الفصل الأول
لن يكون هذا إلَّا نحوًا من حديث النفس تَعْرض فيه — كما تريد — ذكرياتي، والآراء المختلفة التي كوَّنْتُها لنفسي في شخص ممتاز شاذ، فنَّان عظيم، قاسٍ، قويِّ الإرادة قبْل كل شيء، له ذكاء نادر يقِظٌ دقيق قلِقٌ، يُخفي من وراء الآراء المطلقة، والأحكام الصارمة — لا أدري أيُّ شكٍّ في نفسه، وأيُّ يأسٍ من إرضائها! — شعورًا شديد المرارة، عظيم الشرف، كان يثيره في نفسه عِلْمُه الدقيق بأساتذة الفن، وتهالُكُه على ما كان يزعم لهم من أسرار النبوغ، وما كان يُحضر ذهنُه دائمًا من ألوان تفوُّقهم المتناقضة. لم يكن يرى في الفنِّ إلا نوعًا من مسائل الرياضة أدقَّ وألطف من الرياضة المألوفة، لم يستطع أحد أن يردَّها إلى الوضوح، ولا يستطيع إلَّا قليل جدًّا من الناس أن يفترضوا وجودها. كان كثيرًا ما يتحدث عن الفنِّ العالِم، وكان يقول: إن صورة من الصور نتيجة لِطائفةٍ من أعمال العقل.
ومع ذلك فإنَّ أصحاب السذاجة يرون أن الأثر الفني إنما هو نتيجة لما يكون من لقاء بين ذكاء بارع، وموضوع من الموضوعات. إن فنانًا متعمقًا على هذا النحو، بل أشد تعمقًا في أكبر الظن مما ينبغي، يؤجل الابتهاج بالفوز، ويخلق لنفسه المصاعب، ويشفق من سلوك أقصر الطرق.
كان ديجاس يرفض السهولة، كما كان يرفض كل ما لم يكن يُقْصر عليه تفكيره، لم يكن يتمنى إلَّا أن يرضى عن نفسه، أي أن يُرضِي أصعب القضاة وأصلَبَهم، وأبعدهم عن التحيُّز. لم يحتقر أحدًا قط كما احتقر الشهرة والمنافع والثروة، وهذا المجد الذي يستطيع الكاتب أن يسبغه على الفنَّان في سخاء وخفَّة. وكان يسْخَر في عنف من هؤلاء الذين يحكِّمون في فنهم الرأي العام، أو السلطان المقرر، أو المنافع التجارية؛ كما أن المؤمن حقًّا لا يحفل إلَّا بحكم ربه الذي لا يمكن الاستخفاء منه، والاحتيال عليه بالتلفيق أو المفاجأة أو التصنع، أو أي مَظْهر مَهْمَا يَكُنْ. كذلك أقام ثابتًا مستقرًّا لا يخضع إلا للفكرة المطلَقة التي كوَّنها لنفسه في فنِّه. لم يكن يريد شيئًا إلَّا ما كان يجد أصعب المشقة وأثقل الجهد في استخلاصه من نفسه.
ولعلِّي أعود إلى هذا كله … على أني لا أدري ما عسى أن أقول بعد حين؛ فقد يمكن أن أستطرد من حديث ديجاس إلى حديث الرقص، وإلى حديث الرسم، فلستُ أريد أن أُتَرْجِم له على النحو المألوف، فلستُ حَسَنَ الرأي في التراجم، وهذا لا يدلُّ إلَّا على أني لم أُخلق لها. فليست حياة رجل من الناس آخر الآمر إلا مصادفات يَتْبَع بعضها بعضًا، وإلا أجوبة دقيقة أو غير دقيقة لهذه الأحداث أو تلك.
على أن ما يعنيني من حياة رجلٍ من الناس شيء آخر غير هذه الأعراض التي تطرأ له، وليس ينفعني مولده ولا حُبه ولا شقاؤه، ولا كل هذه الأشياء التي يمكن أن تلاحَظ في حياة الناس؛ لأني لا أجد في هذا كله أيسر الوضوح المقنع الذي تستبينُ به قيمتُه الصحيحة، والذي يُمَيِّزه تمييزًا عميقًا من الناس جميعًا ومنِّي.
ولست أزعم أني لا أميل في كثير من الأحيان إلى هذه التفصيلات التي لا تعلمنا شيئًا ذا خطر، ولكن أقول: إنَّ ما يُمتعني لا يهمني دائمًا، وهذه حال الناس جميعًا. فلنحذر مما يُمْتع ويُسَلي.
«بول فاليري في أول كتابه ديجاس ورقص ورسم.»
على نحوٍ من هذا القول كنتُ أريد أن أبدأ هذا الحديث الذي أستأنفه عن لزوميَّات أبي العلاء في آخر ساعة من ساعات النهار، وأول ساعة من ساعات الليل، وفي يوم من أيام الصيف الفرنسي على كل حال.
وكانت معانٍ تشبه هذه المعاني تَضْطَرب في نفسي، وتُلحُّ في أن تجري على لساني، وأن يُثْبِتها قلمُ صاحبي في الصحف. ولكنِّي كنت أمانعها أشد الممانعة، وآبى عليها أشد الإباء، وأرفض أعنف الرفض أن أطلب إلى صاحبي إعداد القرطاس والقلم، وأن يستعد للكتابة على حين أستعد أنا للإملاء.
وكنت أوثر على ذلك المُضيَّ في قراءة اللزوميَّات هذه التي أخذتُ في قراءتها منذ أيام. ولكن هذه الخواطر كانت أقوى مني وأشد بأسًا. فقد جَعَلَتْ تدور في رأسي، وتحاول أن تحرِّك لساني، وأن تُطْلق صوتي، حتى أَلْهتني عما كان صاحبي يقرأ لي من شِعر أبي العلاء. فطلبت إليه أن يَكُفَّ عن القراءة. وصَبَرْتُ لهذه الخواطر ريثما أحرقْت سيجارة أو سيجارتين لا أدري، أريد أن أصرفها عن نفسي. فلما رأيتها لا تريد أن تنصرف بالحسنى أردت أن أصرفها بالعنف.
وكان صاحبي قد أهدى إليَّ هذا الكتاب من كتب بول فاليري منذ أسابيع، فطلبت إليه أن يأخذ في قراءته لي، مستيقنًا بأن حديث هذا الكاتب الفرنسي العظيم عن هذا المصور الفرنسي العظيم، وعمَّا أراد أن يستطرد إليه من الرقص والرسم، سيشغلني عن أبي العلاء ولزوميَّاته، فضلًا عن الحديث في أبي العلاء ولزوميَّاته. ولكن أعجبُ للمصادفات، وأعجبُ لقول فاليري نفسه: إن حياة رجل من الناس ليست إلا سلسلة من المصادفات. وأعجبُ لقول أبي العلاء نفسه في أول اللزوميَّات: إنه إنما قال ما قال بقضاءٍ لا يشعر كيف هو.
فلم أكد أسمع لمقدمة بول فاليري حتى رأيت خواطري مصوَّرة، ومعانيَّ ممثلة، وحتى خُيِّل إليَّ أن هذه المعاني والخواطر قد قامت أمامي ضاحكةً مني، هازئة بي، تقول: لقد حاوَلْتَ أن تَكْظِمَنَا وتَكْتُمَنَا فلم تُفْلِح ولم توفَّق، وحاولْتَ أن تَفرَّ منَّا إلى هذا الكتاب فإذا نحن نُطَالِعك، وإذا أنت تُطَالِعنا في أوَّله فأذعِنْ للقضاء، وخُذْ في الإملاء.
هنالك لم أرَ بدًّا من أن أترجم هذه الصفحة من صفحات بول فاليري، ومن أن أستعيرها بَدءًا لهذا الحديث. والغريب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرًا من صفات هذا المصور الفرنسي، الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل مِنْ أَمْرِهِ كل شيء، تُشْبِه ما أَلَّفْتُ وأحببْتُ من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشكُّ الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور الفن، وزُهد الرجل في الشهرة وبُعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب، والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبُغضه للطرق القِصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة. كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس؛ قد حَدَّثَتْنَا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلَّا أنَّ الأول كان مُصَوِّرًا رسَّامًا، والآخر كان شاعرًا حكيمًا.
وما قضيت العجب، وما أظنني سأقضيه من توافق هذه المصادفات، وتوارد هذه الخواطر! ولولا أني قد شهدت ذلك بنفسي وخضعْتُ له، وتأثرْتُ به لَمَا صَدَّقْتُه، ولا اطمأنَّتْ نفسي إليه. وإني لأعذر قارئًا إن شك في صدق هذا الحديث، وظَنَّ — فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين الناس — أني قد قدَّرت له ذلك تقديرًا، وموَّهته عليه تمويهًا.
وما دمتُ أُملي على كرهٍ مني، وعلى غير عِلْم بما سأقول بعد حين وما سأَدَّعِ، فلا أقلَّ مِن أن أستقصيَ أمر هذه المصادفة ما وسعني استقصاؤه. فلِمَ اصطحبْتُ اللزوميَّات إلى فرنسا هذا العام؟ ولمَ أهملْتُها شهرًا لا أَنْظُرُ فيها، ولا أَسْمَعُ لها، ثم أقبلتُ عليها لا أنصرف عنها، ولا أعْدِل بها شِعرًا ولا نثرًا؟
أما اصطحابي اللزوميَّات فمصدره يسير جدًّا، فقد ظَهَر في هذا العام جزء من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، وقُرئَتْ عليَّ منه صحف، فخُيِّل إليَّ أن من الجائز أن يكون بين هذا الكتاب وبين اللزوميَّات سببٌ قويٌّ أو ضعيف في الألفاظ أو في المعاني. وكان صديقي الأستاذ ماسينيون قد افترض منذ ثلاثة أعوام أنَّ بيْن أبي العلاء وبين الإسماعيلية صلةً في المذهب واشتراكًا في الرأي، وكنْتُ قد أكْبَرْتُ ذلك وأنكَرْتُهُ، واشتد فيه الحوار بين الأستاذ الصديق وبيني، فوعدْتُهُ أن أعود إلى قراءة اللزوميَّات من أولها إلى آخرها؛ لأعلم عِلْمَ هذا الأمر، ولا مطمع بالطبع في قراءةٍ دقيقة متصلة لديوان ضخم كاللزوميَّات، ومجلد ضخم كهذا الجزء الذي ظهر من الفصول والغايات أثناء العام الجامعي. فقُلْتُ لصاحبي حين أزمعت الرحلة: احمل لنا هذين الكتابين؛ فلعل الله أن يتيح لنا من الوقت بعضَ ما يَحتاج تحقيقُ ما نريد تحقيقه.
وليس هذا كل شيء، فلَمْ أكَدْ أبلغ مدينة نابولي، وأنفق فيها يومًا وبعض يوم حتى خرجْتُ للتروض مع أسرتي على سواحل هذه المدينة، وبينما كانت زوجتي وابناي وصاحبي ينظرون إلى البحر والسماء، وإلى الجزر والرُّبى، وإلى هذه المناظر الكثيرة المختلفة التي كانت تُحْدث لهم متعة، وتُطلق ألسنتهم بالإعجاب، وتُبهر نفوسهم وتَسْحر قلوبهم، كُنْتُ أحسُّ هذه الطبيعة التي لم أكن أراها ولا أتصورها، ولا أعرف لها كُنْهًا تدنو مني قليلًا قليلًا، ثم تَنْفُذ إلى نفسي، ثم تملأ قلبي رضًا وأملًا، وحبًّا للحياة. وبينما كانوا يتحدثون عما كانوا يَرَوْن، ويتواصفون ما كانوا يشهدون، كنت أنا أُدير في نفسي حوارًا بيني وبين أبي العلاء، موضوعه: الرضا عن الحياة، والسخط عليها، والابتسام لها، والضيق بها، وكنت أحدِّث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العَجْز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذَّة. وكان أبو العلاء يقول لي: فإِنك ترضى عمَّا لا تَعْرِف، وتُعْجَب بما لا ترى. وكنتُ أقول له: إنْ لم أَعْرِف كلَّ شيء فقد عَرَفْتُ بعض الأشياء، وإن لم أرَ الطبيعة فقد أحسسْتُها. وكان أبو العلاء يقول لي: تبيَّنْ إن استطعت حقيقة ما تعرف، فسترى معرفَتَكَ مُشَوَّهَة، ولائِمْ إن استطعْتَ بين ما تُحِسُّ من الطبيعة، وما يرى الناس منها، فلن تجد إلى هذه الملائمة سبيلًا، واذكر ما أَمْلَيْتَهُ على صاحبك منذ سبعة أعوام في ذلك الدفتر الصغير الذي أهملْتَهُ إهمالًا، وأبَيْتَ أن تُسرَّ إليه بذات نفْسك. اذكر ما أَمْلَيْتَهُ على صاحبك من أنك تَعْلَم حق العلم أن لو ظَهَرَ المبصرون على ما تُحَصِّل نفسُك من حقائق الأشياء ومظاهر الطبيعة لضحك منك الضاحكون، وأشفَقَ عليك المشفقون، فما ابتهاجك بصُور لا تُصَوِّر شيئًا، وما رضاك عن خيالات ليس بينها وبين مظاهر الأشياء — فضلًا عن حقائقها — سببٌ قريب أو بعيد؟ وكنت أسأل أبا العلاء: أيهما خير: أن تلمَّ بنا أسباب النعمة قويةً أو ضعيفة، صحيحة أو كاذبة، فنتَشَبَّث بها، ونشدَّ بها أيدينا وأنفسنا، ونأخذ ما تَحْمِل إلينا من ألوان الراحة وضروب الأُنْس، أم أن تَعْرِض لنا فَنُعْرِض عنها، وتُقْبِل علينا فَنَمْتَنِع عليها، ولا نُحَصِّل من الحياة إلا ما حصَّلتَ من خيبة الأمل، وكذب الرجاء، وظلمة اليأس، وحرقة القنوط؟ وكان أبو العلاء يُجيبني ببيته المشهور:
وكنتُ أتهمه بالإسراف على نفسه وعلى الحياة، وأصِمُه بالكبرياء والغلوِّ فيها، وأدعوه إلى شيء من التواضع والاعتدال في الرأي والسيرة جميعًا. وأزعم له أنه يصوِّر لنفسه أمر الحياة على غير وجهه، ويظنُّ بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يُظَنَّ بها، وأنَّ المبصرين الذين يَرَوْن ما لا نرى، ويشهدون ما لا نشهد، ويستمتعون من جمال الدنيا بما لا نستمتع به، إنما يأخذون من أسباب هذا كُلِّه بأوهَنِها وأضْعَفِها، وأنهم لو حققوا ما يرون — وأنَّى لهم ذلك؟ — لَمَا وجدوا بين ما يَرْتَسِم في نفوسهم من الصور وبين الحقائق الواقعة إلَّا أيْسَرَ الأسباب، وأبْعَدَهَا من المتانة والقوة، وعن الصدق والمطابقة. فحقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالًا مما يظن المبصرون وغير المبصرين. وما ينبغي للرجل الزاهد أن يستشعر الحسد، وأن يَضِيق بما يجد الناس من نعمة، وأن يسخط على الحياة؛ لأنه لا يَبلغ أعماقها، ولا يَصل إلى حقائقها، وأن يسخط على الأحياء؛ لأنه لا يشاركهم في كل ما يستمتعون به، وإنما يشاركهم في قليل منه، ويستأثرون من دونه بالكثير.
وكان الجوُّ من حولي صافيًا، مشرقًا، عطرًا، ولم تكن الطبيعة تتحدث إليَّ بلسانٍ واحد أو لغة واحدة، وإنما كانت تتحدث إليَّ بأَلْسُن مختلفة، ولُغَات متباينة. كانت تتحدث إليَّ بعبيرها الذي كان يملأ الأرجاء، وبطيرها التي كانت تستقبل الليل بأعذب النغم وأشجاه، وبهذا الهدوء الشاحب الحزين الذي يُلِمُّ بالحياة والأحياء إذا آذنَتِ الشمس بالمغيب؛ وبابتهاج الناس لِمَا يجدون من جمال، وبابتئاس الناس لِمَا يشعرون به من حزن، وبما يعلِنُ الناس به ابتهاجهم وابتئاسهم من الأصوات والحركات؛ ثم بكل هذه الحياة العاملة المنصرفة إلى تحقيق المنافع، وإرضاء الحاجات غيرَ حافلة بجمال الطبيعة، وما يثير في النفوس من بهجة وغبطة، وما يَفيض عليها من حزنٍ وأسًى.
وكنت أسمع هذه الأحاديث كلها فأشتدُّ على أبي العلاء في اللوم، وأُعَنِّف عليه في العذل، وأقول له: إن أيسر هذا خليقٌ أن يرضيَكَ مَهْمَا يَبْلُغك مشوهًا ممسوخًا، وإنَّ شيئًا خيرٌ من لا شيء، وإنَّ من الإثم أن تُسمِّيَ الدنيا «أمَّ دَفْرٍ»، وهي التي تُهدي إليك هذا العبير، وأن تصفها بالقسوة والغلظة وهي التي تمنحك هذه الرحمة وهذا اللين.
ويشتدُّ عليَّ هذا الحوار بيني وبين أبي العلاء حتى أَبْرَمَ به وأفرَّ منه، وأَطْلب إلى مَنْ حولي أن يدْعوني إليهم، وأن يستنقذوني من هذه الحياة التي كنت أحياها في القرن الرابع للهجرة أو العاشر للمسيح!
ثم أصبح فأَزُور مع أسرتي جزيرة كابري، وأشهد ما كان يملؤهم من هذا الإعجاب الذي كان يُخْرِجهم عن أطوارهم، وأَقْنَع أنا مما يجدون بما يبلغني من رقة الهواء، ونقاء الجو وصفائه، وبما يحمله إليَّ النسيم من العرف، وبما يلقي في نفسي من أوصاف لا تحقق لها شيئًا، ولكنَّها تثير فيها كثيرًا من الخواطر والمعاني وضروب الخيال. وإذا الحوار يُستأنف بين أبي العلاء وبيني متصلًا عنيفًا مختلفةً ألوانه.
ثم أَقْضي على هذا النحو الأيام التي أنفقْتُها في نابولي، فإِذا تركْتُ هذه المدينة شُغلتُ عن الطبيعة، وعن أبي العلاء بالسفر الطويل الشاق، ولكنِّي لا أكاد أَبْلغ مدينة ستريزا، وأستقر فيها ساعاتٍ حتى تبلغني أحاديث الطبيعة حلوةً عذبة بين جبال شاهقة، وأشجار باسقة، وأرجاء عطرة، ورقعة من الماء قد بسطت في هذه البحيرة تريد أن تستقر وتثبت، لولا أن النسيم يداعبها، فيضطرب سطحها لهذه المداعبة اضطرابًا خفيفًا يصدر عنه خرير فاتر خفيف، ولولا أن الريح تعنف بها فتضطرب لهذا العنف من جميع أقطارها، ويصدر عن هذا الاضطراب هدير صاخب عنيف.
وأُلم بهذه الجزر الناتئة في هذه الرقعة من الماء، فإذا أنا بين رَجُلَيْن يدْعوني أحدهما إلى زهد شاحب مظلم؛ لأني أشهد لذَّات الحياة، ولا أكاد أحصِّلها، ويدْعوني أحدهما الآخر إلى حياة كلها حِسٌّ ومتعة؛ لأن جمال الطبيعة ينفذ إلى نفسي من كل وجه. فأما الأول فهو أبو العلاء، وأما الثاني فهو أندريه جيد.
وإذا الحوار يتصل بيني وبين هذا الرجل أو ذاك، أخلو مرة إلى ذاك فتضيق نفسي بكل شيء، وأخلو مرة أخرى إلى هذا فتتسع نفسي لكل شيء، وينقذني من الرجلين جميعًا بين حين وحين حديث زوجي، أو حديث ابني، أو حديث بعض الأصدقاء.
ثم أترك إيطاليا وفي نفسي من أبي العلاء شيء، في نفسي أن أَفْرُغَ له، وأن أطيل التحدُّث إليه والاستماع منه؛ لأتبين أين يكون الحق: أفي سخطه وتشاؤمه، أم في رضاي وتفاؤلي؟ ولكني لم أكن أُحَدِّث نفسي بأن هذا الحوار سيخرج إلى كلام ينطلق به اللسان، ويجري به القلم، وتمسكه الصحف.
على أني لم أكد أبلغ فرنسا وأستقِرَّ في قرية من قراها حتى أُنسِيتُ الحياة ولذاتها، والطبيعة وجمالها، وأبا العلاء وتشاؤمه، وأندريه جيد وتفاؤله، وشُغِلْتُ عن هذا كله بما لم يكن بدٌّ من الفراغ له من القراءة والإملاء. وأنفق في ذلك شهرًا ونحو شهر، وإذا أنا أحسُّ جهدًا ثقيلًا، وألمًا مُمِضًّا، وحاجة إلى الراحة والتسلية عن العمل العقلي. وما أكثرَ ما بين يديَّ من الكتب المختلفة، وما أكثرَ ما يدْعوني منها إلى اللذة والراحة، وإلى السلو والنسيان! منها كتب في الأدب العربي المُشْرق الممتع، ومنها كتب في الأدب الفرنسي، ومنها كتبٌ في الأدب الإنجليزي. والطبيعة من حولي رائعة بارعة، وجميلة مشرقة، وكل ذلك يدعوني ويلحُّ في الدعاء، وكل ذلك يُغريني، ويُلْحف في الإغراء، ولكني لا أسمع لشيء من ذلك، ولا ألتفت إليه، ولا أقف عنده، وإنما أطلب إلى صاحبي أن يقرأ لي في اللزوميَّات، وأن يقرأ لي فيها من أولها. وصاحبي يفعل وأنا أستمع، وإذا أنا بعد ساعات كأبي العلاء رهين سجون ثلاثة لا سجنين. أليس أبو العلاء يقول:
وإذا تلك المعاني التي عَرَضْتُها عليك في أول هذا الحديث تَخْطِر لي، وتلحُّ عليَّ، وتخادعني، وتضطرني آخِرَ الأمر إلى ما أخذْتُ فيه من إِملاء.
أتراني أخذت في هذا الحديث عن رضًا؟ أتراني أخذت فيه عن كره؟ لا أدري! ولكني أعلم أن الليل قد تَقَدَّم، وأن كل شيء من حولي هادئٌ مستقر حتى ما يبلغني صوت، ولا يصل إليَّ شيء من هذا الضجيج العنيف الذي يمتلئ به أسفل الفندق. فقد سمعت حين انصرفت عن مائدة العشاء أن الشباب سيُحْيُون بالرقص أوَّلَ الليل. أعلم هذا، وأعلم أن نفْسي قد ضاقت بالإملاء وانصرفَتْ عنه، وأني سأدع هذا الحديث الآن، ولن أهبط إلى غرفتي قبل أن أسمع قصيدة، أو قصائد من اللزوميَّات. ومن يدري أأستأنف هذا الحديث إذا كان الغد، أم أُصرف عنه لعمل آخر، أم أطلب إلى صاحبي أن يصنع به ما يشاء؟