الفصل الثاني
وما أريد أن أَظْلِم أبا العلاء، فأترجم له مرة أخرى، فقد ترجمت له منذ ربع قرن، وما أراني أستطيع أن أعرض جديدًا من أمره إنِ استأنفتُ درس حياته، وعَرْضها على الناس. فقد ظَهَرَتْ للرجل رسائل وكتب لم تكن بين أيدينا حين أَمْلَيْتُ ذكرى أبي العلاء، ولكن الغريب أنها لا تضيف إلى ما نعلم من حياته شيئًا، ولعلها لا تضيف إلى ما نعلم من آرائه شيئًا، فأيُّ خير إِذن في أن أُعيد في هذا الحديث ما بَدَأْتُهُ في ذكرى أبي العلاء؟ وما يمنع الراغب في درس حياته، أو في درس ما يعرف من حياته أن يلتمس هذا في ذلك الكتاب القديم، أو فيما نُشر بعده من الكتب والرسائل، ومن المقالات والفصول؟
ولست أرى رأْي بول فاليري في التراجم، ولستُ أُهمل ما للتفصيلات التي تَمَسُّ حياة الشعراء والأدباء والفلاسفة مِنْ خَطَر، ولعل صناعتي هي التي تقف بي عند هذا الطور، وتُكْرِهني على أن أُقَدِّر التاريخ الأدبي بما فيه من تفصيل وإجمال، كما أُقَدِّر التاريخ السياسي بما فيه من تفصيل وإجمال أيضًا. ولعل صناعة بول فاليري هي التي تَرْفَعه عن الاحتفال بالتاريخ مَهْمَا يكن موضوعه. فبول فاليري شاعر أديب بارع في الشعر والأدب، يتكلف التعليم منذ أنشئ له كرسيٌّ في الكوليج دي فرانس، فلا غرابة في أن يرفعه فنُّه عن تفصيلات الحياة الإنسانية. وأنا معلم يتكلف الأدب الخالص حين يستريح من التعليم، وحين يخلَّى بينه وبين الحياة، فلا يجد ما يعمل إلَّا أن يَشْعُر ويتأثر، ويحاول أن يصور ما يجد من حسٍّ أو شعور.
فلا غرابة في أن تهبط بي صناعة التعليم إلى دقائق الحياة الإنسانية وتفصيلها، ولكني على ذلك أعترف بأن التاريخ الأدبي كالتاريخ السياسي يَغْلُب فيه الظن، ويَكْثُر فيه الرجحان، ويقلُّ فيه اليقين. وما أدري أمن إنصاف الناس أن نقول فيهم بالظن، ونأخذ في أمْرهم بما نرجِّحه الآن، وقد نشُكُّ فيه غدًا، أو بما نرجحه نحن، وقد يجحده غيرنا أشدَّ الجحد، وينكره أشدَّ الإنكار؟ وماذا تريد أن أقول لك، ونحن نقرأ أحيانًا ما يقول الناس فينا، وما يظن الناس بنا فنضيق به أشدَّ الضيق، ونسخط عليه أعظم السخط؛ لأننا لا نراه ملائمًا لما نعرفه من حقائق أنفسنا، أو لأننا نراه ملائمًا لهذه الحقائق، ولكننا نكره أن يُعرف، وأن يقال، وأن يذاع في الناس!
وما أشك في أن أبا العلاء قد كان مِثْلَنَا، يحب أن يَعْرِفَ الناسُ مِنْ أمْره أشياء، ويكره أن يعرفوا مِنْ أَمْره أشياء أخرى. وقد احتاط الرجل لذلك ألوانًا من الاحتياط، واتَّقاه بضروب من التقيَّة. فألغز وغلا في الألغاز، واصطنع الاستعارة والمجاز، ودار حول كثير من المعاني دورانًا، ولم يرد أن يتعمقها في شِعره أو نثره مخافة أن يَظهر الناس على رأيه، وأن يعرفوا من أمره ما كان يجب أن يَجهلوا، ويطَّلعوا مِن سِرِّه على ما كان يؤثر أن يَظَلَّ عليهم مستغْلَقًا، ودونهم مكتومًا.
وأنا أعرف أن العلم يكلِّف أصحابه أهوالًا ثقالًا، ويَحْمِلُهُم من بعض الأمر على ما لا يُحِبُّون أن يُحْمَلوا عليه؛ فيضطرهم أحيانًا إلى هتْك الأستار، وفضْح الأسرار، وإظهار الناس من أمر بعضهم على ما لا ينبغي أن يظهروا عليه. تلك تضحيات يتكلفها العلماء في سبيل الوصول إلى الحق، لا يُشْبهها إلَّا ما يتكلفه أصحاب العلوم التجريبية من تعذيب الحيوان في سبيل ما يبتغون من العِلْم الخالص، أو من العلم الذي يَنْفَعُ الناسَ في حمايتهم من العلل والآفات.
أنا أعرف هذا، وقد أقدمت على كثير منه حين درست مَنْ دَرَسْتُه من الشعراء والأدباء في غير هذا الحديث. ولكن ما رأيك في أني أحب أبا العلاء، وأريد أن أسير معه في هذا الحديث سيرة الصَّدِيق الوفيِّ الأمين، فلا أسوءه في نفسه، ولا في رأيه، ولا أذهب فيما سأعرض له من البحث مذْهَبَ أصحاب العلم الذين يُضَحُّون بموضوع بحثهم، فيُخضعونه لألوانٍ من التمحيص، وضروب من التحليل، يحمِّلونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق، ويعرِّضونه من ذلك لما يُحب وما لا يُحب. أفلو كان أبو العلاء حيًّا معاصَرًا، وكنْتُ له صديقًا معاشرًا أتراني كنتُ أُظْهِرُ مِن أَمْره ما يقتضي العلم إظهاره، وأَجْهَرُ من سِرِّه بما يَفْرِضُ العلم على العلماء أن يجهروا به، مضَحيًا في سبيل ذلك بما يمكن أن يكلِّف ذلك أبا العلاء من الحزن والألم، ومن الخوف والفزع، ومن الإشفاق والضيق؟ أم تراني كنتُ أوثر ودَّه، وأرعى حقه، فأحفظ عليه غيبه ولا أوذيه فيما لا يحب الناسُ أن يؤذَوْا فيه من خاصة أمورهم؟ لأمرٍ ما مَنَعَ الناس أنفسَهُم من أن يتناولوا الأحياء من الأدباء بالبحث العلمي الدقيق، والتحليل الذي لا يَرْهب شيئًا، ولا يرجو لشيء وقارًا. منهم من يمنعه من ذلك خوفُ القانون الذي يحمي الأحياء من الأحياء، ويكفُّ شر الناس عن الناس؛ ومنهم من يمنعه من ذلك قلبٌ رقيق، وحسٌّ دقيق، وإيثار للعافية، وإشفاق أن يَصْنَع الناسُ به صنيعه بهم، وأن يُخْضِعُوه لِمَا يُخْضِعُهُمْ له من التمحيص والتحليل؛ ومنهم من يمنعه من ذلك مجرد الحب والرفق، وهذا الشعور الممتاز الذي يرتفع بصاحبه عن إيذاء الناس فيما يكرهون أن يؤذَوا فيه.
الناس يصطنعون هذا التحفظ مع الأحياء، ولكنهم لا يصطنعونه مع الموتى، وإنما يهدرون مِنْ أَمْر الموتى في سبيل البحث ما لا يستطيعون أن يهدروه مِنْ أَمْر الأحياء! تبيح لهم القوانين ذلك، وتدعوهم طبيعة العلم وحرية البحث إليه. وليس عليهم بأس أن يخطئوا فيضطرهم الخطأ إلى الظلم؛ لأن كل الناس يخطئ ويصيب، ولأن الوصول إلى الصواب قلَّما يتأتى إلا بعد التورط في الخطأ.
كل ذلك أعرفه ويعرفه الناس، وقد اصطنعْتُهُ حين درَسْتُ أبا العلاء منذ ربع قرن. ولكني مع ذلك أريد أن أُعرض عنه في هذا الحديث؛ لأني كما قَدَّمتُ أحب أبا العلاء، وأريد أن أتحدث عنه حديث الصديق. وأودُّ لو استطعت أن أُصْدِر فيما أُمْلي عن القلب الذي يُحب ويعطف ويرحم لا عن العقل الذي يمحِّص ويحلل، ويقسو في التمحيص والتحليل.
قد كنت أريد ذلك منذ اضطُرِرْتُ إلى الأخذ في إملاء هذا الحديث، ثم ثبَّتني على ما أريد بيتٌ من شعر أبي العلاء وَقَفْتُ عنده فأطلْتُ الوقوف، وفكَّرْتُ فيه فأطلْتُ التفكير، وتأثرْتُ به فكان تأثُّري به قويًّا عميقًا، وكان انتهائي إلى هذا البيت أثناء تفكيري في هذا الرفق مصادفة من المصادفات كما يقول بول فاليري، وقضاء من سالف الأقضية كما يقول أبو العلاء. وماذا تريد أن أصنع وعمل المصادفات في هذا الحديث لا يريد أن ينقضي؟
وهذا البيت هو قول رهين المحبسَينِ:
لست أدري أتشعر كما أشعر، وتجد من قراءة هذا البيت مثل ما أجد؟ ولكن قلبي يمتلئ لإنشاده رحمة وبِرًّا، وحنانًا وإشفاقًا. أترى أبا العلاء فكَّر في نفسه، وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟ أتراه أَشْفَقَ من ظُلْم الناس له بعد موته كما ظلموه أثناء حياته، ومِنْ تَجَنِّي الناس عليه بعد ارتحاله عنهم كما تَجَنَّوْا عليه حين كان مقيمًا بين أَظْهُرِهِمْ؟ أم تُراه لم يُفَكِّرْ في نفسه، ولم يَحْفِل بما سيقول الناس فيه، وإنما فكَّر في غيره من الموتى، وفيما كان الناس يقولون فيهم، ويحملون عليهم؟ أم تُراه لم يُفَكِّر في نفسه، ولا في غيره، وإنما عَرَضَ له المعنى فسجَّله وصوَّره في هذا اللفظ الحلو الرقيق الذي لا يبلغ قلبًا رحيمًا رقيقًا إلَّا أثَّر فيه؛ لأنه صدر من قلبٍ رحيمٍ رقيقٍ؟
إذا قرأتَ اللزوميَّات فما أكثر ما ستجد فيها من ازدراء أبي العلاء لِمَا سيقال عنه بعد الموت. وإذا قرأْتَ اللزوميَّات فما أكثر ما ستجد فيها من قسوة أبي العلاء على الأحياء والأموات جميعًا. وإذن فهل تُراه فكَّر في نفسه، أم هل تُراه فكَّر في غيره حين قال هذا البيت؟ أم هل تُراه في لحظة من لحظاته قد أشفق على الموتى من حَيْثُ هم موتى؟ تصورَ عجْزَهم عن أن يَدْفعوا عن أنفسهم، وقصورَهُمْ عن أن يردُّوا ما يُصبُّ عليهم من الظلم، فرحمهم وأشفَقَ عليهم؛ لأنه كان رحيمًا شفيقًا. ولماذا يخاف أبو العلاء على الأحياء الذي يظلمون الموتى أن يلقوهم؟ ماذا يخاف على الأحياء، وماذا يخاف من الأموات؟ أتُراه يُنْذِرُ ويُهَدِّدُ ويخوِّف من الانتقام والبطش، أم تُراه ينبِّه عاطفة الحياء، ويشفق على الظالم أن يلقى المظلوم فيستحي منه؟ أم تُراه لا ينذر ولا يخوِّف، ولا ينبه عاطفة الحياء، وإنما يشير إلى أن من الجائز ألَّا يكون الموت خاتمة للإنسان، وأن يكون للنفس حظ من خلود، ومن شعور بهذا الخلود، وأن يكون من نتائج ذلك أن يلتقي الموتى في عالَمٍ آخر كما كان الأحياء يلتقون في هذه الدنيا؟ وكما أن الناس في هذه الدنيا يخوَّفون مِنْ أَنْ يَظْلِمَ بَعضُهُم بعضًا بالانتقام مرة، وبتنبيه عاطفة الحياء في أعماق الضمير مرة أخرى، فليخوِّف الموتى هذا الخوفُ المشترك بين الانتقام والحياء أيضًا! فمن الناس من يَنْتَصِف إذا ظُلم فيبْطِش بظالمه، ومن الناس من يُعْجِزُه هذا الانتصاف فيستعدي الله على ظالمه، والله شديد الانتقام. ومن الناس من يَحْلُمُ فلا يَبْطِش بظالمه، ولا يَسْتَنزل عليه غضب الله، وإنما يعفو، ويكون مِن عَفْوه أقسى عقوبةٍ للظالم، وأعْظَم تنكيلٍ به؛ لأنه يؤذي منه عاطفة الحياء، وهي أرق العواطف وأَدَقُّها حسًّا.
مَهْمَا يكن من شيء فإِني قد أَطَلْتُ الوقوف عند هذا البيت، وتَصَوَّرْت أني لَقِيتُ أبا العلاء في هذه الحياة أو في حياة أخرى؛ فآلَمَنِي أن ألقاه ظالمًا له، متجنيًا عليه، ولو كان ذلك في سبيل العلم، واستكشاف الحق مِنْ أَمْره. وما تصوَّرْتُ أبا العلاء باطشًا بي أو موعدًا لي، وإنما تصوَّرْتُه مُعرضًا عني، مشفقًا عليَّ مِنْ ظُلْمي له، وتجنيَّ عليه، وتصوَّرْتُ نفسي معتذرًا إليه، ومستعطِفًا له؛ فكرِهْتُ أشَدَّ الكُرْهِ أن أقف منه هذا الموقف، وأن أكون منه بهذا المكان، والغريب أني قد وَعَيْتُ هذا البيت وفقهْتُه كما ترى، وتأثَّرْتُ به أشدَّ التأثر، وقبِلْتُ وعْظ أبي العلاء بالقياس إلى أبي العلاء نفسه؛ ولكني لَمْ أقْبَلْهُ، وما أرى أني سَأَقْبَلُه، بالقياس إلى غيره من الشعراء والكتَّاب الذين عَرَضْتُ لهم أو سأعرض لهم بالدرس والبحث في يوم من الأيام! إني أتصور مَنْ شئت من الشعراء والكتَّاب الذين ارتحلوا عن هذه الدار في العصور القديمة أو في هذا العصر الحديث، وأتصور أني أعرض لهم بالنقد، وأعرض لحياتهم الخاصة بالدرس، وأقول فيهم ما لم يكونوا يحبون أن يقال فيهم، وأُظْهِر مِنْ أَمْرِهم ما لم يكونوا يريدون أَنْ يُظْهَرَ مِنْ أَمْرِهم، ثم ألقاهم بعد ذلك في هذه الدار أو في دار أخرى فأجد منهم سخطًا على ما قلْتُ فيهم، وضيقًا بما أَظْهَرْتُ من أَمْرِهم؛ وقد يَعْرِض لي بعضهم بالأذى، وقد يكتفي بعضهم بالعتاب، وقد ينالني بعضهم بالعفو والإغضاء، ولكنَّ شيئًا من ذلك لا يهمني ولا يخيفني، ولا يصرفني عما يجب أن أُقْبِلَ عليه من البحث ما دُمْتُ مطمئنًا إلى أني لم أَتَعَمَّدْ ظلمًا ولا تجنيًا، ولم أَقُلْ إلا ما اعتقدْتُ — مصيبًا أو مخطئًا — أنه الحق.
أتراني أشفق من لقاء المتنبي مثلًا وقد قُلْتُ فيه ما قُلْتُ، وأَظْهَرْتُ مِنْ أَمْرِه ما أَظْهَرْتُ؟ أتراني أشفق أن ينالني الأذى من يده أو لسانه؛ لأني لَمْ أصدِّقه فيما زعم لنفسه من هذه المفاخر أو تلك؛ ولأني لم أرضَ من أخلاقه عن هذه الخصال أو تلك، ولأني وقفت مِنْ نَسَبِه مَوْقِفَ التردد والشك؟ كلا! لأني لم أُصْدِر فيما قلْتُ عن المتنبي إلَّا عن رأي رأيتُهُ بعد رويَّة وتفكير، وبعد تَمَهُّلٍ وترجيح. فأنا لم أُرِدْ به شرًّا، ولم أقترفْ في ذاته ظلمًا، لم أُرِدْ أن أرضيه، ولم أُرِدْ أن أسخطه، وما يعنيني أن أرضيه أو أسخطه، وإنما يعنيني أن أَظْهَرَ وأُظْهِرَ الناس مِنْ أمره على ما أُرَجِّح أنه الحق.
ولو قد كان المتنبي حيًّا لما حَفَلْتُ من أَمْرِه إلا بما تفرض القوانين والمجاملة أن أَحْفِلَ به. وقد سرت هذه السيرة نفسها مع بعض الشعراء الذين عاصرونا، ثم انتقلوا عن هذه الدار إلى رحمة الله ورضوانه، واجهتهم بالنقد أحيانًا، ولم أُغَيِّرْ فيهم رأيي بعد أن قضوا، وما أدري لعلي أن أكون لهم ظالمًا من حيث لا أريد الظلم، وعليهم متجنيًا من حيث لا أريد التجني! وقد أوازن بين أبي تمَّام والبحتري فأرضى حتى أَبْلُغ أقصى غايات الرضا، وأسخط حتى أَبْلُغ أقصى غايات السخط، وأُثْني وأعيب كما رضيت وكما سخطت، وما يعنيني وما يخيفني أن يغضب الطائيان أو يرضيا، وما يعنيني وما يخيفني أن يلقياني بالرضا والغضب في هذه الحياة أو في تلك. ولا كذلك أمري مع أبي العلاء، فإني أكره أن أقسو عليه، راضيًا أو كارهًا، مخافة أن ألقاه فإذا هو متأذٍّ بهذه القسوة؛ لأني أحبه كما قُلْتُ، ولأني أجد فيه من الرفق والرحمة، ومن الحنان والإشفاق، ومن البر والعطف بالناس وبالحيوان ما لا أجده عند غيره من الشعراء والفلاسفة إلَّا قليلًا. وكيف تتصور القسوة على رجلٍ كان يرحم النحل، ويلحُّ في أن لا يشتار ما تجمع لنفسها؛ وكان يرحم الدجاج، ويفزع إذا قدِّمت إليه، ويردُّ الناس أشنع الرد عن إيذائها؟ وكان يحاور الديك هذا الحوار الحلو الذي قد أقف عنده في وقت من الأوقات؛ وكان يترجم عن الضأن للناس، فينبئهم بأنها تعذر عُدْوان الذئب عليها؛ لأنه يقوم على العُدوان من غير بصيرة وعقل، ولا تعذر عُدْوانهم هم عليها؛ لأنهم يُقدمون عن روية وتفكير، وعن تعمُّدٍ للقسوة، وإصرار عليها؟ وكيف تتصور القسوة على رجلٍ ما أظنُّ أحدًا فَهِمَ عن ذوات الأطواق مِثْلَ ما فَهِمَ عنها، وما أظن أحدًا رَحِمها من عُدْوان الناس، وعُدْوان سباع الطير، وعُدْوان حوادث الأيام كما رحمها؟
وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تُقَدِّم إلينا كتابًا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدِّم إليك كتابًا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدَّمْتُ إليك من ذلك ما فيه مَقْنَع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يُرجَّى نَفْعُه، ولا يُتَّقى شَرُّه، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرَّأ من الرَّغب والرَّهب، ومن الطمع والإشفاق. أفتراك تَكْره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تُكْتَبُ ابتغاءً لرضا الأصدقاء، واتقاءً لسخطهم؟ ألم يُجْهِدْكَ هذا السفر المتصل في هذه الطريق الطويلة الملتوية، طريق البحث العلمي، والنقد الأدبي؟ ألست في حاجة إلى أن تَعْرُج على هذه الواحة الخضراء لتستريح لحظة في ظلِّ الحب النقي الكريم؟