الفصل الثالث
وأنا شديد الإشفاق على أبي العلاء من نفسه قبل كل شيء، وقبل كل إنسان، فلم يَظْلِمْه أحدٌ قط كما ظَلَمَ نفْسَه، ولم يُكَلِّفْه أحد قط من الجهد والعناء، ومن المشقة والمكروه مثل ما كَلَّفَ نفسه نحو خمسين عامًا. ولم يَفْتَنَّ أبو العلاء في شيء كما افْتَنَّ في ظُلْم نَفْسِه، وتحميلها ما تطيق، وما لا تطيق، وأخذْها بالمكروه في حياتها العملية والعقلية أيضًا.
وأول ما ألاحظه من ظُلْم أبي العلاء نفسَه اقتناعه بأنه سجين، وامتناعه عن أن يرى لنفسه سجنًا واحدًا، بل عن أن يرى لنفسه سجنين، وإباؤه إلَّا أن تكون لها سجون ثلاثة يذكرها في البيتين اللذين رويتهما آنفًا:
فأنت ترى أن أبا العلاء لم يكْتَفِ بالسجن الذي فرضَتْهُ الطبيعة عليه فرضًا حين أفقدَتْهُ ناظِرَه كما يقول، وإنما فَرَضَ على نفسه سجنين آخرين، أحدهما: ظاهر مُحَسٌّ، يراه الناس جميعًا، ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع، والألم المُمِضِّ، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء لا يَريمه، وفَرَضَ على نفسه لزومه مَهْمَا تكن الظروف، وطَلَبَ إلى أهل المعرة ألَّا يخرجوه منه حتى حين يُغِيرَ الروم على المدينة.
والثاني: سجن فلسفيٌّ، تَخَيَّله كما يتخيل الشعراء، واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة، وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه العقل والخيال جميعًا!
هذا السجن الخيالي الفلسفي هو الجسم الذي أُكْرِهَتِ النفس — كما كان يتصور أبو العلاء، وكما تصور الفلاسفة مِنْ قَبْله ومِنْ بَعْده — على أن تستقر فيه لا تتجاوزه، ولا تتعدى حدوده إلا حين يقضي عليها الموت، وهي حينئذٍ تظفر بِحُريَّة لا تعرف كيف تُقَدِّرها، ولا كيف تستمتع بلذاتها أثناء هذه الحياة؛ لأن هذه الحرية مجهولة المدى، مجهولة الموضوع، يثير انتظارها في النفس ألوانًا من الشك، وضروبًا من الخوف، وفنونًا من الهلع أحيانًا. فما مصير النفس بعد أن تُفْتَح لها أبواب هذا السجن، وتُحَط عنها قيودُه وأغلاله، ويُخَلَّى بينها وبين الانطلاق؟
لقد استراح المؤمنون الذين اطمأنوا إلى البعث، بَعْث الأرواح وحدها، أو بَعْثها مع الأجسام، اطمأنوا إلى أن حياتهم بعد الموت متصلة بحياتهم قبل الموت، ومتأثرة بها، ومؤدِّية لثَمَنها، ومحتملة لتَبِعَاتِها، اطمأنوا إلى أنهم مسئولون بعد الموت عمَّا قدَّموا بين أيديهم قَبْلَه، فهم يعلمون نحوًا من العلم إلى أين هم ذاهبون، وإلى أي حال هم صائرون. ويثير هذا العلم في نفوسهم كثيرًا من الأمل، وكثيرًا من اليأس، كثيرًا من الأمن، وكثيرًا من الخوف، ولكنَّهم على كل حال مطمئنون إلى شيء أساسيٍّ، وهو أن خروج أنفسهم من هذا السجن لن يدفعها إلى المجهول المطْلَق الذي لا تعرف له أملًا، ولا حدًّا، ولا موضوعًا.
فأما الرجل الذي لم يطمئن إلى هذا الإيمان، ولم يمتلئ به قلبه، ولم تَسْكُن إليه نفسه، ولم يسترح إليه عَقْله، وإنما هو مضطرب في أَمْره أشدَّ الاضطراب، يؤمن مَرَّة فيرجو أو يخاف، ويُنْكِر مَرَّة فيدركه اليأس والجزع، ويضطرب بين الإيمان والإنكار في كثير من الأحيان، فإذا هو قَلِق لا يستقر على حال، وهذا الرجل معذَّب دائمًا أشد العذاب، إلا أن يُفطَر على التهاون والإعراض، والاشتغال بعاجل الأمر عن آجله، والانصراف إلى يومه عن غده، وإلى التفكير في حياته الدنيا، والاستمتاع بها، والاحتياط لها، عن التفكير في حياته الآخرة، والإشفاق منها.
ولم يكن أبو العلاء من هذا التهاون في شيء، وإنما رَفَضَ حياتَه الدنيا رفضًا، وصدَّ عنها صدودًا، ومنعها أن تَحُول بينه وبين التفكير، وأن تَحُول بينه وبين ما يستتبعه التفكير من النتائج. وأَشَق من ذلك أن هذا الرجل الذي كان قَوِيَّ الخيال بعيد آماده، كان في الوقت نفسه قوِيَّ العقل عميقَه، قوِيَّ الإرادة عنيفها، فلم يستطع الخيال قط أن يسيطر عليه أو يستأثر به، وإنما وجد من العقل دائمًا ما يَحُدُّه ويردُّه إلى التواضع والاعتدال. وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من الديانات، فمالت نفسه إلى الإيمان بالبعث! وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من كتب بعض الفلاسفة، فمال إلى التصديق بخلود النفس! ولكن ما كان أكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوًا، أو يُضْعِفه إضعافًا شديدًا! وأكْبَرُ الظن أنه حين كان يطمئن إلى خلود النفس لم يكن يطمئن إلى ما يزعمه الفلاسفة من تفصيل ما ستلقاه النفس الخالدة من سعادة أو شقاء، كما أنه حين كان يطمئن إلى البعث، لم يكن يطمئن إلى ما سيلقاه الناس بعد البعث من نعيم أو جحيم، فكان اطمئنانه إلى خلود النفس لا يزيده إلَّا شقاء؛ لأنه يشرف به على هوة لا يعرف لها قرارًا، ولا عِلْم له بما يضطرب فيها من خير وشر.
ولم يكن أبو العلاء يحرص على شيء كما كان يحرص على أن يُنْشَرَ ميت من الموتى، فينبئه وينبئ الناس بما وراء الموت. ومِنْ قَبْله طُلِب هذا إلى الأنبياء فلم يَظْفَر طالِبوه بشيء، ولم يَظْفَر أبو العلاء بما لم يَظْفَر به غَيْرُه، فظلَّ في حيرة كما كان الذين جحدوا البعث من قَبْله في حيرة أيضًا. نستغفر الله! بل إنَّ أكثر الذين جحدوا البعث مِنْ قَبْلِه، لم يكن لهم عقْلُه وذكاؤه، ونُفوذ بصيرته، فلم يفكروا في عاقبةٍ، ولم يُشفقوا من مغبَّة، وإنما قالوا هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلَّا الدهر. وما كان شيءٌ أحبُّ إلى أبي العلاء من أن يقول كما قالوا، ولكنه لم يستطع أن يقوله؛ لأن عقله كان يمنعه من ذلك؛ ولأنه لم يكن قادرًا على أن يتصور أن الناس خُلِقوا عبثًا، أو تُرِكوا سدًى. فلم يكن له بدٌّ إذَنْ من أن يسأل نفسه، ومن أن يسأل الناس، ومن أن يسأل حيوان الأرض وجمادها، وكواكب السماء ونجومها، عما عسى أن يلقى الناس بعد أن تُطْلَق نفوسُهُم من هذه السجون.
والذي كان يغيظ أبا العلاء إلى أقصى حدود الغيظ أنه كان يفكر ويستقصي، فيرى أن نفسه سجينة في جسمه بأدق معاني هذه الكلمة وأقساها، قد أُدخِلَتِ السجن مكرهةً، وأُخْرِجت منه مُكْرهةً، لم تُسْأل أتريد هذا الدخول أم ترفضه، ولم تُستشر أترغب في هذا الخروج أم تزهد فيه. بل هي لا تذكر أنها جَنَتْ قبل دخول هذا السجن من الإثم ما يضطرها إلى دخوله، ولقاء العذاب فيه إن كان شرًّا. ولا تذكر أنها أتت من الصالحات بما يثيبها بدخوله، والاستمتاع باللذات فيه إن كان خيرًا. لا تعلم شيئًا عن ماضيها. فَلِمَ أُدْخِلَتْ هذا الجسم وأُقرَّت فيه؟ أَلِتَلْقَى فيه عقابًا أو ثوابًا؟ وفيم العقاب والثواب، وهي لا تعرف أنها جَنَت شرًّا أو أتت خيرًا؟ ثم هي مُخْرَجَةٌ منه على كرهٍ منها، ولا تعرف ما سيلقاها بعد هذا الخروج.
كل هذه الخواطر كانت تنغص على أبي العلاء حياته إذا خلا إلى نفسه، وفكَّر في أمره. على أن هناك منغصات أخرى لم تكن أقل من هذه الخواطر إيذاءً لهذا الشاعر الحائر، وهذا الفيلسوف البائس، وهي منغصات الحياة نفسها، هي هذه الآلام التي يلقاها في السجن، والتي يحسها ويشهدها، ويستطيع أن يصورها تصوير عالِم بها، خاضع لها، هي هذا التناقض الهائل بين أمل النفس وطاقتها، بين ما تريد وما تستطيع. يفكر أبو العلاء فلا يرى لتفكيره حدًّا ولا غاية، فإذا أراد العمل وجد نفسه مقيَّدًا مغلولًا، ووجد قدرته على العمل ضئيلة لا قيمة لها.
إنَّ عقْله يفكر في النجوم والكواكب، ويتصور مِنْ أَمْرها الخطأ والصواب، والممكن والمحال، ولكنَّه يريد أن يعرف من أمر هذه النجوم والكواكب أكثر مما عرف، وأن يبلو حقائقها بلاء الملمِّ بها، المُداخِل لها، القريب منها. فما له لا يبلغ القمر، وما له لا يلم بالمريخ، وما له لا يبلو بنفسه أخبار المشتري؟ وما هذا التناقض بين قوة العقل وتضاؤل القدرة؟ بل في الأمر ما هو أعظم من هذا إيلامًا، وأشدُّ منه إيذاءً، فقد تتواضع النفس وهي مضطرة إلى هذا التواضع، فلا تطمع في أن تبلغ النجوم، ولا تطمح إلى أن تزور الكواكب، ولكنَّها تطمع في أن تحقق ما ترى أنه الخير، وتجتنب ما ترى أنه الشر. ما ترى أنه الخير أو الشر في حياتها القريبة جدًّا، في حياتها اليوميَّة التي تحياها من لحظة إلى لحظة، وتباشرها من آنٍ إلى آنٍ. وما لها لا تبلغ من ذلك شيئًا، وما لها لا تَقْدِر من ذلك على شيء؟ وما بال هذه القوى التي لا تحصى قد تظاهرت وتناصرت على منعها من تحقيق ما تريد، بل من محاولة ما تريد؟
ما هذه الحُرِّية المُطْلَقة التي يستمتع العقل بها إذا فكر، وما هذا العجز المطْلَق الذي يضطر العقل إليه إذا أراد أن يعمل أو يُدْفَع إلى العمل؟ ما هذه القوى الطبيعية التي تقوم دونه، فتمنعه من أن ينزه الجسم عمَّا تقتضيه غرائزه من هذه الأشياء الكريهة البغيضة التي لا يقدم عليها إلا كارهًا لها، متبرمًا بها، مزدريًا نفسه؛ لأنه مضطر إلى الإقدام عليها؟ ما هذه القوى الاجتماعية التي تقوم دونه فتحدُّ من حُرِّيته في العمل، وتحد من حُرِّيته في القول، وتضطره إلى العجز المطْلَق عن الصلاح والإصلاح؟ جَهِلَ بما كان قبل دخول السجن، وجَهِلَ بما هو كائن بعد الخروج من السجن، وعَجَزَ عن إصلاح أمره وتدبيره كما يحب أثناء الإقامة في السجن. وشر من هذا كله أنه قد يحب هذا السجن، وقد يحرص على الإقامة فيه، وقد يستمتع أثناء هذه الإقامة ببعض اللذات المادية أو المعنوية، فلِمَ لا يُخَلَّى بينه وبين هذا السجن يقيم فيه ما شاء، ويخرج منه متى أراد؟ أو على أقلِّ تقدير لِمَ لا ينبأ بموعد مضروب، وأجَلٍ مُحَدَّدٍ لهذا الخروج، ولكنه يدخل على غير علم ولا إرادة، ويخرج على غير علم ولا إرادة، فهو في خوف متصل، وقَلَق دائم، لا يدري متى يَفْتَح السادن عليه بابه، ويقذفه من هذا السجن الذي أَلِفَه إلى هذا الفضاء المجهول الذي لا يعلم من أمره شيئًا.
بل هناك ما هو شرٌّ من هذا وأشدُّ إيلامًا، فلماذا مُنِحَ السجينُ هذه القوة المفكرة المقدِّرة المريدة التي تأمل وتعجز عن تحقيق الأمل، وتريد وتقصر عن إنفاذ الإرادة، وترى الخير ولكنها لا تجد إليه سبيلًا، وترى الشر ولكنَّها لا تجد منه مَخْرجًا؟
فلو أنك اتخذت اللذة والألم مقياسًا للسعادة، وسلكت في ذلك طريقًا مُشْبِهة لطريق الفلاسفة، ولكنها معاكِسة لها معاكَسة ظاهرة صريحة لانتهيْتَ إلى نتيجة تملأ النفس يأسًا وسخطًا. هؤلاء الفلاسفة يفاوتون بين الكائنات بمقدار حظها من الحس والشعور، ومن اللذة والألم، ومن التفكير والتقدير. وهم يجعلون الإنسان أرقى هذه الكائنات؛ لأنه يشاركها في الوجود، ثم يشارك بعضها في أنه جسم، ثم يشارك بعضها في أنه حي، أي حسَّاس شاعر، ثم ينفرد منها جميعًا؛ لأنه مفكر ناطق. وخُذْ طريقًا معاكسة لهذه الطريق، فسترى الإنسان أشقى هذه الكائنات؛ لأنه مفكر، ولأن تفكيره يضطره إلى ألوان من الآلام، وضروب من اليأس والقنوط لا يجدها كائن غيره، فهو يضطره إلى الشك، ويُلْبس الأمر عليه فيُوَرِّطه في الحيرة وآلامها، وهو قد يُبَيِّنُ له الخير، ولكنَّه يُبَيِّنُ له في الوقت نفسه عجْزَه عن بلوغه، وهو قد يُبَيِّنُ له الشر ولكنَّه يُبَيِّنُ له في الوقت نفسه إغراقه فيه، وعجْزه عن الخلاص منه، وهو قد يُبَيِّنُ له السعادة، ولكنَّه يُبَيِّنُ له في الوقت نفسه قُصُوره عن أن يبْلُغَهَا كاملة، وقصورَه عن أن يحتفظ بأيسر ما يبلغه منها، وهو قد يُبَيِّنُ له الشقاء، ولكنَّه يُبَيِّنُ له في الوقت نفسه اضطراره إليه، ولزومه له، وإخفاقه المحتوم كلما حاول أن يَخْلُص من أَقَلِّه وأيسره، وهو قد يُبَيِّنُ له اللذة المادية، ولكنه يُبَيِّنُ له في الوقت نفسه أنه عاجزٌ عن أن يبلغ خيْرها وأكملها، كما يُبَيِّنُ له أن ما يحصله من أيسرها وأهونها لا يكاد ينقضي حتى يَعْقُبَه مِنَ الآلام والحسرات ما يعدل أضعاف ما أصاب من نعيم ومتعة، وهو قد يُبَيِّنُ له الألم، ولكنَّه يُبَيِّن له في الوقت نفسه أن أنواع هذا الألم لا تعدُّ، وأن ضروبها لا تحصى، وأنه لا يخلص من بعضها إلا لتهجم به غرائزه الخاصة أو الأقدار التي لا يملك تصريفها، ولا دفعها على ما هو شرٌّ منها، وأَمَضُّ وأسوأ عاقبةً وأَبْلَغُ أثرًا. فإذا تركت الإنسان إلى ما يرى الفلاسفة أنه دونه من الكائنات فسترى هذه الكائنات أحسن حظًّا من الإنسان؛ لأنها قد سُلِبَتْ هذا العقل، وحُرِمَتْ هذا التفكير، فالحيوان يألم ويشقى، وهو يلذُّ ويسعد، ولكنَّه لا يُقَدِّر الألم والشقاء، واللذة والسعادة كما يُقَدِّرها الإنسان. والحيوان تتفاوت أنواعه فيما بينها بمقدار ما أُتِيح لها من الحس والشعور، وبمقدار ما أُتِيح لها من قوة الغرائز وضَعْفِها، فكلما قَوِيَ حظ الحيوان من الحس والشعور والغرائز قوي حسُّه للألم وشعوره به، وإشفاقه منه، وقوي حرصه على اللذة، وتَتَبُّعِه لها، وتوقُّعِه إياها، وأَلَمُه للعجز عن بلوغها، والقصور عن تحصيلها. فإذا تجاوَزْتَ الحيوان إلى النبات فقد بَلَغْتَ جنسًا من الكائنات له حظٌّ من حياة، ولكنه ضئيل بالقياس إلى حظ الحيوان. وإذن فحظه من الألم لا يكاد يُذْكَرُ، ولعله ألَّا يكون موجودًا. فإذا تركْتَ النبات إلى ما هو أدنى منه رتبة، وأحطَّ منه طبقة عند الفلاسفة، إلى الجماد الذي لا حظَّ له من حياة، ولا حظَّ له من حس، ولا حظَّ له من إرادة، ولا حظَّ له من تفكير، فهناك السعادة العظمى التي لا يُنَغِّصُها شقاء، وهناك الراحة الكبرى التي لا يشوبها ألم. وإذَنْ فَلِمَ مُنح هذا السجينُ حياتَهُ هذه القوية العنيفة التي تستتبع الحسَّ والحركة، والإرادة والتفكير، وتستتبع بحكم ذلك الألم والبؤس، والشقاء والحرمان الذي هو أصل الشقاء كله؟
ومن هنا يتمنى أبو العلاء حين لا ينفع التمني، ويود حين لا ينفع الود، ويبكي حين لا يجدي البكاء، ويكون تمنيه ووده وبكاؤه مصدرَ شقاء وحسرات تضاف إلى ما هو فيه من شقاء وحسرات. فهو يغبط الحيوان؛ لأنه لا يعرف الخير والشر، ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف، وهو مع ذلك يرثي له من الألم الذي يجده، والشقاء الذي يشعر به، والمكروه الذي يتعرض له، ولكنه يغبط الجماد إلى أبعد حدٍّ ممكن، ويرسل أصواتًا تمتلئ بالحسرة واللوعة؛ لأنه لم يظل جمادًا كما كان، فهو قد كان جمادًا في سالف الدهر.
وهو صائرٌ إلى الجماد في مستقبلِ الدهر.
فلِمَ اسْتُخْرِجَ من الجماد لِيُرَدَّ إليه؟ ولِمَ هذه المحنة التي يُمْتَحَنُ بها في هذا الطور من أطوار وجوده؟ والذي يزيد الأمر إِشكالًا، أي يجعله مصدرًا من مصادر الألم العقلي الذي هو شرٌّ من الألم الماديِّ، أنه لا يدري أصائر كله إلى الجماد بعد الموت؟ وإذن فالمحنة موقوتة، وهي من أجل ذلك محتملة هيِّنة الأمر مَهْمَا تمتلئ بالمصائب والنوائب، وبالكوارث والآلام. أم صائر بعضه وهو الجسم إلى الجماد كما كان، وإذن فما مصير بعضه الآخر؟ أين كان قبل أن تَلُمَّ به هذه المحنة، وإلى أين يمضي بعد أن تنجاب عنه هذه المحنة؟ بل أهي منجابة عنه يومًا من الأيام؟ أراجع هو إلى حيث كان قبل المحنة فجاهل نفسه كما كان يجهلها من قبل؟ وإذن فَلَمْ تَكُن المحنة إلَّا حُلمًا، ولكنه حُلم معاكس لِمَا أَلِفَه الناس من معنى الحُلم. فالحُلم عند الناس يَقَظَةٌ تُخَيَّل إلى النائم فإذا استيقظ لَمْ يَجِدْهَا شيئًا، ولكن هذا الحُلم العلائي يقظة تُخَيَّلُ إلى المعدوم فإذا أفاق منها لَمْ يَشْعُر بها، بل لم يَذْكُرْهَا ولم يجد لها تعبيرًا، بل لم يشعر بنفسه فضلًا عن أن يشعر بما ألمَّ بها من الأحداث. أم ماضٍ هو في هذه المحنة، فشاعر بنفسه شعورًا متصلًا خالدًا، وإذن فالمحنة باقية لم تَنْقَضِ، وما عسى أن يكون نَوْعُ هذه المحنة بعْد الموت، أهو من نوعها قبل الموت؟ وإذن ففيم الموت وآلامه؟ وفيم هذه الحسرات التي تمتلئ بها النفس؛ لأنها تتوقع الموت وآلامه؟ أم هو من نوع جديد لم نعرفه، ولم نذقه أثناء هذه الحياة؟ وإذن فما عسى أن يكون هذا النوع الجديد؟ أهو خير مما أَلِفْنَا، أم هو شر مما أَلِفْنَا؟
وكذلك أنفق أبو العلاء نصف قرن من حياته يواجه هذه الخواطر إذا أصبح، ويواجهها إذا أمسى، ويواجهها أثناء الليل إن أبطأ عليه النوم، ولعله يواجهها أثناء النوم إن صَوَّرَتْهَا له الأحلام. وقد وَجَدَ أجوبة مختلفة على هذه الأسئلة، وَجَدَ أجوبة الديانات، ووَجَدَ أجوبة الفلسفة. وكان خليقًا أن يطمئن إلى هذه الأجوبة أو تلك فيريح ويستريح، ولكن هذا الاطمئنان لم يُقدَّر له. فهو يستريح إلى ما جاءت به الأديان، ويهيئ نفسه للبعث، ويجتهد ما استطاع في تحصيل الخير، وتحقيق العمل الصالح. ولكن عقله لا يلبث أن يصور له الأمور مناقضةً لما اطمأن إليه. فما بال الإنسان يُخصُّ بالبعث، وما يستتبعه البعث من ألم أو لذَّة ومن جحيم أو نعيم؟ ألأنه عاقل وهو من أجل ذلك مكلف؟ ولكن ما بال الإنسان خُصَّ بالعقل، وما باله خُصَّ بالتكليف؟ وإذن فقد ذهبت عن المسكين طمأنينته، وخاب كل ما كان قد عَقَدَ بها من أمل.