الفصل الأول
الأونباشي فارس آغا
كان «العسكري» في لبنان البروتوكول
١ مَفزعة،
٢ وكان لبنان حِصْنَ مَنْ تصيبهم القرعة العسكرية في «الولاية» أو تحدِّثهم النفس
بإلقاء نِيرها؛ لذلك قال جيراننا سكان الولاية العثمانية: هنيئًا لمَنْ له مرقد عنزة
في
جبل لبنان.
وكان للبنان جنود يُعرَفون «بالضابطية» أُخذوا من الأهالي بمعدل سبعة أنفار من كل
ألف
متكلف، مهنتهم صون الأمن وإمضاء أوامر الحكومة. وإذا قصَّر هؤلاء النفر عن ذلك في الخطوب
الكبيرة مثلًا؛ فلمتصرِّف الجبل — المنتخب من الدول السبع — أن يستدعي عسكر «الدراغون»
بعد
استئذان مجلس الإدارة المُؤَلَّف من اثني عشر عضوًا، ينتخبهم الشعب اللبناني.
كان محظورًا على العسكري التركي أن يطأ أرض الجبل، أو يمر به، ما لم يأذن له بذلك
هذا
المجلس. ورُبَّ جندي لبناني — ضابطي — تصدَّى لطابور من العسكر الشاهاني؛
٣ فلم تطأ رجله حدود الجبل. وكان الجاني البيروتي يقعد — على عينك يا تاجر — على
ضفة نهر بيروت الشمالية فلا يستطيع عسكري الولاية القبض عليه. وأغرب من هذا عجز «ضابطي»
قضاء كسروان من القبض على مجرم في قضاء البترون؛ فكأن كل قضاء من أقضية لبنان السبعة
مستقل
استقلالًا ناجزًا عن الآخر.
وكم مُثِّلت هذه المهزلة عندنا — في عين كفاع
٤ — إذ يقطع مجرم نهرنا، ويجلس على «شير بنور»
٥ يدخن ناعم البال، قبالة ضابطي قضاء كسروان، ولسان حاله يقول له: «زرك عينك، طق
وموت.» فيعود هذا أدراجه ليعرض الأمر لقائده، يوزباشي
٦ جبيل، فيطلبه من قائد البترون. حتى إذا جدَّ عسكري البترون في طلبه تَخَطَّى
النهر صوبنا، وهيهات أن تحاصره القوتان، وحوله مغاور يضيع في جوفها الدهر.
هذه صفحة من «تاريخنا العسكري» تكاد تُنسى. أحاول اليوم بعثها مع بعض الشئون الأخرى
الميتة؛ لعلَّ القارئ يجد فيها شيئًا.
•••
اخترت لقصتي هذه «بطلًا» مات منذ سنين، وفي نيَّتي أن أنوب عن صاحبي هذا — الأونباشي
٧ فارس آغا — في كتابة مذكراته، دون أن أتبع خطة المذكرات وأسلوبها. سأكون أمينًا
جدًّا، أرويها كما سمعتها وعاينتها. ففارس آغا أول عسكري عرفته، عرفته في بيتنا، وقريتنا،
واسكلتنا
٨ — جبيل — وعاصمة لبنان البروتوكول؛ بعبدا.
سأروي لك أحاديثه بأسلوب الضيعة اللبنانية وتعبيرها اللذين لا يقصران عن كلام فصحاء
العرب
إذا داورناهما. ولك أن تستعدي عليَّ جميع المعاجم من تاج العروس إلى أقرب الموارد، فكل
كلمة
يقضي لك بها عليَّ أؤدِّي لك عنها الضريبة التي يفرضها وجدانك الحي، وإن لم أكن من أصحاب
أرباح الحرب.
سأصور لك شخصية كانت تُحِسُّ أن في أعماقها عبقرية مطمورة، لم يُتَحْ لجذورها أن
تتأصَّل،
ولا لفروعها أن تمتد وترف، فمات الآغا غير شبعان من مجد كانت تتحلب
٩ شفتاه عند ذكراه، ويسيل رياله كلما حدَّث الناس عنه.
مسكين صاحبنا فارس، مات آغا، صار أفندي شهرين زمان، ثم جُرِّد من رتبته، وعاد آغا،
بينما
أناس غيره، لا يفكُّون الحرف ولا يعرفون الكوع من البوع،
١٠ صاروا بكوات، تزين أكتافهم الرمانات الذهبية، حياة! الدنيا حظ، كله قسمة ونصيب.
هذا ما كان يقف عليه الآغا دائمًا في حديثه مع الناس.
•••
كان فارس آغا ككل ضابط لبناني، يلبس بزة من الجوخ الرصاصي السميك. جاء الآغا بعد
الزمن
الذي كان يُعرَف به العسكري من نُحاسَةٍ بيضاوية يحزم بها زنده، وقد كُتِبَ عليها: نفر
ضابطية. أما تفاصيل البزة فهي: كبران
١١مزركش بشريط أحمر عرض الأصبع، رُسِمَتْ عليه فوق الثديين زهرة كأنها ثلاث عرى
مشتبكة تقوم على ساق يتلوَّى على الصدر. وتحت الكبران صديرية من جنسه فيها خط استواء
عمودي
من الشريط عينه. أما السروال فكثيرة طيَّاته، لا هو بنطلون فرنجي ولا سروال إسكندراني،
ولو
لم يكن رحراحًا وسيعًا كسراويل زوجة بطل المقامة المضيرية، لقلت لك هو «الغولف»، فكأنهم
استشاروا «ستي» حينما اختاروه، فهو أشبه بالسراويل التي يَعَفُّ المتنبي عمَّا فيها …
زناره
من الشال الأحمر، والطربوش عزيزي، تتدلى من قمته شرَّابة سوداء تنماز من شرَّابات اليوم
أنها تتعلق بخيط طويل، وهي قصيرة ضخمة، خيوطها غليظة.
كان سلاح العسكري اللبناني بندقية — مرتينة — تصلح جسرًا في عهد الباطون المسلح، وسيفًا
—
سنكة — يمسكه الصدأ، فيقبع في قرابه كأنه محكوم عليه بالسجن المؤبد.
أونباشينا يقرأ ويكتب، وليس أميًّا كأكثر الضابطية وبعض ضباط ذلك العهد؛ ولذلك كان
دائمًا
يشك في زناره دواة نحاسية من صنع بيت نفاع. في باقول
١٢ تلك الدواة الصفراء لِيقة
١٣ تمنع الحبر من الانهراق، وقصبتها تسع عدة أقلام من الغزار، فهي «ستيلو» ذلك
العهد، وكان حاملها أزهى من غُراب. أما المرملة السعيدة الذكر — سلف الورق النشاف — فكان
موضعها في خُرْجِ الآغا مع القرطاسية، التي تزوده بها الحكومة لتدوين دفاتر الوقائع التي
كانت تُعرَف بالجرنال المحلي.
•••
ممدوحي الآغا: رجل مدور سمين، عرفتُه حين خيط الشيب في رأسه، أما نفسه فكانت خضراء
جدًّا. يكوكي
١٤ إذا مشى، مع أنه يحمل كرشًا كبرميل متوسط الحجم. خوخي اللون، ولا أظلمه إن قلت
لك: أسود مثل الزيز.
١٥ شفتاه غليظتان تتدفق الشهوة منهما تدفُّقًا، وأنفه كصخرٍ حطَّه السيل فتعلَّق
هناك، شارباه كأنهما جناحَا شحرور، وعيناه واسعتان، في بياضهما جذور حمراء نافرة، تخيفان
الناظر إذا حدَّق إليه بهما. في جبهته شجة
١٦ يفتخر بها كأسمى وسام. إذا لفتت نظرك، وحدَّقت إليها بدون قصد؛ فالآغا يقول لك:
سأريح بالك. هذا جرح أصبت به في معركة كذا — في كل محلة يذكر اسمًا؛ لأن ذاكرته لا تسعفه
—
حين كلفني سعادة الميرالاي ملحم بك بوشقرا مطاردة الأشقياء العاصين على حكومة أفندينا
نعوم
باشا فطوَّعتهم. قتلت منهم اثنين، وسقت البقية مثل المعزى إلى بتدين.
١٧ قُتِلَ من رجالي واحد. أخ! يا حسرتي على شبابه! أش شاب! مثل الرمح الرديني.
١٨
في ذقن الآغا نقرة كأنها صرة حبيبة سليمان، ولكنها مسيَّجة بالشوك لا السوسن. كثيرًا
ما
يولج فيه أصبعه ليعزل ما فيها، ولكنه قلَّما يظفر بذلك، وفي ساعة رضا طلب منَّا متماجنًا
«قشق النارجيلة» لينظفها به.
وفي وجه الآغا نكتتان
١٩ كادتا تختفيان بين تجاعيد وجهه حين عرفته. كان يزعم حين شاخ أنهما طعنة سكين،
حين اشتبك بالسلاح الأبيض مع العسكر التركي على الحدود.
إذا دخل الأونباشي قرية يمشي مترصِّنًا كالجواد المقيد، ويتغربل كالديك الحبشي. يسأل
الأرض أن تحس بفضله إذا مشى عليها؛ فالرجل يعتقد اعتقادًا مكينًا أنه عنترة زمانه، ولولاه
ضاعت الأموال والأرواح. أما كيف عرفته فإليك الخبر: كنتُ في صغري ولدًا ورشًا، للشيطنة
عندي
مقام جليل جدًّا. وكانت المرحومة أمي تعجز عن إيقافي عند حَدٍّ من الرصانة التي تتمناها
لغزالها … فأخذت تخوِّفني بالعسكري، ككل أم لبنانية بروتوكولية. إذا تجاوزتُ الحَدَّ
في
لعبي قالت: اهدأ يا مارون، أقول للعسكري يأخذك. وإن طلبت مني حاجة لم أقضها خوَّفتني
بالعسكري، وإن اعتديت على أحد رفاقي أدبتني بقضيب دقيق، وقالت: الحبس قدامك، غدًا يجيء
العسكري.
كانت — رحمة الله عليها — تصوِّر لي العسكري وحشًا ضاريًا يفعل بالناس الأفاعيل. هاجر
رجل
كنت أُحِبُّهُ وأستأنس بحديثه؛ لأنه كان ظريفًا ضحوكًا يداعب الصغار ويلاعبهم ويضحكهم،
فسألت أمي عنه، فقالت بصوت منكسر: مسكين عمك جرجس، أخذه العسكري. اليوم هو بالحبس.
قلت: أيش عمل حتى حبسوه؟
قالت: أخذه العسكري — وأخرجت كلمة عسكري إخراجًا فخمًا — لأنه ضرب قرياقوس في «كسارة
العين».
٢٠
– ولماذا ضربه؟
– اختلفوا على «الحد» على شبر أرض.
فوجمت ثم قلت: أية ساعة يرجع؟
فتضاحكت وقالت: قل أية سنة! يعلم الله. إياك ثم إياك أن تضرب أحدًا!
كنت ككل صغير أحسب أن لا أحد يقدر على العم جرجس إلا والدي، فقلت لأمي: كيف غلب العسكري
عمي جرجس؟
فضحكت ضحكة رزينة، وهزت رأسها هزات معناها: أنت صغير يا ابني، ليتك تعرف العسكري.
وخطر لي ذات يوم أن أقيم ورفاقي عرسًا، فاجتمعنا جميعًا. بدأنا بالحداء
٢١ والزجل.
٢٢ صبيان «تروِّد»
٢٣ وبنات تزغرد؛ فارتجت الضيعة، وحاول الشيوخ قَمعنا فما قدروا، وفزَّعونا
بالعسكري فلم نرتدع، بل تمادينا في صياحنا، وأخذنا نقيم كل يوم عرسًا.
وأخيرًا جاء العسكري حقًّا، فانفضَّ الموكب، وعقب الغناء صراخ مزعج. أما أنا فكنت
كمن
أبصر في نومه أن ذئبًا يعدو وراءه، انبطحت على الأرض، ونزل فارس آغا عن دابته، وعدا نحوي
ليقيلني من عثرتي، فاشتد صراخي. وما امتدت يداه إليَّ حتى أخذت أفحص بيدي ورجلي كالأرنب،
ولكنه لم يفلتني، وحملني إلى البيت مُدْمًى. وأفقت بعد حين فرأيتني في الأرجوحة، ورأيت
الآغا ووالدي جالسين إلى الطبلية
٢٤ يتحدَّثان ويشربان ويأكلان، فتناومت. سمعت الآغا يقول: أمس كنَّا في قرية
غرفين، فأخذنا جمهورًا إلى الحبس، منهم مرأة كانت أصل الشر، فهدأت الضيعة.
فقال الوالد: الحكم ملح الأرض.
فتقنفش
٢٥ الآغا، وقال: وأي ملح!
فقالت الوالدة في سرِّها: ملِّح جلدك.
وأتمَّ الآغا حديثه فقال: الشدة لازمة يا خواجه حنا، وإلا أكلت الناس بعضها.
وكان في يد أمي غصن ازدرخت تكش به الذبان عن جرحي الطري. كانت منكسرة القلب، لا تتكلم
رغم
مطايبة الآغا لها، ومخاطبتها بيا ست أم مارون … هذا التبجيل غير معروف في القرية، فأم
مارون
كفاية وزيادة.
ظننت أن العسكري ينتظر ليأخذني فتناومت. هزَّتني أمي فتماوتُّ، فقالت لوالدي: حنَّاه،
ما
قولتك، الصبي غائب عن الوعي؟
فهمهم والدي، وقال الآغا: لا تخافي يا ست أم مارون، الولد محروس. أمس، من جمعة تقريبًا
فزع منَّا ولد في شامات
٢٦ فسقط عن السطح وكسر رأسه، وبعد كم يوم صحَّ ورجع يفز في الضيعة مثل
القرد.
فشهقت أمي وصاحت: بعيد الشر! ثم همست إليَّ بهذه الكلمة: تنكسر رقبته إنشالله.
فشاعت الابتسامة في وجهي، بيد أن كُمَّ الزهرة لم يتفتَّح، فهزَّتني أمي فقطَّبْتُ
وجهي؛
فاستراح بالها قليلًا وقامت إلى عملها.
وتغدَّى الآغا وهَمَّ بالذهاب، فقال والدي: أيش عندنا اليوم؟
فأجاب الآغا: بقايا ميره.
٢٧
فقال والدي: فإذن المدة طويلة عندنا، نتأمل أن تشرفنا كلما قدرت.
فأجاب فارس: لا غنى عن الفضل، إذا تيسَّرنا لا نبقى دقيقة. البقاء حسب الدفع، الأوامر
تحرق العشب، لا يمكننا ترك الضيعة وعند أحد قرش واحد، أنت دفعت؟
لم تعجب هذه الكلمة والدي، وسمعت أمي تقول: أمَّا وقاحة! ملحهم على ركابهم.
لكن الوالد قال: هذا سؤال يا آغا؟ طبعًا دفعت، أنا أؤخر قرش الحكومي!
فقال الآغا: وجارك طنوس؟ أتقول إنه يدفع على الهينة، أم كالعادة لا بد له من القتلة؟
تحصيل مال الميرة متعب، ولكن فيه لذة.
فقال والدي: تلتذُّ بالضرب يا آغا؟
فقال الآغا: إذا لم نضرب لا نحصِّل، وأنا ابن «حكومي»، وحسب الأوامر أمشي.
وتبسَّط الآغا في تفصيل أوصاف وظيفة العسكري. وفيما هو يعج كالبحر، حضر نفر من الجند،
فشققت عيني لأرى وجه القادم، فإذا بهم يقفون الوقفة المعلومة للتحية؛ فانتفضت وصرخت صرخة
مفزعة حين سمعت طقطقة نعالهم، فركضت إليَّ أمي ولأسنانها صريف ناقة النابغة، وما كان
أشد
فرحها حين انصرف الآغا وجنوده لينتشروا في القرية الآمنة.
خرجوا من الباب فخار أحدهم كالثور: يا هو، يا أهل الضيعة، اليوم تسديد الميرة، الأونباشي
حضر، لاقونا إلى بيت الشيخ.
•••
– مارون! مارون! قم، راح العسكري.
ففتحت عيني، فرأيت والدتي تهز أرجوحتي ساهمة ساهية.
– فزعت يا ابني؟ تقبر أمك.
فأجابها الوالد بلهجة وابتسامة كان يغلبني بهما طول حياته: كله منك. قلت لك يا شاطرة،
لا
تفزِّعي الصبي. هرَّبتِ قلبه، صار يخاف من خياله. لا تخف يا صبي، أيش هو العسكري؟ كن
مثل
النمر.
فزاد حزنها حزنًا، ولم تخرج من صمتها إلا حين سألتها، وكأنني نسيت كل أهوال الحادث:
أمي!
بحياتك، قولي لي: أيش هي الميري؟
فانبرى الوالد يشرح لي المعضلة، وأفهمني أن من لا يدفع الميرة يحبس في قبو البقر،
ويأكل
قتلًا ويدفعها. وأنه — أي والدي — دائمًا أول مَن يدفعها؛ فيستريح من غلاظة العسكري
والزيادة التي يغرم بها المتأخرون. وختم كلامه بقوله: إذا عشنا، السنة القادمة تتفرج
على
تحصيل الميري، أما كوماديا …
ثم أفهمني أن الآغا صاحبه، ومتى قعدوا حول «السكلمة»
٢٨ ودارت الكاس عمل «فتوتلو أفندم»
٢٩ بأمر جناب الوالد، بل قل بأمر العَرَق الجيد، والنبيذ العتيق، اللذين يستخرجهما
سماحة الوالد من عنب «شحواتا».
٣٠
– مارون، لا تجبن. الذي يقول لك كلمة تمسِّك، اضربه، ادعس رقبته. عليَّ أنا بالعسكري.
فهمت؟ قم العب.