المونادولوجيا
-
(١)
ليست المونادة، التي سنتحدَّث عنها هنا، سوى جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركب، والبسيط معناه ما لا أجزاء له. (قارن التيوديسية ١٠).١
-
(٢)
ويجب أن تكون هناك جواهر بسيطة، ما دامت هناك جواهر مركَّبة؛ إذ ليس المركب إلا كومة أو مجموعة مؤلَّفة من بسائط.٢
-
(٣)
وحيث لا تكون أجزاء،٣ لا يُمكن أن يكون ثمة امتداد، ولا شكل، ولا انقسام. وهذه المونادات هي الذرات الحقة (التي تتكوَّن منها) الطبيعة، وهي على الجملة عناصر الأشياء.
-
(٤)
كذلك ليس هناك ما يدعو للخوف من تحلُّلها، ولا سبيل على الإطلاق لتصور فساد الجوهر البسيط فسادًا طبيعيًّا.
-
(٥)
ولهذا السبب نفسه لا يُمكِن أن نتصور نشوء الجوهر البسيط على نحوٍ طبيعي؛ إذ إنه لا يُمكِن أن يتكون عن طريق التركيب.٤
- (٦)
-
(٧)
ولا سبيل كذلك إلى تفسير إمكان تأثُّر المونادة أو تغيرها من داخلها عن طريق أي مخلوقٍ آخر،٧ إذ يستحيل أن ينقل إليها شيء أو أن تتصور فيها أية حركة باطنة، يمكن أن تثار أو توجه أو تزيد أو تنقص؛ وذلك على خلاف الأشياء المركبة،٨ التي نجد فيها تغيرًا في علاقة الأجزاء بعضها ببعض. ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء، أو يخرج منها. إن الأعراض لا يُمكنها أن تَنفصِل عن الجواهر، ولا أن تتجوَّل خارجها، كما كانت تفعل الصور الحسية٩ عند المدرسيِّين. وهكذا يستحيل على الجوهر والعرض أن ينفذا إلى المونادة من الخارج.
-
(٨)
ومع ذلك فيجب أن تَشتمِل المونادات على بعض الخصائص، وبغير هذا لا يتسنَّى لها أن تصبح كائنات على الإطلاق،١٠ وإذا لم تتفاوَت الجواهر البسيطة عن طريق خصائصها المميزة،١١ فلن تكون هناك وسيلة للتحقُّق من أي تغيُّر يلحق الأشياء؛ لأنَّ ما يوجد في المركب لا يُمكن أن يأتي إلا من عناصره البسيطة. فلو كانت المونادات بغير خصائص، وكانت بالتالي غير مُتميِّزة عن بعضها البعض — إذ إنها لا تَختلِف أيضًا عن بعضها من ناحية الكم — لترتَّب على هذا، مع افتراض الملاء١٢ إلا يتقبَّل كل مكان١٣ في أثناء الحركة غير مُحتوى واحد مكافئ للمحتوى الذي كان يشغله من قبل، بهذا يتعذَّر تعذرًا تامًّا تمييز حالة تكون عليها الأشياء عن حالةٍ أخرى (راجع التيوديسية، المقدمة، ٢ب).
-
(٩)
يتحتَّم أن تكون كل مُونادة مختلفة عن الأخرى. إذ يَستحيل أن يوجد في الطبيعة كائنان مُتشابهان تشابُهًا كاملًا، بحيث يتعذَّر ألا نعثر فيهما على خلافٍ قائمٍ على خاصيةٍ باطنة.١٤
-
(١٠)
لا نزاع عندي أيضًا١٥ في أن كل كائن مخلوق عرضة للتغير، وبالتالي تكون المونادة المخلوقة كذلك، كما أن هذا التغيُّر يتمُّ باستمرار في كل مونادة.
-
(١١)
يتبيَّن مما سبق أن التغيُّرات الطبيعية١٦ في المونادات تصدر عن مبدأ داخلي؛ إذ يستحيل على علَّة خارجية أن تؤثر على داخلها (قارن التيوديسية ٣٩٦، ٤٠٠).
-
(١٢)
بجانب مبدأ التغيُّر يجب أيضًا أن يكون هناك طابع خاص لما يتغيَّر،١٧ بحيث يكون على نوعية الجواهر البسيطة وتنوُّعها.
-
(١٣)
هذا الطابع الخاص يَنطوي بالضرورة على كثرة في الوحدة أو في البسيط. فلما كان كل تغيُّر طبيعي يتمُّ بالتدريج، كان من الضروري أن تتغيَّر بعض الأشياء، ويَبقى بعضها دون تغيير.١٨ يلزم عن هذا أن توجد في الجوهر البسيط كثرة من الخصائص والعلاقات، على الرغم من أنه لا يتكوَّن من أجزاء.
-
(١٤)
والحالة العابرة التي تضمُّ كثرة في الوحدة أو في الجوهر البسيط وتمثُّلها ليست إلا ما يُسمَّى بالإدراك. ويجب التفرقة بينه وبين الوعي أو الشعور،١٩ كما سيتَّضح مما يرد فيما بعد. وقد أخطأ الديكارتيُّون في هذه المسألة خطأً كبيرًا؛ إذ أهملوا الإدراكات التي لا يشعر بها الإنسان إهمالًا تامًّا.٢٠ وهذا هو الذي أدَّى بهم أيضًا إلى الاعتقاد بأن العقول وحدها مونادات، وأنه لا وجود لنفوس الحيوانات ولا لغيرها من الأنتليخيات.٢١ وهو الذي جعلهم يخلطون بين الإغماء الطويل وبين الموت بمعناه الدقيق، متفقين في ذلك مع الرأي الشائع لدى العامة، كما جعلهم كذلك يقعون في الدعوة التي ادَّعاها المدرسيُّون على غير أساس من وجود نفوس مجردة كل التجرد من الأجسام. بل إنهم بذلك قد أيدوا رأي أصحاب العقول الضالة فيما زعموه عن فناء النفوس.٢٢
-
(١٥)
والفعل الذي يصدر عن المبدأ الباطن ويُسبب التغيُّر أو الانتقال من إدراكٍ إلى آخر يُمكن أن يسمى بالنزوع.٢٣ صحيح أن النزوع لا يُمكنه على الدوام أن يبلغ الإدراك الذي يتوق لبلوغه على نحوٍ تام، ولكنه يحصل دائمًا على شيءٍ منه، ويبلغ بذلك إدراكاتٍ جديدة.
- (١٦)
-
(١٧)
ولا بد أيضًا من الاعتراف بأن الإدراك وما يتوقَّف عليه لا يُمكن تفسيره بأسباب (أو علل) آلية؛ أي عن طريق الأشكال والحركات. ولو تصوَّرنا وجود آلة صنعت، بحيث يُمكنها أن تفكر، وتحسُّ، وتدرك، فإن في الإمكان تصورها مكبرة بنفس النسب، بحيث يكون في وسع الإنسان أن يدخل فيها كما يَدخُل في طاحونة.٢٦ لو افترضنا هذا لما وجدنا فيها عند مشاهدتها من الداخل غير أجزاء تتصادم مع بعضها البعض، ولن نجد فيها شيئًا يُمكن أن يفسر لنا إدراكًا واحدًا. وعلى هذا يَنبغي البحث عن هذا الإدراك في الجوهر البسيط لا في المركب ولا في الآلة.٢٧ كذلك لن نجد في الجوهر البسيط غير الإدراكات وما ينجم عنها من تغيرات. ومن هذه وحدها يمكن أن تتكوَّن كل الأفعال الباطنة (الداخلية) للجواهر البسيطة.٢٨
- (١٨)
-
(١٩)
إذا أردنا أن نطلق كلمة النفس على كل ما لديه إدراكات ونزوع بالمعنى العام الذي شرحته آنفًا، فمن الممكن عندئذٍ تسمية جميع الجواهر البسيطة أو المونادات المخلوقة نفوسًا، ولكن لما كان الإحساس شيئًا يزيد على الإدراك البسيط، فقد يكفي أن نطلق على الجواهر البسيطة التي لا تحتوي على شيءٍ آخر سواه اسم «المونادات» أو «الأنتيليخات» بوجهٍ عام، أما تسمية «النفس»، فيَصح أن نُقصرها على المونادات التي يكون الإدراك فيها أكثر تميُّزًا كما يكون مصحوبًا بالتذكُّر.٣٢
-
(٢٠)
ذلك أننا نُجرِّب في أنفسنا حالة لا نتذكر معها أي شيء، ولا يكون لدينا في أثنائها أي إدراكٍ مُتميز، مثلما يحدث لنا في حالة الإغماء أو الاستغراق في نومٍ عميقٍ بلا أحلام. في هذه الحالة لا تختلف النفس اختلافًا محسوسًا عن المونادة البسيطة،٣٣ ولكن لما كانت هذه الحالة لا تدوم ولا تلبث النفس أن تخرج منها؛ فإنها (أي النفس) شيء يزيد عن ذلك (أي عن مجرد كونها مونادة) (راجع التيوديسية، ٦٤).
-
(٢١)
ولا يترتب على هذا أن الجوهر البسيط يخلو عندئذٍ من كل إدراك. إن ذلك تبعًا للأسباب السابقة أمر غير مُمكن؛ لأنه لا يمكن أن يفسد، ولا يُمكنه أيضًا أن يبقى بغير تأثر من نوعٍ ما، وليس هذا التأثر سوى إدراكه. أما إذا توافر وجود عدد كبير من الإدراكات الصغيرة التي لا يتميَّز شيء منها تميزًا واضحًا، فإن الإنسان يشعر (في هذه الحالة) بالدوار، كما يحدث له لو دار حول نفسه عدة مرات في اتجاهٍ واحد، فيُصاب بإغماء قد يفقده الوعي، ويجعله عاجزًا عن التمييز.٣٤ والموت يُمكن أن يضع الحيوانات في مثل هذه الحالة فترة من الزمن.٣٥
-
(٢٢)
ولما كانت الحالة الحاضرة للجوهر البسيط هي النتيجة الطبيعية لحالته السابقة؛ بحيث إنَّ الحاضر يحمل المستقبل في رحمه٣٦ (قارن التيوديسية ٣٦٠).
-
(٢٣)
ولما كان الإنسان يفطن إلى٣٧ إدراكه بمجرد أن يُفيق من الإغماء فلا بد أن مثل هذا الإدراك قد وُجد لديه قبل ذلك مباشرة، وإن لم يكن عندئذٍ على وعي به؛ لأن الإدراك لا يُمكن أن ينشأ نشأة طبيعية إلا عن إدراك آخر، شأنه في هذا شأن الحركة التي لا يُمكن أن تنشأ نشأة طبيعية إلا عن حركة٣٨ (قارن التيوديسية ٤٠١–٤٠٣).
-
(٢٤)
نتبيَّن من هذا أننا سنكون دائمًا في حالة الإغماء إذا خلت إدراكاتنا من التميز،٣٩ والتطلُّع إلى مرتبة أسمى. والواقع أن هذه هي حالة المونادات المتناهية في البساطة.
-
(٢٥)
كذلك نرى أن الطبيعة قد أعطت للحيوانات إدراكات متميزة عندما نتبين أنها قد كفلت لها أعضاء تجمع عددًا كبيرًا من الأشعة أو الذبذبات الهوائية؛ لكي تجعلها بهذا التوحيد أكثر فاعلية. وشبيه بهذا ما يحدث عند الشم والذوق واللمس، ولعله أن يكون شبيهًا بما يحدث مع عددٍ آخر من الإحساسات التي نجهلها. وسوف أفسِّر بعد قليل٤٠ كيف تصور الأحداث التي تجري في النفس ما يتم في الأعضاء.
-
(٢٦)
إنَّ الذاكرة تمد النفوس بنوعٍ من الاستنتاج،٤١ الذي يحاكي العقل وإن وجب تمييزه عنه. فنحن نرى الحيوانات إذا أدركت شيئًا ذا أثر بالغ عليها، وكانت قد أدركته قبل ذلك إدراكًا مشابهًا، نراها بفضل الذاكرة تتوقَّع ما ارتبط من قبل بهذا الإدراك وتحس بمشاعر شبيهة بتلك التي أحست بها. فإذا لوَّحنا مثلًا بالعصا للكلاب تذكرت الألم الذي سبَّبته لها، وأخذت تنبح ولاذت بالفرار (قارن التيوديسية، المقدمة، ٦٥).
- (٢٧)
-
(٢٨)
ويسلك الناس سلوك الحيوانات حين لا تتمُّ الاستنتاجات من إدراكاتهم إلا عن طريق مبدأ الذاكرة، وهم في هذا يُشبهون الأطباء التجريبيِّين،٤٤ الذين يَملكُون القدرة على الممارسة العملية البسيطة، ويفتقرون إلى النظرية. ونحن في ثلاثة أرباع تصرفاتنا لا تزيد عن كوننا تجريبيِّين. فإذا توقعنا مثلًا أن يطلع النهار في صباح الغد، كنا في مسلكنا هذا تجريبيين؛ لأن هذا هو الذي حدث حتى الآن. أما عالِم الفلك فهو وحده الذي يحكم العقل في هذا الأمر.٤٥
- (٢٩)
-
(٣٠)
وعن طريق المعرفة بالحقائق الضرورية، ومن خلال تجريداتها نرتفع كذلك إلى الأفعال المنعكسة٤٨ (التأمُّلية) التي تُوصِّلنا إلى فكرة الأنا،٤٩ وتجعلنا نَعتبر أن هذا أو ذاك موجود فينا. فنحن إذ نُفكِّر على هذا النحو في أنفسنا، نوجه أفكارنا في نفس الوقت إلى الوجود والجوهر، والبسيط والمركب، واللامادي والله نفسه، حيث نتصور أن ما هو محدود فينا يوجد فيه بغير حدود. هذه الأفعال المنعكسة (أو التأمُّلية) تمثل الموضوعات الأساسية لمعرفتنا العقلية (قارن التيوديسية، الافتتاحية ٤أ).٥٠
-
(٣١)
تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين؛ مبدأ عدم التناقض، وبفضله نحكم بالكذب على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه (قارن التيوديسية ٤٤ و١٦٩).
-
(٣٢)
كما تقوم على مبدأ السبب الكافي، وبه نُسلِّم بأنه لا يُمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها، ولا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كافٍ يجعلها على هذا النحو دون غيره،٥١ وإن تعذر علينا في أغلب الأحوال أن نتوصَّل إلى معرفة هذه الأسباب (قارن التيوديسية ٤٤ و١٩٦).
-
(٣٣)
هناك نوعان من الحقائق؛ حقائق العقل وحقائق الواقع. حقائق العقل ضرورية، وعكسها مستحيل، وحقائق الواقع عرضية، وعكسها مُمكن. فإذا كانت إحدى الحقائق ضرورية، أمكن عن طريق التحليل أن نجد سببها، وذلك بتحليلها إلى أفكار وحقائق أبسط، إلى أن نصل إلى الحقائق الأصلية (قارن التيوديسية ١٧٠ و١٧٤ و١٨٩ و٢٨٠–٢٨٢ و٣٦٧ وكذلك موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث).٥٢
-
(٣٤)
بهذه الطريقة يردُّ الرياضيون المبادئ النظرية والقواعد العملية بواسطة التحليل إلى تعريفات ومسلَّمات ومصادرات.
-
(٣٥)
بهذا نصل آخر الأمر إلى أفكار بسيطة لا يُمكن تعريفها،٥٣ كما نصل إلى مسلَّمات ومصادرات أو باختصار إلى مبادئ أولية لا يُمكن البرهنة عليها، ولا تحتاج أيضًا إلى برهان. وهذه هي القضايا الذاتية التي ينطوي عكسها على تناقض صريح.
-
(٣٦)
ولكن يجب أيضًا أن يُوجَد السبب الكافي في الحقائق العرضية،٥٤ أو حقائق الواقع؛ أي في تسلسل وسياق جميع المخلوقات؛٥٥ حيث يُمكن أن يَمضي التحليل إلى أسباب تفصيلية لا حدَّ لها، نظرًا للتنوع الهائل في الأشياء الطبيعية وقسمة الأجسام إلى ما لا نهاية. إنَّ هناك عددًا لا نهاية له من الأشكال والحركات الحاضرة والماضية، التي تدخل في تكوين العلة الفاعلة لما أكتبه الآن،٥٦ كما أن هناك عددًا لا نهاية له من الدوافع والاستعدادات الصغيرة التي خبرتْها نفسي في الماضي أو في الحاضر، ودخلت في تكوين علتها الغائية٥٧ (قارن التيوديسية ٣٦ و٣٧ و٤٤ و٤٥ و٤٩ و٥٢ و١٢١ و١٢٢ و٣٣٧ و٣٤٠ و٣٤٤).
-
(٣٧)
ولما كانت كل هذه التفصيلات تحتوي من جانبها على أمور عرضية (حادثة) أخرى أسبق منها وأشد تفصيلًا، وكانت هذه تحتاج بدَورِها إلى تحليل مُشابه لتبريرها، فإننا بهذه الطريقة لن نُحرز تقدمًا، لهذا يتحتَّم أن يوجد السبب الكافي أو السبب الأخير خارج سلسلة أو مجموع سلاسل الأشياء العرضية (الحادثة) كلٌّ على حِدَة، مهما بلغت هذه السلسلة حدًّا لا نهاية له.٥٨
-
(٣٨)
وهكذا ينبغي أن توجد العلة الأخيرة للأشياء في جوهر ضروري، يحتوي على تفاصيل التغيُّرات على نحوٍ سامٍ٥٩ أشبه بأن يكون مصدرًا لها، وهذا الجوهر هو الذي ندعوه الله (قارن التيوديسية ٧).
-
(٣٩)
ولما كان هذا الجوهر هو العلَّة الكافية لكل هذه التفاصيل الخاصة، المترابطة من ناحيتها أوثق ارتباط، فليس هناك غير إله واحد،٦٠ وهذا الإله كافٍ.
- (٤٠)
-
(٤١)
يترتَّب على هذا أن الله كامل كمالًا مطلقًا؛ إذ ليس الكمال إلا عظم الواقع الإيجابي من حيث هو كذلك، (وهو الذي نحصل عليه) عندما نضرب صفحًا عن حدود أو قيود الأشياء التي لديها مثل هذه الحدود والقيود. وحيث لا تكون ثمَّة حدود، أعني في الله، يكون الكمال لا مُتناهيًا بإطلاق (قارن التيوديسية ٢٢، والمقدمة ٤أ).
-
(٤٢)
يترتَّب على هذا أيضًا أن المخلوقات تستمدُّ كمالها من تأثير الله، أما وجوه النقص فيها، فترجع إلى طبيعتها الخاصة التي يعجزها أن تكون بغير حدود؛ لأنَّ هذا هو أساس اختلافها عن الله.٦٣
-
(٤٣)
من الحق أيضًا أن الله ليس هو مصدر الوجودات٦٤ فحسب، بل هو كذلك مصدر الماهيات، بقدر ما تكون واقعية، أو هو بمعنًى آخر مصدر٦٥ ما يحتوي عليه الإمكان من واقع.٦٦ ذلك أن الذهن الإلهي هو منطقة الحقائق الأبدية، أو الأفكار التي يتوقف عليها وجودها،٦٧ وبغير وجوده لن يكون في الإمكانات واقع، ولن يكون فيها شيء موجود فحسب، بل لن يكون فيها كذلك شيء مُمكن (قارن التيوديسية ٢٠).
-
(٤٤)
لأنه إن كان ثمة واقع في الماهيات أو الإمكانات، أو حتى في الحقائق الأبدية، فلا بد أن يقوم سبب هذا الواقع على شيءٍ موجود وفِعلي، وبالتالي على وجود الكائن الضروري الذي تتضمن ماهيته وجوده، والذي يكفيه أن يكون ممكنًا لكي يكون واقعيًّا (قارن التيوديسية ١٨٤ و١٨٩ و٣٣٥).
-
(٤٥)
وهكذا ينفرد الله (أو الكائن الضروري) بهذه الميزة، وهي أنه يتحتَّم بالضرورة أن يوجد إذا كان وجوده ممكنًا. ولما لم يكن هناك شيء يحول دون إمكان (وجود) ما لا يتضمَّن حدودًا ولا نفيًا، ولا يحتوي تبعًا لذلك على أي تناقض، فإن هذا وحده٦٨ يكفي لمعرفة وجود الله معرفة قبلية. وقد أثبتْنا وجوده عن طريق واقعية الحقائق الأبدية، ثم أثبتناه كذلك٦٩ بطريقةٍ بعديةٍ من وجود الكائنات الحادثة التي لا يُمكن أن يقوم سببها الأخير أو سببها الكافي إلا في الكائن الضروري الذي يتضمَّن في ذاته سبب وجوده.
-
(٤٦)
ولكن لا يصح أن نتوهم — كما فعل البعض — أن الحقائق الأبدية — نظرًا لاعتمادها على الله — حقائق تعسفية أو متوقفة على إرادته، كما سلَّم بذلك ديكارت،٧٠ ومن بعده السيد بواريه،٧١ إذ لا يَصدق هذا إلا على الحقائق الحادثة التي تقوم على مبدأ الملاءمة أو اختيار الأصلح، في حين أن الحقائق الضرورية تعتمد على الذهن الإلهي وحده وهي موضوعة الباطن (قارن التيوديسية ١٥٠–١٨٤، ١٨٥، ٣٣٥، ٣٥١، ٣٨٠).
- (٤٧)
-
(٤٨)
وفي الله تَكمُن القوة التي هي مصدر كل شيء، وفيه كذلك المعرفة التي تحتوي على الأفكار المتنوعة، وأخيرًا فإن فيه الإرادة التي هي علَّة التغيرات أو الإبداعات التي تتمُّ وفقًا لمبدأ الأصلح٧٤ (التيوديسية ٧ و١٤٩ و١٥٠)، وهذا هو الذي يطابق الموضوع أو الأساس، وملكة الإدراك وملكة النزوع لدى المونادات المخلوقة.٧٥ ولكن هذه الصفات تكون في الله لا متناهية أو كاملة بصورةٍ مُطلقة، بينما تكون في المونادات المخلوقة أو الأنتيليخيات (أو الكائنات الحائزة على الكمال Perfectihabien٧٦ كما ترجم هرمولاوس بارباروس٧٧ هذه الكلمة) مجرد تقليدات لهذه الصفات، يختلف حظها من التوفيق باختلاف حظها من الكمال (التيوديسية، ٧ و١٤٩ و١٥٠ و٨٧).
- (٤٩)
-
(٥٠)
ويكون المخلوق أكمل من غيره إذا وجدنا فيه بصورةٍ قبلية علة٨٠ ما يجري في مخلوقٍ آخر، بهذا المعنى يقال إنه يؤثر على المخلوق الآخر.
-
(٥١)
بيد أنه لا يوجد بالنسبة للجواهر البسيطة سوى تأثير مثالي لإحدى المونادات على الأخرى، وهو تأثير لا يصبح فعالًا إلا بتدخل من الله؛ لأن المونادة تطلب بحق من أفكار الله أن يكون (أي الله) قد وضعها في اعتباره عند قيامه في مبدأ الأمر بتنظيم المونادات الأخرى؛ لأنه لما كان من المتعذر على المونادة المخلوقة أن تؤثر تأثيرًا فيزيائيًّا على داخل المونادة الأخرى، فلا يمكن بغير هذه الوسيلة أن تعتمد إحداها على الأخرى (قارن التيوديسية ٩ و٥٤ و٦٥ و٦٦ و٢٠١، وراجع أيضًا موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث).٨١
-
(٥٢)
وهكذا يتم تبادل الفعل والانفعال بين المخلوقات. فعندما يوازن٨٢ الله بين جوهرين بسيطين يجد في كل منهما أسبابًا تلزمه بأن يلائم٨٣ بينه وبين الآخر، ويَتبع هذا أن يكون الفعَّال من وجهة نظر معينة، منفعلًا من وجهةٍ نظر أخرى، فهو فعَّال بمقدار ما نعرف فيه معرفة متميزة ما يساعد على تعليل الحدث الذي يتم في «جوهرٍ» آخر معرفة متميزة (التيوديسية ٦٦).
-
(٥٣)
ولما كانت أفكار الله تحتوي على عددٍ لا حصر له من العوالم الممكنة التي يستحيل أن يوجد منها إلا عالم واحد، فيلزم أن يكون هناك سبب كافٍ لاختيار الله، جعله يُفضِّل عالمًا بعينه على غيره٨٤ (قارن التيوديسية ٨ و١٠ و٤٤ و١٧٣ و١٩٦ وما بعدها و٢٢٥ و٤١٤–٤١٦).
- (٥٤)
- (٥٥)
-
(٥٦)
هذا الترابط أو هذا التلاؤم بين جميع المخلوقات وبين كل واحدٍ منها على حدة، ثم بين كل واحدٍ منها والجميع، يترتب عليه أن يحتوي كل جوهر بسيط على علاقاتٍ تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى، وأن يكون تبعًا لذلك مرآة حية دائمة للعالم٩٠ (قارن التيوديسية ١٣٠ و٣٦٠).
-
(٥٧)
وكما أن مدينة واحدة بعينها، إذا تأملها المرء من جوانب مختلفة، تبدو في كل مرة على صورةٍ مختلفة تمام الاختلاف، وكأن لها منظورات متعددة، كذلك توجد أيضًا — تبعًا للكثرة اللانهائية للجواهر البسيطة — عوالم عديدة مختلفة، ليست إلا منظورات من عالمٍ واحد، وفقًا لوجهات النظر المختلفة لكل مونادة على حدة (قارن التيوديسية ١٤٧).
-
(٥٨)
بهذه الوسيلة نحصل على أكبر قدرٍ ممكنٍ من التنوع، ولكن مع أعظم قدرٍ ممكنٍ من النظام؛ أي إننا نحصل بهذه الوسيلة على أعظم قدرٍ ممكن من الكمال٩١ (قارن التيوديسية ١٢٠ و١٢٤ و٢٤١ وما بعدها و٢١٤ و٢٤٣ و٢٧٥).
-
(٥٩)
وهذا الفرض وحده (الذي أزعم٩٢ أنه قد تمت البرهنة عليه) يكشف عن عظمة الله ويضعها في الضوء الصحيح. ولقد عرف السيد «بايل» هذا، عندما أثار في قاموسه (مادة روراديوس)٩٣ عدة اعتراضات عليه، انساق فيها إلى الاعتقاد بأنني أنسب إلى الله أكثر مما ينبغي، بل أكثر مما يمكن نسبته إليه. غير أنه قد عجز عن تقديم أي سببٍ يمكن أن يبرر استحالة ذلك الانسجام الكوني الشامل الذي يجعل كل جوهر يعبر تعبيرًا دقيقًا عن سائر الجواهر الأخرى عن طريق العلاقات التي تربطه بها.
-
(٦٠)
هذا وتتبين مما سبق الأسباب القبلية التي تجعل الأمور تسير على هذا النحو دون غيره؛ لأن الله عندما دبر نظام الكل قد وضع في اعتباره كل جزء على حدة، كما وضع في اعتباره بوجهٍ خاص كل مونادة على حدة، وهي بطبيعتها كائن متصور،٩٤ فليس ثمة ما يقصرها على تصوير جزء واحد من الأشياء، وإن كان من الصحيح مع ذلك أن هذا التصور، فيما يتصل بالأشياء الجزئية٩٥ الموجودة في العالم، تصور مشوش (مختلط)، ولا يمكن أن يتضح إلا في جزءٍ ضئيلٍ من الأشياء، أعني تلك التي تكون أقربها أو أكبرها بالنسبة لكل مونادة،٩٦ وإلا لكانت كل مونادة إلهًا. وإذن فالحدود «التي تقيد» المونادات لا تتمثل في الموضوع، وإنما تتمثل في أسلوب المعرفة المختلف بالموضوع.٩٧ إنها جميعًا تسعى على نحوٍ مختلط (غامض) للوصول إلى اللامتناهي، إلى الكل،٩٨ ولكنها تظل محدودة ومتميزة عن بعضها البعض عن طريق درجات وضوح الإدراكات وتميزها.
-
(٦١)
وفي هذا يعبر المركب تعبيرًا رمزيًّا عن البسيط.٩٩ فلما كان كل شيء ممتلئًا أو ملاء١٠٠ — وهذا هو الذي يجعل المادة كلها مترابطة — وكانت كل حركة تتم في الملاء تؤثر على الأجسام البعيدة على حسب بعدها، بحيث إن كل جسم لا يتأثر فحسب بالأجسام الملامسة له مباشرة، ويشعر على نحوٍ من الأنحاء بكل ما يحدث لها، بل يشعر عن طريقها كذلك بتأثير تلك الأجسام التي تلامس الأجسام الأولى التي تلامسه مباشرة، فيلزم عن هذا أن هذا السياق يمتد إلى أي مسافة ممكنة. ويترتب على هذا أن يشعر كل جسم بكل ما يجري في العالم؛ بحيث يستطيع ذلك الذي يرى كل شيء أن يقرأ في كل واحدٍ منها ما يحدث في كل مكان، بل يستطيع أن يرى ما حدث في الماضي، وما سوف يحدث في المستقبل، وذلك بأن يلاحظ في الحاضر ما هو بعيد من جهة الزمان والمكان، وهذا هو الذي سماه بقراط: «تلاؤم الكل»،١٠١ بيد أن النفس لا يمكنها أن تقرأ في ذاتها إلا ما هو متمثل فيها تمثلًا واضحًا متميزًا، إنها لا تستطيع أن تنشر كل ثنياتها المطوية دفعة واحدة؛ لأن هذه تمتد إلى ما لا نهاية.
-
(٦٢)
ومع أن كل مونادة مخلوقة تصور١٠٢ العالم بأكمله، فإنها تصور الجسم المتعلق بها خاصة، والذي تكون هي «أنتليخياه»١٠٣ تصويرًا أشد تميزًا. وكما يعبر١٠٤ هذا الجسم عن العالم كله — نتيجة السياق المتصل للمادة بأجمعها في الملاء — فإن النفس أيضًا تصور الكون كله، بتصويرها للجسم المتعلق بها تعلقًا خاصًّا (قارن التيوديسية ٤٠٩).
-
(٦٣)
الجسم الذي يتعلق بمونادة هي أنتليخياه أو نفسه يؤلف مع الأنتليخيا ما يمكن تسميته كائنًا حيًّا، ومع النفس ما يمكن تسميته حيوانًا،١٠٥ وهذا الجسم المتعلق بكائن حي أو حيوان يكون على الدوام جسمًا عضويًّا؛ لأنه لما كانت كل مونادة مرآة تعكس العالم على طريقتها، وكان العالم مدبرًا وفق نظام كامل، فيلزم أيضًا أن يكون هناك نظام فيمن يقوم بتصوره؛١٠٦ أي في إدراكات النفس، وبالتالي في الجسم الذي بمقتضاه يتصور العالم في النفس (قارن التيوديسية ٤٠٣).
-
(٦٤)
وهكذا يكون كل جسم عضوي للكائن الحي نوعًا من الآلة الإلهية، أو من الآلية١٠٧ الطبيعية التي تفوق جميع الآليات الصناعية١٠٨ إلى حد لا نهائي؛ لأن الآلة التي يصنعها الفن البشري،١٠٩ ليست آلة في كل جزء من أجزائها، فسن العجلة النحاسية على سبيل المثال ذات أجزاء أو قطع لا تُعدُّ في نظرنا شيئًا فنيًّا (أو صناعيًّا)،١١٠ وليس فيها كذلك شيء يجعلنا نلاحظ وجود الآلة التي أُعدَّت العجلة لتشغيلها. أما آلات الطبيعة؛ أي الأجسام الحية، فهل تظي آلات في أدق أجزائها وإلى ما لا نهاية. وفي هذا يكمن الفرق بين الطبيعة والفن؛ أي بين الصنعة الإلهية وصنعتنا البشرية١١١ (قارن التيوديسية ١٣٤ و١٤٦ و١٩٤ و٤٨٣).
-
(٦٥)
وقد تمكن مبدع الطبيعة من خلق١١٢ هذا العمل الفني الإلهي الذي بلغ الغاية من الإعجاز؛ لأن كل قطعة من المادة ليست فحسب قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية، كما عرف ذلك القدماء، بل إنها كذلك مجزأة في الواقع١١٣ إلى ما لا نهاية، وكل جزء ينقسم بدوره إلى أجزاء، لكل منها حركة خاصة به، ولو كان الأمر على خلاف هذا لما أمكن أن تعبر كل قطعة من المادة عن العالم كله (قارن التيوديسية، المبحث التمهيدي، ٧٠، ١٩٥).
-
(٦٦)
من هذا نتبين أن أقل جزء من المادة يحتوي على عالم من المخلوقات، والكائنات الحية، والحيوانات، والأنتليخيات، والنفوس.
-
(٦٧)
يمكن تصور كل قطعة من المادة كما لو كانت حديقة حافلة بالنباتات أو بركة غنية بالأسماك، ولكن كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من قطرات عصارته هي كذلك مثل هذه الحديقة أو هذه البِركة.
- (٦٨)
-
(٦٩)
ولهذا فليس في العالم يباب ولا عقم ولا موت، ليس فيه فوضى ولا اضطراب١١٦ إلا في الظاهر، وهذا أشبه بمنظر بركة نتأملها من بعيد فلا نكاد نرى فيها — إن جاز هذا التعبير — إلا حركة مضطربة، وحشدًا مختلطًا من الأسماك، دون أن نميز الأسماك نفسها بوضوح (قارن التيوديسية، المقدمة).
-
(٧٠)
نرى من هذا أن لكل جسم حي أنتليخيا تتحكم فيه هي النفس لدى الحيوان، ولكن أعضاء هذا الجسم الحي نفسها زاخرة بكائنات حية أخرى، من نباتات وحيوانات لكل منها كذلك أنتليخياه أو نفسه المتحكمة فيه.١١٧
- (٧١)
-
(٧٢)
وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدًا من جميع أعضائها دفعةً واحدة، وكثيرًا ما يتم التحول بين الحيوانات، ولكن تقمص الأرواح أو تناسخها لا مكان له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح١٢١ بغير أجسام. إن الله وحده منزه عن الجسمية كل التنزيه١٢٢ (قارن التيوديسية ٩٠ و١٢٤).١٢٣
-
(٧٣)
ولهذا السبب لا يوجد أبدًا تولد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نسميه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص.١٢٤
-
(٧٤)
ظل الفلاسفة دائمًا في حيرة من أمرهم حول أصل الأشكال والأنتليخيات أو النفوس. أما اليوم، بعد أن عرفنا من الأبحاث الدقيقة التي أجريت على النباتات والحشرات والحيوانات الأخرى أن الأجسام العضوية في الطبيعة لا تنشأ أبدًا من العماء١٢٥ أو التعفن، وإنما تنشأ دائمًا من بذور كانت تحتوي بغير شك على نوعٍ من التشكل السابق،١٢٦ فقد استنتج العلماء من ذلك أن الجسم العضوي لم يكن هو وحده موجودًا فيها قبل الحمل، بل كانت هناك أيضًا نفس في هذا الجسم، وباختصار أن الحيوان نفسه موجودًا فيها. وعن طريق الحمل توصل هذا الحيوان إلى القدرة على التشكل الكبير فحسب؛ لكي يصير حيوانًا من نوعٍ آخر. ونلاحظ شيئًا شبيهًا بهذا خارج نطاق التولد، عندما تتحول الديدان مثلًا إلى ذباب أو اليرقانات إلى فراشات (قارن التيوديسية ٨٦ و٨٩، المقدمة ٥ب وما بعدها من صفحات ٩٠ و١٨٧ و١٨٨ و٤٣ و٨٦ و٣٩٧).
-
(٧٥)
يمكن تسمية الحيوانات التي يُرفع بعضها عن طريق الحمل إلى مستوى الحيوانات الكبرى باسم الحيوانات البذرية، أما ما يبقى منها داخل نوعه؛ أي معظمها، فإنه ينشأ،١٢٧ ويتكاثر، ويفنى كالحيوانات الكبيرة، والنخبة القليلة منها هي التي تنتقل إلى مسرح أكبر.
-
(٧٦)
غير أن هذا لم يكن ليعبر إلا عن نصف الحقيقة،١٢٨ لذلك انتهيت إلى الحكم بأنه إذا كان الحيوان لا ينشأ أبدًا نشأةً طبيعية، فإنه لا يفسد كذلك بطريقة طبيعية، وأن الأمر لا يقتصر فحسب على استحالة التولد، بل يتعداه إلى استحالة الفناء الكامل، واستحالة الموت بمعناه الدقيق. وهذه التأملات التي تمت بطريقةٍ بعدية، واستُخلصت من التجربة تتفق تمام الاتفاق مع المبادئ التي استُنتجت فيما سبق بطريقةٍ قبلية١٢٩ (قارن التيوديسية ٩٠).
- (٧٧)
- (٧٨)
-
(٧٩)
تفعل النفوس وفقًا لقوانين العلل الغائية، عن طريق النزوع، والغايات والوسائل. وتفعل الأجسام وفقًا لقوانين العلل الفعالة أو قوانين الحركات. وهاتان المملكتان، مملكة العلل الفعالة ومملكة العلل الغائية، متجانستان.١٣٦
-
(٨٠)
عرف ديكارت أن النفوس لا يمكنها أن تمد الأجسام بالقوة؛ لأن كمية القوة التي في المادة ثابتة على الدوام، ومع ذلك فقد تصور أن النفس يمكنها أن تغير اتجاه الأجسام، ولكنه وقع في هذا الظن؛ لأن القانون الطبيعي الذي يقول ببقاء نفس الاتجاه العام في المادة لم يكن قد عُرف في عهده.١٣٧ ولو انتبه إليه لتوصل إلى مذهبي في الاتساق المقدر.
(قارن التيوديسية، المقدمة ٢٢ و٥٩ و٦٠ و٦١ و٦٣ و٦٦ و٣٤٥ و٣٤٦ وما بعدها، ٣٥٤ و٣٥٥.)
-
(٨١)
ويقتضي هذا المذهب١٣٨ أن تفعل الأجسام كما لو كانت النفوس غير موجودة (وهو أمر مستحيل)، وأن تفعل النفوس وكأن الأجسام غير موجودة، وأن يفعل الاثنان، وكأن أحدهما يؤثِّر على الآخر.
-
(٨٢)
أما العقول أو النفوس العاقلة، فإني وإن كنت أجد أن ما ذكرته الآن يصدق على جميع الكائنات الحية والحيوانات (أي أن الحيوان والنفس لا ينشآن إلا مع نشوء العالم، ولا يفسدان إلا بفساده)، فإن الحيوانات العاقلة تتميز مع ذلك بأن حيواناتها البذرية الصغيرة، ما بقيت كذلك ولم تتعده،١٣٩ لا تملك إلا نفوسًا عادية أو نفوسًا حساسة، ولكن بمجرد أن تصل تلك التي يمكن أن نصفها بأنها نخبة مختارة إلى الطبيعة الإنسانية عن طريق الحمل الفعلي، فإن نفوسها الحساسة ترتفع إلى مستوى العقل، وترقى إلى المزية «التي تتمتع» بها العقول (قارن التيوديسية ٩١ و٣٩٧).
-
(٨٣)
يضاف إلى الفروق الأخرى بين النفوس العادية والعقول، وهي الفروق التي قدمت جزءًا منها فيما سبق،١٤٠ أن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مبدع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم،١٤١ ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة،١٤٢ إذ إن كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة (قارن التيوديسية ١٤٧).
- (٨٤)
-
(٨٥)
من هذا نستنتج بسهولة أن مجموع العقول (أو الأرواح) يؤلف بالضرورة مدينة الله؛١٤٥ أي أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل الحكام (قارن التيوديسية ١٤٦، ومجمل الاعتراضات، الاعتراض الثاني).
-
(٨٦)
إن مدينة الله هذه، هذه المملكة الكلية الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي داخل العالم الطبيعي، وهي أسمى أعمال الله وأكثرها ألوهية. إنها التعبير الصادق عن مجد الله، إذ لن يكون لديه شيء منه إن لم تعرف العقول (الأرواح) عظمته وخيريته،١٤٦ وتحس نحوهما بالإعجاب، وهو كذلك يملك الخيرية (الطيبة) خاصة بالمقياس إلى هذه المدينة الإلهية،١٤٧ في حين أن حكمته وقدرته تتجليان في كل شيء وفي كل مكان.١٤٨
-
(٨٧)
وكما بينا فيما تقدم أن هناك تجانسًا كاملًا بين مملكتين طبيعيتين، هما مملكة العلل الفاعلة ومملكة العلل الغائية، فينبغي علينا أن نشير هنا أيضًا إلى تجانس١٤٩ آخر يقوم بين مملكة الطبيعة الفيزيائية وبين مملكة الفضل الإلهي الأخلاقية؛١٥٠ أي بين الله بوصفه مهندس الآلة الكونية، وبين الله بوصفه ملكًا على المدينة الإلهية للأرواح (قارن التيوديسية ٦٢ و٧٤ و١١٨ و٢٤٨ و١١٢ و١٣٠ و٢٤٧).
-
(٨٨)
هذا التجانس يجعل الأشياء تؤدي إلى الفضل الإلهي بالطرق١٥١ الطبيعية نفسها، كما يفرض على هذه الكرة الأرضية مثلًا أن تدمر ويعاد بناؤها بالطرق الطبيعية في وقتٍ معلوم، عندما تطلب ذلك حكومة الأرواح عقابًا للبعض وثوابًا للبعض الآخر.
(قارن التيوديسية ١٨ وما بعدها ١١٠ و٢٤٤ و٢٤٥ و٣٤٠.)
-
(٨٩)
يمكن كذلك القول بأن الله بوصفه البناء الأعظم١٥٢ يرضي الله بوصفه المشروع من كل ناحية، وأن الخطايا ينبغي تبعًا لذلك أن تحمل معها العقاب الذي تستوجبه بمقتضى النظام الطبيعي، بل بمقتضى البنية١٥٣ الآلية للأشياء ذاتها، كما تحصل الأفعال الطيبة، بالقياس إلى الأجسام، على جزائها١٥٤ بالطرق الآلية، وإن لم يكن من الممكن ولا من الجائز أن يتم هذا دائمًا على الفور.١٥٥
-
(٩٠)
وصفوة القول أنه لن يبقى في ظل هذه الحكومة الكاملة فعل خير بغير ثواب، ولا فعل شيء بغير عقاب، وأن كل شيء ينبغي أن يسخَّر لخير الطيبين؛ أي لغير الساخطين في هذه الدولة العظيمة، أولئك الذين يثقون بالعناية الإلهية بعد أداء واجبهم، ويحاكون مصدر كل خير، ويحبونه الحب الذي يليق به، ويبتهجون بالنظر في كمالاته، كما تقضي بذلك طبيعة الحب الصادق المحض، الذي يجعلنا نسعد بسعادة من نحب. وهذا هو الذي يجعل الحكماء١٥٦ والفضلاء من الناس يشاركون بجهدهم في كل ما يبدو متسقًا مع إرادة الله التي وعد بها أو سبقت في علمه، ويقنعون مع هذا بما تقضي به مشيئته الخافية المحكمة الفاصلة. إنهم ليقرون بأننا لو استطعنا أن نفهم نظام الكون فهمًا كافيًا لاكتشفنا أنه يفوق كل ما يتمناه أحكم الحكماء، وأن من المحال أن يكون أفضل مما هو عليه، لا بالقياس إلى الوجود الكلي بوجهٍ عامٍّ فحسب، بل كذلك بالقياس إلينا نحن بنوعٍ خاص، إذا سلمنا التسليم الواجب بمشيئة خالق كل شيء لا بوصفه البناء الأعظم،١٥٧ والعلة الفعالة لوجودنا، بل باعتباره سيدنا ومولانا، والعلة الغائية التي ينبغي أن تكون الهدف الكلي لإرادتنا، وتستطيع وحدها أن تحقق سعادتنا.
(قارن التيوديسية ١٣٤ الخاتمة، والمقدمة ٤أب، ٢٧٨ وراجع كذلك المقال في الميتافيزيقا، ٣٦ و٣٧.)
وهكذا يُمكن القول مع النص بأنه «بغيره لن يوجد شيء» (لأن وجود الأشياء مُترتِّب على إرادته واختياره)، «وبغيره لن يُمكن وجود شيء» (لأن كل ما هو ممكن إنما هو موضوع ذهنه)، ولما كان الذهن الإلهي كاملًا أي خالصًا من كل غموض أو اختلاط يشوب إدراكه، فلا بد أن يكون موضوعه هو الماهية الأخيرة للأشياء؛ أي هو ماهية الله نفسه، ولهذا نجد ليبنتز يُوحِّد في الفقرة التالية بين الماهيات أو المُمكنات وبين الحقائق الأبدية.
ما الأشياء جميعًا إلا أجزاء من كل هائلٍ عجيب، الطبيعة جسمه، والله هو الروح.
ويلاحظ أن ليبنتز يعبر في هذه الفقرة عن اعتراضه على أصحاب مذهب «المناسبة» occasionalisme الذين حاولوا أن يحلوا مشكلة العلاقة بين النفس والجسم التي تركها ديكارت بغير حل مقنع. ويتلخص هذا المذهب في أن الأشياء لا تؤثر على بعضها البعض في الأحداث التي ترتبط فيها العلة بالمعلول، وإنما الأشياء أدوات أو «مناسبات» للفعل الوحيد وهو الفعل الإلهي. وتفسير ذلك فيما يتصل بالعلاقة بين النفس والجسم (اللذين نفس ديكارت إمكان التأثير المتبادل بينهما لاختلاف طبيعتهما اختلاف الفكر عن الامتداد والوعي عن المادة) أن الله يخلق الإحساسات النفسية «بمناسبة» الحركات البدنية، كما يخلق الحركات العضلية «بمناسبة» الأفعال الإرادية. وقد بدأت هذه الفكرة عند الغزالي (التهافت، المسألة السابعة عشرة)، ولكنها ارتبطت باسم مالبرانش (١٦٣٨–١٧١٥م)، وأرنولد جويلنكس (١٦٢٤–١٦٦٩م)، وقد كان من رأي ليبنتز أن مثل هذا المذهب منافٍ للطبيعة، وأنه ينطوي على سلسلة لا آخر لها من المعجزات.
وقد بعث ليبنتز في شهر فبراير سنة ١٦٩٦م رسالة إلى ناشر «تاريخ أعمال العلماء» Histoire des ouvrages des savants لجأ فيها لأول مرة إلى تشبيه الساعة المعروف. وكان ديكارت قد أشار إليه عندما شبَّه الكائنات أو الآلات الحية بالساعات، ثم استخدمه جويلنكس، واستعان به ليبنتز في تفسير مذهبه عن الاتساق المقدر أو الانسجام والتجانس، الذي دبَّره الله عندما خلق الكائنات ونظَّمها، بحيث يمضي كل منها إلى غايته مستقلًّا عن غيره، وفي اتساق معه، شبه الصانع المبدع الذي نظم الساعات، بحيث تسير كل منها مستقلة عن غيرها ومتسقة معه في نفس الوقت. وقد وصف الناشر هذه الرسالة بأنها التفسير الثاني للمذهب الجديد.