المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
-
(١)
الجوهر كائنٌ قادر على الفعل. وهو بسيط أو مركَّب، فالجوهر البسيط هو الذي لا أجزاء له، والجوهر المركب١ هو المجموع المؤلَّف من جواهر بسيطة أو مونادات. وموناس كلمة يونانية تدلُّ على الوحدة أو على ما هو واحد. الأشياء المركَّبة أو الأجسام كثرة،٢ والجواهر البسيطة، والحيوانات، والنفوس، والعقول (الأرواح)٣ وحدات. ولا بد أن تكون هناك جواهر بسيطة في كل مكان؛ إذ لولا البسيطة ما وجدت المركبة. يَترتَّب على هذا أن تكون الطبيعة كلها مُمتلئة بالحياة.٤
-
(٢)
لما كانت المونادات بلا أجزاء، فلا يُمكنها أن تتولَّد أو تفسد،٥ ولا يمكنها أن تبدأ أو تنتهي على نحوٍ طبيعي، ولهذا فهي تبقى ما بقيَ العالم الذي يقبل التغير، ولكن لا يقبل الفناء.٦ وليس من المستطاع أن تكون لها أشكال، وإلا كانت لها أجزاء.٧ يترتَّب على هذا أن المونادة، بما هي كذلك، وفي لحظةٍ بعينِها، لا يُمكن تمييزها عن مونادة أخرى إلا عن طريق خصائصها،٨ وأفعالها الباطنة٩ التي لا تخرج عن أن تكون هي إدراكاتها (أي تمثُّلات المركب أو ما يوجد خارجها في البسيطة)،١٠ ونزوعاتها (أي اتجاهها للانتقال من إدراك إلى آخر) التي هي مبادئ التغير؛ لأن بساطة الجوهر لا تحول ألبتَّة دون كثرة الأحوال المختلفة التي يجب أن توجد مجتمعة في هذا الجوهر البسيط نفسه كما يجب أن تتألَّف من علاقاته المتنوعة مع الأشياء الخارجية. وهذا شبيه بمركز أو نقطة يوجد بها — على الرغم من بساطتها التامة — عدد لا حصر له من الزوايا التي تتكوَّن من الخطوط التي تتلاقى فيها.١١
-
(٣)
كل ما في الطبيعة ملاء.١٢ هناك جواهر بسيطة في كل مكان، تَختلِف عن بعضها البعض اختلافًا فعليًّا عن طريق أفعال خاصة بها١٣ تقوم باستمرار بتغيير علاقاتها. وكل جوهر بسيط أو مونادة متميزة تكون مركز جوهر مركب (كالحيوان مثلًا) ومبدأ تفرُّده،١٤ محاطة بكُتلة مؤلَّفة من عدد لا نهاية له من المونادات الأخرى. هذه المونادات تكون الجسم الخاص بهذه المونادة المركزية التي تتمثَّل طبقًا للانفعالات التي تعتريه١٥ — وكأنما هي أشبه بالمركز — الأشياء الموجودة خارجها. وهذا الجسم عضوي، وإن كان يؤلف نوعًا من الجهاز الآلي الذاتي الحركة،١٦ أو الآلة الطبيعية التي لا تَعتبِر آلة من حيث هي كل فحسب، بل كذلك في أصغر أجزائها التي يُمكن ملاحظتها.١٧ ولما كانت كل الأشياء مرتبطة ببعضها البعض نتيجة لامتلاء العالم، وكان كل جسم يؤثر على كل جسمٍ آخر تأثيرًا يقلُّ أو يكثر حسب مسافة البعد بينهما، كما يَتأثَّر تبعًا لذلك برد فعله، فيترتَّب على ذلك أن تكون كل مونادة مرآة حية قادرة على الفعل الباطن، تمثل العالم من وجهة نظرها، كما تخضع لنفس النظام الذي يخضع له،١٨ والإدراكات (التي تتمُّ في داخل) المونادة تنشأ عن بعضها البعض طبقًا لقوانين النزوع أو العلل الغائية المتعلِّقة بالخير والشر التي تتكوَّن من الإدراكات الملحوظة منظمةً كانت أو غير منظمة، كما تنشأ التغيرات التي تلحق الأجسام والظواهر الخارجية وفقًا لقوانين العلل الفاعلة أي لقوانين الحركة.١٩ وهكذا يُوجد اتِّساق كامل بين إدراكات المونادة وحركات الأجسام، وهو اتِّساق سبق تقديره منذ البدء بين نظام العِلَل الفاعلة ونظام العلل الغائية، وفي هذا يكمن التطابق والاتحاد الطبيعي بين النفس والجسم، بغير أن يقدر أحدهما على تغيير قوانين الآخر.٢٠
-
(٤)
تؤلف كل مونادة ذات جسمٍ خاصٍّ بها جوهرًا حيًّا. ولهذا لا توجد فحسب حياة في كلِّ مكان، متَّصلة٢١ بأعضاء أو أدوات، بل إن هناك درجات لا نهاية لها بين المونادات؛ إذ إن بعضها يتحكَّم قليلًا أو كثيرًا في بعضها الآخر. فإذا توافَرَت للمونادة أعضاء جعلت،٢٢ بحيث تحتوي الانطباعات التي تستقبلها، كما تحتوي تبعًا لذلك الإدراكات التي تُمثِّلها (أي تمثل هذه الانطباعات) على فروقٍ بارزةٍ ومُتميِّزةٍ (على نحو ما نجد ذلك عندما نُلاحظ أن شكل السوائل في العينين يساعد أشعة الضوء على التركيز وقوة التأثير)، فإن هذا يُمكِن أن يؤدِّي إلى الإحساس؛٢٣ أي إلى إدراكٍ مصحوبٍ بالتذكُّر، يتبقَّى منه صدى معيَّن لفترةٍ طويلة، حتى تأتيَ المناسبة التي تُتيح له أن يسمع. مثل هذا الكائن الحي يُسمى حيوانًا، كما تُسمى مونادته نفسًا. وعندما تَرتفِع هذه النفس إلى مُستوى العقل، تصبح شيئًا أكثر سموًّا وتُعدُّ روحًا من الأرواح،٢٤ كما سأُبيِّن ذلك بعد قليل.بيد أن الحيوانات توجد أحيانًا في حالة الكائنات الحية البسيطة، كما تُوجد نفوسها في حالة المونادات البسيطة،٢٥ ويتَّفق لها هذا حين لا تبلغ إدراكاتها درجة من التميُّز٢٦ تكفي لتذكرها، كما يحدث في نوم عميق خالٍ من الأحلام أو في حالة الإغماء، ولكن أمثال هذه الإدراكات التي بلغت الغاية من الاختلاط لا بدَّ أن تتَّضح ثانية في الحيوانات،٢٧ وذلك للأسباب التي سأعرضها بعد قليل (في الفقرة ١٢). ولهذا فإن من الخير التمييز بين الإدراك،٢٨ أو الحالة الداخلية للمونادة التي تتمثَّل بها الأشياء الخارجية، وبين الوعي، وهو الشعور الذاتي أو المعرفة المتأمِّلة،٢٩ لهذه الحالة الداخلية، وهو ما لا يُتاح لجميع النفوس، ولا لنفسٍ واحدة في كل الأوقات، وقد كان إغفال هذه التَّفرقة هو الخطأ الذي وقع فيه الديكارتيون الذين تجاهلوا وجود الإدراكات التي لا تكون مصحوبة بالشعور،٣٠ على نحو ما يفعل عامة الناس عندما يسقطون من حسابهم الأجسام التي لا يُدركونها إدراكًا حسيًّا. وهذا هو الذي حمل الديكارتيِّين أيضًا على الاعتقاد بأن العقول وحدها مونادات، وأن النفوس الحيوانية، ناهيك عن المبادئ الأخرى للحياة، لا وجود لها على الإطلاق.٣١ وكما صدَمُوا الرأي العام صدمة شديدة بنفيهم الإحساس عن الحيوانات، فقد تعاطَفُوا٣٢ على العكس من ذلك مع الأحكام المُسبقة التي يُردِّدها العامة تعاطفًا شديدًا عندما خلطوا بين الإغماء الطويل، الذي يأتي من اضطراب الإدراكات واختلاطها، وبين الموت بمعناه الدقيق،٣٣ الذي يتوقَّف معه كل إدراك.
-
(٥)
توجد بين إدراكات الحيوانات علاقة ارتباط تشبه من بعض الوجوه الاستنتاج العقلي (أو العقل)، ولكن هذه العلاقة لا تقوم إلا على تذكُّر الوقائع أو النتائج، لا على المعرفة بالعلل (أو الأسباب). ولهذا يهرب الكلب من العصا التي ضرب بها؛ لأن الذاكرة تُصور له الألم الذي سبَّبتْه له هذه العصا. وبقدر ما يتصرَّف الناس تصرفًا تجريبيًّا؛ أي في ثلاثة أرباع أفعالهم، فهم لا يتصرَّفون إلا كما تتصرَّف الحيوانات،٣٨ ولهذا نتوقَّع مثلًا أن يطلع النهار في الغد؛ لأن الناس قد جرَّبت ذلك دائمًا، أما الفلَكي فإنه يتنبَّأ به على أسس عقلية. غير أن هذا التنبؤ نفسه سيَخيب في نهاية الأمر، عندما تبطل٣٩ علَّة النهار التي ليست خالدة على الإطلاق.ولكن الاستِنتاج العقلي الصحيح يَعتمد على الحقائق الضرورية أو الأبدية (الخالدة)، مثل حقائق المنطق والحساب والهندسة التي تُؤلِّف بين الأفكار برباطٍ لا يتطرَّق إليه الشك، كما تُؤدِّي إلى نتائج لازمة لا تتخلَّف. والكائنات الحية التي لا تلاحظ لديها هذه النتائج تُسمَّى حيوانات، أما الكائنات الحية التي تعرف هذه الحقائق الضرورية، فهي التي تستحق أن تُسمى حيوانات عاقلة، كما تسمى نفوسها عقولًا. هذه النفوس قادرة على التأمل، قدرتها على اعتبار٤٠ ما يُسمَّى بالأنا، والجوهر، والنفس، والعقل، أي باختصار الأشياء والحقائق اللامادية. وهذا هو الذي يُمكننا من تحصيل العلوم والمعارف البرهانية.٤١
-
(٦)
لقد علمتنا بحوث المُحدِّثين، ويؤيدها العقل في ذلك، أن الكائنات الحية التي نَعرف أعضاءها؛٤٢ أي النباتات والحيوانات، لا تنشأ عن عملية تعفُّن أو عن عماء، كما تصوَّر ذلك القدماء، وإنما تنشأ عن بذور سبق تشكُّلُها من قبل، ولهذا فهيَ لا تعدو أن تكون تحولات لكائناتٍ حيةٍ سبقتها في الوجود. وفي بذور الحيوانات الكبيرة حيوانات صغيرة تَكتسي عن طريق الحمل ثوبًا جديدًا٤٣ تتملَّكه،٤٤ وتتَّخذ منه وسيلة تمكُّنها من التغذِّي والنمو لكي تَنتقِل إلى مسرحٍ أوسع، وتعمل على تكاثر الحيوان الكبير.٤٥ والحق أن نفوس الحيوانات البذرية (المنوية) البشرية غير حائزة على العقل، وإنما تُصبح عاقلة عندما يطبع الحمل هذه الحيوانات بالطبيعة البشرية. وكما أن الحيوانات بوجهٍ عامٍّ لا تنشأ أبدًا نشأةً تامَّة مع الحمل أو الإنجاب،٤٦ فإنها لا تفسد فسادًا تامًّا فيما نُسمِّيه بالموت؛ لأن العقل يقول لنا إن ما لا يبدأ بداية طبيعية لا يُمكن بالثمل أن يَنتهيَ نهاية طبيعية في إطار النظام الطبيعي.وهكذا فإنها عندما تخلع قناعها أو غشاءها،٤٧ إنما ترجع إلى مسرح أصغر، حيث يُمكنها أن تكون قادرة على الإحساس ومنظمة تنظيمًا حسنًا كما كانت في المسرح الأكبر٤٨ سواء بسواء. وما قُلناه منذ قليل عن الحيوانات الكبيرة، يَصدق بالمثْل على تولُّد وموت الحيوانات البذرية نفسها؛ أي إنها تنشأ عن نمو حيوانات بذرية أخرى أصغر منها تُعدُّ هي كبيرة بالقياس إليها؛ لأن كل شيء في الطبيعة يمتدُّ إلى ما لا نهاية.هكذا نجد أن النفوس والحيوانات كليهما لا يقبل التولد ولا الفساد، وإنما هي تنشر، وتطوي، وتكتسي ثوبًا، وتخلع الثوب، وتتحوَّل (أشكالًا). إن النفوس لا تنفصل أبدًا تمام الانفصال عن أجسامها،٤٩ ولا تَنتقِل من جسمٍ إلى جسمٍ آخر جديد عليها كل الجدة. وإذن فلا وجود لتناسُخ الأرواح، بل هناك تحوُّل أو انسلاخ.٥٠ إن الحيوانات لا تُغيِّر إلا بعض أجزائها، تأخذ هذه وتتخلَّى عن ذلك،٥١ وما يتمُّ مع التغذِّي شيئًا وفي جزئياتٍ صغيرةٍ غير محسوسةٍ، ولكن بصورةٍ دائمة، يظهر فجأةً وبصورةٍ ملحوظة — وإن تكن نادرة — مع الحمل والموت اللذَين يجعلان الحيوانات تكسب الكثير أو تفقد الكثير دفعةً واحدة.
-
(٧)
لم نتكلَّم حتى الآن إلا بوصفِنا فيزيقيِّين،٥٢ ويَنبغي علينا الآن أن نرتفع إلى مستوى الميتافيزيقا؛ بحيث نستخدم المبدأ الهام الذي قلَّما طبق بوجهٍ عامٍّ، وهو المبدأ الذي يقول إنه ما من شيءٍ يحدث بغير سببٍ كافٍ؛ أي إنه ما من شيءٍ يتمُّ وقوعه بغير أن يكون في إمكان من يعرف الأشياء معرفة كافية أن يقدم سببًا يكفي لتحديد علَّة وقوعه على هذا النحو لا على نحوٍ آخر. فإذا وضع هذا المبدأ كان أول سؤال يحقُّ لنا أن نطرحه هو هذا السؤال: لِمَ كان وجود (شيءٍ ما) ولم يكن بالأحرى عدم؛ ذلك لأن العدم أبسط وأيسر من أي شيء. وإذا افترضنا ضرورة وجود أشياء، فقد لزمنا أن نكون قادرين على تقديم سبب يُبيِّن لماذا يتحتَّم أن توجد على هذه الصورة لا على صورة أخرى.٥٣
-
(٨)
بيد أن هذا السبب الكافي لوجود العالم لا يُمكن العُثور عليه داخل سلسلة الأشياء الحادثة؛ أي الأجسام وتمثُّلاتها في النفوس؛ إذ لما كانت المادة بما هي كذلك تقف من الحركة والسكون ومن حركةٍ معيَّنةٍ بذاتها موقف عدم المبالاة، فلا يُمكن أن نجد فيها سبب الحركة بوجهٍ عام، ناهيك عن سبب حركة معيَّنة. ومع أن الحركة الحاضرة الموجودة في المادة تنشأ عن الحركة السابقة عليها، كما أن هذه تنشأ عن أخرى سابقة، فإننا لن نتقدَّم خطوة واحدة مهما شاء لنا التمادي في الرجوع إلى الوراء؛ لأن السؤال نفسه سيظلُّ مطروحًا على الدوام. يلزم عن هذا أن السبب الكافي، الذي لا يحتاج إلى سببٍ آخرٍ سواه، يجب أن يقع خارج سلسلة الأشياء الحادثة، وأن يوجد في جوهر يكون علَّة هذه السلسلة كما يكون كائنًا ضروريًّا يَحمل في ذاته سبب وجوده؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما وجدنا سببًا كافيًا يُمكننا أن نقف عنده. وهذا السبب الأخير للأشياء يُسمَّى الله.٥٤
-
(٩)
ينبغي لهذا الجوهر الأول البسيط،٥٥ أن يَحتوي على أقصى قدر مُمكن من كل الكمالات المتضمَّنة في الجواهر المشتقَّة،٥٦ الناتجة عنه. ولهذا فسيكون كامل القوة والمعرفة والإرادة؛ أي سيكون مُطلَق القدرة، شامل العلم، واسع الرحمة.٥٧ ولما كانت العدالة بأعمِّ معانيها لا تخرج عن أن تكون هي الخيرية المطابقة للحكمة، فلا بد أيضًا من أن يوصف الله بالعدالة في أسمى صورها. والسبب الذي جعل الأشياء تستمدُّ منه٥٨ وجودها، هو كذلك الذي يجعلها تعتمد عليه في استمرار وجودها وسائر أفعالها، وتتلقَّى منه على الدوام كل ما يُضفي عليها نوعًا من الكمال، أما ما يبقى فيها من أوجه النقص، فيرجع إلى ما فطرت عليه المخلوقات من قصورٍ٥٩ أساسي متأصِّلٍ فيها.٦٠
-
(١٠)
يلزم عن الكمال الأقصى لله أنه عندما أبدع العالم قد اختار أصلح خطة مُمكنة يتَّحد فيها أعظم قدرٍ من التنوع مع أعظم قدرٍ من النظام؛ حيث ينتفع٦١ بالأرض، والمكان، والزمان على خير وجه، وتُحقِّق أعظم النتائج بأبسط الوسائل، وحيث زوَّدت المخلوقات من القوة والمعرفة والسعادة والخير بأعظم قدرٍ يُمكِن أن يسمح به العالم.٦٢ولما كانت جميع المُمكنات التي في ذهن الله تَطمح للوجود على قدر كمالها، فيلزم أن تكون النتيجة المترتِّبة على جميع هذه المطامح هي العالم الواقعي بوصفه أكمل العوالم الممكنة. وبغير هذا لن يتسنَّى إيجاد سبب يُبرر سير الأمور على هذا النحو دون غيره.٦٣
-
(١١)
لقد اقتضَت حكمة الله السامية٦٤ أن يختار أنسب قوانين الحركة وأكثرها ملاءمة للأسباب المجرَّدة أو الأسباب الميتافيزيقية (ويفضل هذه القوانين). تبقى كمية القوة الكلية والمُطلقة أو كمية الفعل ثابتة على الدوام، وتبقى نفس كمية القوة المتبادلة،٦٥ أو كمية رد الفعل، كما تبقى أخيرًا نفس كمية قوة الاتجاه ثابتة على ما هي عليه. وفضلًا عن هذا، فإن الفعل يُساوي دائمًا رد الفعل، كما أن النتيجة الإجمالية تُعادل على الدوام سببها الحقيقي برمته. ومما يدعو للعجب أن الاقتصار على النظر في العِلَل الفاعلة أو المادة يجعل الإنسان عاجزًا عن إثبات قوانين الحركة هذه التي اكتشفت في أيامنا وكنت أنا نفسي من بين الذين أسهموا في الكشف عن بعضها. فقد وجدت من الضروري اللجوء إلى العِلَل الغائية، (كما وجدت) إن هذه القوانين لا تعتمد على مبدأ الضرورة كالحقائق المنطقية والحسابية والهندسية، بل تعتمد على مبدأ الملاءمة؛٦٦ أي على الاختيار الذي تمَّ بفضل الحكمة (الإلهية). وهذا من أقوى الأدلة على وجود الله، وأولاها بالعناية والتدبر من كل من يسعهم التعمُّق في هذه الأمور.٦٧
-
(١٢)
ويلزم عن كمال المبدع الأعظم أن لا يكون نظام العالم هو أكمل نظام مُمكن فحسب، بل يلزم عنه كذلك أن كل مرآة حية تصور العالم من وجهة نظرها؛ أي إن كل مونادة أو كل مركز جوهري لا بدَّ أن تكون إدراكاته ومنازعه منظمة على أفضل وجه، بحيث تتوافَق مع سائر الأشياء في مجموعها. ثم يلزم عن هذا أيضًا أن النفوس؛ أي المونادات المتفوِّقة على كل ما عداها (من المونادات)، بل الحيوانات نفسها. لا بد أن تصحو ثانية من حالة الغيبوبة التي يُمكن أن يضعها فيها الموت أو أي حادثٍ آخر.
-
(١٣)
لأنَّ جميع الأشياء قد سُويت مرة واحدة وإلى الأبد على أكبر قدر مُمكن من النظام والتوافُق،٦٨ إذ إنَّ الحكمة والرحمة٦٩ السامية لا يُمكن أن تتصرَّف إلا بمُقتضى التجانس٧٠ الكامل، إن الحاضر يَحمل المستقبل في أحشائه، والمستقبل يُمكن أن يقرأ من صفحات الماضي، والبعيد يُعبر عنه في القريب. وفي استطاعتنا أن نتبيَّن جمال العالم في كل نفس، لو أمكَنَنا أن ننشر كل طياتها التي لا تنبسط بشكلٍ ملحوظ إلا بمرور الزمن، ولكن لما كان كل إدراك متميِّز للنفس يحتوي على عددٍ لا حصر له من الإدراكات المختلطة التي تحيط بالعالم كله، فإن النفس ذاتها لا تعرف الأشياء التي تدركها إلا بقدر ما تكون هذه الإدراكات واضحة متميِّزة، ويقاس كمالها (أي النفس) بحسب إدراكاتها الواضحة. إن كل نفس اللا متناهي، تعرف كل شيء، ولكنها بطبيعة الحال تعرفه على نحوٍ غامض، كما يحدث لي مثلًا عندما أسير في نزهةٍ على شاطئ البحر، وأسمع هديره الصاخب، فإني أسمع في نفس الوقت أصواتًا مُفرَدة من كل موجة على حدة تؤلف مع غيرها من الأصوات الهدير العام للبحر، وذلك دون أن أقدر على تمييز بعضها عن بعضها الآخر. إن إدراكاتنا الغامضة إنما هي نتيجة الانطباعات التي يتركها فينا العالم بأكمله، وكذلك الشأن مع كل مونادة.٧١ والله وحده هو الذي يملك المعرفة الواضحة بكل شيء؛ لأنه هو مصدر كل شيء. وقد قيل بحق إن مركزه يقع في كل مكان، أما محيط دائرته فليس موجودًا في أي مكان؛ إذ إن كل شيء بالنسبة إليه حاضر حضورًا مباشرًا، دون أدنى بُعد عن هذا المركز.
-
(١٤)
أما عن النفس العاقلة أو العقل، فإن فيه شيئًا يزيد عما في المونادات أو في النفوس البسيطة نفسها.٧٢ فليس مجرد مرآة لعالم المخلوقات، بل هو كذلك صورة من الألوهية. إن العقل لا يقتصر على إدراك أعمال الله، بل إنه لقادر على إبداع شيء شبيه بها، وإن يكن ذلك في نطاقٍ أصغر؛ لأنه بغضِّ النظر عن عجائب الأحلام التي نخترع فيها بلا عناء (ولكن بغير قصدٍ منَّا أيضًا) أشياء يتحتَّم علينا أن نتفكَّر فيها طويلًا إذا أردنا أن نجدها بعد اليقظة، فإن نفوسَنا تجري في أفعالها الإرادية أيضًا على طريقة المهندسين،٧٣ وهي حين تكتشف العلوم التي سوى الله الأشياء بمقتضاها (طبقًا للوزن، والمقياس، والعدد … إلخ)٧٤ فإنما تُحاكي — في مجالها وفي عالَمها الصغير الذي أتيح لها التصرف في حدوده — ما يقوم به الله في العالم الكبير من أفعال.٧٥
-
(١٥)
لهذا فإنَّ جميع الأرواح، سواء كانت بشرًا أو أرواحًا خالصة،٧٦ تدخل بفضل العقل والحقائق الأبدية مع الله في جماعةٍ من نوعٍ ما، وتشارك كأعضاء في مدينة الله؛ أي في أكمل دولة أسَّسها ويدبر أمورها أعظم الحكام وأصلحهم. وليس في هذه الدولة جريمة بغير عقاب، ولا فعل طيب بغير ثواب مُكافئ له، وعلى الجملة أقصى ما يُمكن تصوُّره من الفضيلة والسعادة. ولا يتحقَّق هذا بإخراج الطبيعة عن نظامها الطبيعي،٧٧ وكأن ما يُهيئه الله للنفوس يعطل٧٨ قوانين الأجسام، وإنما يتمُّ وفقًا لنظام الأشياء الطبيعية ذاتها، بفضل الاتساق المقدر منذ الأزل بين مملكة الطبيعة ومملكة الفضل الإلهي، بين الله بوصفه المهندس والله بوصفه الحاكم؛ بحيث تُؤدِّي الطبيعة نفسها إلى الفضل الإلهي، كما يحقق الفضل الإلهي كمال الطبيعة باستخدامه لها.٧٩
-
(١٦)
وعلى الرغم من أن العقل يعجز عن إفادتنا بشيءٍ عن دقائق المستقبل البعيد،٨٠ الذي ادَّخر العلم به للوحي، فإنَّنا نستطيع مع ذلك أن نتأكَّد عن طريق هذا العقل نفسه من أن الأشياء قد خلقت على نحوٍ يفوق كل أمانينا. ولما كان الله، وهو أكمل الجواهر وأسعدها، هو كذلك أجدرها بالحب، وكان الحي النَّقي الصادق٨١ يقوم على الفرح بما يصيب المحبوب من أسباب الكمال والسعادة، فإن هذا الحب عندما ينصبُّ على الله، خليق بأن يُتيح لنا أكبر قدرٍ من البهجة يسعنا التنعُّم به.
-
(١٧)
ومن السهل علينا أن نحبَّه الحب الذي هو جدير به، لو عرفناه على النحو الذي ذكرته.٨٢ فعلى الرغم من أن الله يَستعصي على إدراك حواسنا الخارجية، فإنه مع ذلك محبوب غاية الحب، ويمنحنا أسمى آيات الفرح. إننا نُلاحظ مقدار ما تدخله أسباب التكريم٨٣ من البهجة على قلوب الناس، حتى ولو لم تكن لها خصائص الأشياء التي يُمكن إدراكها إدراكًا خارجيًّا. إن الشهداء والمتعصِّبين (وإن كانت عاطفة هؤلاء عاطفة منحرفة غير سوية) شواهد تدلُّ على ما يُمكن أن تصنعه البهجة العقلية، وأهم من هذا أن المباهج الحسية نفسها يرجع إلى مباهج عقلية لم تُعرف معرفة واضحة.٨٤إنَّ الموسيقى تسحر أفئدتنا، وإن كان جمالها لا يقوم إلا على تناسُب٨٥ الأعداد والعد الذي لا تشعر به شعورًا واعيًا، ومع ذلك فإن النفس تقدره على أساس الضربات والذبذبات المُنبعثة من الأجسام الرنانة التي تتلاقى٨٦ في فواصلَ زمنيةٍ معيَّنة. والبهجة التي تجدُها العين في النسب هي من نفس هذا النوع، كما أن مَباهج الحواس الأخرى ترجع إلى أمورٍ مشابهة، وإن كنا لا نملك أن نفسرها تفسيرًا واضحًا.٨٧
-
(١٨)
نستطيع بالمثل أن نقول إن محبة الله تُتيح لنا من الآن الاستِمتاع بمذاقٍ أوَّليٍّ للسعادة المقبلة،٨٨ ومع أنها٨٩ منزَّهَة عن الغرض، فإنها تُحقِّق بذاتها أعظم خير وأكبر نفعٍ لنا، حتى ولو لم نسعَ إليها، ولم نضع في الاعتبار إلا الفرح الذي تمنحُنا إياه، دون التفاتٍ للمنفعة التي تنتج عنها. ذلك أنها تبث فينا الثقة الكاملة في رحمة٩٠ خالقنا ومولانا، وهذه الثقة تبعث على الطمأنينة الروحية الحقة، التي لا تصدر عن تصبر٩١ مفروض على النفس، كما هو الحال عند الرواقيين، بل عن شعور مباشر بالرضا والقناعة، يجعلنا على يقينٍ من سعادةٍ مُقبلة.٩٢ وبجانب هذه البهجة المباشرة التي تُتيحها فليس هناك شيء أنفع للمستقبل من محبة الله؛ لأنها تحيي كذلك آمالنا، وتقود خطانا على طريق السعادة القصوى. فقد خلق كل شيء، بفضل النظام الكامل القائم في العالم، على أحسن وجهٍ مُمكن، سواء بالنظر إلى الصالح العام، أو بالنظر إلى المصلحة العُظمى التي تعود على المقتنعين به، الراضين عن الحكومة الإلهية. هذا الاقتناع والرضا لن يعوز أولئك الذين يعرفون كيف يُحبون منبع كل خير.
صحيح أن السعادة القصوى (أيًّا كانت الرؤية المباركة أو معرفة الله التي تصحبها) لا يمكن أن تتحقق تحققًا تامًّا؛ لأن الله، وهو غير متناهٍ، لن يتسنى معرفته معرفة كاملة.
ومن ثم فلن تقوم سعادتنا ولا ينبغي لها أن تقوم على الاستمتاع الكامل، الذي لن يدعَ مجالًا للتمنِّي، وسيُصيب عقولنا بالتبلُّد، بل يجب أن تقوم على التقدم المتصل نحو أفراحٍ جديدة، وألوانٍ جديدةٍ من الكمال.
هل كان ليبنتز ينبأ بحدسِه الصائب بما ذهب إليه بعض العلماء الطبيعيِّين في عصرنا (نيلس بور) من أن بناء الذرة نموذج مصغر لبناء الكون، على بعد الفرق بين الذرة والمونادة؟!