الفصل الخامس
ومن المحقق أن أبا العلاء كان يستطيع أن يكتفي بسجنيه هذين اللذين أطَلْنَا فيهما الحديث دون أن يضيف إليهما هذا السجن الثالث، ومن غير أن يُحِدَّ ذلك من فلسفته، أو يؤثِّر في سيرته التي تفرضها عليه هذه الفلسفة. وما أكثر الفلاسفة الذين عاشوا عيشة فلسفية خالصة لاءموا فيها أحسن الملاءمة بين حياتهم العقلية وحياتهم العملية دون أن يحتاجوا إلى اعتزال الناس، ولزوم بيت واحد لا يَعْدُونه! بل منهم من قضت عليه فلسفته أن يخالط الناس ما وسعته مخالطتهم؛ ليؤثِّر فيهم ما وجد إلى التأثير فيهم سبيلًا. ولو أن سقراط اعتزل الناس ولزم بيتًا بعينه لا يعدوه لما كان سقراط، ولفَقَدَ أخصَّ ما يميزه ويميز فلسفته من الخصال التي كانت تَفْرِض عليه التنقل بتفكيره وسؤاله وجوابه من مكان إلى مكان، ومن مَجْمَع إلى مَجْمَع.
وكان أبو العلاء يستطيع أن يعيش بفلسفته هذه الحادَّةِ القاتمة ذامًّا للدنيا، وناعيًا على أهلها، ومتجنبًا لذاتها دون أن يحبس نفسه نصف قرن في بيت من بيوت المعرة، ودون أن يؤثِّر ذلك في فلسفته قليلًا أو كثيرًا. فما الذي دَفَعَه إلى إيثار العزلة، وحَمَلَه على لزوم هذا السجن مختارًا إن صحَّ أن يُضاف هذا الاختيار إلى أبي العلاء؟
ليس من شك في أنه حين سافر إلى بغداد لم يكن يريد الوحدة، ولا اعتزال الناس، فإن الوحدة لا تُطْلَب في أكبر المدن الإسلامية، وإنَّ اعتزال الناس لا يُطْلَب في أشدِّ البلاد اكتظاظًا بالناس، بل لعل أبا العلاء إنما سافر إلى بغداد فرارًا إليها من هذه العزلة الإضافية التي لزمها أو لزمَتْه في قريته الصغيرة الخاملة التي لا يجد فيها من يلائم شكلُه شكلَه من العلماء والأدباء والفلاسفة. وقد وصل إلى بغداد، وما أسرع ما اتصل بالناس واتصل الناس به، وما أسرع ما أحبَّه أهل بغداد وخلطوه بأنفسهم وآثروه بمودتهم، وما أسرع ما شَهِدَ أندِيَتَهم الخاصة والعامة، واختلف إلى مجالس علمائهم وأدبائهم وفلاسفتهم، وشفى نفسه من حاجته إلى الحياة الاجتماعية العليا التي يتحدث فيها إلى الأضراب والنظراء، ويسمع منهم فيفهم عنهم، ويفهمون عنه. وشفى نفسه أيضًا من طموحه الطبيعي إلى الشهرة وبُعد الصيت وتسامُع الناس به وتَحَدُّثهم عنه. ولكنه كان في بغداد قلقًا يحسُّ الغربة، ويجد الحنين إلى وطنه في الشام، ويعلن ذلك في شِعر رائع مؤثِّر حَفِظَه سِقْط الزَّند، وأحبَّه البغداديون أنفسهم، ووقَفْتُ عنده في غير هذا الكتاب. كما بينْتُ أنه لم يكد يعود من بغداد حتى أخذَتْ نفسه تذوب حسراتٍ لفراقها. وهذه الخصلة من أخصِّ صفات الأديب ذي الحس الدقيق، فهو طامح إلى بغداد إن كان في المعرة، وهو مُشَوَّق إلى المعرة إن كان في بغداد، ثم هو محزون على بغداد إن عاد إلى المعرة! وقد صوَّر المتنبي هذه الخصلة تصويرًا رائعًا في بيته المشهور:
وصوَّر أبو العلاء نفسُهُ هذه الخصلة تصويرًا رائعًا في شِعره الذي بكى فيه الشامَ حين كان في العراق، والذي ندم فيه على العراق حين عاد إلى الشام.
كان إذَنْ قلقًا في بغداد، ولكني مع ذلك أعتقد أنه لم يكن يميل إلى فراقها، ولو استقامت له الحياة فيها لما فارقها، وأكبر الظن أنه كان يُحَدِّث نفسه بإمكان الاستقرار في بغداد إلى آخر أيامه، ولعله داعَبَ هذا الأمل الحلو في أن تَلِين له الحياة في العراق، فيدعو أمه التي فارقها لتلحق به، وتنفق معه ما بقي من أيامها. وأكبر الظن أنَّ أبا العلاء لم يكن يؤْثر بغداد؛ لأنها مدينة العلم والفلسفة فحسب، بل لأن حياتها السياسية كانت أخفَّ عليه، وأهون احتمالًا من حياة الشام. فالذين يقرأون اللزوميَّات وسِقْط الزَّند نفسه يشعرون بأنَّ أبا العلاء كان يَكْرَه الحياة السياسية في الشام كرهًا شديدًا؛ ذلك أن الشام كانت موضوع نزاع متصل بين الفاطميين والمتَغَلِّبين من الأعراب من قيس وطيء والروم. ولم يكن أبو العلاء يحب الفاطميين ولا يرضى عنهم، بل لم يكن أبو العلاء يحب الشيعة عامةً، ولا مَن يتصل بهم من قريب أو بعيد، فهو يعرِّض بالفاطميين، ويهاجم الإسماعيلية والإمامية، ويهاجم القرامطة مهاجمة عنيفة. ولم يكن حبه للمتغلِّبِين من أعراب قيس وطيء بأكثر من حبه للفاطميين. كان يكره من أولئك الأعراب ظُلْمَهُم وجَهْلَهُم، وغلظتهم وقسوة قلوبهم، وكان يُنْكر من الفاطميين مذاهبهم في السياسة، وآراءهم في الدين، وواضح أنه إذا كره أولئك وهؤلاء فلم يكن يحب الروم، ولا يؤثرهم بالمودة، ولا يرضى لنفسه الخضوع لسلطانهم بين حين وحين كما كانت تجري بذلك الأحداث في ذلك الوقت.
وكانت بغداد بمأمن من هذا كله، وبمعزلٍ من هذه الفتن المنكرة الخطيرة، فيها تشغيب للجند، وفيها الاضطراب بين الشيعة وأهل السنة من وقت إلى وقت، ولكن هذا كله لم يكن يغيِّر من حياة العلماء والأدباء شيئًا، ولم يكن يصرفهم عما كانوا فيه من الفراغ لما يحبون من درْس وبحْث، ومن مناظرة وجدل، ومن رواية وإنشاد. فكان كل شيء في بغداد يحبِّبها إلى أبي العلاء، ويغريه بالإقامة فيها حتى يدركه الموت، ولكن الحياة لم تستقم له في بغداد؛ لأن أخلاقه لم تكن أخلاق الرجل الاجتماعي الذي يستطيع أن يأخذ من الناس وأن يعطيهم، وأن يقارضهم المنافع بما فيها من خير وشر، وأن يصبر على أذاهم حينًا، ويلقاهم بالأذى حين تُمْكِنه الفرصة.
لم يكن أبو العلاء من هذا كله في شيء، وإنما كان دقيق الحس، رقيق الشعور، سريع التأثر، سريع ردِّ الفعل كما يقال. وقصته مع الشريف المرتضى ومع أبي الحسن الربعي تدلَّان على ذلك دلالة واضحة. فإذا أَضَفْتَ إلى هذا أن صاحبنا قد ظفر بالشهرة في بغداد، ولكنه ظفر معها بالحسد، ولم يظفر معها بالمال تَبَيَّنْتَ أنه لم يكن له ببغداد مُقَام، ولا أمل في المُقَام. وإذن فقد اضْطُرَّ إلى أن يفكر في العودة إلى المعرة ليقيم فيها وادعًا مطمئنًا. وقد رأيت أنه كان يكره كل شيء في المعرة إلا أهلها الوادعين الآمنين، كان يكره إصفارها من العلم والعلماء ودور الكتب، وكان يكره تَعَرُّضَها لهذه الأحداث السياسية التي تجعلها كالكرة يتقاذفها الفاطميون والأعراب والروم، وكان يعلم أنه إن عاد إلى المعرة دون أن يحتاط لنفسه، ويعتصم بالعزلة التامَّة، والحيدة المطْلَقة لم يأمن من أن تعبث به أحداث السياسة كما عبثت بغيره من العلماء والأدباء.
ومن هنا نفهم أنه فكَّر فأطال التفكير، وروَّى فأطال التروية، واستشار الخاصة من أصدقائه في بغداد بعد أن بيَّن لهم جليَّة أمره، فأقروا رأيه، وشجَّعوه على المضي فيه. وإنه لفي ذلك وإذا الأنباء تأتيه بأن أمه مريضة، فتصوَّرْ حزنه وإشفاقه، وخيبة أمله، وكَذِب رجائه! لقد كان يمنِّي نفسه أن يقيم ببغداد، وأن يحمل أمه إلى بغداد، فلما أعجزَتْه الإقامة أخذ يفكر في السفر، ولكنَّه يتثاقل عنه، ويرجئه ليستزيد من الحياة في بغداد. وإذا مرضُ أُمِّهِ يزعجه عنها فجأة، ويدْعُوه إلى فراقها في أسرع وقت ممكن.
وما يكاد يرتحل عن بغداد، ويمضي في طريقه مسرعًا إلى المعرة يسابق الموت إلى أمه حتى يأتيه النبأ بأن الموت قد سبقه إليها.
فهو إذن لم يَنْكُبْ بالإخفاق فيما كان يرجوه من الحياة الآمنة الخصبة في بغداد فحسب، وإنما نَكَبَ فيما كان يرجوه من لقاء أمه تلك التي أحبَّها حبًّا لم يحبِبْه أحدًا قط، تلك التي مانعت في سفره إلى بغداد إيثارًا لنفسها به، وإيثارًا له بالعافية، وإشفاقًا عليه من المشقة والجهد. فلما ألحَّ عليها في ذلك، وتبيَّنَت حرصه عليه، واتصال نفسه به عرفت كيف تضَحي بنفسها ابتغاءَ مرضاته، وكيف تخلِّي بينه وبين ما أراد.
وقد أظهرتُ في غير هذا الكتاب جَزَعَ أبي العلاء لهذه النكبة، وما صَوَّرَتْ هذه النكبة من ذلك الحزن الذي أخرجه عن طوره أو كاد، ولكن المهم أن هذه النكبة وطَّنت نفسه، وقوَّت عزمه على ما كان قد صمم عليه من العزلة والانفراد، والاستسلام لغريزته الوحشية.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتابٌ إلى السكْن المقيم بالمعرَّة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان خصَّ به من عَرَفَه وداناه. سلَّم الله الجماعة ولا أسلمها، ولمَّ شعثها، ولا آلمها. أما الآن، فهذه مناجاتي إياهم مُنصرَفي عن العراق، مجتَمَع أهل الجدلِ، وموطن بقيَّةِ السلف، بعد أن قَضيتُ الحداثة فانقضت، وودَّعت الشبيبة فمضت، وحلبتُ الدهر أشطره، وجرَّبت خيره وشرَّه، فوجدتُ أوفقَ ما أصنعهُ في أيام الحياة، عزلةً تجعلُني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام، وما ألوْتُ نصيحةً لنفسي، ولا قصَّرت في اجتذاب المنفعة إلى حيِّزي. فأجمعت على ذلك، واستخرْتُ الله فيه، بعد جلائِه على نفر يوثَقُ بخصائلهم، فكلهم رآه حزمًا، وعدَّه إذا تمَّ رشدًا. وهو أمرٌ أسرِي عليه بِلَيل قضى برقة، وخبت به النعامة، ليس بنتيج الساعة، ولا ربيب الشهر والسنة، ولكنهُ غَذِيُّ الحِقَب القادمة، وسليل الفكْر الطويل. وبادرت إعلامهم ذلك؛ مخافة أن يتفضَّلَ منهم متفضل بالنهوض إلى المنزل الجارية عادتي بسكناه؛ ليلقاني فيه فيتعذر ذلك عليه، فأكون قد جمعت بين سمِجَين: سوء الأدب، وسوء القطيعة. ورُبَّ ملومٍ لا ذنب له، والمثلُ السائر: «خلِّ امرأً وما اختار»، وما سمَحَت القرونُ بالإياب حتى وَعَدْتَهَا أشياء ثلاثة: نُبذةً كنبذة فتيق النجوم، وانقضابًا مِن العالِم كانقضاب القائبة من القوب، وثباتًا في البلدِ إن جال أهله من خوف الرُّوم. فإِن أبى مَن يشفقُ عليَّ أو يظهرُ الشفقَ إلا النفرة مع السواد كانت نفرة الأغفر أو الأدماء. وأحلِفُ ما سافرتُ أستكثر من النشب، ولا أتكثَّر بلقاء الرجال، ولكن آثرتُ الإقامة بدارِ العلم، فشاهدت أنفَسَ مكانٍ لم يسعف الزَّمنُ بإِقامتي فيه. والجاهلُ مغالب القدرِ! فلُهِيتُ عما استأثرَ به الزمان، واللهُ يجعلُهم أحلاسَ الأوطانِ، لا أحلاسَ الخيْلِ والرِّكاب، ويُسبغُ عليهم النعمة سبوغَ القمراءِ الطلقة على الظبي الغريرِ، ويحسنُ جزاء البغداديين، فلقدْ وصفوني بما لا أستحقه، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا عليَّ أموالهم عرْض الجد، فصادفوني غير جذلٍ بالصنيعات، ولا هشٍّ إلى معروفِ الأقوام، ورحلْتُ وهم لرحيلي كارهون، وحسبيَ اللهُ عليه يتوكلُ المتوكلون!
على أن أبا العلاء لم يَعُدْ من بغداد بهذا العزم المصمم على العزلة وحده، وإنما عاد بشيء آخر هو هذه الحياة الخاصة التي فرضها على نفسه أثناء العزلة، والتي حالت بينه وبين الزواج والنسل، وحرَّمت عليه أكثر اللذات أو قُلْ كل اللذات؛ وحظرت عليه أكل الحيوان، وما يخرج منه، واضطرته إلى أن يعيش على العدس، والزيت، والتين، والدبس، لا يتجاوز ذلك إلى غيره؛ وأن يتخذ من اللباس أخشنه وأقساه، ومن الفراش أغلظه وأجفاه: اللبد في الشتاء، والحصير في الصيف؛ وأن يأخذ نفسه بألوان عنيفة من الرياضة المادية، فلا يتخذ في الشتاء دفئًا، ولا يصطنع الماء الساخن، فأما الرياضة المعنوية فإن لنا فيها حديثًا قد يطول بعض الشيء.
فلننظر إلى هذا الرجل النحيل الضئيل الضرير، الذي اصطنع لنفسه هذا السجن المادي من داره، وفرض على نفسه فيه حياة السجين وسيرته، وطعامه وشرابه، وغلظته وقسوته، وأقام على ذلك نصف قرن راضيًا به مطمئنًا إليه، نستغفر الله، بل مفاخرًا به! ألم يسمِّ نفْسَه رهين المحبسين؟ ألم يذكر سجونه الثلاثة في ذينك البيتين اللذين رويناهما منذ حين؟
لننظر إلى هذا الرجل قد سُجِنَتْ نفسه في جسمه، فحُدَّتْ بحدوده، وأُكْرِهَتْ على ما أُكْرِهَ عليه مِن العجز، ثم لم يَكْفِ الطبيعة أن اضطرتها إلى هذا السجن، وهو ثقيل أليم بغيض، فأضافت إليه سجنًا آخر، وحالت بين هذه النفس وبين أن تَنْفُذ إلى العالم المحيط بها من طريق الإبصار كما يَنْفُذ إليه غيره من النفوس؛ ثم لم يَكْفِهَا هي أيضًا أن اضْطُرَّتْ إلى هذين السجنين فكأنها عاندت الطبيعة التي سجنتها، وأعلنت إليها العناد والتحدي، وقالت لها في صراحة: إنَّ هذا العذاب الأليم لا يُضْعِفُنِي، ولا يفلُّ من حدي، بل قد أرى فيه لذة ورضًا، بل قد أراه هينًا يسيرًا لا يكفيني ولا يشفيني؛ وانظري؛ فسأضيف إليه سجنًا آخر وعذابًا آخر، وحرمانًا آخر، سأحبس نفسي في هذا المنزل لا أعدوه، وسآخذ نفسي بأشدِّ ألوان الرياضة وأقساها، وسأحرم نفسي ما أباح الله للناس من طيبات الحياة! ولو استطعت لأضفت إلى هذه السجون الثلاثة سجنًا رابعًا وخامسًا، ولو استطعت لأضفتُ إلى هذه الألوان من العذاب والحرمان ألوانًا أخرى من العذاب والحرمان، ولكن ماذا أصنع وهذا آخر الطاقة وأقصى الجهد؟ انظري؛ إنك لم تقهريني، ولم تَظْهري عليَّ، ولكني أنا الذي يقهرك ويَظْهر عليك؛ لأني أحتفظ أمام قوتك وسلطانك، وأمام بأسك وبطشك بهذا العقل الحر الثائر الذي لن يهدأ، ولن يطمئن حتى يعلم علمك، أو يكون بينك وبينه الفراق إلى آخر الدهر!
أليس هذا الرجل خليقًا بالإشفاق عليه والإعجاب به؟ بلى وهو خليق بأن نحبه ونؤثره بالود، وبأن نزوره في هذا السجن الذي اتخذه لنفسه، ونقيم معه فيه يومًا أو أيامًا لنرى كيف كان يعيش فيه، لا عيشته المادية، بل عيشته العقلية الشاعرة المفكرة التي تُصَوِّرُها اللزوميَّات.