز يوشك بالإلهام والحدس الصائب أن يستبق تجارب بافلوف الشهيرة، إذ يكفي كما يقول أن يرى الكلب العصا التي ضربه بها سيده لكي يعوي ويَنجو بجلدِه؛ لأنه تذكَّر الألم الذي سبَّبتَه له في المرة السابقة، وإذا كنا لا نستطيع أن نصف ليبنتز بأنه تجريبي، فإن هذا لا يَمنعنا من الإشادة بحسه الواقعي السليم، فمعظم إدراكات الإنسان تترابط في رأيه بطريقة تجريبية مشابهة لطريقة ترابطها عند الكلاب بل إنه ليؤكد — بنغمة لا تخفى مرارتها — أن البشر تجريبيُّون في ثلاثة أرباع أفعالهم وتصرُّفاتهم، ولهذا فهم في هذا الجانب السُّلوكي لا يَختلفون في شيء عن الحيوانات، غير أن الربع الباقي من أفعالهم هو الذي يُميِّزهم حقًّا عن سائر الحيوانات. فمعرفة الإنسان لا تقف عند حقائق التجربة أو حقائق الواقع؛ لأنها بطبيعتها حقائق عرضية يُمكن أن توجد ويُمكن ألا توجد، بل تتعداها إلى المعرفة بالعلل والأسباب، ولهذا يُمكنه أن يبصر العلاقات الضرورية بين الأفكار، ويُدرك حقائق العقل الضرورية الخالدة التي تتوفَّر في المنطق والرياضة بوجهٍ خاص.
بهذا يقف ليبنتز في وجه النزعة التجريبية السائدة في عصره، على نحو ما نجدُها في فلسفة توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩م) وجون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م). ولكن يَنبغي علينا ألا نُسيء فهم النقد الذي وجَّهه للنزعة التجريبية أو نتصوَّر أنه يُقلِّل من قيمة الحقائق التجريبية. فالواقع أنه كان يُقدِّر قيمة التجربة الحسِّية كل التقدير، كما كان يُتابع نتائج البحث التجريبي باهتمام لا مزيد عليه. ولم يكن هذا مجرَّد حب استطلاع أو رغبة في الإحاطة الموسوعية بكلِّ جديد. فالواقع يشهد بأنه استفاد في بناء مذهبه بكثيرٍ من الدراسات العلمية التي تمَّت في عصره، كما كان له فضل الإسهام فيها. ويكفي أنه تنبَّه إلى نتائج البحوث التي قام بها العالم الهولندي فان لويفنهوك (١٦٢٢–١٧٢٣م) الذي اكتشف عددًا كبيرًا من الكائنات الحية الدقيقة عن طريق الميكروسكوب، كما استعان بهذه الكشوف في تدعيم نظرته الحيوية (انظر المونادولوجيا من ٦٦–٦٩).
وإذا كانت التجربة الحسية تُمثِّل عنصرًا هامًّا من عناصر المعرفة البشرية، فإن قيمتها في رأيه محدودة، ولا يمكنها أن تستوعب إمكانيات المعرفة. وقد أشرنا إلى نقده للنزعة التجريبية، وقلنا إنه لا يريد من هذا النقد أن يُقلِّل من شأن الوقائع التجريبية، أو يحط من قيمتها، فالواقع أنه يهدف من ورائه إلى ضمان الحقيقة، الحقيقة التي لا تَعتمد على الوقائع التجريبية، بل تظلُّ محتفظة بصدقها وقيمتها ولو تغيرت كل هذه الوقائع عما هي عليه. إنه يدافع عن هذه الحقيقة المطلَقة بكل ما يملك من قوةٍ وإخلاص، ويُحاول أن يدفع عنها أخطار النسبية والشك. وهو لا يكتفي بتأكيد استقلالها التام عن المصالح البشرية، والوقائع التاريخية، بل يذهب إلى حدِّ القول بأنها مستقلَّة عن إرادة الله؛ لأنها ثابتة ومُطلَقة وخالدة خلود الله نفسه، ولا ريب في أن هذا الموقف يَستحِقُّ منا كل إعجابٍ وتقدير.
•••
ليست كل الحقائق ضرورية ولا أبدية. فلا بدَّ في رأي ليبنتز من التمييز بين حقائق العقل الضرورية الخالدة وحقائق الواقع العرضية الحادثة؛ فالأولى هي التي لا يُمكن تصوُّر ضدها، وإلا كانت مُتناقِضة مع نفسها، ومنها مبادئ الرياضة والمنطق. أما الثانية فيُمكِن تصوُّر ضدِّها، ومنها الحقائق التاريخية وقوانين الفيزياء (مثل قانون الحركة)، والقُدرة على تصور نقيض الحقيقة، أو عدم تصوُّره هو المعيار المنطقي الذي اعتمد عليه ليبنتز في التمييز بين حقائق العقل وحقائق الواقع.
بيد أن هذه التَّفرقة لا تلزم العقل البشري وحده، فقد نتصوَّر أنها ترجع إلى قصور المعرفة البشرية، وتُقيِّد العقل بحدود لا يُمكنه أن يتخطَّاها، بحيث لو اتَّسع نطاق هذا العقل، وزادت قُدرته وأصبح في قوَّة العقل الإلهي لانقلبَت الحقائق الواقعية إلى حقائق عقلية، وقد نجد في بعض كتابات ليبنتز ما يُوحي بهذا التصور، ولكنه في الحقيقة تصوُّر خاطئ. فالفرق الفاصل بين النوعين قائم بالقياس إلى الله، بل إن ليبنتز يُحاوِل أن يُوضِّحه من وجهة النظر الإلهية نفسها. لقد تكوَّنت حقائق العقل في العقل الإلهي المطلق، ومنه استمدَّت ضرورتها المُطلَقة، أما حقائق الواقع فترجع إلى إرادة الله، وتستمدُّ قيمتها من إرادة الخالق الذي شاء أن يختار هذا العالم من بين عدد لا حصر له من العوالم المُمكِنة. بيد أن اختيار هذا العالم ليس فعلًا تعسُّفيًّا من جانب الله؛ إذ لا يُمكن أن يفيض الله نعمة الوجود إلا على عالم واحد مُمكِن، ألا وهو هذا العالم الذي هو أصلح وأفضل عالم مُمكن. ومعنى هذا أنه يُمكن تصوُّر عوالم أخرى مُمكنة، ولكنها من الناحية التاريخية والواقعية مُستحيلة التحقيق، كذلك يُمكن تصور الضد المقابل للحقائق الواقعية، ولكنه من الناحية التاريخية والواقعية مُستحيل. وهكذا يُمكن أن نقول، بغير افتراءٍ على تفكير ليبنتز، إن الحقائق الحادِثة تنطوي أيضًا على نوع من الضرورة يُمكن إذا جاز الوصف أن نُسمِّيها الضرورة المشروطة أو النسبية. والواقع أن الوعي بالضرورة المُطلَقة التي تميز حقائق العقل، والضرورة النسبية التي تميز حقائق الواقع هو أهم ما أنجَزَه العقل البشري، وهو كذلك أوضح ما يميزه عن سائر الحيوانات. إنه لا يقف عند تسجيل الوقائع التجريبية، بل يكتشف الحقيقة ويسعى إليها، وهذا هو سر عظمته وكرامته، وهو المخلوق الوحيد الذي استطاع أن يؤصلها وينميها؛ لأنه المخلوق الوحيد الذي أسس العلوم، وعمل على تقدمها وازدهارها. وأسمى هذه العلوم هو العلم الرياضي الذي بلغت فيه حقائق العقل الخالدة أعلى صورها وأنقاها. فمبادئ الرياضة بغير استثناء تَنتمي للحقائق الضرورية التي لا يرقى إليها الشك. والرياضة هي المثَل الأعلى للعلم الثابت. ولهذا فليس عجيبًا أن يعدَّها ليبنتز النموذج الذي ينبغي على سائر العلوم — بما في ذلك الميتافيزيقا! — أن تَقتديَ به وتَحتذيَ مناهجه. وليبنتز عالم رياضي، بل هو من أعظم علماء الرياضة في كل العصور، ولا شك أنه تأثَّر في كل هذه الآراء بتعصُّبه للنزعة الرياضية والعقلانية، ولكن تاريخ الرياضة أثبت صعوبة تحقيق آماله، كما دلَّت البحوث والخلافات التي ثارت في العقود الأولى من القرن العشرين حول أصول الرياضة أنها ليسَت من الثبات واليقين بالقَدر الذي نتصوَّره.
ومع ذلك فقد أدَّى اهتمام ليبنتز بالمناهج الرياضية إلى اكتشافٍ عظيمٍ نشهد اليوم آثاره في الأجهزة الحاسبة والسيبرنيطيقا والمنطق الرمزي … إلخ، ولا يُمكننا أن نُقدِّر أبعاده في المستقبَل، وهي في صميمه اكتشاف بسيط مؤدَّاه أن الإنسان يُضطرُّ في أثناء التفكير إلى استخدام الرموز والعلامات. والعلوم الرياضية تُوضِّح هذه الخاصية التي تميز الفكر البشري في أعلى صوره، فالرياضي يستخدم في حساباته رموزًا وعلامات معينة تختصر عمليات رياضية طويلة، واستدلالات عقلية معقَّدة، وهو لا يتوصَّل إلى نتائجه الرياضية إلا لأن لغة الرياضة هي لغة العلامات، ولما كان التفكير الرياضي في رأي ليبنتز هو النموذج الأسمى للتفكير البشري عامة، فقد كان من اليسير عليه أن يخطو خطوة أخرى قصيرة لكي ينتهي إلى أن التفكير البشري كله — باستثناء الأفكار الأولية التي يبدأ الإنسان منها — هو تفكير بالعلامات، بل إنَّ اللغة العادية التي نَستخدمها كل يوم هي أيضًا نظام أو نسَق من أمثال هذه العلامات، وكل علامة منها «تنوب» عن سلسلة معقَّدة من الاستدلالات الفكرية. وقد نَستعمِل أثناء تفكيرنا علامة لا نَعرِف معناها، ولا نشعر به على وجه التحديد، وبهذا يُمكنُنا أن نختزل عملية فكرية مُرهِقة، ونصلُ إلى نتائج لم نكن لنصل إليها بغير هذا الاختزال. وخصوبة الفكر البشري وقدرتِه على الابتكار والإبداع تعتمد في الحقيقة أكبر اعتماد على نظام الرموز والعلامات الذي يستخدمه الإنسان عن وعي أو غير وعي أثناء التفكير، ومع أن العلامات أدوات نافعة كما رأينا إلا أن هذا النفع قد يَنطوِي على أبلغ الأخطار، وقد أدرك ليبنتز ذلك إدراكًا واضحًا، ولعله قد أحسَّ بفطرته الفلسفية الصائبة أن قائمة الأخطار التي تكمن في هذا الطابع الرمزي للفكر الإنساني قائمة طويلة تمتدُّ من أقدم العصور، وتحفل في كثيرٍ من الأحيان بالمصائب والمِحَن وأنهار الدماء، فمن السهل أن ينجح الإنسان في استخدام كلمة أو كلمات تَرمُز لمفهوم متناقِض مع نفسه، ولكنه بذلك يُضلِّل نفسه أو يُضلِّل غيره عن جهل أو سوء نية. وما من واحدٍ منا إلا وقد عانى من الكسل العقلي الذي يُروِّج الشعارات الرنانة الطنانة التي تُلقى دون تريث أو روية، فتبث سمومها الساحرة في الهواء الذي يتنفَّسُه الناس، ومثل هذه الشعارات التي لم يتحقَّق أصحابها من محتواها أو تفنَّنوا في صياغتها، بحيث يتعذر على الناس التحقُّق من صدق هذا المحتوى أو كذبه تسيء استخدام علامات اللغة ورموزها إما عن جهل أو سوء نية أو تحمُّس عاطفي أعمى. وتاريخ العالم الحديث عامر بالشواهد والأمثلة التي تدلُّ على هذه القدرة الشيطانية على سوء استخدام العلامات اللغوية لخداع الناس أو السيطرة عليهم، واستغلال عجزهم أو كسلِهم أو خوفهم من التفكير المُستقِل.
•••
يُوصَف مذهب ليبنتز في كتب تاريخ الفلسفة بأنه مذهب «عقلاني». ولا شكَّ أن هذا الوصف صحيح بوجهٍ عام. ولكن الفلسفة العظيمة، شأنها شأن الأدب العظيم، أكبر من الاسم الذي يُطلَق عليها، وأعمق من الشعار الذي يُلصق بها أو التصنيف الذي تُحبَس في خانته! والدليل على هذا أننا نجد في فلسفة ليبنتز الإنسانية (أو الأنثروبولوجية) لمحات يتعذَّر أن نجدها في أعمال الفلاسفة العقلانيِّين. كان ديكارت فيلسوفًا عظيمًا بغير شك، ولكنَّ حماسَه الشديد لوضوح الفكرة وتميُّزها وصفاء العقل وبداهته قد صرفه عن النظر في طوايا النفس الإنسانية، وقصر به عن الغوص إلى الأعماق الكامنة تحت سطح الوعي، وقد خالف ليبنتز الديكارتيِّين في هذه النقطة كما خالفهم في غيرها. فنحن نجد لديه لمحات صادقة مما نُسمِّيه اليوم باللاوعي أو اللاشعور. ومكَّنتْه نظريتُه عن الموناداة وطبيعة إدراكاتها أن يقدم نظرية عن اللاوعي الكامن في أعماق النفس. فالموناداة كما نعلم تَعكِس العالم كله، ولكنها تعكسه من وجهة نظرها فحسب؛ لأنَّ الموناداة الإلهية وحدها هي القادرة على الرؤية الكلية الشاملة. ولما كان الإنسان عاجزًا عن إدراك العالم بأكمله، فلا بدَّ أن يكون في العقل البشري مجال للإدراكات غير الواعية. ولما كانت الإدراكات كلها تنشأ عن إدراكات سابقة عليها، كانت الإدراكات اللاواعية هي التربة التي تنمو فيها حياة النفس الواعية. ويرى ليبنتز أن الأعماق الكامنة في العقل الإنساني هي المصدر المباشر لكل معرفة، إن المعرفة لا تأتي من العالم الخارجي، وكيف يتسنَّى لها ذلك، وكل موناداة تعيش منعزلة مُغلَقة على نفسها «بلا نوافذ»؟
إن أصول المعرفة موجودة في كل موناداة فردية؛ أي في كل عقل على حدة. وهي تنشأ وتنمو عن طريق النشاط الباطن، بحيث تتقدم من إدراكٍ إلى إدراك، وتصل إلى أكبر قدرٍ من الوضوح والتميُّز.
ولا يتردَّد ليبنتز في وصف النشاط العَقلي للإنسان بأنه نشاط مُبدع، فليست العلوم في رأيه مجرد انعكاس للعالم، وإنما هي نتيجة نشاط تلقائي خلاق يتم في نفس الإنسان وعقله، وليس العالم مجرَّد حيوان مثقَّف، وإنما هو في الحقيقة إلهٌ صغير. ولنستمع في النهاية إلى ما يقوله ليبنتز في تمجيد الإنسان المبدع، صورة الله وخليفته على الأرض:
«إن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مُبدِع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة؛ إذ إنَّ كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة» (المونادولوجيا ٨٣).
(ﺟ) العالم والإنسان والله
لا زالت مُشكلة الله من أهم المشكلات التي شغلت الفلاسفة، وسوف تشغلُهم على الدوام، جعلها البعض تاجَ البحث الإنساني عن المعرفة، وعدَّها البعض الآخر خطرًا يُهدِّد الفلسفة في الصميم. ولكلا الفريقَين وجهة نظره التي تستحق منَّا وقفة قصيرة. فقد يتَّفق للعقل البشري، بعد رحلة شاقَّة في مَجاهل الفكر، أن ينفذ للمطلق (وهو ما نُسميه الله)، فيرى فيه الهدف الأخير، وتبدو له الرحلة، وكل ما وجده على الطريق في ضوء غامر جديد. ولعلَّ هذا أن يكون هو السبيل إلى بلوغ الوحدة العُليا لكلِّ ما هو كائن. فقد كانت الوحدة منذ البداية هي موضوع الفلسفة الأثير، إن لم تكن هي موضوعها الوحيد، غير أن هناك من يُحرِّم على الفلسفة أن تبحث في مشكلة الله، وينكر على الفلاسفة أن يضعوا نظرية عنه أو دليلًا على وجوده. فالفلاسفة في رأيهم يخرجون بذلك عن وظيفتهم، أو يتهرَّبون من مواجهة المشكلات الفلسفية الحقيقية، أو يدارون كسلهم العقلي، أو يتحاشون الاعتراف بأنهم ساروا في طريقٍ مسدود.
ولا شك أن التفرقة واجبة بين إنسان ينطلق من دوافع جادَّة، فيصل إلى معرفة الله عن طريق البحث النزيه، وبين إنسان يسيء استخدام فكرة الله للتخلص من المشكلات التي تواجهه، أو يسلك إليه طريق الفلسفة مدفوعًا بدوافع غير فلسفية.
وقد وقف ليبنتز في وجه ديكارت وأصحاب مذهَب المناسَبة، ولم يَقبل رأي مالبرانش بغير نقدٍ وتَمحيص، ولكن هذا لا يَنفي أنه كثيرًا ما لجأ لفكرة الله ليَتغلَّب على المصاعب التي تُواجِه مذهبه، ويَكفي أن نتذكَّر فكرته عن الاتِّساق المقدَّر. فالمونادات يستحيل عليها أن تُؤثِّر على بعضها البعض تأثيرًا سببيًّا، والتفاعُل بين الأجسام والمونادات — وهي عقول هذه الأجسام وأرواحها — شيء لا يُمكِن تصوُّره. ومن ثم فلا يُمكن تفسير الاتِّساق الظاهر في العالم إلا بالرجوع إلى الله الذي خلق المونادات، وأوجد الاتِّساق بينها منذ البداية. وقد رأى ليبنتز في ذلك دليلًا جديدًا على وجود الله لم يَسبقه أحد إليه، ولكنه كما ترى دليل ضعيف لا يَسلم من النقد، فقد استخدم فكرة الله أو بالأحرى أساء استخدامها ليجد مخرجًا من طريق فلسفي مسدود.
ويُقيم ليبنتز دليله على وجود الله على الحقيقة، مثله في هذا مثل أفلاطون والقديس أوغسطين. فإذا كانت الحقائق خالدة وثابتة، فإن ليبنتز لا يَستنتِج من ذلك وجود إله يكون هو المبدأ الخالد الثابت لهذه الحقائق. وإنما يَنهج طريقًا آخر يدلُّ على طابع تفكيره. فهو يَستنتِج من واقعية الأفكار (أو المُثُل) الخالدة والحقائق الأبَدية التي نعتمد عليها ضرورة وجود علَّة أو سبب لهذه الواقعية. إن إمكان الأفكار — أي إمكان تصوُّرها — وضرورة الحقائق الأبدية ليسا إلا صورة من صور الواقع، ولا بدَّ أن يكون مصدر هذا الواقع موجودًا بالفعل، ولا بدَّ أن يكون ضرورة الأفكار والحقائق نفسها. ويُعبر ليبنتز عن هذا الدليل في الفقرتَين رقم ٤٣ و٤٤ من المونادولوجيا. ولو قرأنا هاتَين الفقرتين وتأمَّلنا الدليل جيدًا لأدركنا أن وصف فلسفته بالمثالية الواقعية أو المثالية الموضوعية لم يكن وصفًا بعيدًا عن الصواب. فإثبات وجود الله على أساس الحقيقة هو الوجه المُقابل لإثبات وجودِه على أساس الحدوث أو الإمكان، وبينما يَنطلِق الدليل الأخير من الطابع الفِعلي والواقعي للمُمكِن، نجد الدليل الأول ينطلق من واقعية الضروري.
يؤمن ليبنتز بأن وجود الله فوق كل شك. إن الله هو مصدر الحقائق الأبدية الخالدة، وهو كذلك خالق العالم المُمكِن والإمكان الذي هو صفة العالم لا يعني أن هذا العالم يمكن ألا يوجد فحسب، بل يعني أيضًا أن العالم يُمكن أن يكون مختلفًا عما هو عليه بالفعل. ويَعتقِد ليبنتز أن هناك عددًا لا نهاية له من العوالم المُمكنة (والإمكان هنا ينصرف كما قدمنا إلى إمكان التصور)، ولو سأل سائل: لماذا اختار الله هذا العالم بالذات من بين العوالم الممكنة التي لا حصر لها لكان سؤاله في حاجةٍ إلى جواب؛ إذ لا بد أن يكون هناك سبب كافٍ لهذا الاختيار، شأنه في ذلك شأن كلِّ شيء آخر. ويعتقد ليبنتز أنه يستطيع أن يقدم الجواب؛ فالعقل الإلهي في رأيه قد تحقَّق من أن عالِمًا واحدًا من بين العوالم المُمكِنة، وعالمًا واحدًا فحسب، هو أفضلها جميعًا، ولهذا شاءت إرادة الله أن تختار هذا العالم الأفضل، تمشيًا منها مع قانون الأصلح والأفضل.
هكذا يصل ليبنتز إلى فكرته المشهورة عن أفضل عالم مُمكِن. وهي الفكرة التي طالَما أثنى عليها البعض، وسخر بها البعض الآخر مُرَّ السخرية! ولقد كانت الفكرة ملائمة لذوق العصر الذي نشأت فيه مع بداية القرن الثامن عشر. فقد نسيَ الناس حرب الثلاثين وما جرَّتْه على أوروبا من كوارث وويلات، واستوى «الملك الشمس» لويس الرابع عشر على عرش فرنسا المترَفَة المُزدهِرة، وشاع تفاؤل عصر التنوير في شرايين الحياة العقلية والرُّوحية. غير أن كارثة رهيبة كانت تقف لهذا التفاؤل بالمرصاد. فقد فوجئ الناس في سنة ١٧٥٥م بزلزال لشبونة المشهور، الذي قتل فيه أكثر من ثلاثين ألف إنسان. ولا بد أن هذه الكارثة قد حفرت آثارها العميقة في الروح الأوروبية، وزعزعت تفاؤلها وإيمانها الأعمى بانتصار العقل. وقد استوحى فولتير روايته الفلسفية «كانديد» (١٧٥٩م) من هذا الحادث، فكانت سُخرية عضَّت تفاؤل ليبنتز بأنيابها الحادَّة! والواقع أن شعار «التفاؤل الميتافيزيقي» الذي أطلقَ على نظرية ليبنتز عن أفضل العوالم المُمكنة قد يُبرِّر البواعث النفسية التي أدَّت إليها، ولكنه لا يصل إلى جذورها. لم يكن ليبنتز بطبيعة الحال معصوب العينين عما يجتاح العالم من شرٍّ وبؤس وعذاب وموت، ولكنه كان يعتقد أننا لن نستطيع أن نُقدِّم سببًا كافيًا يُبرِّر وجود هذا العالم، إلا إذا كان هو أفضل عالم مُمكن. وقد يسأل سائل: ولماذا لا تبحث عن هذا السبب الكافي في إرادة الله الحرة؟ وحرية الإرادة فكرة رحبة متعدِّدة الجوانب والأبعاد. ولا شكَّ أن إحساس ليبنتز بها — كإحساسه بالموت والشقاء البشري — كان يَفتقِر إلى النبض الإنساني، ولكنَّه ظلَّ على كل حالٍ متَّسقًا مع فكره ومنطق مذهبه. فهو يَميل إلى جانب القانون والرياضة والمنطق. وإذا بدا لأحدٍ أن يضع الحرية في مُقابل الخضوع للقانون، وجدناه يَميل لهذا الجانب الأخير. وما مِن شكٍّ في أنه سيَرفض أن يترك الأمر في خلق العالم أو عدم خلقه لإرادة الله، وسيَرفض كذلك أن يترك لها الشأن في خلقه على هذا النحو أو ذاك. فمن رأيه أن الله لم يكن ليخلق غير هذا العالم الذي خلقه بالفعل. صحيح أن هناك عددًا لا يَنتهي من العوالم المختلفة المُمكنة، ولكن يجب ألا نَنسى ما قلناه من أن الإمكان هنا يعني إمكان تصوُّرها من الناحية المنطقية، لا من ناحية التحقُّق الفِعلي. فالعالم الموجود بالفعل هو العالم الوحيد الذي يُمكن تحقُّقه في الواقع، بحيث لا يَختلف عما هو عليه بالفعل، وبحيث لا يَشتمِل على كلِّ ما نعرفه فيه من أفراد وأحداث. فليبنتز إذن يبارك كل ما هو موجود وكل ما هو واقع، لا لسببٍ إلا لأنه ضروري، ولأنه كان حتمًا أن يوجد على الصورة التي وجد عليها. ولا بدَّ أن القارئ قد لاحظ في هذا الرأي شيئًا من التمجيد للجانب التاريخي من الوجود. ولا بدَّ أنه لاحظ أيضًا أن الشر والألم والموت لن تكون إلا خيوطًا غريبة على نسيج التجانس والاتِّساق والانسجام الكُلي، أو أنغامًا قليلة ناشزة في سياق اللحن الأزلي الرائع، وربما يسأل: ألا تكون حرية الفرد مُهددة في هذا العالم الذي هو أفضل عالم مُمكن؟ الحق أن ليبنتز يتحدَّث عن الحرية البشرية حديثًا ملؤه الدفء والإخلاص، ولكنَّنا لو نظرنا إلى هذا الحديث في إطار المذهب العام لفقد كثيرًا من قدرته على الإقناع. ومن يدري؟ فربما يُعزِّينا قليلًا أن حرية الله والإنسان كليهما مهدَّد بالخضوع الشامل للقانون!
رأينا من قبل أن ليبنتز ينظر للعقل الإنساني نظرته «لصورة الألوهية»، بل إنه ليَعدُّه «إلهًا صغيرًا». وقد دفعه على هذا الرأي المثالي النبيل ما وجده في هذا العقل من نشاط يتمثَّل في تقدُّم العلوم وازدهارها، ولكن هذا الرأي دفعه من ناحيةٍ أخرى إلى إقامة علاقة خاصة بين الله والعالم. وها هو ذا يَرجع إلى فكرة القديس أوغسطين المشهورة عن «مدينة الله» لتوضيح هذه العلاقة. ويَكفي أن نقرأ ما يقوله عن ذلك في المونادولوجيا (٨٤–٨٦): «وهذا هو الذي يجعل العقول قادِرة على الدخول مع الله في نوع من الحياة الجماعية، بحيث لا يكون الله بالنسبة إليها كالمُخترع بالنسبة لآلته فحسب (كما هو الحال بالقياس إلى علاقة الله بسائر المخلوقات)، وإنما يكون كذلك كالأمير بالنسبة لرعاياه، بل كالأب بالنِّسبة لأبنائه. من هذا نَستنتِج بسهولة أن مجموع العقول يُؤلِّف بالضرورة مدينة الله؛ أي أكمل مدينة مُمكنة في ظلِّ أكمل الحكام. إن مدينة الله هذه، هذه المملكة الكلية بحق، هي عالم أخلاقي داخل العالم الطبيعي، وهي أسمى أعمال الله وأكثرها ألوهية.»
الإنسان إذن هو شريك الله في «مدينة الله»، أو في «مملكة العناية». ليس مجرَّد كائن طبيعي، بل هو شخص قادر على الحب وجدير به. وليس أجمل من كلام ليبنتز نفسه تعبيرًا عن هذه الصلة الحميمة بين الله والإنسان. فقد كتب إلى صديقته وراعيته الأميرة صوفي في الرابع من نوفمبر سنة ١٦٩٦م رسالة يقول فيها: إنَّ العقل الإنساني قادِر على معرفة الله، وهذه المعرفة هي الأساس الذي تقوم عليه رسالتنا الأخلاقية والحضارية: إنَّ أسمى العقول (الأرواح) جميعًا هي التي تملك القدرة على فهم الحقائق السرمدية، ولا تَكتفي بتمثُّل العالم تمثلًا غامضًا، بل تفهمه وتحصل على أفكار واضحة عن خيرية الجوهر الأسمى وعظمته. ومعنى هذا ألا تكون مرايا للعالم وحسب (فكلُّ الأرواح كذلك)، وإنما تزيد على هذا فتكون مرايا تعكس خير ما فيه؛ أي الله ذاته، وهذه هي ميزة العقول، وهي التي تُعينها على حكم الموجودات الأخرى — باعتبارها صورة الله.
(د) ملامح عامة
كل فلسفة تستحق هذا الاسم أشبه بكائنٍ عُضوي حي، مثلها في هذا مثل كل عملٍ باقٍ في الأدب والفن والعلم والحياة.
وقد حاولنا جهد الطاقة أن نتعرَّف على الخطوط العامة التي يتألَّف منها نسيج هذا الكائن، والأعمدة التي يقوم عليها هيكله. وعلينا الآن أن نَنظُر من الخارج، لعلَّ الرؤية الكلية أن تكشف عن أبرز قسماته وملامحه.
ربما كانت «الوحدة» هي أول ما يَلفت النظر في فلسفة ليبنتز. فهي فلسفة تُحاول أن تضمَّ الكثرة في مركزٍ واحدٍ أو بؤرةٍ واحدة. صحيح أن التجربة تُعلمنا كل لحظة أن الأشياء مُتعدِّدة ومتنوِّعة، ولكن الفلاسفة يتساءلون منذ القدم: أهناك وحدة تضم هذه الكثرة الهائلة من الأشياء، وعلى أيِّ نحوٍ تتم؟ أم أن هذه الوحدة شيء من صنع العقل الذي يفرضها على الموجودات المتعدِّدة بطبيعتها؟
أجاب أفلاطون على هذا السؤال، فافترض وجود «أيدوس»، أو مثال أو نموذج تُشارك فيه أشياء مختلفة، ثم حاول بعد ذلك أن يوحد بين هذه المُثُل والنماذج العديدة في مثالٍ أعلى ونموذج أشرف وأسمى، سمَّاه «الله» حينًا، والخير في معظم الأحيان. وقد تابع ليبنتز خطى أفلاطون في بحثِه عن الوحدة التي تجمع الكثرة، ولكنَّه سلك منهجًا يختلف عن منهج أفلاطون. فهو يتحدَّث مثله عن أفكار أبدية خالدة؛ أي عن مثل أو نماذج أولى لكلِّ المخلوقات، وهذه المثل والنماذج كائنة في عقل الله. أن جميع الأشياء المُتناهية على علاقة ببعضها البعض، وهذه العلاقة تؤلف بينها في وحدة حقيقية. ولهذه العلاقة نفسها وجهان؛ فهي تُعبِّر من ناحيةٍ عن أن جميع الأشياء المتناهية إنما هي في نهاية الأمر مونادات؛ أي كائنات واحدة أو «أحادات»، كما تعبر من ناحيةٍ أخرى عن أن كل مونادة منها تعكس العالم كله، أي تعكس جميع المونادات الأخرى على صفحة العالم دون أن نُضطرَّ في نفس الوقت للكلام عن مبدأ لهذه الوحدة من خارج العالم، سواء أكان هذا المبدأ هو الله أم الأفكار، ولكنه يرى من ناحيةٍ أخرى أنه لا يُمكِن تفسير هذه الوحدة القائمة داخل العالم إلا بالرجوع إلى الله؛ لأنَّ الله هو أصل جميع المونادات المخلوقة أو المُتناهية، وعلَّة تجانُسها واتساقها مع بعضها البعض.
لقد قيل بحقٍّ إن ليبنتز قد انزلق أثناء بحثه عن الوحدة التي تضمُّ كثرة الموجودات إلى نوعٍ من الواحدية النفسية أو الروحية التي تعبر عنها هذه الجملة: كل ما هو موجود، فهو من جوهر الروح أو العقل (المونادة). وقيل أيضًا إنَّ فكرته الصحيحة عن تعلق كل موجود له طابع الجسم بكل موجود له طابع الروح أو العقل قد بولغ فيها مبالغةً كبيرةً في فكرةٍ أخرى خاطئة تقول بأن العقل أو الرُّوح كما نُجربها في أنفسنا هي الموجود الوحيد المُمكن. ومع ذلك فقد نستطيع أن نردَّ على هذا الزعم، فنقول إنه إذا صح اتهام ليبنتز بأنه أقام نوعًا من الواحدية فيما يتَّصل بعالم التجربة والخبرة، فإن من الخطأ البالغ أن تنسب إليه تلك الواحدية المُطلَقة التي يَنتفي فيها الفارق بين الله والعالم؛ ذلك لأن ليبنتز يذهب بوضوح إلى أن الله مُتعالٍ على العالم، وهو يُعبر عن هذا الرأي على النحو التالي: إما أنَّ كل مونادة تؤلف مع مونادات أخرى الجسم الذي تحكمُه مونادة مركزية، وإما أن تكون هي نفسها مونادة ذلك الجسم، كما أن المونادة المركزية التي تقوم بوظيفة النفس أو الرُّوح يُمكنُها، بالاشتراك مع مونادات أخرى، أن تؤلف الجسم المُتعلِّق بشكلٍ أعلى للرُّوح. وبهذا نعتبر الله، وهو المونادة الأصلية، بمَثابة الرُّوح العليا كما نَعتبر عالم المونادات المتناهية بمثابة جسم الله، ولكن هذا كله أبعد ما يكون عن تفكير ليبنتز الذي يرى أنَّ الله لا يدخل في تكوين النسيج الذي يُؤلف عالم المونادات المُتناهية. فهذه المونادات المتناهية جميعًا، حتى أسمى العقول وأعلى الأرواح، تَعتمِد دائمًا وبالضرورة على مونادات أخرى تكون الجسم الذي تتعلَّق به، أما الله، والله وحده، فهو مبرَّأ من الجسمية، منزَّه عنها كل التنزيه (المونادولوجيا ٧٢) هكذا يَصلُ تفكير ليبنتز في سعيه إلى الوحدة إلى الحد الذي يقف عنده. ومهما أغراه مذهبه بتخطِّي هذا الحد، أو أوحى به إليه، فإنه يظلُّ على تمسُّكِه به ولا يتعدَّاه.
ولهذا فقد يكون من الخير ألا نَحمل فكرة التفرُّد عنده بأكثر مما تَحتمِل، ولا نَستخرج منها نتائج لم يكن من المُمكن أن ينتهي إليها. ومن يدري؟ فلعله كان يريد بها تأكيد فكرة «الواحدية»؛ أي تأكيد القول أن كل موجود واحد، وأننا مهما جردناه من كل صفاته فلن نَستطيع أن نُجرِّده من صفة أنه واحد إلى جانب أنه موجود، وهي الفكرة التي أكَّدها أفلوطين من قبله عن «الواحد» المُختلِف عن كل ما يصدر عنه. ثم أكدها هو من ناحية الصفات والخصائص التي يَنفرِد بها كل موجود عن كل ما عداه. ولا يجب بطبيعة الحال أن نفهم هذا من الناحية العددية فحسب؛ إذ إن هذا بعيدٌ كل البُعد عن تفكيره. بل يجب أن نفهم منه أنه يُؤكِّد أن الفرد ليس فردًا من ناحية العدد فحسب، وإنما هو فردٌ من ناحية الفاعلية والطاقة والطابع الشخصي، الذي يتميَّز به عن كل فرد (أو جوهر) سواه، وهي فكرة أساسية في مذهبه في الوجود والدين والأخلاق جميعًا؛ إذ بغير هذا الطابع الشخصي والفردي لن يكون ثمة مجال للثواب والعقاب بعد الموت.
•••
هكذا حرص ليبنتز على تأكيد فكرة التفرُّد والتوع حرصه على تأكيد فكرة الوحدة والشمول. وهذا يكشف لنا عن سمةٍ أخرى من أبرز سمات فكره، وأعني بها ميله الدائم إلى التوفيق بين الآراء المتعارِضة والتأليف بين الاتجاهات المتباينة في مركبٍ واحد. تشهد على هذا محاولتُه التوفيق بين النظرة الغائية والنظرة الميكانيكية للعالم؛ أي بين أفلاطون وأرسطو من ناحية وبين ديكارت والعلماء الطبيعيِّين في عصره من ناحيةٍ أخرى.
وقد لمسْنا هذه المسألة من قبل، ورأينا كيف قبل ليبنتز النزعة الميكانيكية المحدودة، وأصر في نفس الوقت على رفض النزعة الميكانيكية المطلقة! فهو يوافق على أن جميع العمليات الفيزيائية يُمكن تفسيرها تفسيرًا ميكانيكيًّا، ولكنه يرى أيضًا أن من المُمكن الإبقاء على التفسير الغائي الذي وصل إلينا عن الفلسفة القديمة، بل إنَّ هذا التفسير الأخير لا غِنى عنه؛ لكي يقوم التفسير الأول على أساسٍ وطيد.
فإذا أردنا بالغائية والميكانيكية أن يكونا تفسيرَين متضادَّين متعارضين للواقع، فإن فلسفة ليبنتز تخرج عنهما جميعًا. وقد يكون من الصواب أن نصف تفكيره بأنه تفكير تركيبي أو تأليفي. ومهما قبل عن إخفاقه في الوصول إلى هذا التأليف، فإن ذلك لا يُقلِّل من تأثير فلسفته ولا ينتقص من أصالتها واتساقها.
•••
لقد كان يعتقد أن جميع العلوم التي تَتناول حقائق العقل يُمكن أن تتطوَّر على نسق العلوم الرياضية، كما كان يتوقع للعلوم التي تنصبُّ على حقائق الواقع أن تلجأ إلى المناهج الرياضية، وتفيد منها إلى أقصى حدٍّ مُمكن (وقد حقَّقت العلوم التجريبية نبوءته وقطعت معظم العلوم الإنسانية شوطًا كبيرًا في هذا السبيل).
وجدير بالذِّكر أنه أثنى على أرسطو؛ لأنه كان في منطقه أول من كتب بأسلوبٍ رياضيٍ خارج حدود العلوم الرياضية، كما تمنَّى أن يمتدَّ هذا الأسلوب إلى سائر العلوم. بل إنه ليُعبِّر عن اقتناعه بأن تطبيق المنهج الرياضي على العلوم الفلسفية سيضع حدًّا للخلافات، فتَختفي تمامًا من على مسرح الفلسفة! ولا شكَّ أن تحمُّس ليبنتز للرياضة قد أدَّى به — كما أشرنا من قبل — إلى إغفال الحدود التي لا بد أن يقف عندها المنهج الرياضي، كما أن طريقته الرياضية في التفكير قد دفعتْه في كثيرٍ من الأحيان إلى محاولة الإجابة على بعض المُشكلات الفلسفية بنفس الدقَّة التي يَلتزم بها الرياضيُّون، مع أنها في الغالب مُشكلات لا حلَّ لها على الإطلاق، وإن وجد هذا الحل، فلا يُمكن التوصُّل إليه عن طريق المنهج الرياضي!
كان ليبنتز مُقتنعًا بأن جميع العلوم يُمكن أن تُطبِّق مناهج الرياضة بدرجاتٍ مُتفاوتة. ولعلَّ هذا الاقتناع أن يكون دليلًا على النزعة العامة التي تَطبع تفكيره كله؛ ألا وهي نزعة التفاؤل التي سخر منها فولتير. ولا شكَّ أنه كان مُتأثرًا بالمناخ العام الذي ساد عصر التنوير الأوروبي، وإن كان الإنصاف يَقتضينا القول بأنه لم يقع فريسة ضيق الأفق والجفاف والفقر الرُّوحي والوجداني الذي غلب على مُعظَم إنتاج هذا العصر، ولكن ثقته المطلقة في قوة العقل الإنساني تدلُّ على تفاؤله. إنه يؤمن بتقدم الفن والفلسفة في الماضي والمُستقبَل على السواء. وقد يَنتكِس هذا التقدم المستمر من وقتٍ لآخر، ولكن النظرة الشاملة تثبت أن العقل قد تقدم أكثر مما انتكس، وأن المعرفة البشرية يزداد حظها من الكمال على مر التاريخ.
وتظهر النزعة المتفائلة أيضًا في نظرته إلى العالم والمصير. فهذا العالم هو أفضل عالم ممكن. والظلام الذي يختم عليه ليس إلا الوجه الشاحب للنور. والشر والبؤس والتعاسة التي نلقاها فيه ليست شيئًا بجانب الخير والرحمة والعدل الذي أفاضته عناية الله علينا. إنَّ أنين المأساة يضيع وسط أنغام التجانس الشامل، والموت نفسه يَفقِد ثقله وجهامته، ويصبح الشر هو الضريبة الضرورية التي لا بد من أدائها للحرية البشرية، كما تصبح الحرية نفسها جزءًا من نظام العالم الراسخ.
ولهذا كان تفكيره تفكيرًا شاملًا، بأوسع وأعمق معاني هذه الكلمة.
(ﻫ) الفلسفة الخالدة١٩
هذه عبارات تُذكِّرُنا بنصيحة بارمنيدز لسقراط — في محاورة بارمنيدز لأفلاطون — بألا يَحتقِر الفيلسوف شيئًا، ولو بلغ من ضآلَّة الشأن مبلغ الشعر والطين! وهي تكشف عن طبيعة ليبنتز وشخصيته ونزعته العقلية والنفسية التي وجهت نشاطه الفلسفي والعِلمي، كما تكشف عن تواضُع أصيل ينبغي أن ينهلَ الحكيم من نبعه على اختلاف البلاد والعصور، ويتعلَّم مع كل قطرةٍ منه حقائق الحكمة، تفكير الإنسان المحدود، تقدير جهود الغير، الإيمان بسُلطان الحقيقة الذي لا تنال منه قوى الزيف والكذب مهما كان عتادها وعدتها! وليس من الضروري أن نكون من الحكماء لنعرف هذا كله. يكفي أن ننظر في تاريخ الفكر البشري نظرة متسامحة واسعة الأفق؛ لكي نُصحِّح أفكارنا، ونعرف أن الحقيقة تَكمُن في البحث الدائب عنها، والجهد المبذول للسير على طريقِها؛ إذ لم يتأتَّ لحيٍّ ولن يتأتَّى له أن يمتلك الحقيقة الكاملة! ومن لم يفعل هذا فسيظل أسير ذاته، وسجين عصره، ولن يتسنَّى له الارتفاع بفكره فوق الضحالة والتحيُّز وضيق الأفق.
ليسَت الحقيقة التي يُملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذَلَه في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي يُنمِّي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتُّحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملُّك ليجعل الإنسان كسولًا، ساكنًا، مغرورًا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يُمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يُحرك الإنسان إلى طلبها في يُسراه — ولو كان في نيته أن يُضلَّني ضلال أبديًّا — ومد نحوي يدَيه المضمومتَين وهو يقول: اخترْ بينهما! لركعتُ أمامه في خشوعٍ وهتفتُ به وأنا أشير إلى يُسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكُكَ أنت وحدك!
ثالثًا: ليبنتز في مرآة الأجيال
ما الذي بقي حيًّا من فيلسوف غاب شبحه الفاني منذ مائتين وسبعة وخمسين عامًا؟
سؤال عسير، من تلك الأسئلة التي لا يجاب عليها إلا بأسئلةٍ أخرى! يصدق هذا على ليبنتز، كما يصدق على كل فيلسوف أو أديب عظيم ترك تراثه وديعة بين يدي الأجيال. ومن يدري؟ فقد تتوقَّف الإجابة علينا نحن، على رغبتنا في الحياة، أو قدرتنا عليها، على مدى ما نملك من شجاعة البحث عن كنوز الماضي، والارتفاع إلى قممها، والاغتراف من منابعها وبث الحياة فيها وفي أنفسنا. وكم من مفكر أو أديب مات في ذاكرة الأجيال وشبع موتًا. ثم جاءت اللحظة التي أحسَّت فيها بحاجتها الملحَّة إليه، ففزعت نحوه كما يفزع الابن التائب إلى صدر أبيه، وأزاحت التراب والأكفان عنه، وأنقذت صورته من عناكب النسيان التي تُعشِّش عليها في المتاحف والمخازن!
ويُمكننا أن ننظر إلى العلوم العديدة التي ازدهرت في عصرنا الحديث، فنتبيَّن بصمات أصابعه عليها، ونرى إلى أي حدٍّ أفادت من توجيهاته ولمحاته، فكان أحد الرواد القلائل الذين دلوها على الطريق الصحيح الذي تواصل السير فيه. ويكفي أن نذكر علوم الرياضة والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا واللغة والتاريخ والاقتصاد والمنطق الرياضي وعلم النفس التحليلي وغيرها من العلوم التي تعترف اليوم بفضله. ولكنَّنا لن نمضي في هذه الأسئلة التي تحتاج إلى بحوثٍ متخصِّصة ليس هذا مجالها، ولنرجع للخيط الذي لمسناه عن تأثير ليبنتز على التراث الفلسفي الحديث.
لم يكن ليبنتز من الفلاسفة الذين يَجمعون حولهم المريدين والأتباع، وينشئون مدرسة تتولى نشر أفكارهم ورعايتها بعد موتهم. لقد ترك وراءه تراثًا ضخمًا من البحوث والرسائل المخطوطة التي لم ينشر منها في أثناء حياته، سوى قدر ضئيل. ومات وحيدًا منسيًّا مكروهًا من أغلب معاصريه، وظل الكره والإهمال والجحود يلاحقه حتى عهدٍ قريب. ولا شك أن كشوفه الهامة في الرياضة والعلوم، وصِلاته القوية بعلماء عصره ومُفكِّريه، ومذهبه الذي أثار الإعجاب باتساقٍ بقدر ما أثار السخط على تفاؤله الشديد، وشخصيته الموسوعية الفريدة التي جمعت المتناقضات في مركبٍ عجيب، لا شك أن هذا كله لم يسمح بأن يتسرب إليه النسيان، وإن سمع بعض الوقت بالجحود والنكران!
غير أن الفضل الأكبر في نشر فلسفة ليبنتز والترويج لها بين جموع المثقفين يرجع لكرستيان فولف (١٦٧٩–١٧٥٤م) زعيم حركة التنوير في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وأمير النزعة العقلاني، و«المُمثل الجبار» للفلسفة الدوجماطيقية أو القطعية كما قال عنه كانت بحق!
ولكن فولف وتلاميذه أساءوا إلى ليبنتز بقدر ما أحسنوا إليه، فحشروا فكره الأصيل الحي في قالبٍ مذهبيٍّ ضيق، غلب عليه الطابع المدرسي، وتحكمت فيه آفة التلفيق والتوفيق. وقد كان فولف أول من غامر بكتابة معظم مؤلفاته باللغة الألمانية، وهي في أغلبها لا تخرج عن عرض فلسفة ليبنتز مع مزجها بعناصر أرسطية ورواقية ومدرسية. ولهذا يُمكن القول إن ليبنتز — الذي كان يكتب أساسًا بالفرنسية واللاتينية — كان له أثر غير مُباشِر على تكوين المصطَلَح الفلسفي في اللغة الألمانية التي لم يكتب بها كثيرًا.
لا ينفي هذا كله بطبيعة الحال أن كانت وليبنتز مختلفان في تفكيرهما أعمق الاختلاف، على الرغم من أوجه الاتصال بينهما. وكل ما نريد من ورائه هو تأكيد أن وصف ليبنتز بأنه مُمهِّد لكانت وصف ينطوي على إجحافٍ شديدٍ به. ويزيد من وقع هذا الإجحاف بليبنتنز أن عددًا كبيرًا من الباحثين قد دأبوا على وصفه بفيلسوف عصر الباروك. وهم بهذا لا يكادون يخفون رغبتهم في إظهار الجانب الضعيف من فلسفته (وإن كان ذلك الوصف لا يُقلِّل من أهميته، ولا يجعله مبتور الصلة بعصرنا)، ولا يكتمون مَيلَهم إلى التهوين من شأن ميتافيزيقاه «غير النقدية» بالقياس إلى ميتافيزيقا كانت النقدية، وإبراز أخطائها وبُعدها عن الرُّوح العلمية إذا قورنت بالفلسفات العلمية المعاصرة التي تسترشد بمناهج العلم الرياضي والطبيعي ونتائجه. ومن الواضح أن مثل هذا النقد لا ينصف «كانت» ولا «ليبنتز»، ولا يسلم عند النظر المتأنِّي من الظلم والتحيُّز.
أثر ليبنتز على عددٍ كبيرٍ من المفكِّرين والأدباء الذي تمتدُّ قائمة أسمائهم إلى يومنا الراهن. ولن يتَّسع المجال للحديث عن هذا التأثير الخصب العميق، ولهذا نَكتفي بتناول لَمحات بارزة منه.
•••
وربما كانت الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر أكثر من ذلك إنصافًا لرُوح الفيلسوف وحروفه، فها هم أولاء يوهان فريدريش هربارت (١٧٧٦–١٨٤١م)، وبرنهارد بولزانو (١٧٨١–١٨٤٨م)، وهرمان لوتزه (١٨١٧–١٨٨١م) يتأثَّرُون بليبنتز في مذاهبهم الميتافيزيقية والمنطقية، ويُفسِّرُونه كما كان يحبُّ لنفسه أن يُفسر، أعني كفيلسوف إلهي ومنطقي يبحث عن الحقائق الخالدة في عقل الله وعقل الإنسان خليفته وصورته المصغَّرة على الأرض. ولم يكتفِ هؤلاء الفلسفة الثلاثة بإنصاف ليبنتز، بل بثُّوا الحياة في فلسفته، وبخاصةٍ نظريته في المونادات أو الكائنات البسيطة غير المادية، أو عناصر الواقع المحمَّلة بالطاقة التي بنى عليها هربارت ميتافيزيقاه. وقد كان للوتزه وبولزانو فضل كبير في نقل مذهب ليبنتز في صورته النقية إلى القرن العشرين.
هذه الكلمات هي خير ما نختم به حديثنا عن ليبنتز.
فهل ما تزال هذه الفلسفة الخالدة مُمكنة؟
إن الإجابة تحتاج إلى الحكمة والشجاعة. وليبنتز هو خير مثل على الحكمة والشجاعة.
راجع تلخيصًا وعرضًا له في مقال لأستاذنا الدكتور عثمان أمين في مجلة الفكر المعاصِر، العدد ٣٤، ديسمبر ١٩٦٧م، تحت عنوان رسل وفلسفة ليبنتز، ص١٦.