الفصل السادس
وأُدخِلْتُ على الشيخ في حجرة واسعة بعيدة الأرجاء، قد جلس هو في صدرها على حصير؛ لعله أن يكون أقْرب إلى البلى منه إلى الجدَّة، وبين يديه نفَر يكتبون، وفي الحجرة قومٌ آخرون كثيرون يسمعون ويَعْجبون، ولكنَّهم لا يقيِّدون ما يسمعون، وكان صوت الشيخ شاحبًا حزينًا قد أُلْقِيَت عليه مسحة من كآبة، ولكنه كان في الوقت نفسه ثابتًا ممتلئًا يمازج حُزنَه شيء من الرضا والأمن، وشيء آخر لا يكاد يُحَسُّ كأنه يُمَثِّل غبطة هادئة، وابتهاجًا متواضعًا بما أتيح للشيخ من فوز. وكان يُملي هذه الأبيات:
وقد أعجبني هذا الصوت الشاحب المُشْرق، والمحزون المبتهج، ووجدْتُ في الاستماع له لذَّةً وأُنسًا لم أجدْهما في الاستماع لصوت قط. ولكني تجاوزت الصوت مسرعًا إلى ما كان يمْلي مِن الشعر، فوقفْتُ منه عند أمرين، أو قُلْ عند أمور ثلاثة مختلفة، ولكن ائتلافها هو قِوام هذه الأبيات.
وقفْتُ عند معناه، ووقفْتُ عند أسلوبه، ووقفْتُ عند لفْظه، فأما معناه فقد رأيْتُ فيه إنتاج العقل الفلسفي، وإنتاج الخيال الشعري، وائتلافًا غريبًا لا يخلو من تكلُّف بيْن هذين النوعين من الإنتاج، ولكنه تكلُّف لا يُحَفِّظ ولا يغيظ، ولا يزورُّ بالسامع عنه، ولا عن صاحبه. فأما العقل الفلسفي فقد أَنْتَجَ لصاحبه بَعْد التفكير والروية أن الحياة عناء للأجسام؛ لأنها تُحمِّلها من أثقال وأعباء ما لا تَحْتَمله إن فَقَدَت الحياة. وهي إنما تُحَمِّلها هذه الأعباء وتلك الأثقال؛ لأنها تجمع أجزاءها المتفرقة، وتلائم بيْن بعضها وبعض، وتُحْدث بينها من التضامن ما يهيئها لحمْل ثِقَلها الخاص أولًا، وللنهوض بما يُحْمَل عليها من الأثقال الأجنبية ثانيًا. فإذا تفرَّقَت هذه الأجزاء بعد اجتماعها، وتباعدَتْ بعد اقترابها، وفَقَدَتْ هذا التضامن الذي كان يُؤَلِّف منها وحدة متماسكة، يَحْمل بعضُها ثِقَل بعض، ويَنْهَض كُلُّها بأثقال غريبة عنه لم تتكلف مشقة، ولم تتعرض لجهد، ولم تحتمل ثقلًا؛ لأنها ليست مهيئة لذلك، ولا ميسَّرة له، ولا قادرة على النهوض به. وأنت لا تُحَمِّل الأشياء المتباعدة شيئًا مجتمِعًا، وإنما سبيلك — إن أردْتَ أن تَحْمل شيئًا على شيء — أن تُلَائِم بين الحامل والمحمول، وأن تُهَيِّئ أحدهما لقبول الآخر.
وإذن فالموت مريح للأجسام من احتمال الأثقال، والنهوض بالأعباء؛ لأنه يفرِّق أجزاءها، ويشتِّت ما اجتمع منها، ويلغي ما كان بينها من التضامن والتعاون. وإذن فأمر هذا العالم بين جمْع وتفريق، وبيْن تباعُد وتقارُب، والحياة من أهم عناصر الجمع بعد التفريق، والتقريب بعد التباعد، والموتُ ينقُضُ ما جمعْتَ، ويُفَرِّق ما ألَّفْتَ. فمَنْ كَرِه الجهد، وتبرَّم بالمشقة، وسَئِم العنف واحتمال الأثقال، وآثر الراحة الكبرى فسبيله أن يؤْثر الموت؛ لأنه يَحُطُّ عنه كل ثِقَل، ويلقي عنه كل عبء؛ ولأنه يبدأ فيحط عنه ثِقَل نفسه قبل أن يحط عنه ثِقَل غيرها من الأشياء. وهذا المعنى في نفسه واضح مستقيم لا غموض فيه ولا عِوَج، وهو في الوقت نفسه مظلم قاتم، عظيم الحظ من التشاؤم، يُصَوِّر التئام الجسم الحي على أنه شر يصدر عنه الجهد والتعب، ويُصَوِّر افتراق هذه الأجسام على أنه خير تصدر عنه الراحة والهدوء، فهو يزْهد في الحياة، ويرْغب في الموت.
ولكن الشيخ حين أراد أن يؤدي هذا المعنى المظلم لم يؤدِّه كما هو، وإنما دار حوله، واتخذ الخيال إليه سبيلًا، فجعل الموت الذي يرْغب فيه الحكيمُ صعْب المرام كالمجد الذي يَرْغب فيه الطَّموح، كلاهما لا يُنَالُ إلا بعد الجهد، ولا يُبْلَغ إلى بعد تَكَلُّف المشقات، ولكن كليهما يَعْقُبُ الظافر به غبطة وطمأنينة ورضًا.
قدَّم الشاعر بهذا الخيال بين يدَيْ هذا المعنى على أنه وسيلة إليه وتمهيد له، ثم ألقى هذا المعنى نفْسَه في البيت الثالث، موجَزًا، متقَنًا، دقيقًا، صريحًا، مرسَلًا إرسال الأمثال. ثم عاد إلى الخيال فاستنبط منه دليلًا يؤيد هذا المعنى، ويوضِّحه ويجلوه، وضرَبَ هذا الدليل مثلًا يَفْهمه الذكي والغبي، ويسيغه الفيلسوف وغير الفيلسوف، وهو هذا الراعي الذي ينهض بأعباء صناعته ما أُتِيحَت له الحياء، فهو يَحتمل أثقالها على اختلافها وتبايُنها، منها المادي ومنها المعنوي؛ وقد رمز الشيخ لهذه الأثقال بهذا القعب الذي يقوم الراعي وهو في يده فارغًا أو ممتلئًا، فهو يَحْمل نفسه أولًا، ويَحْمل القعب ثانيًا، فإذا مات وثوى في قبره لم ينهض بعمل، ولم يَحْتمل ثقلًا ولا عبئًا، ولم يَقُمْ وفي يده قعب أو شيء آخر غير القعب. فهذا المعنى الذي أُدِّيَ في هذه الأبيات الأربعة يُعْجب لصحته واستقامته، ولهذا الخيال الذي يسبقه فيمهد له، والذي يتلوه فيزيد الاقتناع به والاطمئنان إليه.
وأما أسلوب هذا الشعر وهذا النظم فقد وقَفْتُ عند انحرافه عن مذهب الشعراء المجوِّدين، وانصرافه إلى مذهب الفلاسفة المحققين. ألستَ تراه في البيت الأول يَعْرض الأمر على أنه قضية فلسفية، يقيم عليها الحجة، ويقارع دونها بالبرهان، ويصطنع في ذلك ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين، ويتكلف في إخضاعها لهذا الوزن الطويل بعض المشقة والجهد؟ فانظر إلى قوله: «يدل على فضل الممات». وانظر إلى قوله: «كونه إراحة جسم». ثم انظر إلى البيت الثاني فستراه أُلْقِيَ كما يُلْقَى الدليل، واصْطُنِعَت فيه أساليب الاستدلال، ثم انظر إلى البيت الثالث فسترى الشاعر قد ألقاه إليك هادئًا مطمئنًا واثقًا؛ لأنه هيَّأك لتلقِّيه، وأعدَّك لفهمه وقبوله، ثم انظر إلى البيت الأخير فسترى أنَّ الشاعر قد ضَرَبَه لك مثلًا يتمُّ به اقتناعك، ويمحو به ما عسى أن يبقى في نفسك مِن تردُّد أو شَكٍّ. وقد يذهب الشعراء المجودون مذهب الاستدلال أحيانًا، ولكنهم يلمُّون به إلمامًا خفيفًا، ويأخذون منه بمقدار يسير، ويستعينون عليه بتخير اللفظ وتجويده، والارتقاء بالأسلوب عما أَلِف أصحاب المناظرة والجدل. فأما صاحبنا فلا يَحْفِل من هذا بشيء، وإنما الذي يعنيه أن يصحح معناه ويقوِّمه، ويؤديه إليك في لفظ صحيح واضح مستقيم، ولا عليه أن ينحرف اللفظ والأسلوب عما أَلِفَ أصحاب الصناعة والتجويد.
معناه آثَرَ عنده مِن لَفْظه، والصواب أحبُّ إليه من التزويق، فسواء عليه إذا حقق الفكرة وحصَّلها في نفسه وفي نفسك أن تخطئه الصورة الرائعة الرائقة. وأما لفظه فقد وقَفْتُ منه عند ما بيَّنْتُ لك آنفًا، ولكني وقَفْتُ منه بنوع خاص عند هذه القوافي الأربع التي لم تشترك في الحرف الأخير فحسب، ولكنها اشتركت فيه وفي الحرف الذي يسبقه، فهي لم تشترك في الباء وحدها، وإنما اشتركت في الباء والعين: «صعب»، و«رعب»، و«شعب»، و«قعب». وقد كنت أعلم أن بعض الشعراء قد يُوفَّقُون أحيانًا إلى تقفية قصائدهم على حرفين، يبْلغون ذلك عفوًا، وفي غير جهد، أو يبلغون ذلك عن إرادة وتعمُّد، وإطالة للكد، وإعمال للفِكْر؛ ولكني فيما قرأْتُ من هذا الشعر القليل لم ألاحظ قَط أن القافية تَسَلَّطَتْ على الشعر، فحَكَمَتْه ودبَّرت أمره، ونسَّقَتْ لفْظه وأسلوبه ومعناه كما تَفْعَل في هذه الأبيات.
فما أشك في أنك تقرأ قصيدة كُثَير:
فلا تتردد في أن الشاعر قد تَعَمَّد التزام اللام والتاء، ولكنك في الوقت نفسه لا تَشعر بأن كُثيرًا قد لقي في ذلك جهدًا، أو احتمل فيه عناء، وإنما يُخَيَّل إليك أنه دعا الألفاظ فاستجابت له، وأهاب بها فأَسْرَعَتْ إليه. وأوضحُ من ذلك وأظْهَرُ أنك لا تُحِسُّ في بيت من أبيات هذه القصيدة أن القافية هي التي نَظَّمَت البيت ودَبَّرَت أمره، ووضَعَتْ بعض ألفاظه بإزاء بعض، وأجْرَتْه على الأسلوب الذي جرى عليه، وإنما تَشْعر بأن البيت قد نُظِمَ، فأَلِفْتَ ألفاظه، واطَّرد أسلوبه، ومضى حتى انتهى إلى قافيته انتهاءً هادئًا مطمئنًا مريحًا. تَشْعر بأن البيت هو الذي دعا القافية، لا بأن القافية هي التي دعت البيت. فإذا قرأت هذه الأبيات الأربعة لم تجد لهذا الشعور في نفسك أثرًا، وإنما أحسست إحساسًا قويًّا أن كلمة «صعب»، هي التي نظمت البيت الأول، وأَلَّفَتْ ألفاظه، واختارت له هذا الأسلوب، وأن الشاعر قد وجد هذه الكلمة أولًا، ثم نَظَمَ لها البيت بعد ذلك، وكذلك «الرعب» و«الشعب» و«القعب».
تُحِسُّ أن الشاعر قد أراد كلمات تنتهي بعين وباء، فاجتمعت له هذه الكلمات الأربع، فلمَّا اجتمعت له التمس معنًى يَنْظِم فيه شعرًا على أن تكون هذه الكلمات قوافيَ لهذا الشعر. وما زال يلتمس المعاني حتى وجد معناه هذا فأخذ يَمُدُّه ويوسِّعه، ويدور حوله، ويمَهِّد له، حتى تحققت له هذه الصور الأربع، وهي أن الموت مريح، فيجب أن تكون الطريق إليه صعبة، وأن المجد عسير، فيجب أن تُقَاسَى الشدائد المخوفة في سبيله، وأن افتراق الأجسام لا يهيئها لاحتمال الثقل، وإنما تتهيأ له إذا اجْتَمَعَتْ أجزاؤها، وأن الدليل على ذلك أن الراعي يستريح من الرعي وأثقاله إذا مات، ويشقى بالرعي ومتاعبه إذا عاش.
فالصورة الأولى تتفق مع كلمة صعب، والصورة الثانية تأتلف مع كلمة الرعب، والصورة الثالثة تلائم كلمة الشعب، وأي شيء يوافق الراعي إلَّا القعب، وأي شيء يوافق القعب إلا الراعي؟
وإذَنْ فالشاعر لم يَعْمَل في معناه وحده، ولا في لفظه وحده، ولا في أسلوبه وحده، وإنما عَمِلَ فيها جميعًا، ولقي شيئًا من الجهد غير قليل في حملها على أن تلتقي وتَأْتَلِفَ، ويطْمَئن بعضها إلى بعض، ثم في تمكينها بعد ذلك من أن تلقى نفوسنا فتألفها وتمازجها، ولا تشقَّ عليها.
ووُفِّقَ أبو العلاء من ذلك إلى ما أحب، فنحن نحسُّ جهده وعناءه، ولكننا لا نبغض هذا الجهد، ولا نضيق بهذا العناء، ولا ننكر ما انتهيا إليه من النتائج. وقد نحتاج إلى شيء من الجهد لنسيغ هذه الأبيات، ونلائم بينها وبين ذوقنا الفني، ولكن أبا العلاء نفسه يعيننا على هذا الجهد ويشاركنا فيه، يعيننا عليه بشيء أَحَسَّه إحساسًا قويًّا، ولكني لا أجد يسرًا في تحقيقه، ولا في تحديده، ولا في تعيين موضعه من هذا الشعر. أتراه في المعنى الذي لا نكاد ندنو منه حتى تتلقاه نفوسنا هشة له مستريحة إليه؛ أتراه في اللفظ الذي مَهْمَا يكن حظه من التكلف فإنَّ له من الجزالة حظًّا يُرْضِي ذَوْقَنا؛ أتراه في الأسلوب الذي مَهْمَا يكن حظه من الالتواء فإن فيه ما يُصَوِّر جهدًا مُحَبَّبًا إلى النفس، مثيرًا لعطفها وإعجابها، لا لأعراضها وازورارها، أم تراه في هذا كله، وفي شيء آخر يضاف إليه وهو أن أبا العلاء كان خفيف الروح، حلو الشمائل، رضيَّ النفس، سمْح الطبع، يَصْدُر عنه الشعر المتكلف الذي يُسْتَسْمَجُ من غيره، فإذا نحن نلقاه باسمين له، مستريحين إليه؟ لا أدري! ولكني أقرأ هذه الأبيات، وأشعر بما فيها من تكلُّف وجهد فلا أنكرها، ولا أضيق بها، وإنما أحبها وأستعيدها، ولا أَدَعها حتى أُثْبِتَهَا في نفسي.
وقِفْ عند البيت الثاني، وانظر إلى قوله: «شدائد من أمثالها وجب الرعب»، فلو أني صادفْتُ هذه الصيغة عند شاعر غير أبي العلاء، عند المتنبي مثلًا، أو أبي تمَّام لأشبعْتُهُ لومًا ونقدًا وتأنيبًا، ولكني حين صادَفْتُ هذه الصيغة في شعر أبي العلاء لم أَزِدْ على أنِ ابتسمت، ثم استعَدْتُ البيت فضحكت ضحكًا خفيفًا، ثم أحببت هذا الأسلوب في هذا الموضع، واطمأننت إليه. قُلْ إني أوثر أبا العلاء وأُحابيه، وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تُبْعِد، وأظنني نَبَّهْتُكَ إلى ذلك في أول هذا الحديث، وقلْتُ غير مرة: إني لا أملي كتابًا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عِشرة أبي العلاء في سجنه وقتًا ما، واستماعي له وهو ينشد شعر اللزوميَّات.
وهذه الأبيات التي سمعْتُ أبا العلاء ينشدها فأعجبَتْني من جميع وجوهها أغْرتني بكثرة الاستماع للشيخ حين كان يملي شعره هذا على كُتَّابه وطُلَّابه، كما أغْرتني بأن ألزم الشيخ في جميع أطوار يقظته العاملة حين كان يخلو إلى نفسه ما أقمْتُ معه في سجنه، فقد كنت حريصًا على أن أُحَصِّل لنفسي هذه اللذة الفنية العقلية بالاستماع لإملاء الشيخ، وبالفهم عنه، كما كنت حريصًا على أن أشهد الشيخ وهو يعاني ألوان الجهد الفني والعقلي، ويصطنع ألوان الحيل ليجمع بها بين المعاني الفلسفية التي لم يَأْلَفْها الشعر كثيرًا في لغتنا العربية وبين الألفاظ القريبة والغريبة في هذا النظم العسير، وبهذه القافية الشاقة.
وكانت نتيجة لزومي للشيخ آناء الليل وأطراف النهار شهرًا وبعْض شَهْر هي هذه التي أريد أن أصورها لك، وأَعْرِضها عليك.